هناك رجال يقاتلون بسيفهم، وآخرون يقاتلون بفكرهم، لكن القلائل النادرين في التاريخ يجسدون الاثنين معاً. كان البطل أحمد عبد العزيز هو تلك الندرة: "فارس الفكرة والميدان".
في خضم فوضى ونيران 1948، لم يكن أحمد عبد العزيز مجرد قائد عسكري يؤدي واجبه، بل كان تجسيداً حياً للإرادة العربية، يحمل هدفاً سامياً واحداً لا يقبل المساومة: تحرير فلسطين الكامل.
لكن خطورة هذا البطل الحقيقية لم تكن فقط في شجاعته الميدانية الأسطورية التي ألهمت جنوده، بل في "الفكرة" التي حملها في عقله. لقد امتلك "مشروع تحرير" متكامل، رؤية استراتيجية سبقت عصره وجيوشه، وفهمت طبيعة العدو الصهيوني وحقيقة حرب العصابات المطلوبة لهزيمته.
هذه ليست مجرد قصة بطل سقط في المعركة. هذه قصة "الفكرة" التي كادت أن تنتصر، وقصة الشجاعة التي أشعلت المقاومة، وقصة "المشروع" الذي كاد أن يغير وجه الشرق الأوسط... لولا أن قوى الظلام، في الميدان والخفاء، تكالبت لإيقافه. هذا هو التحقيق في مشروع التحرير الذي لم يُهزم، بل "اغتيل".
لكي نفهم "فارس الميدان"، يجب أن نعود إلى جذوره الأولى. قصة أحمد عبد العزيز لا تبدأ في ميادين القتال في فلسطين، بل تبدأ في الخرطوم في التاسع عشر من أبريل عام 1907. وُلد في بيت يجمع بين الانضباط العسكري والروح الوطنية الجارفة. كان والده، الأميرالاي (عميد) محمد عبد العزيز غنيم، قائداً بالجيش المصري في السودان، وهو رجل مصري من الشرقية، عُرف بتدينه الشديد ووطنيته التي لا تلين.
هذا البيت لم يكن بيتاً عسكرياً عادياً، بل كان "مدرسة في الوطنية". والدليل الأكبر على ذلك جاء مع اندلاع ثورة 1919, حيث لم يقف الوالد، القائد العسكري، متفرجاً. بل، كما تروي المصادر التاريخية، "فتح الأميرالاي محمد عبد العزيز مخازن السلاح لجنوده وسمح لهم بالخروج من ثكناتهم للمشاركة في المظاهرات مع الشعب" ضد الاحتلال البريطاني. كان هذا عملاً وطنياً هائلاً، ودفع ثمنه غالياً عندما "أصدر الإنجليز قراراً بفصله من الخدمة" .
في هذا الجو المشحون بالوطنية، كان الفتى أحمد عبد العزيز يشب. لم يكن عمره يتجاوز الثانية عشرة، لكن هذا المناخ "ألقى في دمه جراثيم الوطنية مبكراً" كما يصف أحد المؤرخين. لم يكتفِ الفتى بمشاهدة والده، بل "شارك هو نفسه في مظاهرات 1919 وهو لا يزال طالباً صغيراً"، مندفعاً بحماس فطري ضد المحتل.
هذه الروح الثائرة لم تهدأ. في عام 1923، وهو لا يزال شاباً يافعاً، "اتُّهم أحمد عبد العزيز بقتل ضابط إنجليزي، ودخل السجن على إثرها"، ورغم الإفراج عنه لاحقاً لعدم كفاية الأدلة، فإن هذه الحادثة تظهر مدى عمق "الفكرة" المعادية للاستعمار في وجدانه منذ الصغر.
بالتوازي مع هذا الخط الوطني، كان "الفارس" يُصقل. انتقلت العائلة إلى القاهرة، وهناك في المدرسة الخديوية، ظهر عشقه الأبدي للفروسية. لم تكن مجرد هواية، بل كانت جزءاً من تكوينه. وقد لخصت إحدى الشهادات شخصيته في تلك الفترة تلخيصاً بليغاً:
"عُرف 'أحمد عبد العزيز' بين زملائه وتلاميذه [لاحقاً] بالإيمان العميق، والأخلاق الكريمة، والوطنية الصادقة، وحب الجهاد، والشغف بالقراءة والبحث، وزادته الفروسية نبل الفرسان وترفعهم عن الصغائر والتطلع إلى معالي الأمور."
كان هذا الشغف بالفروسية ملفتاً لدرجة أن وزير الحربية آنذاك، "حيدر باشا، أُعجب به كفارس وتنبأ له بمستقبل عظيم".
ومن المفارقات المثيرة للاهتمام، أنه عندما قرر أحمد عبد العزيز الالتحاق بالكلية الحربية، قوبل "بمعارضة من والده وعائلته" . ربما لأن الأب، الذي طرده الإنجليز، لم يكن يرغب لابنه أن يخدم في جيش لا يزال تحت هيمنة المحتل.
لكن الفتى كان قد حسم أمره. لقد وُلد في بيت عسكري، وتربى على كراهية الاستعمار، وصقل جسده بالفروسية. كان هذا هو الإعداد الرباني لفارس قرر أن يدخل "عش الدبابير" من الداخل، ليصبح ضابطاً في الجيش، تمهيداً للمعركة الأكبر القادمة.
لم يُولد أحمد عبد العزيز في فراغ. لقد فتح عينيه في لحظة كانت فيها "الأمة" في أحطّ حالاتها. لفهم "فكرة" المقاومة التي آمن بها، يجب أن نفهم العالم الذي وُلد فيه.
قبل أن يولد البطل في 1907، كان المشهد قد تم إعداده بالفعل. كانت "الدولة العثمانية"، التي تمثل رمزياً "خلافة المسلمين" وحاميتهم، تُحتضر. أُطلق عليها في أوروبا اسم "رجل أوروبا المريض"، وكانت القوى الاستعمارية تنهش في جسدها.
بلده هو، مصر، كان قد سقط بالفعل. فمنذ عام 1882، احتلت بريطانيا مصر، وحلّت الجيش المصري (أو كادت)، وأصبح اللورد كرومر هو الحاكم الفعلي للبلاد. كان والد أحمد عبد العزيز نفسه، كضابط في الجيش المصري بالسودان، يخدم في منظومة تعمل تحت الهيمنة البريطانية.
وفي سويسرا عام 1897، قبل مولد البطل بعشر سنوات فقط، كان "تيودور هرتزل" يعقد المؤتمر الصهيوني الأول، مُعلناً بوضوح عن مشروع لإنشاء "وطن قومي لليهود". في ذلك الوقت، بدت هذه الفكرة مجرد هذيان، لكنها كانت البذرة الأولى للكابوس القادم.
هنا، في هذا المناخ، وُلد أحمد عبد العزيز. وبينما كان هو يكبر، كانت خريطة المنطقة تُمزق. كان صباه هو فترة "الخيانات الكبرى".
أثناء الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وعدت بريطانيا العرب بالاستقلال التام إذا ثاروا ضد الأتراك (الدولة العثمانية). أشعلت "الثورة العربية الكبرى"، لكن ما حدث كان خيانة مدوية. ففي الخفاء، كانت بريطانيا وفرنسا ترسمان "اتفاقية سايكس بيكو" (1916) لتقسيم الكعكة العربية بينهما.
والأسوأ من ذلك، في 2 نوفمبر 1917، وهو في سن العاشرة، أصدرت بريطانيا "وعد بلفور" المشؤوم. كان هذا الوعد، كما وصفه الكاتب آرثر كويستلر بتهكم، "وثيقة قامت فيها أمة [بريطانيا] بالوعد رسمياً لأمة ثانية [الصهاينة] ببلاد أمة ثالثة [العرب]".
