كما نظم الإسلام أمور الحياة كافة ديناً ودنيا ، فقد عالج أمور الحرب باعتبارها ظاهرة اجتماعية ، ووضع خير المناهج والمبادئ لكل ما يتصل بها من حيث أهدافها وأساليبأدارتها . والعسكرية الإسلامية تمثل جانباً رائداً من الحضارتين الإسلامية والإنسانية بالتالي . فلولا جهاد المسلمين الأوائل واسترخاصهم المال والنفس والولد في سبيل الله لتغير وجه التاريخ ولتخلفت مواكب الحضارة الحديثة عن الظهور .. لقد كان للمسلين الأوائل فضل تأسيس هذه الحضارة ، وشق الطريق لهذه الفتوحات في ميادين العلوم الطبيعية والإنسانية وكان فضلهم هذا من بعض ثمرات الجهاد في الإسلام 0
وقد عاش المسلمون الأوائل في أيامهم أعزاء أقوياء أغنياء بفضل عامل الجهاد الذي لم يكن مجتمع من مجتمعاتهم يخلو من تشجيعه ودفع الضريبة له بسخاء . ويوم تخلى المسلمون عن الجهاد واقبلوا على الدنيا وزينتها غافلين عن الخطر المحدق ، ضاع وجودهم وكيانهم فتمكن العدو منهم وتسلط عليهم من لا يخافهم ولا يرحمهم وقامت حرب ضدهم تعددت أشكالها وتنوعت صورها إلا أنها في جوهرها وأهدافها البعيدة حرب حضارية تستهدف طمس معالم الحضارة الإسلامية ومنع قيامها من جديد وفرض التبعية على المسلمين في كل مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعسكرية .
لقد سبقت حكمة الله جل شأنه أن تكون الأمة الإسلامية امة مجاهدة عزيزة الجانب ولم يرد لها أن تخضع وتستكين . فأوجب عليها الجهاد في سبيله وجعله الوظيفة الشريفة التي اختارها لأدائها كما يفهم من قوله تعالى : (( وجاهدوا في الله حق جهاده )) . فالاختيار هنا تكريم وتشريف لهذه الأمة التي جعلها الله في خير منزلة بين الأمم في قوله تعالى : (( كنتم خير امة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله )) والتكليف القرآني بإعداد القوة في قوله تعالى (( واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل )) . تكليف قائم وباق حتى تقوم الساعة ، ومقتضى ذلك إلا تفتقر عزائم الأمة الإسلامية عن إعداد القوة بعناصرها المتعددة التي تشمل من الناحية العسكرية كل ما يتعلق بفن الحرب من عقيدة واستراتيجية عسكرية وعلم عسكري وصناعة حربية وقوات مسلحة .
من ناحية أخرى فأن التاريخ العسكري الإسلامي حافل بكل ما يستحق الدراسة والتسجيل بكل اعتزاز وفخر سواء من وجهة نظر فن الحرب على مستوياته المختلفة الاستراتيجية والتكتيكية أو بما زخر به من العبقرية العسكرية كالقيادة وإدارة الحرب ومن آيات الشجاعة والبطولة والفداء .
وهنا محاولة لإلقاء الضوء على جانب الفكر العسكري الإسلامي وهو : مبادئ الحرب وكيف طبقها المسلمون الأوائل .
يعرف المبدأ بأنه (( المرشد أو الدليل الذي يهتدي به في القيادة أو الإدارة )) ، ومن تجارب الماضي وعبره أمكن استخلاص عدد معين من الأفكار أو الآراء كانت الأساس في تنفيذ الخطط الاستراتيجية وهذه الآراء سميت بالمبادئ .
أن هذه المبادئ ليست قوانين كقوانين الطبيعة والعلوم ولكنها أصول من اتبعها نجح ومن خالفها وأهملها خاطر واخفق في اغلب الأحوال وهي كالتالي :
قبل التفكير بأي عمل ينبغي معرفة ما هي غايته لأنه الأساس لمعرفة الخطوات اللاحقة ، لكي يتم أنجاز الهدف ضمن المتيسرات . أن مبدأ توخي الهدف هو مفتاح كل عمل وهولا ينطبق على الأعمال العسكرية فحسب وإنما ينطبق على كل مجالات الحياة .
