بين أبي أيوب الأنصاري وهارون الرشيد
ربيع الحافظ
الحلقة التي بثتها قناة العربية عن الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه ضمن سلسلة "رجال حول الرسول" التي بثتها في شهر رمضان المبارك، تثير مقارنة بين سلوكين، لدى أمتين، حيال قضية واحدة.
من يزر مدينة استانبول تحاصره ـ أينما اتجه ـ لوحات الشوارع الإرشادية التي تشير إلى المكان الذي يرقد فيه الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري، الذي يطلق اسمه على أحد أحيائها الرئيسة "أيوب"، ويشكل فيها معلماً تاريخياً مهماً.
شكل التعرف على مكان الضريح منعطفاً في السيرة التاريخية للمدينة، بل جعله حجر زاوية لها، فطموح الصحابي الجليل الذي حمله إلى أسوار المدينة، ومرابطته بجوارها طمعاً في بشرى الرسول صلى الله عليه وسلم "لتُفْتَحَنَّ القسطنطينية، فلَنِعْمَ الأميرُ أميرُها، ولنِعْمَ الجيشُ ذلك الجيش"، هذا الطموح هو للأتراك بداية مخاض طويل لولادة جديدة لمدينتهم، قُدّر لها أن تتم بعد ثمانية قرون، والتحمت البداية بالنهاية، واعتبر سلاطين بني عثمان الضريح رمزاً للمشروعية الدينية والسياسية، واتخذوه مكاناً لمراسم تنصيب السلاطين.
لأبي أيوب الأنصاري قداسة في قلوب مضيفيه لا تخطئها عين أو أذن، دون اعتبار لشريحة اجتماعية أو فئة عمرية أو فكرية. و "أيوب" أسم محبب يطلقه الأتراك على مواليدهم مثلما هو "فاتح" نسبة إلى السلطان محمد الفاتح. ويستمد الأتراك من استضافتهم للضريح شرفاً لا يدانيه شرف، فهم يعتقدون أنهم بخدمتهم له إنما يكرمون الرجل الذي أكرم الرسول صلى الله عليه وسلم عندما نزل عليه ضيفاً عند قدومه المدينة. وتحيط منطقة جامع أبي أيوب الحدائق والنافورات والدكاكين التي تبيع التحف التذكارية، وتزدان في مواسم الأعياد بالعوائل التي تصطحب أطفالها للهو على مرأى من المشهد، فينشأون على القصة المثيرة لمدينتهم منذ نعومة أظفارهم.
هذا مشهد لأمة مع عظيم.
المشهد المقابل هو لأمة أخرى مع عظيم آخر.
يذكر ابن بطوطة في زيارته لمدينة طوس من أرض فارس، التي هي من أعمال مدينة مشهد في إيران اليوم: "فيها قبران متجاوران تحت قبة واحدة، قبر الخليفة هارون الرشيد، وقبر الإمام علي بن موسى الرضا". كان ذلك في القرن الثامن الهجري الموافق للقرن الرابع عشر الميلادي. ما طرأ على كلام ابن بطوطة هو أن المكان الذي كان يضم ضريحين أصبح فيه ضريح واحد اليوم، هو لموسى الرضا، ومحي أثر قبر هارون الرشيد، ثم طمر تحت الأسفلت بعد توسعة المكان، وأصبح مداساً لزائري القبر الآخر. وقبل أن يكون مداساً، فقد كان مكباً للنفايات ترتفع بالقرب منه لافتة تعرف به، يتوقف عندها الزائر فيهيل عليه ما تيسر من السباب والبذاءات والبصاق.
كان هارون الرشيد أكثر خلفاء بني العباس جهاداً، وغزواً، وزهداً، وأعبدهم لله تعالى، وأكثرهم اهتماماً بالعلم والعلماء، وكان يحج عاماً ويغزو عاماً، وهو القائل للغمامة: "أمطري حيث شئتِ سيأتيني خراجك"، ويؤثر عنه أنه عندما حضرته الوفاة قال: احفروا لي قبراً، فنظر إلى القبر وقال: {ما أغنى عني مالية، هلك عني سلطانية}.
هارون الرشيد الذي يدوسه الفرس بأقدامهم، لم يكن راشدياً ليلعنوه، ولا أموياً ليطعنوه، ولا عباسياً من عصر الانحطاط ممن انغمسوا في الملذات ليثلبوه، لكنه كان عربياً، وبذلمك يستوفي شرط الكراهية الفارسية الأبدية.
