بدر ...طَلَبُ النَّصر
بسام الهلسه
* معركة بدر أشهر من أن يشار إليها، فقد أوردتها بالتفصيل مؤلفات المؤرخين العرب والمسلمين –وكذلك المؤلفات الأجنبية- عن تلك الحقبة، مبرزة أهميتها بوصفها المعركة الأولى والظافرة التي أظهرت القوة العربية الجديدة الصاعدة: "الإسلام" في إقليم الحجاز والجزيرة العربية فيما بعد.
جرت المعركة كما هو معروف في السنة الثانية للهجرة (624 للميلاد) بعدما توفرت للمسلمين شروط لا بد منها لمباشرة العمليات القتالية:
· العدد الكافي –نسبياً- من المقاتلين الملتزمين، الذي هيّأه تكامل الأنصار (الخزرج والأوس) مع المهاجرين المكيّين (بلغ عديدهم يوم بدر 314 مقاتلاً أي ما يقارب الكتيبة).
· امتلاك حرية العمل التي وفرتها الهجرة إلى يثرب (احدى بلدان الحجاز الثلاث: مكة، الطائف، يثرب) مما أفسح المجال للتعبئة والتنظيم والتحرك دون مراقبة وقيود ضاغطة كتلك التي واجهت المسلمين خلال وجودهم في مكة، أو تلك التي واجهت المهاجرين الذين توجهوا للحبشة والمتمثلة في فقدان التماس نتيجة للفاصل الجغرافي.
· تبلور استراتيجية جديدة تم فيها الانتقال من أساليب وأشكال العمل السلمي إلى العمل المسلح. هذه الاستراتيجية طُبِّقت في التعامل مع قريش تحديداً كردِّ فعلٍ على اضطهادها وملاحقتها للمسلمين، وتهجيرها لهم من ديارهم –مكة-، وحرمانهم من ممتلكاتهم والتواصل مع ذويهم. وقد تم البدء بمباشرة هذه الاستراتيجية قبل يوم بدر بإيفاد عدد من الدوريات الصغيرة –على مستوى سريّة- للقيام بمهام استطلاع أو عمليات تعرضيّة خاطفة لقوافل مكة.
* * *
جرت المعركة دونما إرادة سابقة من الطرفين المشاركين اللذين ساقتها الاحداث المتتابعة إلى المواجهة والاشتباك. فقد خرج المسلمون لاعتراض قافلة قريش التجارية الكبيرة العائدة من الشام، فيما خرج القرشيون لحماية وتأمين القافلة عندما بلغهم التحذير والاستنفار الذي أرسله قائد القافلة أبو سفيان. وبرغم أنه –أبو سفيان- قد تمكن -وهو الحريص الحذر- من تفادي الوقوع في كمين المسلمين، بتغيير المسار المعتاد واتخاذ طريق أخرى، إلا أن رجال قريش رأوها فرصة للقيام بتظاهرة عسكرية دعاوية فقرروا النزول ببدر لـ"تسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا بعدها..." كما قال أحد زعمائهم: "أبو جهل". وقد فوجئ المسلمون الذين كانوا يتوقعون قدوم القافلة بوجود حشد قريش، فجرى تداول للأمر أفضى إلى اتخاذ قرار بالمواجهة والقتال، رجّحه موقف الانصار الذين كانوا يشكلون أغلبية المقاتلين (231 خزرجي وأوسي) والذي عبّر عنه زعيمهم "سعد بن معاذ". فتطور موقفهم –الذي عاهدوا عليه الرسول عندما دعوه إلى يثرب- من تأمين حمايته، ومن معه من المهاجرين في بلادهم، ومنع أي عدوان عليهم، إلى القتال خارج حدود بلدهم.