أن الصبغة الأساس لكل الأعمال وان كانت حربية هي أنها تخضع لمحفز فكري يؤمن به الفرد أو الجماعة أو الدولة وهذا المحفز هو الهدف والذي يترجم إلى إعمال أو أقوال . إذن الهدف هو البوابة التي يخطو عبرها الفكر إلى عالم واقعي يتجسد بالكلمة والفعل . ومن اجل تحقيق الهدف سنجد القوات المسلحة تستخدم احد المسلكين : التلويح باستخدام القوة لتحقيق الهدف وإخضاع الجانب المقابل أو الاستخدام الفعلي للقوات المسلحة . يقول المفكر الألماني (كلوزفيتز) في تعريف الاستراتيجية:(( هو فن استعمال المعارك كوسيلة لبلوغ هدف الحرب )) . لذلك فأن الحرب تشمل معارك متعددة أو معركة فاصلة واحدة . وعليه فأن الغاية والهدف الرئيس هنا سوف يتجزأ إلى مفردات تكتيكية تمتزج وتتفاعل بها عدة عوامل لتؤدي بالنتيجة إلى الهدف النهائي . يجب عدم الانحراف عن التوجه نحو الهدف دائماً بل ينفذ مخطط الوصول إليه بحذافيره والذي يقتضي القضاء على العسكرية المقابلة . وغاية الحرب النهائية تتألف من مجموع الغايات المتجزئة الأخرى ، وعندما لا تحقق غاية واحدة من هذه الغايات فقد يؤثر ذلك على المجمل العام للغايات الأخرى وهنا سوف تتأثر الغاية الأصلية .
وعودة إلى عبقرية الرسول (ص) وكيف طبق هذا المبدأ . كان الرسول (ص) يختار مقصده بدقه ، ويفكر في أقوم طريقة للوصول إليه ، ثم يقرر الخطة المناسبة لتحقيقه . لقد ظهر مبدأ ( اختيار الهدف ) في أول معاهدة عقدها الرسول (ص) بعد هجرته إلى المدينة ، تلك المعاهدة المعقودة بين المسلمين من جهة ، والمشركين ويهود من أهل المدينة من جهة أخرى ، فنصت على انه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً ، ولا يحول دونه على مؤمن . أن قريشاً أخرجت الرسول (ص) وأخرجت أصحابه من مكة ظلماً وعدواناً ، فمن حقه أن تكون قريش هدفه الحيوي .
ومن ابرز الأمثلة على توخي الهدف ما فعله الرسول (ص) في غزوة الحديبية ، فقد كان هدفه من تلك الغزوة حشد قوى المسلمين والتأثير على معنويات قريش من غير قتال ، فخرج محرماً واستصحب أسلحة الراكب ، فلما علم باقتراب قوات قريش من قواته ترك الطريق العام إلى طريق فرعية وعرة ، للتخلص من القتال ، حتى وصل بقواته إلى الحديبية ، وبقي هناك مصراً على هدفه هذا ، فأفسح المجال للمفاوضات . وعندما هاجم قسم من المشركين معسكر قواته والقي المسلمون القبض على المهاجمين أطلق سراحهم دون أن يلحق بهم أذى ، وبقي مصراً على هدفه في عدم محاربة قريش وفي إظهار نياته السلمية حتى تم له عقد صلح الحديبية ، على الرغم من تذمر قسم من أصحابه من هذا الصلح . أن الرسول (ص) كان يختار هدفه بدقه تامة ولا ينساه أبداً في كل أعماله العسكرية وغير العسكرية .
2 0 التحشــد0
للتحشد وقت السلم سياسات عمل غير معلنة ، تنقلب في الحرب من طاقات كامنة إلى طاقات حركية . ويتم التحشد استراتيجياً وتكتيكياً . أما الحشد الاستراتيجي فهو عملية مستمرة سلماً وحرباً ، حيث أن الاسترخاء على وسادة الاطمئنان ، واستبعاد وجود الصراع المسلح ، حتى وان كانت لا توجد هناك مؤشرات حول احتمال حدوث الصراع ، يعتبر أمراً مرفوضاً ، إذ لا يعرف حتى على الصعيد الدولي ، متى ستجتمع الغيوم في السماء وينهمر المطر . وذلك فان الوقاية خير من العلاج حرباً .