لكن لهارون الرشيد مع الفرس قضية أخرى، فقد استعان بالمهارات الإدارية عند البرامكة الفرس، الذين استغلوا الوضع، واستقدموا إلى سلك الدولة من أبناء جلدتهم من الشعوبيين والزنادقة، بل ممن كان لا زال على المجوسية كبني سهل، فحيزت لهم مفاصل الدولة وخزينتها وصاروا هم أصحاب الأمر، وزيفوا الأدب العربي وأغرقوه بالشعوبية والزندقة والإباحية، وظهرت في القرن الثاني الهجري حركة أدبية مزدكية أيقظت الروح القديمة للفرس ما قبل الإسلام، ووصل الاحتشاد الفارسي داخل الدولة ذروته، وأصبح الفرس قاب قوسين أو أدنى من حلم تعثر مرات ومرات، عندها وجه الرشيد إليهم ضربة قاصمة.
لم تكن معركة هارون الرشيد مع البرامكة معركة مذاهب، ففارس كانت لازالت سنية شافعية، وإنما كانت إخماداً لغارة أخرى تشنها جيوب المجوسية في فارس لتقويض الدولة العربية الإسلامية، بعد فشل الانقلاب الخراساني المتوشح برايات "آل البيت" السوداء في حصد ثمار الانقلاب على الأمويين لصالح الفرس.
عداء الفرس لهارون الرشيد قضية لها شاهد في ثقافة الفرس مع كل عصر من العصور السياسية الإسلامية وقممها القيادية، وأصبح ثقافة الدولة بعد ردة فارس في أعقاب الانقلاب الصفوي في القرن العاشر الهجري، فهم يحجون إلى (قبر !!؟؟) قاتل طود العصر الراشدي عمر بن الخطاب، ويلعنون طود العصر الأموي معاوية ابن أبي سفيان صباح مساء، وطعنوا طود العصر العثماني سليمان القانوني في الظهر وهو على أسوار فيينا، عندما غزوا العراق بالتفاهم مع ملوك أوربا، ما اضطر العثمانيين تحويل جيوشهم فنجت أوربا.
اتخاذ إيران قبر هارون الرشيد ـ الذي لم تحوِ صحيفته من المعايب غير اصطدامه بالبرامكة ـ مكباً للنفايات ومداساً للأقدام، هو فصل في صراع تثبت إيران أنه لم يتوقف، وأنها لم تتزحزح آيديولوجياً قيد أنملة عن الحال التي أخلى عليها البرامكة ساحة المعركة أمام الرشيد، والشعوبية والزندقة التي أفشاها البرامكة شعراً في منتديات بغداد على لسان ابن المقفع وبشار بن برد، يذيقها الفرس اليوم سياطاً لعرب الأحواز الواقعين تحت حكمهم، ومن يرغب تخيل حال بغداد لو لم يجهض هارون الرشيد الانقلاب البرمكي، فعليه بنبأ الأحواز، حيث لا أسماء عربية للمدن، ولا أسماء عربية للبشر، ولا تعليم بالعربية، وحيث هدم المساجد، وتجفيف الأنهار، وقطع الأرزاق، والمستعمرات الفارسية في ديار العرب.
ضربة الرشيد للبرامكة لم تضع نهاية للتسلل الفارسي إلى الدولة الإسلامية، ولم تنهِ ـ في المقابل ـ توجس العرب من مكائدهم، ولم يمضِ وقت طويل حتى آل التوجس إلى تحالف عربي ـ تركي، طهّر الدولة من النفوذ الفارسي، ليُشرع بطور جديد في النظام السياسي الإسلامي؛ سبائكي القوام، ثنائي المعدن، طرفاه العرب والأتراك.
الأمة التي تقدس أبا أيوب الأنصاري (رض)، والأخرى التي تبصق على هارون الرشيد، أمتان تمثلان اليوم قوتين سياسيتين تحيطان بالمنطقة العربية، والتاريخ مبسوطة صفحاته بين أيدي العرب، فيه فصول يعرفون منها خصومهم الحقيقيين، فيتقون شرورهم، وفصول يعرفون منها حلفاءهم الحقيقيين فيتخذون منهم أولياء في الصراع من أجل البقاء.