في مقابل القرار الواضح والمصمِّم بالقتال الذي اتخذه الرسول عليه السلام بإجماع المسلمين، كان القرشيون مترددين موزعي الآراء. فقد رغب عدد مهم من قادتهم في الانسحاب والعودة (وقد فعل بعضهم ذلك)، سواء لأن القافلة التي خرجوا لحمايتها قد نجت، أو لعدم رغبتهم في مجابهة أقاربهم من المسلمين المهاجرين. كان هذا العامل: حسمُ وإجماع موقف المسلمين، مقابل تردد وتشتت آراء القرشيين، أحد أهم عوامل نصر المسلمين وهزيمة القرشيين برغم تفوقهم العددي (3 مقابل 1). وقد تضافر هذا العامل مع العوامل الأخرى التي صنعت نصر المسلمين في "بدر":
· اليقظة والمتابعة الدؤوبة لتطورات الموقف بالاستطلاع والتقصي الدائم للأخبار وتقييمها أولاً بأول، ما أتاح لهم قدرة أكبر على التعامل مع المتغيرات المستجدة.
· المشاورات التي قام بها القائد الأعلى للمسلمين –الرسول عليه السلام-، إن على مستوى اتخاذ القرار، أو على مستوى نشر القوات وتوضّعها وترتيبها. والعبارة التي افتتح بها الرسول اجتماع تقييم الموقف –وكررها خلاله-: "اشيروا عليّ أيها الناس" مأثورة. كان لهذه المشاورات التفاعلية نتيجتها الطبيعية: تدعيم الوحدة الداخلية للجماعة، وتعميق الثقة بين القيادة والمقاتلين، والإفادة القصوى من كل الطاقات الموجودة.
· المعرفة ببيئة المعركة –مسرح العمليات- وخصائصها، ما تبدّى في اختيار المواقع المناسبة التي تعزِّز قدرة المسلمين وتضعف قدرة عدوهم. فكما نعرف, جرت السيطرة على مياه بدر بناء على رأي قدمه "حباب بن المنذر"، لتأمين حاجة المسلمين من الماء وحرمان عدوهم منه (هذا ما فعله أيضاً صلاح الدين الأيوبي في معركة "حطين" ضد الفرنجة).
· الانضباط العالي والطاعة الواعية التي رسَّخها لدى المسلمين تواصلهم وعملهم معاً كجماعة منظمة غائيّة. هذا العامل لا بد منه في كل عمل جماعي، لكنه يكتسب في الجيوش –وفي أوقات القتال خاصة- أهمية قصوى. فقد يؤدي فقدان الانضباط والطاعة -أو الإخلال بهما- إلى الخسارة والاخفاق (كما رأينا تالياً في معركة أُحُد).
· التفوق التنظيمي للمسلمين الذين رتّب الرسول صفوفهم قبل مباشرة المعركة، فعملوا بروح الفريق الواحد المنسجم، في مقابل عفويّة وارتجال القرشيين وتخبطهم.
· ثقة المسلمين الراسخة بقيادتهم التي تجلّت في تنفيذ التعليمات بحماسة وعزم، وفي حرصهم على تأمين القيادة وضمان حمايتها (نصبوا عريشاً مشرفاً على المعركة للرسول وتولوا حراسته). يضاف لهذا وحدة القيادة لديهم، في حين كان قادة قريش متعددين مبعثرين، تُركوا فريسة لسيوف ورماح المسلمين.
· حُسُن اختيار قوة الصدام التي افتتحت المعركة وحققت الضربة الأولى بنجاح. أعني المبارزة التي أجهز فيها بطلان كبيران هما: علي بن أبي طالب وحمزة بن عبدالمطلب –عليهما السلام- على ثلاثة من أبرز قادة القرشيين، مما أدى إلى إحباطهم وبث روح التفاؤل والثقة لدى المسلمين.
· مع كل هذه العوامل، وربما في مقدمتها، يأتي العامل المعنوي المتفوّق لدى المسلمين الذي صنعه عنصران قويان:
- القناعة والحماسة المتولدتين عن الإيمان بالعقيدة الجديدة: الإسلام.
- الدافع الوطني والانساني لدى المهاجرين الذين ظلموا وأخرجوا من ديارهم، وجرِّدوا من ممتلكاتهم، وأبعدوا عن أسرهم، مما ترك في نفوسهم شعوراً عميقاً بالقهر والغضب والرغبة بالثأر والانتقام العادل من ظالميهم.