ولهذا ، فان التحشد في الحدود الدنيا ، في البشر – التجهيزات – الأسلحة – الاقتصاد – المعنويات ) يعتبر ضمانة صحيحة تدار خطر المباغتة عند حدوث الصراع ، لهذا ، فان التخطيط السابق والمبرمج لعملية التحشد من الباطن إلى الظاهر ، وهذا يستدعي إجراء التعبئة العامة بغية استثمار جميع الطاقات البشرية والمادية في الصراع المسلح
إما التحشد التكتيكي ، فان القطعات هنا تتحرك ويدها على زناد البنادق ، عالمة بالواجب المخصص لها ، والقاطع الذي ستعمل فيه ، والعدو وقوته . ولهذا , فان التحشد التعبوي يمكن اعتباره كميات محدودة لديها الطاقات المكانية من اجل القيام بعمل معين في ساحة حركات واحدة أو متعددة . يقول القائد الألماني لوندروف : (( أن الحرب الحديثة لم تبق حرب جيوش وقوى عسكرية فقط ، وإنما هي حرب جماعية تقوم على حرب الأمم ضد الأمم . ولهذا ، يجب أن تضع الأمة كل قواها العقلية والأدبية والمادية في خدمة الحرب ، وان تكون هذه القوة مخصصة للحرب التالية )) .
وليس في ذلك غرابه ، ولكن الغريب أن يعتبرهاالعسكريون المحدثون آراء جديدة في الحرب الحديثة ، ولكن العكس هو الصحيح ، حيث طبقها المسلمون قبل أربعة عشر قرناً خلت . ويقول ، عزّ من قائل في كتابه الكريم (( انِفُروا خِفافاً وثِقالاً وجاهِدوا بأموالِكُمْ وأنفُِسكُمْ في سبيل الله )) .
ولم يبدأ الرسول (ص) بالجهاد إلا بعد إنجاز حشد المسلمين وإكمال الاستعدادات في القاعدة الأمنية ( المدينة المنورة) ، معاهدة أهلها من يهود ومشركين . فأصبحت القوات الإسلامية حينذاك قادرة من الناحيتين المادية والمعنوية على حماية الدعوة الإسلامية0
لقد طبق الرسول (ص) مبدأ (الحشد) في كل معاركه ولم يتردد أبداً في حشد اكبرقوة مادية ومعنوية في كل معركة خاضها ، وغزوة تبوك مثل حي على ذلك ، فان عدد المسلمين كان ثلاثين ألف رجل ، بينهم عشرة آلاف فارس ، اشتركوا في الحملة جميعاً ماعدا ثلاثة تخلفوا عنهم ، كما اشترك المسلمون كافة في تجهيز الحملة . وقد تحرك الجيش صيفاً في موسم قحط شديد ولمسافات طويلة في الصحراء ، فلم يكن من السهولة إمداد مثل هذا الجيش الكبير في مثل تلك الظروف القاسية بمواد الإعاشة والماء والنقل والسلاح،لذلك سمي هذا الجيش(( جيش العسرة ))
يقول الأمام علي (ع): ((خير الدفاع ما كان هجوماً))وهذا القول لم يدونه بالروحية نفسها إلا النادر من المفكرين العسكريين الكبار في العصر الحديث . ويقول الأمام في مكان آخر ((ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا ))ليؤكد هنا دور الهجوم وعدم الركون إلى الدفاع اضطراراً . والتعرضموقف فكري ينجم عن قناعة نفسية باتخاذهذا السلوك ، ويستوجب وجود الاحتياطات التي بإمكانها الحفاظ على روح التعرض
وكذلك المرونة في تحويل التعرض إلى الدفاع عند الوصول إلى النقطة الحرجة . وللتعرض فوائد ، منها : اختيار المسلك الملائم للمهاجم ، ورفع المعنويات ، وينقل المعركة إلى مناطق العدو0
أن الدفاع وحده لا يؤدي إلى نصر الحقيقي ، بل إلى النصر الموضعي فقط في حالة نجاحه . إما التعرض فيؤدي في حالة نجاحه إلى النصر . ومن المهم هنا أن نذكر أن مبدأ التعرض الذي يطبقه الرسول (ص) كان دفاعاً عن الإسلام وحماية للدين الحنيف ، وحرصاً على حرية نشره ولغرض إقرار الإسلام ، وبذلك طبق المبدأ التعبوي ((أن التعرض أفضل وسيلة للدفاع ))ويمكن اعتبار كل غزوات الرسول (ص) تعرضيه ، ماعدا غزوتي ((اُحد )) و(( خندق )). لقد استطاع الرسول (ص) – بشتى الأساليب – الحصول على معلومات عن نيات أعدائه قبل وقت مناسب ، وبذلك استطاع أن يتعرض عليهم ويقضي على نياتهم العدوانية .