عن موقع دنيا الرأي
ربيع الحافظ
الحلقة التي بثتها قناة العربية عن الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه ضمن سلسلة "رجال حول الرسول" التي بثتها في شهر رمضان المبارك، تثير مقارنة بين سلوكين، لدى أمتين، حيال قضية واحدة.
من يزر مدينة استانبول تحاصره ـ أينما اتجه ـ لوحات الشوارع الإرشادية التي تشير إلى المكان الذي يرقد فيه الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري، الذي يطلق اسمه على أحد أحيائها الرئيسة "أيوب"، ويشكل فيها معلماً تاريخياً مهماً.
شكل التعرف على مكان الضريح منعطفاً في السيرة التاريخية للمدينة، بل جعله حجر زاوية لها، فطموح الصحابي الجليل الذي حمله إلى أسوار المدينة، ومرابطته بجوارها طمعاً في بشرى الرسول صلى الله عليه وسلم "لتُفْتَحَنَّ القسطنطينية، فلَنِعْمَ الأميرُ أميرُها، ولنِعْمَ الجيشُ ذلك الجيش"، هذا الطموح هو للأتراك بداية مخاض طويل لولادة جديدة لمدينتهم، قُدّر لها أن تتم بعد ثمانية قرون، والتحمت البداية بالنهاية، واعتبر سلاطين بني عثمان الضريح رمزاً للمشروعية الدينية والسياسية، واتخذوه مكاناً لمراسم تنصيب السلاطين.
لأبي أيوب الأنصاري قداسة في قلوب مضيفيه لا تخطئها عين أو أذن، دون اعتبار لشريحة اجتماعية أو فئة عمرية أو فكرية. و "أيوب" أسم محبب يطلقه الأتراك على مواليدهم مثلما هو "فاتح" نسبة إلى السلطان محمد الفاتح. ويستمد الأتراك من استضافتهم للضريح شرفاً لا يدانيه شرف، فهم يعتقدون أنهم بخدمتهم له إنما يكرمون الرجل الذي أكرم الرسول صلى الله عليه وسلم عندما نزل عليه ضيفاً عند قدومه المدينة. وتحيط منطقة جامع أبي أيوب الحدائق والنافورات والدكاكين التي تبيع التحف التذكارية، وتزدان في مواسم الأعياد بالعوائل التي تصطحب أطفالها للهو على مرأى من المشهد، فينشأون على القصة المثيرة لمدينتهم منذ نعومة أظفارهم.
هذا مشهد لأمة مع عظيم.
المشهد المقابل هو لأمة أخرى مع عظيم آخر.
يذكر ابن بطوطة في زيارته لمدينة طوس من أرض فارس، التي هي من أعمال مدينة مشهد في إيران اليوم: "فيها قبران متجاوران تحت قبة واحدة، قبر الخليفة هارون الرشيد، وقبر الإمام علي بن موسى الرضا". كان ذلك في القرن الثامن الهجري الموافق للقرن الرابع عشر الميلادي. ما طرأ على كلام ابن بطوطة هو أن المكان الذي كان يضم ضريحين أصبح فيه ضريح واحد اليوم، هو لموسى الرضا، ومحي أثر قبر هارون الرشيد، ثم طمر تحت الأسفلت بعد توسعة المكان، وأصبح مداساً لزائري القبر الآخر. وقبل أن يكون مداساً، فقد كان مكباً للنفايات ترتفع بالقرب منه لافتة تعرف به، يتوقف عندها الزائر فيهيل عليه ما تيسر من السباب والبذاءات والبصاق.
كان هارون الرشيد أكثر خلفاء بني العباس جهاداً، وغزواً، وزهداً، وأعبدهم لله تعالى، وأكثرهم اهتماماً بالعلم والعلماء، وكان يحج عاماً ويغزو عاماً، وهو القائل للغمامة: "أمطري حيث شئتِ سيأتيني خراجك"، ويؤثر عنه أنه عندما حضرته الوفاة قال: احفروا لي قبراً، فنظر إلى القبر وقال: {ما أغنى عني مالية، هلك عني سلطانية}.
هارون الرشيد الذي يدوسه الفرس بأقدامهم، لم يكن راشدياً ليلعنوه، ولا أموياً ليطعنوه، ولا عباسياً من عصر الانحطاط ممن انغمسوا في الملذات ليثلبوه، لكنه كان عربياً، وبذلمك يستوفي شرط الكراهية الفارسية الأبدية.