وقد تجلّى التفوق المعنوي للمسلمين وقوة دوافعهم, في التصميم والاستبسال والعزيمة الصادقة في القتال ضد العدو المتفوق عدداً وعدّة، كما هو متوقَّع من المؤمنين بصحة وعدالة قضيتهم، المستعدين لبذل أقصى وأفضل ما لديهم من طاقات. فيما عمل ضعف الدافع لدى القرشيين على جعل ادائهم القتالي باهتاً، آليّاً، يفتقد إلى التصميم والعزم. ذلك انهم خرجوا "بطراً ورياء الناس" كما وصفهم القرآن في سورة الأنفال.
* * *
ثمة مسألتان أود التنبيه إليهما بصدد معركة بدر:
الأولى: ان كل ما يتصل بمجريات المعركة قد تم بناء على تداول الرأي والمشورة بين الرسول والمسلمين كما بيّنت من قبل، فلم يتنزّل وحيٌ قرآني يحدد لهم ما يفعلونه بهذا الشأن -وهو ما نلاحظه في كل الغزوات والمعارك التي شارك فيها الرسول عليه السلام-. وإنما كان الوحي يتنزّل: إما قبل المعركة بإعطاء توجيهات وإرشادات عامة، أو بعدها متضمناً تعليقات وتنبيهات ومراجعات.
وفي هذا درس وجواب واقعي تاريخي على الذين يرون أن الدين يصادر الإرادة العامة -المعبّر عنها بالمشاركة في القرار-، وان الإيمان يُعطل العقل والفعل الإنساني. (مثلهم أولئك الذين يرون ان العقلانية الغربية هي المسؤولة عن الاستغلال والاستعمار والعنصرية!).
وهو أيضاً درسٌ وردُّ حَيّ على الذين يُغيِّبون العقل والإرادة والمشاركة بدعوى التسليم السلبي بما هو مكتوب!
فهنا مثالٌ واضحٌ على أن البشر هم من فكروا، وقرروا، وفعلوا، فكتبوا مصيرهم بإرادتهم. (رأينا في "حُنين" كيف كان غرور المسلمين بكثرتهم، السبب في مباغتتهم وتراجعهم في بداية المعركة).
الثانية: ان الاستعداد العالي للبذل وصولاً للفداء والاستشهاد، لا يعني أبداً ان الهدف هو التضحية في حدِّ ذاتها. فالهدف المنشود الذي يُسعى إليه دائماً هو العمل على إنجاز النصر بتوفير شروطه وإعداد أدواته. وهذا هو معنى ما فعله المسلمون يوم بدر، وما أفصح عنه دعاء الرسول أثناء المعركة: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض" "اللهم نصرك الذي وعدتني".
طلب النصر إذن، هو أحد أهم –بل أوّل- مبادئ الحرب وغاياتها واستراتيجياتها لدى لأمم في كل العصور كما نعرف، لأن الحرب والقتال ليسا عملاً من أعمال التجريب والمزاح، وليسا وسيلة للتلهي بسفك الدماء وازهاق الأرواح. وهذا يقودنا إلى مبدأ آخر جدير بالاستيعاب –خصوصاً من قبل القادة- ألا وهو تأمين سلامة الأمة والقوات تجاه الأخطار المحدقة (كما جرى في حفر الخندق في معركة الأحزاب). وفي حال تقدير القيادة ان القوات ستتعرض للقتل والتدمير من قبل قوى متفوّقة كثيراً، فإن عليها قطع التماس والاشتباك مع العدو وتأمين الانسحاب -حيثما امكن- وليس التضحية بنفسها وتبديد قواها في معركة مجانية. (وهو ما طبّقه "خالد بن الوليد" في معركة "مؤتة", والإنجليز في "دنكرك" في الحرب العالمية الثانية).