4 0 الاقتصاد بالجهد0
مبدأ الاقتصاد بالجهد كعلم يستند إلى الكم ويتعامل معه ، إلا انه لا يمكن أن يتعامل مع النوع بدقه متناهية ، خصوصاً فيما يخص الطاقة البشرية ، حيث لا يمكن القرار مثلاً على نوعية الرجال بصورة دقيقة قبل دخول الحرب ، لان رباطة الجأش الإنسانية لا يمكن قياسها في ظروف سلمية وإنما في المعارك .
أن طبيعة المعارك في الوقت الحاضر وسيولتها وتبدل الموقف فيها بصورة مفاجئة ، وندوة البشر وكثافة المنظومات التسليحية المهلكة ، تجعل زج هذه الطاقات في المعارك بشكل مكثف أمرا لا يتفق مع مبادئ الاقتصاد بالجهد وكاستنتاج مهم فان الاقتصاد بالقوة هو الذي يجب أن يسود منطق الحرب . وهو أيضا الاستخدام المتوازن للقوى والتصرف الحكيم بجميع المواد لغرض الحصول على حشد القوى المؤثر في الزمان والمكان الحاسمين . وقد راعى الرسول الكريم (ص) مبدأ الاقتصاد بالجهود في كل غزواته ، ولم يندب قوة لواجب ما ألا وهي كافية لذلك الواجب من كل الوجوه . ففي معركة (( خيبر)) كان اليهود متحصنين في أثنى عشر حصناً ، وكانت خطة الرسول (ص) تقضي بمشاغلة بقية الحصون بقوات صغيرة لمنع اشتراكها في المعركة وفي الوقت نفسه ، تركيز قوات المسلمين على حصن واحد فعند القضاء عليه يتم التحرك إلى الحصن الآخر وهكذا .
ينبه الإسلام على اليقظة والحذر في قوله تعالى:((يا أيُها اّلذينَ آمنوا خُذوا حِذرَكُمْ ))وكما في قول الرسول (ص) : ((المُؤمن كيٌس فَطِن )) فاليقظة والحذر والوعي والفطنة كلها تدفع إلى كتمان الأسرار التي جعلها الإسلام أمانة من الأمانات يجب على المسلمين أن يحافظوا عليها ، كما في قوله تعالى (( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرَّسولَ وتخونوا أماناتِكُمْ ))10 وقال الرسول (ص) : ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له))فمبدأ الأمن يعتبر الجدار الصلب الذي يتحصن خلفه الفرد ، ومن النيات والترتيبات العسكرية ، كما انه يعتبر ترساً لفكر المقاتل يدرأ عنه الضربات التي تحاول اختراق فكره0
وهناك الأمن الاستراتيجي الذي يعني الدفاع عن الأهداف الحيوية وعدم إعطاء العدو فرصه المباغتة ، وذلك بمكافحة التجسس ، ورصد الرتل الخامس ، وتهيئة الدفاع المدني ، وتحصين الأفراد ، خصوصاً العاملين في الحقل الخارجي والقوات المسلحة ضد الانزلاق في أحضان العدو . لقد أمن الرسول (ص) حماية قواته في كل غزواته وبذل غاية جهده لمنع العدو من الحصول على المعلومات ، وابتكر أسلوب الرسائل المكتومة مراعاة للسرية والأمن ، فقد بعث سرية من المهاجرين قوامها اثنا عشر رجلاً بقيادة عبد الله بن جحش الاسدي ، وأمره إلا يفتح الرسالة إلا بعد يومين ، فإذا فتحها وفهم مضمونها مضى في تنفيذ واجبه . وتعتبر غزوة ((افتح)) من أروع الأمثلة التاريخية في مجال السرية والأمن والكتمان ، فحتى المقربين إلى الرسول (ص) لم يكن لديهم علم بخططه ، وكانت لإجراءاته (ص) اكبر الأثر في تحقيق المفاجأة الاستراتيجية الكاملة وفتح مكة بلا قتال .