لكن لهارون الرشيد مع الفرس قضية أخرى، فقد استعان بالمهارات الإدارية عند البرامكة الفرس، الذين استغلوا الوضع، واستقدموا إلى سلك الدولة من أبناء جلدتهم من الشعوبيين والزنادقة، بل ممن كان لا زال على المجوسية كبني سهل، فحيزت لهم مفاصل الدولة وخزينتها وصاروا هم أصحاب الأمر، وزيفوا الأدب العربي وأغرقوه بالشعوبية والزندقة والإباحية، وظهرت في القرن الثاني الهجري حركة أدبية مزدكية أيقظت الروح القديمة للفرس ما قبل الإسلام، ووصل الاحتشاد الفارسي داخل الدولة ذروته، وأصبح الفرس قاب قوسين أو أدنى من حلم تعثر مرات ومرات، عندها وجه الرشيد إليهم ضربة قاصمة.
لم تكن معركة هارون الرشيد مع البرامكة معركة مذاهب، ففارس كانت لازالت سنية شافعية، وإنما كانت إخماداً لغارة أخرى تشنها جيوب المجوسية في فارس لتقويض الدولة العربية الإسلامية، بعد فشل الانقلاب الخراساني المتوشح برايات "آل البيت" السوداء في حصد ثمار الانقلاب على الأمويين لصالح الفرس.
عداء الفرس لهارون الرشيد قضية لها شاهد في ثقافة الفرس مع كل عصر من العصور السياسية الإسلامية وقممها القيادية، وأصبح ثقافة الدولة بعد ردة فارس في أعقاب الانقلاب الصفوي في القرن العاشر الهجري، فهم يحجون إلى (قبر !!؟؟) قاتل طود العصر الراشدي عمر بن الخطاب، ويلعنون طود العصر الأموي معاوية ابن أبي سفيان صباح مساء، وطعنوا طود العصر العثماني سليمان القانوني في الظهر وهو على أسوار فيينا، عندما غزوا العراق بالتفاهم مع ملوك أوربا، ما اضطر العثمانيين تحويل جيوشهم فنجت أوربا.
اتخاذ إيران قبر هارون الرشيد ـ الذي لم تحوِ صحيفته من المعايب غير اصطدامه بالبرامكة ـ مكباً للنفايات ومداساً للأقدام، هو فصل في صراع تثبت إيران أنه لم يتوقف، وأنها لم تتزحزح آيديولوجياً قيد أنملة عن الحال التي أخلى عليها البرامكة ساحة المعركة أمام الرشيد، والشعوبية والزندقة التي أفشاها البرامكة شعراً في منتديات بغداد على لسان ابن المقفع وبشار بن برد، يذيقها الفرس اليوم سياطاً لعرب الأحواز الواقعين تحت حكمهم، ومن يرغب تخيل حال بغداد لو لم يجهض هارون الرشيد الانقلاب البرمكي، فعليه بنبأ الأحواز، حيث لا أسماء عربية للمدن، ولا أسماء عربية للبشر، ولا تعليم بالعربية، وحيث هدم المساجد، وتجفيف الأنهار، وقطع الأرزاق، والمستعمرات الفارسية في ديار العرب.
ضربة الرشيد للبرامكة لم تضع نهاية للتسلل الفارسي إلى الدولة الإسلامية، ولم تنهِ ـ في المقابل ـ توجس العرب من مكائدهم، ولم يمضِ وقت طويل حتى آل التوجس إلى تحالف عربي ـ تركي، طهّر الدولة من النفوذ الفارسي، ليُشرع بطور جديد في النظام السياسي الإسلامي؛ سبائكي القوام، ثنائي المعدن، طرفاه العرب والأتراك.
الأمة التي تقدس أبا أيوب الأنصاري (رض)، والأخرى التي تبصق على هارون الرشيد، أمتان تمثلان اليوم قوتين سياسيتين تحيطان بالمنطقة العربية، والتاريخ مبسوطة صفحاته بين أيدي العرب، فيه فصول يعرفون منها خصومهم الحقيقيين، فيتقون شرورهم، وفصول يعرفون منها حلفاءهم الحقيقيين فيتخذون منهم أولياء في الصراع من أجل البقاء.
عن موقع دنيا الرأي