وأرجو أن يكون واضحاً ان الحديث يجري هنا عن قوات، وجيوش، ومعارك، وحروب، وليس عن أفراد أو حتى وحدات صغيرة قد ترى القيادة أن تدفع بهم أو بها –أو يتطوعون هم بأنفسهم كما في حالات المقاومة والثورات الشعبية- للقيام بواجبات ومهمات تتطلب التضحية بالنفس. فهذا مما يفترض بالجندي، أو المقاوم، أو المناضل(رجلا أو امرأة) أن يكون أصلاً مستعداً لتقديمه فداء للقضية الذي كرّس نفسه لأجلها. وإذا كانت وقائع ونماذج التضحية والفداء والاستشهاد البطولية لدى الأمم العربية والإسلامية معروفة وحيّة، فإن سجل الأمم والطبقات والجماعات المقهورة المقاومة للغزاة والظالمين، حافل بها أيضاً. ففي تاريخ المسيحية حقبة تعرف بـ"عصر الشهداء"، وهم الذين قضوا جرّاء التعذيب الوحشي خلال فترة الاضطهاد الروماني لهم لأنهم رفضوا التخلي عن دعوتهم. وفي عصرنا الحديث قضى مئات الآلاف من المقاومين السوفييت –المعروفين باسم "الأنصار"- العاملين خلف خطوط القوات النازية المحتلة لبلادهم. وفي الذاكرة القريبة تحضر صور التضحية الكبيرة الباسلة للبطل الإيرلندي التحرري "بوبي ساندز" ورفاقه المقاومين للتسلط الإنجليزي.
* * *
مع أن "بدر" لم تكن معركة حاسمة، إلا أن النصر الموضعي الذي أُحرِز فيها قوَّى المسلمين وأعلى مكانتهم في الحجاز؛ ووطّدها خاصة في مقرهم وقاعدة عملياتهم: "يثرب" التي كان وجودهم فيها حديثاً، ودعوتهم موضع تساؤل واستهانة وتشويش كما يحدث مع كل قوى طليعية حاملة لرؤية ولمشروع جديدين. وكان نجاحهم في اختبار القوة الأول، فاتحة الطريق التي ساروا عليها من ثم لتحرير مكة وتوحيد العرب بعد سنين.
ورغم أهمية دراسة التجربة: (تجربة بدر وكل المعارك والحروب، الظافرة منها أو الخاسرة، العربية أو الأجنبية) فإن ما يجب تذكره باستمرار أن التجارب لا تُستنسخ أبداً، وأن المطلوب دائماً هو إعمالُ العقل والإرادة إذا ما أردنا أن نغيِّر واقع كوننا ضحايا، وأن نعمل على تحقيق النصر.
وفي هذا يتجلَّى استيعابُ درس "بدر".
عن رابطة أدباء الشام
بسام الهلسه
* معركة بدر أشهر من أن يشار إليها، فقد أوردتها بالتفصيل مؤلفات المؤرخين العرب والمسلمين –وكذلك المؤلفات الأجنبية- عن تلك الحقبة، مبرزة أهميتها بوصفها المعركة الأولى والظافرة التي أظهرت القوة العربية الجديدة الصاعدة: "الإسلام" في إقليم الحجاز والجزيرة العربية فيما بعد.
جرت المعركة كما هو معروف في السنة الثانية للهجرة (624 للميلاد) بعدما توفرت للمسلمين شروط لا بد منها لمباشرة العمليات القتالية:
· العدد الكافي –نسبياً- من المقاتلين الملتزمين، الذي هيّأه تكامل الأنصار (الخزرج والأوس) مع المهاجرين المكيّين (بلغ عديدهم يوم بدر 314 مقاتلاً أي ما يقارب الكتيبة).
· امتلاك حرية العمل التي وفرتها الهجرة إلى يثرب (احدى بلدان الحجاز الثلاث: مكة، الطائف، يثرب) مما أفسح المجال للتعبئة والتنظيم والتحرك دون مراقبة وقيود ضاغطة كتلك التي واجهت المسلمين خلال وجودهم في مكة، أو تلك التي واجهت المهاجرين الذين توجهوا للحبشة والمتمثلة في فقدان التماس نتيجة للفاصل الجغرافي.
· تبلور استراتيجية جديدة تم فيها الانتقال من أساليب وأشكال العمل السلمي إلى العمل المسلح. هذه الاستراتيجية طُبِّقت في التعامل مع قريش تحديداً كردِّ فعلٍ على اضطهادها وملاحقتها للمسلمين، وتهجيرها لهم من ديارهم –مكة-، وحرمانهم من ممتلكاتهم والتواصل مع ذويهم. وقد تم البدء بمباشرة هذه الاستراتيجية قبل يوم بدر بإيفاد عدد من الدوريات الصغيرة –على مستوى سريّة- للقيام بمهام استطلاع أو عمليات تعرضيّة خاطفة لقوافل مكة.