أن فرق الاستطلاع والطلائع التي كان يؤمنها الرسول (ص) في مسير الاقتراب هو حماية قواته من مباغتة العدو ، وقد طبق مبدأ الكتمان في كل أعماله ، وحث المسلمين على حفظ الأسرار وعدم إباحتها .. فكيف عرف برسالة ((حطاب بن بلتعة))؟ وكيف عرف كل بازماع أبي سفيان القدوم إلى المدينة لتحديد الهدنة ؟ وكيف عرف كل حركات المنافقين واليهود وقضى عليها ؟ كل ذلك يدل على الحرص الشديد على المعلومات ومنع العدو من معرفة مقاصد المسلمين .
6 0 المبـاغتة0
هي عمل الغرض منه استثمار غفلة العدو ، وذلك بتوجيه ضربة سريعة في مكان وزمان معينين ، بحيث لا يتمكن من اتخاذ أي فعل مضاد لأحباط خططنا والمباغتة كلية وجزئية ، وإذا تم تأمين المباغتة في المكان أو الزمان أو السلاح والمعدات أو الأسلوب ، فهي مباغتة جزئية ، وإذا تم تأمين المباغتة في جميع ما ذكر فهي مباغتة كلية .
ولنرى كيف طبق الرسول (ص) هذا المبدأ ، ففي المباغتة في المكان : غزة ((بني لحيان)) تحرك الرسول (ص) بقواته شمالاً ونشر إخبار الحركة واستدار فجأة بقواته وباغت بني لحيان وقضى عليهم . والمثل الآخر في المباغتة في المكان ، في غزوة ((خيبر)) إذ تحرك الرسول (ص) إلى (( الرجيع )) قريباً من ديار غطفان ( حلفاء يهود خيبر) ، وأرسل مفرزة صغيرة لمشاغلتهم واستدار بقواته الرئيسة إلى خبير ، وبهذه الحركة أهم ((غطفان)) بأنه يريدهم واوهم يهود خيبر بأنه لا يريدهم ، فباغت الطرفين ومنع تعاونهم في قتال المسلمين .
ومن أمثلة المباغتة في الزمان ، غزوة (( بني قريظة)) إذ تحرك الرسول (ص) أليهم في وقت لا يتوقعونه وفي يوم العودة من معركة (( الخندق )) نفسه ، فشلﱠ معنوياتهم وقضى عليهم . والمثل الآخر في تقرب المسلمين إلى خبير ، فقد تقربوا ليلاً وكمنوا نهاراً ، وتم الوصول إلى خبير في ساعات الفجر دون أن أيعرف اليهود وقت وصولهم . والمباغتة في الأسلوب كانت في إتباع الرسول (ص) قتال الصف في معركة (( بدر)) لأول مرة في الجزيرة العربية ، فقد كان القتال المعروف هو الكر والفر. وكذلك حفر الخندق في غزوة ((الأحزاب)) واستخدام المنجنيق في حصار الطائف بعد الانتصار في معركة ((حنين)).أن الرسول (ص) طبق المباغتة بأجلى صورها في كل حروبه وجسد حديثة الشريف (( الحرب خدعة ))0
عرّف الروح المعنوية في علم النفس بأنها هي ((الحالة العقلية للفرد في وقت معين ، وتحت تأثير ظروف معينة)) ويحتمل العمل مكاناً مهماً في التخطيط الاستراتيجي في كل الجيوش ، وقد يصبح هو العامل الذي يحكم إصدار القرار ببدء العمليات العسكرية أو تأجيلها أو التخلي عنها .