عندما كان أحمد عبد العزيز شاباً يافعاً في الثانية عشرة من عمره، كان يشارك في ثورة 1919 في شوارع القاهرة ضد الإنجليز، في نفس الوقت الذي كان فيه "الانتداب البريطاني" على فلسطين يُمهد الطريق لتنفيذ وعد بلفور.
لقد نشأ أحمد عبد العزيز وهو يرى "العدو" بعينه. العدو لم يكن فكرة مجردة، بل كان الضابط الإنجليزي الذي فصل والده من الخدمة، وكان المحتل الذي يسير في شوارع بلده، وكان الخائن الذي أعطى أرضاً لا يملكها (فلسطين) لحركة استعمارية (الصهيونية).
لقد أدرك جيله أن "رجل أوروبا المريض" قد مات، وأن أمته قد تم تقسيمها، وأن الاستعمار الغربي والصهيونية وجهان لعملة واحدة.
كتب المؤرخ الفلسطيني الكبير عبد الوهاب الكيالي، واصفاً تلك الفترة:
"لقد أدرك الجيل الذي نشأ بين الحربين أن الصهيونية ليست سوى 'جسر' للاستعمار الغربي لضمان استمرار هيمنته على قلب العالم العربي... وأن تحرير فلسطين ليس قضية فلسطينية، بل هو دفاع عن وجود الأمة كلها."
في هذا الجو المشحون بالغضب والشعور بالظلم والخذلان، وفي بيت يضج بالوطنية، تشكلت "فكرة" أحمد عبد العزيز: وهي أن الاستعمار، سواء في القاهرة أو في القدس، لا يمكن أن يخرج إلا بالقوة، وأن "الجهاد" ليس مجرد شعار ديني، بل هو ضرورة وجودية لتحرير الأمة من هذا الواقع المرير.
لم تكن "فكرة" مقاومة الاستعمار التي تشربها أحمد عبد العزيز من والده ومن ظروف الأمة مجرد شعور نظري حبيس العقل. لقد ترجم هذا الشاب "الفكرة" إلى "كفاح" مبكر، وتحول الغضب الداخلي إلى عمل في الشارع.
الكفاح لديه بدأ في سن الثانية عشرة، حين لم يكن مجرد طفل يراقب ثورة 1919 من الشرفة، بل كان، كما ذكرنا، في قلب المظاهرات مع أبناء جيله، يهتف ضد الاحتلال الذي فصل والده. كانت هذه هي المعركة الأولى، معركة الشارع.
لكن الحدث الأبرز الذي كشف "معدن" هذا الشاب، وحجم خطورته على المحتل، وقع عام 1923. وهو لا يزال طالباً في المدرسة الخديوية، "اتُّهم أحمد عبد العزيز بقتل ضابط إنجليزي، ودخل السجن على إثرها".
هنا يجب أن نتوقف. بغض النظر عن صحة الاتهام من عدمه، فإن مجرد وصول شاب في هذا السن (حوالي 16 عاماً) ليصبح المشتبه به الرئيسي في عملية كهذه، يظهر مدى انغماسه في العمل الوطني ومدى قلق سلطات الاحتلال منه. لقد كان هذا الشاب "مشروع ثائر" مكتمل الأركان.
هذا الكفاح المباشر والصدامي في الشارع، قاده إلى قرار مصيري شكّل بقية حياته، وهو قراره بالالتحاق بـ "الكلية الحربية".
للوهلة الأولى، قد يبدو القرار غريباً. كيف لثائر يكره الإنجليز حد اتهامه بقتل ضابط منهم، أن يلتحق طوعاً بالجيش الرسمي الذي يهيمن عليه الإنجليز؟
هنا يكمن عمق "الفكرة" لديه. لم يكن الانضمام للجيش رغبة في وظيفة مرموقة أو "بكوية" يتباهى بها. لقد كان هذا قراراً "استراتيجياً" من شاب مقاتل. هو ابن "الأميرالاي" الذي طرده الإنجليز، فأدرك بفطرة المقاتل أن المظاهرات وحدها لن تطرد المحتل، وأن الشعارات وحدها لن تحرر وطناً.
أدرك أن الأمة بحاجة إلى "القوة" المنظمة، وأن هذه القوة تكمن في تعلم "علم الحرب" الحقيقي. كان قراره بالدخول للكلية الحربية، رغم معارضة عائلته، هو بحد ذاته "كفاح" من نوع آخر. لقد كان "كفاح الإعداد" للمعركة الفاصلة.
يصف أحد معاصريه هذا التحول قائلاً:
"كان أحمد عبد العزيز يرى في الكلية الحربية ليس نهاية المطاف، بل بداية الإعداد الحقيقي لمعركة التحرير الكبرى. كان يريد أن يحول غضب الثائر إلى علم الضابط."
وهكذا، تحول "الثائر" في الشارع إلى "ضابط" مقاتل، ليدخل مرحلة جديدة من الكفاح، ليست ضد الإنجليز في شوارع القاهرة فقط، بل استعداداً لمعركة الأمة كلها.
الجزء الرابع: فارس الميدان.. الضابط الذي أثار الإعجاب
حين عبر أحمد عبد العزيز بوابة الكلية الحربية، لم يكن مجرد طالب عسكري آخر. كان "مشروع ثائر" قرر أن يصقل غضبه بالعلم العسكري. تخرج عام 1928، وكان انتماؤه واضحاً منذ اليوم الأول: "سلاح الفرسان".
لم يكن هذا اختياراً عشوائياً. فالشاب الذي عَشق الخيل منذ صغره، وجد في "الفرسان" ضالته. لكنه لم يكن فارساً تقليدياً. هنا، في الجيش، تحولت الفروسية من مجرد شغف إلى رمز لشخصيته كضابط. وقد لخص معاصروه هذا المزيج النادر في شهادة متواترة:
"عُرف 'أحمد عبد العزيز' بين زملائه وتلاميذه بالإيمان العميق، والأخلاق الكريمة، والوطنية الصادقة... وزادته الفروسية نبل الفرسان وترفعهم عن الصغائر والتطلع إلى معالي الأمور."
لقد كان ضابطاً "نبيلاً" بالمعنى الحرفي للكلمة. لا يدخل في صغائر الأمور، ولا تستهويه وشايات الضباط أو المنافسات الدنيئة. كان هدفه أسمى من ذلك بكثير.
لم يمر هذا النبل والشغف دون أن يُلاحظ. ففي قصة شهيرة تُروى عن فترة خدمته، لفتت مهارته الفائقة كفارس نظر وزير الحربية نفسه، "حيدر باشا". لم يكن الإعجاب فقط بقدرته على ترويض الخيل، بل بقدرته على "ترويض العلم العسكري" أيضاً. تذكر المصادر أن "حيدر باشا أُعجب به كفارس وتنبأ له بمستقبل عظيم، خاصة بعد فوزه بجائزة الموضوعات العسكرية".
وهذه هي النقطة المفصلية في حياته العسكرية: لم يكن "فارس ميدان" فقط، بل كان "فارس فكرة".
أدرك أحمد عبد العزيز أن الشجاعة وحدها لا تكفي لهزيمة مشروع استعماري منظم. فبينما كان يترقى في "سلاح الفرسان" (حتى وصل إلى رتبة "قائد ثانٍ" للسلاح)، كان يعمل على صقل عقله.
لم يكتفِ بكونه ضابطاً منفذاً، بل التحق بـ "كلية أركان الحرب" وتخرج فيها، وهي أرقى درجة علمية عسكرية تُعنى بالتخطيط الاستراتيجي وقيادة الجيوش.
ولم يكتفِ بذلك، بل تحول من "متعلم" إلى "معلم". تم اختياره ليصبح "مدرساً لمادة التاريخ الحربي في الكلية الحربية". وهنا، في قاعات المحاضرات، كان "مشروع التحرير" يتشكل في عقله. كان يدرّس لطلابه تاريخ المعارك، ليس كقصص من الماضي، بل كدروس حية للمستقبل.
كان يرى كيف سقطت الإمبراطوريات، وكيف تنتصر الحركات الثورية. كان يحلل تكتيكات العدو، ويفكر في تكتيكات مضادة.
باختصار، كانت فترة خدمته في الجيش المصري قبل 1948 هي "فترة الإعداد الطويل". لم تكن مجرد وظيفة، بل كانت عشرين عاماً من صقل السيف وصقل الفكر، استعداداً للمعركة الحتمية التي رآها قادمة لا محالة على أرض فلسطين.
ما كان يتابعه أحمد عبد العزيز وزملاؤه الوطنيون في الجيش المصري لم يكن مجرد "أخبار" عن اضطرابات، بل كان مشاهدة حية لعملية "اقتلاع شعب" و"زرع شعب" آخر مكانه، برعاية القوة العظمى التي تحتل بلادهم هم أنفسهم: بريطانيا.
لفهم ما حدث، يجب أن نعود إلى ما قبل الانتداب. فكرة "الدولة اليهودية" لم تبدأ بـ "وعد بلفور"، بل بدأت كـ "مشروع استعماري" واضح. في عام 1897، عقد "تيودور هرتزل" المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا. لم يكن الأمر سرياً، لقد خرج هرتزل ليقول جملته الشهيرة:
"في بازل، أسست الدولة اليهودية... لو قلت ذلك اليوم بصوت عالٍ، لقابلني العالم بالضحك. لكن في غضون خمس سنوات، وربما خمسين، بالتأكيد، سيراها الجميع."
كانت هذه هي "الفكرة" التي رآها جيل أحمد عبد العزيز: مشروع استعماري واضح، يبحث عن أرض، وقد اختار فلسطين.
المشروع الصهيوني كان سيظل "فكرة" في سويسرا، لولا الدعم البريطاني المطلق. جاء هذا الدعم في شكلين:
أولاً: وعد بلفور (السلاح القانوني):
في 2 نوفمبر 1917، وبينما كانت الحرب العالمية الأولى لا تزال مستعرة، أرسل وزير الخارجية البريطاني "آرثر بلفور" رسالته المشؤومة إلى اللورد روتشيلد. هذا الوعد، كما وصفه الكاتب آرثر كويستلر بتهكم، كان:
"وثيقة قامت فيها أمة [بريطانيا] بالوعد رسمياً لأمة ثانية [الصهاينة] ببلاد أمة ثالثة [العرب]."
بعد الحرب، لم تمنح بريطانيا فلسطين "الاستقلال" كما وعدت العرب، بل فرضت عليها "الانتداب" عام 1920. لم يكن هذا الانتداب لحماية الفلسطينيين، بل كان "لتمكين" وعد بلفور.
الدليل الأكبر على ذلك هو تعيين "السير هربرت صموئيل" كأول مندوب سامٍ بريطاني في فلسطين. لم يكن صموئيل مجرد سياسي بريطاني، بل كان "صهيونياً متحمساً" (كما تصفه كل المصادر التاريخية)، وكان هو نفسه أحد مهندسي وعد بلفور.
يصف المؤرخ الفلسطيني رشيد خالدي الوضع قائلاً:
"لم يكن الانتداب البريطاني حكماً محايداً بين طرفين. لقد كان نظاماً مصمماً منذ اليوم الأول لتسهيل بناء 'الوطن القومي اليهودي'، على حساب الأغلبية العربية الأصلية."
تحت حماية المندوب السامي الصهيوني والجيش البريطاني، بدأت عملية "الاستيطان" الفعلية. لم تكن مجرد هجرة أفراد، بل كانت بناء "دولة موازية":
الأرض: قامت "الوكالة اليهودية" و"الصندوق القومي اليهودي" بشراء الأراضي. لم يشتروها من الفلاحين الفلسطينيين، بل اشتروا مساحات شاسعة (مثل مرج بن عامر) من "عائلات إقطاعية غائبة" (مثل عائلة سرسق اللبنانية التي كانت تعيش في بيروت وباريس). بعد الشراء، كان أول إجراء هو "طرد الفلاحين الفلسطينيين" الذين عاشوا وزرعوا هذه الأرض لقرون، ليصبحوا لاجئين في وطنهم.
السلاح: في الوقت الذي كانت فيه سلطات الانتداب البريطاني تصدر "حكم الإعدام على أي فلاح فلسطيني يُعثر معه على رصاصة واحدة"، كانت هي نفسها تغض الطرف، بل وتساعد أحياناً، في بناء وتسليح الميليشيا الصهيونية "الهاجاناه". بل إن ضابطاً بريطانياً يدعى "أورد وينجيت" (وهو صهيوني مسيحي متطرف) قام بنفسه بتدريب "الفرق الليلية الخاصة" التابعة للهاجاناه على تكتيكات الهجوم.
الاقتصاد: تم إنشاء "الهستدروت" (اتحاد العمال اليهود) الذي فرض سياسة "العمل العبري"، أي مقاطعة أي عامل عربي.
كان الفلسطيني يشاهد أرضه تُسلب، وعمله يُمنع عنه، وميليشيا تستعد لطرده، كل ذلك تحت حماية القانون البريطاني, لكن لم يكن الشعب الفلسطيني مجرد "متفرج سلبي" على عملية اقتلاعه. فمنذ اليوم الأول للانتداب، اشتعلت المقاومة. ما كان يتابعه أحمد عبد العزيز في القاهرة لم يكن "أخباراً" متفرقة، بل كان "سلسلة متصلة" من الثورات التي تُسحق بالحديد والنار، وتُخان بالسياسة.
1. ثورة البراق (1929): شرارة القدس
لم تكن مجرد "شغب طائفي" كما صوّرها البريطانيون. كانت معركة على "السيادة". بدأت القصة عندما نظمت الحركات الصهيونية المتطرفة (مثل "بيتار") مظاهرات استفزازية عند حائط البراق (الجزء الجنوبي الغربي من سور المسجد الأقصى)، ورفعوا العلم الصهيوني وأنشدوا نشيدهم. كان هذا فعلاً سياسياً لإثبات "حق" لهم في أقدس الأماكن الإسلامية.
فلما رأى الفلسطينيون في هذا "جس نبض" لسرقة الأقصى. انفجر الغضب في القدس. الجمعة التالية، خرج المصلون في مظاهرات هادرة. ردت القوات البريطانية بقمع الفلسطينيين، بينما تساهلت مع الصهاينة. سرعان ما امتدت النار من القدس إلى الخليل وصفد ويافا. كانت ثورة وطنية شاملة بصبغة دينية، قادها "المجلس الإسلامي الأعلى" برئاسة المفتي الحاج أمين الحسيني.
لكنها انتهت بقمع بريطاني دموي. استخدم البريطانيون الطائرات والمدرعات ضد القرى الفلسطينية. لكن النهاية الأبرز، والتي هزت العالم العربي، كانت "المسرحية القضائية". أصدرت محاكم الانتداب أحكاماً بالإعدام على 26 فلسطينياً، خُففت لاحقاً، لكن تم تنفيذ الحكم في ثلاثة شبان أصبحوا أيقونات: فؤاد حجازي، عطا الزير، ومحمد جمجوم.
في 17 يونيو 1930، سيق الأبطال الثلاثة إلى سجن عكا. يروي المؤرخون أنهم كانوا يتسابقون "أيهم يُشنق أولاً"، وهم ينشدون للوطن. أصبحت هذه الحادثة، المعروفة بـ "الثلاثاء الأحمر"، رمزاً للتضحية الفلسطينية والوحشية البريطانية.
2. جهاد القسام (1935): ميلاد "فكرة" المقاومة المنظمة
بينما كانت "القيادات التقليدية" (الإقطاعيون وتجار المدن) لا تزال تراهن على "المفاوضات" و"العرائض" لبريطانيا، كان هناك رجل يرى الحقيقة: الشيخ السوري عز الدين القسام.انتقل القسام من سوريا إلى حيفا، ورأى بعينه "النكبة" وهي تتشكل: فلاحون يُطردون من أراضي "مرج بن عامر" التي باعها الإقطاعيون الغائبون، وعمال صهاينة يحلون محلهم بسياسة "العمل العبري"، وبريطانيا تحمي كل هذا.
أدرك القسام أن "السياسة" فشلت، وأن المحتل لا يفهم إلا لغة القوة. فكانت "فكرته" بسيطة ومدوية: "الجهاد هو الحل".
لم يكن القسام عشوائياً. بدأ في بناء "خلايا سرية" (عُرفت بـ "الكف الأسود")، يختار أعضاءها من الفلاحين والعمال الفقراء الذين طُردوا من أراضيهم. كان يربيهم دينياً ووطنياً وعسكرياً. كان يجمع المال لشراء البنادق، وبدأوا عمليات "حرب عصابات" محدودة ضد المستوطنات البريطانية والصهيونية.
لكن اكتشفت بريطانيا أمره. في 20 نوفمبر 1935، حاصرت قوة بريطانية ضخمة الشيخ القسام ومجموعة صغيرة من مقاتليه في أحراش قرية "يعبد" (قرب جنين). رفض القسام الاستسلام، ودارت معركة غير متكافئة لساعات.
كانت كلماته الأخيرة لأصحابه، والتي أصبحت دستور المقاومة:
استشهد القسام. لكن جنازته في حيفا تحولت إلى مظاهرة هادرة هزت فلسطين. لم يكن استشهاده "نهاية"، بل كان "الشرارة" الحقيقية التي أثبتت أن "فكرة" المقاومة المسلحة ممكنة، وأنها الطريق الوحيد.
3. الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939): حرب التحرير الأولى
هذه هي الثورة التي عاصرها أحمد عبد العزيز وهو ضابط ناضج في القاهرة. كانت هذه "حرباً" حقيقية، واستمرت ثلاث سنوات.
الأسباب كانت
استشهاد القسام: كان هو القدوة والشرارة.
الهجرة الصهيونية: وصلت إلى ذروتها. بسبب صعود النازية في أوروبا، فتحت بريطانيا أبواب فلسطين، ودخل مئات الآلاف من المهاجرين، مما غير الديموغرافيا بشكل مخيف.
تهريب السلاح الصهيوني: اكتشاف شحنات أسلحة ضخمة قادمة للصهاينة في ميناء يافا، مما أثبت أنهم يستعدون "لحرب" وليس مجرد "استيطان".
اليأس التام: اليأس من بريطانيا ومن القيادات التقليدية.
الأحداث (مرحلتان):
المرحلة الأولى (1936) - الإضراب العظيم: بدأت بـ "إضراب عام" تاريخي هو الأطول في تاريخ العالم، استمر ستة أشهر كاملة. شُلّت البلاد تماماً. لا عمل، لا تجارة، لا ضرائب. تشكلت "لجنة عربية عليا" برئاسة الحاج أمين الحسيني لقيادة الثورة سياسياً.
المرحلة الثانية (1937-1939) - الثورة المسلحة: بعد 6 أشهر، حدثت "الخيانة" الأولى. تدخل الملوك والأمراء العرب (بضغط بريطاني) وناشدوا الفلسطينيين وقف الإضراب، قائلين:
"نحن... ندعوكم للإخلاد إلى السكينة... معتمدين على نيات صديقتنا الحكومة البريطانية الطيبة."
وثق الفلسطينيون بحكامهم وأوقفوا الإضراب. فكان رد بريطانيا هو إرسال "لجنة بيل" التي أوصت بـ"التقسيم" لأول مرة! (أي إعطاء الصهاينة دولة).
هنا، انفجرت الثورة المسلحة. لم تعد "عصابات"، بل "جيش ثوار" حقيقي بقيادة "عبد القادر الحسيني" (ابن عم المفتي) و"عارف عبد الرازق". سيطر الثوار على الريف بالكامل، وحرروا مدناً مثل "البلدة القديمة في نابلس"، وأصبحت سلطة الانتداب محصورة في المدن الكبرى.
كيف انتهت :
القمع البريطاني: جن جنون بريطانيا. أرسلت أكثر من 100 ألف جندي (بقيادة الجنرال مونتغمري لاحقاً). استخدموا سياسات "الأرض المحروقة" , فقام الطيران قصف القرى بالطائرات, و تم نسف المنازلكعقاب جماعي (تم نسف أحياء كاملة في يافا القديمة ونابلس), و تم وضع آلاف الفلسطينيين في معسكرات اعتقال.
التعاون الصهيوني: هنا الطعنة الأعمق. قامت بريطانيا بـ "تسليح وتدريب الصهاينة" لقمع الثورة معهم. الضابط البريطاني "أورد وينجيت" (الصهيوني المتطرف) أسس "الفرق الليلية الخاصة"، وهي ميليشيا مشتركة (بريطانية-صهيونية من الهاجاناه) كانت تهاجم القرى الفلسطينية ليلاً. لقد درّب البريطانيون عدو الفلسطينيين على قتالهم.
النهاية (1939):بحلول عام 1939، كانت الثورة قد أُنهكت. استشهد آلاف الفلسطينيين (أكثر من 5000 شهيد)، واعتقل عشرات الآلاف، وتم إعدام المئات. القيادة السياسية (الحاج أمين الحسيني) تم نفيها. المقاتلون (مثل عبد القادر الحسيني) تم نفيهم.
هذا هو المشهد الذي رآه أحمد عبد العزيز في 1939:
الشعب الفلسطيني: أعزل تماماً، منهك، قادته في المنفى، وشبابه في السجون أو القبور.
العصابات الصهيونية: مدججة بالسلاح، متمرسة على القتال (تدربت على يد الإنجليز)، ولها "نواة جيش" (الهاجاناه والبلماح).
الحكومات العربية: أثبتت أنها "أداة" بيد بريطانيا (كما في نداء 1936).
كان هذا الهدوء الذي سبق "النكبة". هدوء الجثة التي تستعد لتقطيعها. هذا هو "الغليان" الذي وصل إلى ذروته في نفس أحمد عبد العزيز، منتظراً اللحظة التي ستقرر فيها بريطانيا الانسحاب لتسليم البلاد.
5. الموقف العربي وموقف البطل:
هنا يكمن "الغليان". الشعوب العربية، ومنها الشعب المصري، كانت في حالة هيجان. كانت التبرعات تُجمع للثوار، والمظاهرات تخرج في القاهرة ودمشق.
لكن "الحكومات العربية" الرسمية، التي كانت هي نفسها تحت النفوذ البريطاني، كان موقفها كارثياً. ففي ذروة الثورة عام 1936، وبدلاً من دعم الثوار، تدخل الملوك والأمراء العرب (بضغط بريطاني) وأصدروا نداءً للثوار يطالبونهم بوقف الإضراب والثورة، قائلين لهم:
هنا، كان الضابط أحمد عبد العزيز في القاهرة يرى المشهد كاملاً:
عدوه (بريطانيا) يسلّح عدواً جديداً (الصهيونية).
إخوته (الفلسطينيون) يُذبحون وهم يقاتلون ببسالة (ثورة 36).
حكامه (الحكومات العربية) يخونون الثورة ويطلبون من الثوار "الثقة" في الذئب.
كان يرى أن هذه ليست قضية فلسطينية، بل هي "قضية الأمة كلها". كان يرى أن "الجهاد" الذي يقوده القسام والحسيني هو النموذج الصحيح، وأن "الجيوش الرسمية" مكبلة بالخيانة والضعف. كان هذا هو الوقود الذي أشعل فيه نار المقاومة التي ستنفجر في 1948.
لقد كان "الهدوء" الذي ساد فلسطين بعد سحق ثورة 1939 هو الهدوء الذي يسبق المذبحة. كان الشعب الفلسطيني أعزلاً، وقادته في المنفى، بينما كانت العصابات الصهيونية تستغل الحرب العالمية الثانية لتتدرب وتتسلح على يد البريطانيين أنفسهم، تحت ذريعة "محاربة النازي". كان الضابط الخبير أحمد عبد العزيز يرى هذه الحقيقة المرة: عدو إخوته يتدرب ويتسلح، بينما جيشه هو مكبل في القاهرة.
ثم، انتهت الحرب العالمية الثانية. وبريطانيا، التي أنهكتها الحرب، قررت أن ترمي "القنبلة الموقوتة" التي زرعتها في فلسطين إلى "الأمم المتحدة" التي تم إنشاؤها حديثاً.
في القاهرة، كان أحمد عبد العزيز يراقب المسرحية السياسية وهو يدرك أنها "خيانة" يتم إعدادها. جاءت الخيانة مدوية في 29 نوفمبر 1947.
في ذلك اليوم، أصدرت الأمم المتحدة "قرار التقسيم" (القرار 181). كان هذا القرار صدمة زلزلت العالم العربي. لقد قررت "لجنة" دولية، بكل بساطة، إعطاء 55% من أرض فلسطين لـ "دولة يهودية"، رغم أن اليهود (الذين جلبتهم بريطانيا) لم يكونوا يمتلكون سوى أقل من 7% من الأرض, كان هذا القرار هو "الرصاصة الأولى" قبل بدء القتال.
أعلنت بريطانيا أنها "ستنسحب" في 15 مايو 1948 لتنفيذ هذا التقسيم. لكن ما حدث في الشهور التي سبقت هذا التاريخ (من ديسمبر 1947 إلى مايو 1948) هو "النكبة" الحقيقية، وهو ما أشعل نار الجهاد.
لم ينتظر الصهاينة يوم 15 مايو. فبينما كان البريطانيون "ينسحبون" نظرياً، كانوا عملياً يسلمون معسكراتهم وأسلحتهم ومواقعهم الاستراتيجية للعصابات الصهيونية. وفي المقابل، كانوا يقمعون أي محاولة فلسطينية للتسلح.
بدأت العصابات الصهيونية (الهاجاناه، الأرغون، وشتيرن) في تنفيذ خطة عسكرية ممنهجة عُرفت بـ "خطة دالت" (Plan Dalet). لم تكن هذه الخطة "دفاعاً" عن النفس، بل كانت خطة "هجومية" واضحة هدفها "التطهير العرقي". كان الهدف هو الاستيلاء على أكبر قدر من الأرض (أكثر مما أعطاهم قرار التقسيم) و"إفراغها" من سكانها العرب.
وهنا بدأت أخبار "المجازر" تصل إلى القاهرة ودمشق. لم تكن اشتباكات، بل كانت "مذابح" مصممة لبث الرعب.
كانت "الطنطورة"، و"الشيخ"، و"ناصر الدين". لكن المجزرة التي هزت ضمير العالم، وأشعلت النار في صدر أحمد عبد العزيز، كانت "مذبحة دير ياسين" في 9 أبريل 1948.
هاجمت عصابتا "الأرغون" و"شتيرن" هذه القرية الصغيرة المسالمة قرب القدس. لم تكن "معركة"، بل كانت "إبادة". تم قتل أكثر من 100 من النساء والأطفال والشيوخ، وتم تشويه الجثث، والتمثيل بها، وإلقاؤها في بئر القرية.
لم تكن "دير ياسين" مجرد حادث عشوائي، بل كانت "سلاحاً نفسياً". لقد تباهى قادة العصابات، مثل مناحم بيغن، لاحقاً بأن "الرعب" الذي خلفته مذبحة دير ياسين هو الذي جعل مئات آلاف الفلسطينيين يفرون من قراهم، وهو ما "حرر" البلاد لهم.
هنا، في القاهرة، انفجر الشارع العربي. لم يعد الأمر "قضية سياسية" تُناقش في الأمم المتحدة، بل أصبح "جرحاً نازفاً" في قلب كل عربي ومسلم. كان وقع أخبار دير ياسين، كما وصفه المؤرخون، "كفيلاً بإشعال رغبة المقاومة والجهاد في كل قلب حي".
الناس في الشوارع كانت تصرخ مطالبة بالجهاد، والحكومات العربية كانت لا تزال "مرتبكة" و"مترددة". في هذا الفراغ، بين غضب الشعوب وتردد الحكومات، ظهر "المجاهدون" الحقيقيون.
كان أحمد عبد العزيز، ضابط أركان الحرب، يرى كل هذا. يرى الخطة الصهيونية (دالت)، ويرى المجازر (دير ياسين)، ويرى الدعم العالمي (قرار التقسيم)، ويرى العجز الرسمي العربي, في تلك اللحظة، لم يعد "ضابطاً" ينتظر الأوامر. لقد أصبح "مجاهداً" يستجيب لنداء الواجب.
الجزء السابع: الفكرة والاستعداد.. كيف تُقاتل الأشباح؟
أمام هول "مذبحة دير ياسين" وأخبار التطهير العرقي المُمَنهج، وأمام "العجز" الرسمي العربي، لم يعد البطل أحمد عبد العزيز قادراً على البقاء في مقعده كـ "مدرس للتاريخ الحربي" في القاهرة. لقد كان التاريخ يُذبح على عتبة بيته، وهو الخبير العسكري الذي أمضى حياته يستعد لهذه اللحظة.
أدرك أحمد عبد العزيز أن "الجيوش النظامية" العربية، بقياداتها التقليدية المرتبكة، وبـ "الصدأ" الذي أصابها تحت الاحتلال البريطاني لعقود، غير مؤهلة لخوض هذه المعركة,وهنا تكمن "الفكرة" العبقرية التي حملها، والتي جعلته يسبق كل الجنرالات في عصره.
لقد نظر أحمد عبد العزيز إلى "العدو" نظرة الخبير. رآهم ليسوا "جيشاً" نظامياً، بل "عصابات" (Gangs). الهاجاناه، الأرغون، شتيرن.. إنها عصابات صهيونية تتبع تكتيكات "حرب العصابات" (Guerilla Warfare). إنهم "أشباح" يضربون في القرى ليلاً، يقطعون الطرق، يزرعون الألغام، ويبثون الرعب ثم يختفون.
أدرك "فارس الفكرة" أنك "لا تحارب الأشباح بالجيوش الكلاسيكية الثقيلة", كانت رؤيته الاستراتيجية، التي نادى بها وحاول إقناع القيادة بها، واضحة كالشمس:
"إن الحرب في فلسطين ليست حرب جيوش نظامية، بل هي حرب عصابات. ويجب أن نقاتلهم بأسلوبهم، وأن نرد عليهم بحرب عصابات مضادة، سريعة، ومرنة، تضرب في عمقهم وتقطع أوصالهم."
كان يرى أن إرسال "جيش نظامي" ثقيل، بدباباته ومدافعه، ليواجه هذه العصابات في أزقة القدس أو على تلال الخليل، هو بمثابة "انتحار تكتيكي". كان يقول إن هذا الجيش النظامي سيصبح "هدفاً ثابتاً" لهذه العصابات الخفيفة.
لكن "القادة الكبار" لم يستوعبوا هذه الفكرة. كانوا لا يزالون يفكرون بعقلية "الحرب العالمية"؛ جبهات ثابتة، وخطوط دفاع، وهجوم كاسح.
أمام هذا الجمود في الفهم، اتخذ أحمد عبد العزيز قراره التاريخي. لم ينتظر "الأوامر" التي لن تأتي بالشكل الصحيح, لقد "خلع" رتبته العسكرية (البكوية) جانباً، وقرر أن يتحول من "ضابط نظامي" (قائمقام أركان حرب) إلى "قائد مجاهدين" متطوع. ذهب إلى رئيس الوزراء آنذاك، "النقراشي باشا"، واستأذنه في "إجازة" ليذهب ويقود كتائب المتطوعين.