* * *
جرت المعركة دونما إرادة سابقة من الطرفين المشاركين اللذين ساقتها الاحداث المتتابعة إلى المواجهة والاشتباك. فقد خرج المسلمون لاعتراض قافلة قريش التجارية الكبيرة العائدة من الشام، فيما خرج القرشيون لحماية وتأمين القافلة عندما بلغهم التحذير والاستنفار الذي أرسله قائد القافلة أبو سفيان. وبرغم أنه –أبو سفيان- قد تمكن -وهو الحريص الحذر- من تفادي الوقوع في كمين المسلمين، بتغيير المسار المعتاد واتخاذ طريق أخرى، إلا أن رجال قريش رأوها فرصة للقيام بتظاهرة عسكرية دعاوية فقرروا النزول ببدر لـ"تسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا بعدها..." كما قال أحد زعمائهم: "أبو جهل". وقد فوجئ المسلمون الذين كانوا يتوقعون قدوم القافلة بوجود حشد قريش، فجرى تداول للأمر أفضى إلى اتخاذ قرار بالمواجهة والقتال، رجّحه موقف الانصار الذين كانوا يشكلون أغلبية المقاتلين (231 خزرجي وأوسي) والذي عبّر عنه زعيمهم "سعد بن معاذ". فتطور موقفهم –الذي عاهدوا عليه الرسول عندما دعوه إلى يثرب- من تأمين حمايته، ومن معه من المهاجرين في بلادهم، ومنع أي عدوان عليهم، إلى القتال خارج حدود بلدهم.
في مقابل القرار الواضح والمصمِّم بالقتال الذي اتخذه الرسول عليه السلام بإجماع المسلمين، كان القرشيون مترددين موزعي الآراء. فقد رغب عدد مهم من قادتهم في الانسحاب والعودة (وقد فعل بعضهم ذلك)، سواء لأن القافلة التي خرجوا لحمايتها قد نجت، أو لعدم رغبتهم في مجابهة أقاربهم من المسلمين المهاجرين. كان هذا العامل: حسمُ وإجماع موقف المسلمين، مقابل تردد وتشتت آراء القرشيين، أحد أهم عوامل نصر المسلمين وهزيمة القرشيين برغم تفوقهم العددي (3 مقابل 1). وقد تضافر هذا العامل مع العوامل الأخرى التي صنعت نصر المسلمين في "بدر":
· اليقظة والمتابعة الدؤوبة لتطورات الموقف بالاستطلاع والتقصي الدائم للأخبار وتقييمها أولاً بأول، ما أتاح لهم قدرة أكبر على التعامل مع المتغيرات المستجدة.
· المشاورات التي قام بها القائد الأعلى للمسلمين –الرسول عليه السلام-، إن على مستوى اتخاذ القرار، أو على مستوى نشر القوات وتوضّعها وترتيبها. والعبارة التي افتتح بها الرسول اجتماع تقييم الموقف –وكررها خلاله-: "اشيروا عليّ أيها الناس" مأثورة. كان لهذه المشاورات التفاعلية نتيجتها الطبيعية: تدعيم الوحدة الداخلية للجماعة، وتعميق الثقة بين القيادة والمقاتلين، والإفادة القصوى من كل الطاقات الموجودة.
· المعرفة ببيئة المعركة –مسرح العمليات- وخصائصها، ما تبدّى في اختيار المواقع المناسبة التي تعزِّز قدرة المسلمين وتضعف قدرة عدوهم. فكما نعرف, جرت السيطرة على مياه بدر بناء على رأي قدمه "حباب بن المنذر"، لتأمين حاجة المسلمين من الماء وحرمان عدوهم منه (هذا ما فعله أيضاً صلاح الدين الأيوبي في معركة "حطين" ضد الفرنجة).
· الانضباط العالي والطاعة الواعية التي رسَّخها لدى المسلمين تواصلهم وعملهم معاً كجماعة منظمة غائيّة. هذا العامل لا بد منه في كل عمل جماعي، لكنه يكتسب في الجيوش –وفي أوقات القتال خاصة- أهمية قصوى. فقد يؤدي فقدان الانضباط والطاعة -أو الإخلال بهما- إلى الخسارة والاخفاق (كما رأينا تالياً في معركة أُحُد).