والتاريخ العسكري حافل بالمواقف التي اضطرت فيها القيادات الاستراتيجية نتيجة الحالة المعنوية المنخفضة السائدة في الجيش إلى التخلي عن العمليات الهجومية التي كانت قد وضعت خطتها . كذلك فقد أصبح (( تدمير الروح المعنوية للعدو)) من أهم الأهداف الاستراتيجية التي تسعى الجيوش المتصارعة إلى تحقيقها ، فتضع الخطط التي تستهدف في الحرب أكثر من المعنويات وان فقدانها يعني فقدان ركيزة النصر الأساس ، وهي التي تميز الجيش المدرب عن العصابات ، وبها تضمن الطاعة القائمة على الاحترام ، وتبرز الشجاعة في القتال والصبر على تحمل المشاق ، وتبرز كل المزايا التي تجعل الجندي مطيعاً باسلاً صبوراً ومن أهم العوامل المؤدية لرفع المعنويات العامل العقائدي ، وثقة المقاتل بقيادته ، والتدريب والثقة بالسلاح .
أن الإسلام العظيم سجل على مر التاريخ أعظم العبر والدروس للأجيال وللعلم .. ومعاني المعنويات وأقصاها ، بل واسماها ، وهي الشهادة في سبيل أعلاه كلمة (( لا إله إلآ الله)) كما أن العوامل المذكورة قد طبقت في الإسلام ، ولنأخذ صفة القيادة الناجحة ، فإذا كانت الأمة محظوظة تهيأ لها قائد عظيم حكيم شجاع يبعث الثقة الحقيقية في الأمة ، وليس هناك قائد لأمة ، قديماً أو حديثاً ، امتلك صفات القيادة الحقة كما امتلكها الرسول (ص) ، إذ كان في صفاته ومزاياه رجلاً يعادل امة أو هو اُمة في رجل – كما يقولون -0 إما في الجانب العقائدي ، فالمجاهد جندي من جنود الله ، يحارب أعداء الله ، وليس هناك أعظم من هذا الإحساس ، ولا قوي في توفير الحوافز المعنوية والدوافع النفسية نحو الاستقبال في القتال في سبيل الله . انه أحساس لا يقتصر أثره على المقاتل وحده بل يجعل روح المقاتل ونفسه وقلبه مصادر أشعاع لكل عمل بطولي وجمال نفسي وجلال خلقي . إما الأمثلة في هذا الجانب فهي أكثر من أن تحصي .
وهذا الصحابي ((عمير بن الحمام)) في معركة بدر ، وكانت في يده بعض التمرات يأكلها قال : (( إما بيني وبين أن ادخل الجنة ، إلا أن يقتلني هؤلاء ؟)) وقذف التمرات من يده ، واخذ سيفه ومازال يقاتل حتى استشهد ( رضي الله عنه ) . إما العامل الآخر في رفع المعنويات فهو التدريب والثقة بالسلاح ، فقد حث الإسلام على التدريب على الرماية بالقوس والطعن بالرمح والضرب بالسيف ، وعني الرسول (ص) عناية فائقة بتدريب المسلمين على الرمي ، فقال (ص) (( ألا إن القوة الرمي)) وكررها ثلاثاً.
ومن أعظم ما يلد على اهتمام الإسلام بالتدريب أن الرسول (ص) آمر بموضع كان الصحابة يتدربون فيه على الرمي . فنزع نعليه وقال : ((روض من رياض الجنة)) وكان الرسول (ص) حريصاً على تطوير الجيش بتزويده بالأسلحة المعاصرة والتي لم يألفها من قبل . من ذلك أرسل بعثة من اثنين من المسلمين إلى ((جرش)) ليتعلما صنعة (( المنجنيق )) ، وقد تم تدريب المسلمين عليه واستخدم في عمليات حصار الطائف .