لم يذهب وحيداً. لقد أصبح "مغنطيس" الجهاد في مصر. بدأ في تجميع "المتطوعين" من كل حدب وصوب. لم يفرق بينهم؛ انضم إليه شباب "الإخوان المسلمين"، وشباب "مصر الفتاة"، و"طلاب الجامعات" المتحمسين، بل وحتى "ضباط صف وجنود" من الجيش هربوا من وحداتهم ليلحقوا به.
كان مقره في "معسكر الهايكستب" (شرق القاهرة) هو خلية النحل التي يتم فيها إعداد "جيش التحرير" الشعبي. كان يجمع السلاح من تبرعات الناس، ومن مخلفات الحرب العالمية، ومن "السوق السوداء".
كان هذا هو "مشروع التحرير" الذي آمن به: جيش شعبي من المتطوعين، يقوده "ضابط أركان حرب" عبقري، يقاتل بحرب العصابات، ليمهد الطريق أمام الجيوش النظامية (إن تحركت)، أو لينتصر وحده إن لم تتحرك.
كان جاهزاً. لم يكن ينتظر 15 مايو (يوم الانسحاب البريطاني الرسمي)، بل كان يريد أن يسبق الأحداث، وأن يكون في قلب فلسطين قبل أن تبدأ "المذبحة الكبرى".
الجزء الثامن : ملحمة الميدان.. من النصر إلى الغدر
لم ينتظر البطل أحمد عبد العزيز "الإذن" الرسمي من القاهرة لدخول المعركة. ففي نظره، كان "قرار التقسيم" و"مذبحة دير ياسين" هما "أمر" النفير. في أواخر أبريل 1948، قبل أن تعلن الجيوش العربية دخولها رسمياً، كان "فارس الميدان" قد عبر برمال سيناء على رأس كتائب المتطوعين، حاملاً "مشروع التحرير" على كتفيه.
لم يدخل كجنرال في جيش نظامي، بل دخل كـ "أخ مجاهد". كانت وجهته هي قلب الجبهة، النقطة الأخطر والأهم: "مثلث القدس - بيت لحم - الخليل",فور وصوله، حدث الالتحام الذي غيّر مسار الجبهة. استقبله المقاتلون الفلسطينيون، الذين كانوا كالأيتام بعد استشهاد قائدهم الأسطوري "عبد القادر الحسيني" في معركة القسطل قبلها بأسابيع. وجدوا في هذا الضابط المصري القادم "عبد القادر" جديد، ولكن بعقل "ضابط أركان حرب" وخبرة الجيوش.
كان تأثيره فورياً. لم يأتِ كقائد مغرور برتبته، بل جاء كواحد منهم. يروي المؤرخون أنه كان "يصلي بهم إماماً في المسجد، ويتقدمهم مقاتلاً في الخندق". نسّق على الفور مع قادة المجاهدين المحليين في الخليل وبيت لحم، ومع كتائب المتطوعين ، وأصبح هو "القائد العام" الفعلي للجبهة، ليس بقرار رسمي، بل بـ "الهيبة" التي فرضها.
معركة "كفار عتصيون".. أول انتصار يثبت "الفكرة"
لم يضع وقتاً. كانت "فكرته" الاستراتيجية (حرب العصابات) جاهزة للتطبيق. حدد "السرطان" الأول: كتلة مستعمرات "غوش عتصيون". كانت هذه أربع مستعمرات محصنة تسليحاً ثقيلاً، تمثل "خنجراً" صهيونياً في قلب الطريق بين الخليل والقدس، ومنطلقاً لتهديد المدينتين.
في 12 مايو 1948 (قبل دخول الجيوش بثلاثة أيام)، أعطى "الفارس" أمره بالهجوم. لم يكن هجوماً عشوائياً، بل كان تطبيقاً دقيقاً لرؤيته: هجوم مشترك من "المتطوعين" المصريين، و"المجاهدين" الفلسطينيين من الخليل، وبغطاء مدفعي بسيط من "الجيش الأردني" (الذي كان على مضض، لكنه انجرف في حماس المعركة).
قاد أحمد عبد العزيز المعركة بنفسه من الخطوط الأمامية. وبعد يومين من القتال الضاري، سقطت "كفار عتصيون". تم دك الحصن الصهيوني الأقوى في الجنوب، ورفع المجاهدون راياتهم، وتم أسر المئات من مقاتلي الهاجاناه.
كان هذا الانتصار "مدوياً". لقد كان "الانتصار العربي الأكبر والأول" في الحرب. لقد أثبتت "فكرة" أحمد عبد العزيز (جيش المتطوعين الشعبي + التخطيط الاستراتيجي) نجاحها الساحق. تم تأمين الطريق إلى القدس، وتم تحرير الخليل وبيت لحم بالكامل، وأصبح أحمد عبد العزيز هو "البطل" الأوحد للجبهة الجنوبية.
معركة "رمات راحيل".. أول ملامح "الخيانة"
بعد 15 مايو، ودخول الجيوش النظامية، أصبح أحمد عبد العزيز "القائد العام" لمنطقة بيت لحم. لكنه الآن لم يعد يقاتل الصهاينة فقط، بل بدأ يصطدم بـ "الصخرة" التي ستغتاله لاحقاً: خيانة القيادات.
كان هدفه التالي هو مستعمرة "رمات راحيل"، وهي حصن صهيوني يقع على تلال جنوب القدس، ويشرف بالنار على بيت لحم. كانت هذه المستعمرة هي مفتاح "تأمين القدس" من الجنوب.
قاد البطل كتائبه في هجوم كاسح. وروت شهادات المقاتلين أنهم، بقيادته المباشرة، نجحوا في "اقتحام المستعمرة" وتطهيرها في 24 مايو. لقد كان نصراً استراتيجياً هائلاً.
وهنا، حدثت "الخيانة" الأولى.
كان من المفترض أن تقوم "القوات الأردنية" (التابعة للجيش العربي، والتي كانت قيادتها العليا بيد الجنرال البريطاني "جلوب باشا") بتأمين المواقع المجاورة. لكن ما حدث هو العكس. صدرت الأوامر للقوات الأردنية بـ "الانسحاب المفاجئ"، تاركة كتائب أحمد عبد العزيز مكشوفة الظهر والجناحين!
استغل الصهاينة هذا الانسحاب، وشنوا هجوماً مضاداً شرساً. وجد أحمد عبد العزيز وقواته أنفسهم يقاتلون وحدهم، واضطروا للانسحاب بعد أن تكبدوا خسائر فادحة بسبب "خنجر الظهر".
كانت هذه هي المرة الأولى التي يرى فيها "مشروع التحرير" يصطدم بـ "مشروع الخيانة" وجهاً لوجه. أدرك أنه يقاتل عدواً في الميدان، وعدواً آخر في "غرف العمليات" الحليفة.
الهدنة.. وموقفه من "موشيه ديان"
جاءت "الهدنة الأولى" في 11 يونيو 1948. كان أحمد عبد العزيز "أشد المعارضين" لها. لقد رآها بعين الخبير الاستراتيجي: الجيوش العربية (خاصة قواته) كانت في ذروة انتصاراتها، والصهاينة كانوا على وشك الانهيار.
كان موقفه واضحاً، ولخصه في تحليله الذي رفعه للقيادة:
"إن هذه الهدنة هي طوق النجاة للعدو. إنهم يطلبونها ليعيدوا تنظيم صفوفهم، وليجلبوا السلاح الذي مُنع عنهم. أما نحن، فلن نستفيد شيئاً. إنها فخ."
كان يرى أن "الزمن" ليس في صالح العرب، وأن "إيقاف القتال" هو الخيانة الكبرى.
وفي ذروة هذه الهدنة، حدث الموقف الشهير الذي يوضح "فكرة" هذا الرجل. طلب "موشيه ديان"، قائد الهاجاناه في القدس، عقد اجتماع مع القائد المصري المسؤول عن جبهة القدس (أحمد عبد العزيز) بوساطة الأمم المتحدة.