· التفوق التنظيمي للمسلمين الذين رتّب الرسول صفوفهم قبل مباشرة المعركة، فعملوا بروح الفريق الواحد المنسجم، في مقابل عفويّة وارتجال القرشيين وتخبطهم.
· ثقة المسلمين الراسخة بقيادتهم التي تجلّت في تنفيذ التعليمات بحماسة وعزم، وفي حرصهم على تأمين القيادة وضمان حمايتها (نصبوا عريشاً مشرفاً على المعركة للرسول وتولوا حراسته). يضاف لهذا وحدة القيادة لديهم، في حين كان قادة قريش متعددين مبعثرين، تُركوا فريسة لسيوف ورماح المسلمين.
· حُسُن اختيار قوة الصدام التي افتتحت المعركة وحققت الضربة الأولى بنجاح. أعني المبارزة التي أجهز فيها بطلان كبيران هما: علي بن أبي طالب وحمزة بن عبدالمطلب –عليهما السلام- على ثلاثة من أبرز قادة القرشيين، مما أدى إلى إحباطهم وبث روح التفاؤل والثقة لدى المسلمين.
· مع كل هذه العوامل، وربما في مقدمتها، يأتي العامل المعنوي المتفوّق لدى المسلمين الذي صنعه عنصران قويان:
- القناعة والحماسة المتولدتين عن الإيمان بالعقيدة الجديدة: الإسلام.
- الدافع الوطني والانساني لدى المهاجرين الذين ظلموا وأخرجوا من ديارهم، وجرِّدوا من ممتلكاتهم، وأبعدوا عن أسرهم، مما ترك في نفوسهم شعوراً عميقاً بالقهر والغضب والرغبة بالثأر والانتقام العادل من ظالميهم.
وقد تجلّى التفوق المعنوي للمسلمين وقوة دوافعهم, في التصميم والاستبسال والعزيمة الصادقة في القتال ضد العدو المتفوق عدداً وعدّة، كما هو متوقَّع من المؤمنين بصحة وعدالة قضيتهم، المستعدين لبذل أقصى وأفضل ما لديهم من طاقات. فيما عمل ضعف الدافع لدى القرشيين على جعل ادائهم القتالي باهتاً، آليّاً، يفتقد إلى التصميم والعزم. ذلك انهم خرجوا "بطراً ورياء الناس" كما وصفهم القرآن في سورة الأنفال.
* * *
ثمة مسألتان أود التنبيه إليهما بصدد معركة بدر:
الأولى: ان كل ما يتصل بمجريات المعركة قد تم بناء على تداول الرأي والمشورة بين الرسول والمسلمين كما بيّنت من قبل، فلم يتنزّل وحيٌ قرآني يحدد لهم ما يفعلونه بهذا الشأن -وهو ما نلاحظه في كل الغزوات والمعارك التي شارك فيها الرسول عليه السلام-. وإنما كان الوحي يتنزّل: إما قبل المعركة بإعطاء توجيهات وإرشادات عامة، أو بعدها متضمناً تعليقات وتنبيهات ومراجعات.
وفي هذا درس وجواب واقعي تاريخي على الذين يرون أن الدين يصادر الإرادة العامة -المعبّر عنها بالمشاركة في القرار-، وان الإيمان يُعطل العقل والفعل الإنساني. (مثلهم أولئك الذين يرون ان العقلانية الغربية هي المسؤولة عن الاستغلال والاستعمار والعنصرية!).
وهو أيضاً درسٌ وردُّ حَيّ على الذين يُغيِّبون العقل والإرادة والمشاركة بدعوى التسليم السلبي بما هو مكتوب!
فهنا مثالٌ واضحٌ على أن البشر هم من فكروا، وقرروا، وفعلوا، فكتبوا مصيرهم بإرادتهم. (رأينا في "حُنين" كيف كان غرور المسلمين بكثرتهم، السبب في مباغتتهم وتراجعهم في بداية المعركة).