8.التعــاون 0
يتمثل التعاون في ارفع صوره في قول الله تعالى (( أن اللهيُحبَُِالذينَ يُقاتِلونَ في سبِيِلِه صفَاً كأنهُمْ بُنيانٌ مرصوص )) قال جل شأنه ((واعتَصموا بحبلِ الله جَميعاً ولا تَفرَقوا ))وقول الرسول (ص) : (( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ))0
إن مبدأ التعاون يأخذ أبعاداً متعددة ، منها تعاون بين الجماعات لتحقيق الهدف ، وآخر ناجم عن المعطيات التسليحية التي جعلت الأسلحة والمعدات متنوعة ، والت تتطلب معرفة قدرات وتحديدات الصنوف في الأداء ، وان ينسق ذلك ضمن وحدة القيادة .
لقد امن الرسول (ص) مبدأ التعاون في غزواته كلها ، فهناك التعاون بين القبائل بشكل لم يسبق له مثيل في الجزيرة العربية ، والتي كانت تتقاتل سابقاً فيما بينها على أمور تافهة كحروب (( داحس والغبراء)) ... الخ إما في العصر الإسلامي فقد أصبحت القبائل يداً واحدة تقاتل في سبيل هدف اسمي هو نشر الإسلام ورفع راية (( لا الله إلا الله )) في آفاق الدنيا . إما التعاون في الأسلحة ، ففي معركة (( بدر)) وضح الرسول (ص) خطته – بأسلوب الصفوف – على تعاون الرماة مع السيافة والرماحة بطريقة متعارف عليها سابقاً في الجزيرة العربية .
9.الشؤون الإدارية0
هي الطاقة التي تحرك الأفراد والسلاح نحو العدو باقتدار عال ، وهي علم وفن ، هدفه تنظيم الموارد الإدارية والتفوق بها على العدو بحيث تدار الانتكاسات عن القوات المسلحة والناجمة عن الإمداد . وفي التاريخ القريب شواهد حية ، فنتساءل : أين أصبح جيش(( نابليون)) عندما اقتحم روسيا واحرق الكرملين ؟ وماذا حل بجيش (( هتلر)) عندما كان على أبواب موسكو ؟؟ والإجابة عن هذه التساؤلات تتخلص في أن هذه الجيوش تلاشت وأصابها الوهن ، لان شؤونها الإدارية أصبحت سيئة لدرجة الهزل ، بشكل عرضها إلى خسارة الحرب ، إضافة إلى العوامل الأخرى . فنجاح أية خطة عمليات مهما كانت رائعة في الفكرة والتنفيذ يعتمد على الدعم الإداري الكفء .
لقد اهتم الرسول (ص) بالأمور الإدارية كثيراً في معاركه ، فتعاون المسلمون على تزويد المجاهدين بجميع مواد تموين المعركة . ففي غزوة (( تبوك)) اشترك المسلمون كافة في تجهيز الحملة ، من أرزاق ونقلية وأسلحة . وقرن الإسلام دائماً الجهاد بالا رواح بالجهاد بالمال (( الذين­­ امنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون )) (( ومالكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السموات والأرضِ )) .. ((تؤمن بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكُمْ )) .
ويلاحظ من تلك الآيات الكريمة أن المال يقدم على الأنفس دائماً ، مما يدلل على اهتمام الإسلام بالشؤون الإداري . حيث انفق المسلمون الأوائل أموالهم في سبيل الله ، ومات سيد الأنبياء محمد (ص) ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من الشعير إما آل البيت (ع) فقد خطب الرسول (ص) يوماً فقال (( والله ، ما أمسى في آل محمد صاع من حطام وأنها لتسعة أبيات )) . فما قالها الرسول استقلالاً ، ولكن أراد أن تتأسى به أمته ، فقد خمسوا بكل شيء حتى ضروريات الحياة في سبيل الله والمصلحة الإسلامية العامة قبل أربعة عشر قرناً 0