جاء الرد من القيادة المصرية لأحمد عبد العزيز بالموافقة على الاجتماع. لكن "فارس الفكرة" رفض رفضاً قاطعاً.
كان رده، كما نقله معاصروه، مدوياً. قال للوسيط:
"أنا جئت إلى هنا 'مجاهداً' ولست 'سياسياً'. أنا لا أجلس على طاولة واحدة مع رؤساء العصابات. لقائي الوحيد مع موشيه ديان سيكون في 'ميدان المعركة'."
لقد رفض "تطبيع" وجود العدو أو "الاعتراف" به كـ "ند" سياسي. كان "مشروع التحرير" لديه لا يقبل "المفاوضات"، بل "التحرير" فقط.
الشهادة.. الرصاصة التي جاءت من الظهر
عندما استؤنف القتال، كان "فكر" أحمد عبد العزيز هو "الأمل" الوحيد المتبقي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، خاصة بعد أن حوصرت كتائب الجيش المصري النظامي في "الفالوجة" (وكان من بينهم الضابط الشاب جمال عبد الناصر).
أصبح أحمد عبد العزيز هو "الأسد" الذي يجول في الجنوب، يحاول فك الحصار، ويشن غارات ليلية، ويرعب العدو.
في ليلة 22 أغسطس 1948، كان البطل عائداً في سيارته الجيب من اجتماع في "المجدل" (عسقلان)، متجهاً إلى مقره في بيت لحم. كان يسافر ليلاً لتفقد قواته، وللتنسيق (للمفارقة) لفك الحصار عن "الجيش النظامي".
عند قرية "العراق سويدان"، مرت سيارته على "نقطة تفتيش" تابعة للجيش المصريما حدث بالضبط سيظل سراً دفيناً، لكن الرواية الرسمية تقول إن "خطأ" قد حدث. عسكري الحراسة لم يتعرف على سيارة القائد العام، فحدثت مشادة، فأطلق العسكري رصاصاته على السيارة.
اخترقت "رصاصة غادرة" صدر البطل أحمد عبد العزيزلم يقتله رصاص "الهاجاناه" في كفار عتصيون. لم تقتله قذائف "رمات راحيل". بل قتلته "رصاصة صديقة" (؟) في ظلام الليل، على أرض فلسطين التي جاء ليحررها.
سقط "فارس الفكرة والميدان". ولم يكن سقوطه مجرد موت بطل، بل كان، كما سنناقش، "اغتيالاً" لـ "مشروع التحرير" الوحيد الذي كاد أن ينجح.
لم تكن "الرصاصة الصديقة" (؟) التي اخترقت صدر أحمد عبد العزيز في ظلام ليلة 22 أغسطس 1948، مجرد نهاية لحياة بطل. لقد كانت، في جوهرها،
أولاً: الرواية الرسمية (الـ "حادث") وتفكيكها
الرواية الرسمية:
في ليلة 22 أغسطس 1948، كان البطل عائداً في سيارته الجيب من المجدل إلى بيت لحم. عند نقطة تفتيش تابعة للجيش المصري في "العراق سويدان"، لم تتعرف الحراسة على السيارة، وحدثت مشادة، فأطلق عسكري الحراسة (قيل إنه سوداني) النار بالخطأ، فاستشهد البطل.
تفكيك الرواية (شهادة الناجي الوحيد):
هذه الرواية يدحضها الناجي الوحيد من الحادث، وهو ياوره (مساعده) الرائد محسن عبد الخالق، الذي كان معه في السيارة وأصيب هو الآخر. شهادة عبد الخالق، كما نقلها المؤرخون، هي "الخيط" الذي يكشف أن الأمر لم يكن "خطأ":
"إن العسكري أصر على إطلاق النار رغم أننا صرخنا فيه 'إحنا قادة!'... لم تكن رصاصة واحدة طائشة، بل كان 'رشاً' متعمداً للسيارة من مسافة قريبة جداً. لقد كان العسكري مصراً على القتل."
شهادة أخرى تضيف أن العسكري الذي أطلق النار لم يكن عسكري الحراسة المعتاد لتلك النقطة، وأنه "اختفى" أو "هُرّب" فوراً بعد الحادث ولم يُحاكَم.
هنا، يسقط "الخطأ العرضي" ويبدأ "الاغتيال المدبر".
السيناريو الأول: الاغتيال بأمر "مصري" (تصفية الملكية للثائر)
هذا السيناريو هو الأكثر رواجاً بين الضباط الاحرار، ويرى أن الأمر جاء من "القاهرة" وليس من "تل أبيب".
المستفيد: الملك فاروق، ورئيس وزرائه النقراشي، والقيادة العليا للجيش المصري.
الأسباب (الدوافع):
الشعبية الجارفة: أصبح أحمد عبد العزيز "البطل الشعبي" الأول في مصر والعالم العربي. انتصاراته (كفار عتصيون) أحرجت "الجيش النظامي" وقيادته الفاسدة التي تورطت في "فضيحة الأسلحة الفاسدة".
التحالف الخطير: كان أحمد عبد العزيز هو "المغناطيس" الذي جمع "الضباط الوطنيين" (نواة الضباط الأحرار) و"المتطوعين" . هذا التحالف بين "الجيش" و"الشعب العقائدي" كان هو الكابوس الأكبر للملك فاروق.
العصيان الفكري: رفضه للهدنة، ورفضه لقاء "موشيه ديان"، وتجاوزه للأوامر، كلها جعلته "ثائراً" لا يمكن السيطرة عليه، وليس مجرد "ضابط".
كان النظام في القاهرة يخشى "عودة" أحمد عبد العزيز إلى القاهرة كبطل منتصر، التف حوله آلاف المقاتلين المدربين والضباط الوطنيين، أكثر مما يخشى هزيمته.
الاقتباسات الداعمة:
جمال عبد الناصر، الذي كان محاصراً في الفالوجة ورأى الخيانة بعينه، كتب في مذكراته (فلسفة الثورة) ما يلخص هذا المناخ:
"لقد تبين لي ونحن في خنادق الفالوجة أن المعركة ليست في فلسطين، بل المعركة الحقيقية كانت في مصر."
(وهو يقصد أن "العدو الحقيقي" كان النظام الفاسد في القاهرة الذي يطعنهم في ظهورهم).
"كان أحمد عبد العزيز يمثل 'دولة' داخل الدولة، ومشروعاً وطنياً بديلاً لمشروع الملك الفاسد. لقد أصبح خطره على النظام في القاهرة أكبر من خطره على الصهاينة، فكان لا بد من تصفيته."
يرى هذا السيناريو أن الرصاصة التي قتلت أحمد عبد العزيز، حتى لو كانت "مصرية"، فإن "الأمر" جاء من "القيادة العليا للجيوش العربية"، وتحديداً من "جلوب باشا".
المستفيد: الجنرال البريطاني "جلوب باشا" (قائد الجيش الأردني) والملك عبد الله (ملك الأردن).
الأسباب (الدوافع):
تعطيل "مشروع الضم": كان "جلوب باشا" (بأوامر بريطانية) والملك عبد الله لا يخوضان "حرب تحرير"، بل "حرب تقسيم". كان "مشروعهما" هو "ضم الضفة الغربية" إلى الأردن، مقابل ترك بقية فلسطين للصهاينة (وهو ما يُعرف بالاتفاق السري بين الملك عبد الله وغولدا مائير).
خطر "التحرير الكامل": أحمد عبد العزيز كان يحمل "مشروع التحرير الكامل". انتصاراته، خاصة في "كفار عتصيون" و"رمات راحيل"، كانت "تُفسد" هذا المخطط.
حادثة "رمات راحيل": كانت الخيانة واضحة. عندما سحب "جلوب باشا" قواته الأردنية وترك قوات أحمد عبد العزيز مكشوفة، كان ذلك "إنذاراً" بأن هذا الرجل "يعرقل" المخطط البريطاني.
أحمد عبد العزيز كان يقاتل لتحرير القدس، بينما "جلوب باشا" كان يقاتل ليضمن عدم تحريرها بالكامل، لتبقى "مقسمة". كان لا بد من إزاحة "الفارس" الذي يرفض التقسيم.
الاقتباسات الداعمة:
عبد الله التل (القائد الأردني الذي حرر القدس القديمة وعصى أوامر "جلوب باشا") كتب في مذكراته "كارثة فلسطين" ما يكشف هذه الخيانة:
"كانت الأوامر الصادرة إلينا من القيادة (جلوب باشا) هي 'عدم الاحتكاك' بالعدو، والوقوف في مواقع دفاعية. لقد كانت خيانة تهدف إلى تسليم القدس."
(أحمد عبد العزيز كان يفعل العكس تماماً: كان يهاجم. لقد كان "النشاز" في سيمفونية الخيانة).
المؤرخ العسكري جمال حماد (أحد الضباط الأحرار) لخص الصراع:
"كان أحمد عبد العزيز هو القائد الوحيد الذي يقاتل بعقيدة 'التحرير الشامل'، بينما كانت القيادات الأخرى، خاصة الأردنية، تقاتل بعقيدة 'تنفيذ قرار التقسيم' بأقل الخسائر."
سواء كانت الرصاصة "ملكية" (سيناريو 1) أو "بريطانية-أردنية" (سيناريو 2)، فإن النتيجة واحدة. الأرجح أنه كان "تقاطع مصالح" بين النظام الفاسد في القاهرة الذي يخشى "الثائر"، وبين المخطط البريطاني الذي يخشى "المحرِّر".
لقد اغتيل أحمد عبد العزيز لأن "فكرته" كانت أخطر من "رصاصه". اغتيل لأنه رفض أن يكون "ضابطاً" يؤدي الأوامر، واختار أن يكون "فارساً" يحمل "مشروعاً".
لقد كان "مشروع التحرير الذي اغتالته الخيانة" هو التوصيف الدقيق لما حدث. لم يمت البطل في معركة شريفة ضد عدوه، بل مات غدراً في ظهره، لأن وجوده كان يكشف "زيف" كل الآخرين.
"ماذا لو؟".. إرث الفكرة التي لم تُطبق
وهنا نصل إلى السؤال الأهم: ماذا لو كُتب لـ "فكرة" أحمد عبد العزيز أن تُطبق؟ ماذا لو لم "يُغتَل" مشروعه؟
لو رُفضت الهدنة: كان البطل يرى أن الهدنة هي "طوق نجاة" للعدو. لو استمر القتال، كانت العصابات الصهيونية على وشك الانهيار الحقيقي قبل أن يصلها السلاح المنظم.
لو طُبقت "حرب العصابات": لو أن الجيوش العربية، بدلاً من الدخول بـ "جيوش نظامية" ثقيلة أصبحت هدفاً سهلاً، تبنت "فكر" أحمد عبد العزيز (جيش شعبي، حرب عصابات سريعة، قطع طرق، استنزاف)، لكانت "النكبة" قد انقلبت. لقد كان الصهاينة أنفسهم يقاتلون بهذا الأسلوب، وكان أحمد عبد العزيز هو الوحيد الذي قرر أن "يقاتل النار بالنار".
لو لم يُقتل: لو ظل أحمد عبد العزيز حياً، لكان هو القائد الفعلي لفك حصار الفالوجة، ولربما تغيرت نتيجة الحرب في الجنوب بالكامل.
إرث أحمد عبد العزيز ليس في "انتصاراته" فقط، بل في "مشروعه" الذي لم يكتمل. لقد أثبت أن "الجيش الشعبي" (المتطوعين) بقيادة "العقل الاستراتيجي" (ضابط أركان حرب) هو "الوصفة" الوحيدة لهزيمة المشروع الصهيوني.
إرثه هو أنه كان "شهيد الفكرة" قبل أن يكون "شهيد الرصاصة".
لقد كان "فارس الفكرة والميدان"، وعندما سقط، لم يسقط شخص، بل سقط "مشروع التحرير" كله، تاركاً الباب مفتوحاً للكابوس الإسرائيلي الذي حذر منه، وللكوارث التي تسببت فيها الجيوش النظامية والقيادات الخائنة لعقود تالية.
وكما لخصها رفيقه الذي شاهده من بعيد، جمال عبد الناصر، في مذكراته:
"لقد مات أحمد عبد العزيز... وماتت معه أسمى معاني البطولة."
في ختام هذه الرحلة في حياة "فارس الفكرة والميدان"، نجد أن العنوان الذي بدأنا به لم يكن مجرد وصف، بل كان هو الحقيقة الكاملة: "مشروع تحرير اغتالته الخيانة".
لم يكن أحمد عبد العزيز مجرد ضابط شجاع سقط في معركة. فـ "رصاص الميدان" الذي واجهه بشجاعة في "كفار عتصيون" و"رمات راحيل" فشل في إيقافه. لقد كان "مشروعاً" متنقلاً، يحمل رؤية استراتيجية كاملة كادت أن تغير وجه النكبة. لقد كان "الفكرة" التي أثبتت أن حرب العصابات، والالتحام الشعبي، ورفض الهدنة، هي الطريق الوحيد للتحرير.
ولأن "الفكرة" كانت أخطر من "الرصاصة"، ولأن "المشروع" كان أنقى من أن يستمر في واقع "الخيانة" و"الأسلحة الفاسدة" و"القيادات العاجزة"، كان لا بد من إيقافه.
لم يكن اغتيال أحمد عبد العزيز "حادثاً عرضياً" في ليل فلسطين المظلم، بل كان "ضرورة" لكل من أراد لهذه الأمة أن تُهزم. كان ضرورة للعدو الصهيوني الذي أذاقه مرارة الهزيمة، وللقيادات الحليفة التي فضح عجزها وخيانتها، وللأنظمة التي ارتعبت من شعبيته ومشروعه.
لقد اغتالوه لأنه كان "الحقيقة" في زمن الزيف.
مات "الفارس" على أرض فلسطين التي عشقها، لكن "الفكرة" لم تمت. إرث أحمد عبد العزيز ليس في انتصاراته العسكرية فحسب، بل في "الدليل" الدامغ الذي تركه: أن التحرير ممكن، وأن العدو ليس مستحيلاً، وأن "الخيانة" من الداخل هي دائماً الرصاصة الأخطر.
سيظل أحمد عبد العزيز "شهيد الفكرة" قبل أن يكون "شهيد الرصاصة"، وستبقى قصته شاهداً أبدياً على "المشروع" الذي كاد أن ينتصر، لولا "الخنجر" الذي جاء من الظهر.
شخصية مصرية وظفتها دولة مصر بشكل كبير في هدفها لمنع قيام دولة فلسطينية حيث اخترقت اوساط سكان غزة وساعدت في دعم الاحتلال المصري لقطاع غزة حيث جندت القوى في غزة بعيد عن مشروع وطني فلسطيني يتبنى اقامة دولة فلسطينية على اساس القرار 181
قامت دولة مصر بأغتياله بعد أن أدى دوره بمنع ظهور اي حركة وطنية فلسطينية تسعى لقيام دولة فلسطينية على اساس القرار 181 وبعد أن استتبع قيادات غزة وضمن ولائهم للاحتلال المصري لغزة ومنع قيام دولة فلسطينية
ماذا لو فعلا نجحنا برد العدوان الصهيوني و طردناهم
كيف كانت ستكون المنطقه
كل الشكر لك أخ @بأحث في التاريخ على هذا الموضوع الثري بالمعلومات الذي يحكي لنا قصة أبطالنا و تضحياتهم الغائبه عن أذهاننا
٩٩٪ المعلومات المذكوره لم أكن أعرفها لولا الله ثم أنت
تحية ثم قبله على رأسك