الثانية: ان الاستعداد العالي للبذل وصولاً للفداء والاستشهاد، لا يعني أبداً ان الهدف هو التضحية في حدِّ ذاتها. فالهدف المنشود الذي يُسعى إليه دائماً هو العمل على إنجاز النصر بتوفير شروطه وإعداد أدواته. وهذا هو معنى ما فعله المسلمون يوم بدر، وما أفصح عنه دعاء الرسول أثناء المعركة: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض" "اللهم نصرك الذي وعدتني".
طلب النصر إذن، هو أحد أهم –بل أوّل- مبادئ الحرب وغاياتها واستراتيجياتها لدى لأمم في كل العصور كما نعرف، لأن الحرب والقتال ليسا عملاً من أعمال التجريب والمزاح، وليسا وسيلة للتلهي بسفك الدماء وازهاق الأرواح. وهذا يقودنا إلى مبدأ آخر جدير بالاستيعاب –خصوصاً من قبل القادة- ألا وهو تأمين سلامة الأمة والقوات تجاه الأخطار المحدقة (كما جرى في حفر الخندق في معركة الأحزاب). وفي حال تقدير القيادة ان القوات ستتعرض للقتل والتدمير من قبل قوى متفوّقة كثيراً، فإن عليها قطع التماس والاشتباك مع العدو وتأمين الانسحاب -حيثما امكن- وليس التضحية بنفسها وتبديد قواها في معركة مجانية. (وهو ما طبّقه "خالد بن الوليد" في معركة "مؤتة", والإنجليز في "دنكرك" في الحرب العالمية الثانية).
وأرجو أن يكون واضحاً ان الحديث يجري هنا عن قوات، وجيوش، ومعارك، وحروب، وليس عن أفراد أو حتى وحدات صغيرة قد ترى القيادة أن تدفع بهم أو بها –أو يتطوعون هم بأنفسهم كما في حالات المقاومة والثورات الشعبية- للقيام بواجبات ومهمات تتطلب التضحية بالنفس. فهذا مما يفترض بالجندي، أو المقاوم، أو المناضل(رجلا أو امرأة) أن يكون أصلاً مستعداً لتقديمه فداء للقضية الذي كرّس نفسه لأجلها. وإذا كانت وقائع ونماذج التضحية والفداء والاستشهاد البطولية لدى الأمم العربية والإسلامية معروفة وحيّة، فإن سجل الأمم والطبقات والجماعات المقهورة المقاومة للغزاة والظالمين، حافل بها أيضاً. ففي تاريخ المسيحية حقبة تعرف بـ"عصر الشهداء"، وهم الذين قضوا جرّاء التعذيب الوحشي خلال فترة الاضطهاد الروماني لهم لأنهم رفضوا التخلي عن دعوتهم. وفي عصرنا الحديث قضى مئات الآلاف من المقاومين السوفييت –المعروفين باسم "الأنصار"- العاملين خلف خطوط القوات النازية المحتلة لبلادهم. وفي الذاكرة القريبة تحضر صور التضحية الكبيرة الباسلة للبطل الإيرلندي التحرري "بوبي ساندز" ورفاقه المقاومين للتسلط الإنجليزي.
* * *
مع أن "بدر" لم تكن معركة حاسمة، إلا أن النصر الموضعي الذي أُحرِز فيها قوَّى المسلمين وأعلى مكانتهم في الحجاز؛ ووطّدها خاصة في مقرهم وقاعدة عملياتهم: "يثرب" التي كان وجودهم فيها حديثاً، ودعوتهم موضع تساؤل واستهانة وتشويش كما يحدث مع كل قوى طليعية حاملة لرؤية ولمشروع جديدين. وكان نجاحهم في اختبار القوة الأول، فاتحة الطريق التي ساروا عليها من ثم لتحرير مكة وتوحيد العرب بعد سنين.
ورغم أهمية دراسة التجربة: (تجربة بدر وكل المعارك والحروب، الظافرة منها أو الخاسرة، العربية أو الأجنبية) فإن ما يجب تذكره باستمرار أن التجارب لا تُستنسخ أبداً، وأن المطلوب دائماً هو إعمالُ العقل والإرادة إذا ما أردنا أن نغيِّر واقع كوننا ضحايا، وأن نعمل على تحقيق النصر.
وفي هذا يتجلَّى استيعابُ درس "بدر".
عن رابطة أدباء الشام
التعديل الأخير: