بعد سنتين من الطوفان.. كيف يمكن قراءته؟
هنالك مقولة للزعيم الألماني خلال الحرب العالمية الثانية: "بداية كل حرب أشبه بفتح باب غرفة مظلمة. لا أحد يعلم ما يخفيه الظلام". بمعنى أن الحرب وبداياتها تكون دائمًا في حكم المجهول، ثم مع الوقت تفرض ديناميكية أو براديام معيّن، غالبًا ما تستمر عليه. عندما أطلق بوتين حربه على أوكرانيا كان يتوقّع أنها ستكون حربًا خاطفة يجري خلالها استبدال القيادة السياسية في كييف وتنتهي بنصر ساحق؛ لكن ديناميكيات أخرى هي التي فرضت نفسها: طول الحرب، هجمات الدرونز والحرب الإلكترونية والحرب على مستوى الإنتاج الحربي وخطوط الإمداد هي التي كانت المحدد الأبرز للحرب.
نفس الأمر ينطبق على التدخل الأمريكي في فييتنام، فلم يكُن يتصوّر أن هذه الدولة الفقيرة، وغير المحورية في جنوب شرق آسيا ستكون مستنقعًا يغرق فيه الأمريكي؛ خصوصًا بالنظر إلى أن الجيش الأمريكي كان يحقّق الانتصار تلو الآخر على الصعيد الميداني، وهو ما كان يُغريه بالاستمرار أكثر والبقاء لمدة أطول طلبًا للحسم الذي لا يأتي، كمن يشرب من ماء البحر، فيزداد عطشًا.
بدأ الطوفان بانتصار عسكري صريح، اختراق للسياج المفروض على حدود غزة، بما يحمله ذلك من رمزيّات مركز: السياج كرمز للحصار المطبق على غزة منّذ عقد ونصف، وإحراج للمنظومة الأمنية والاستخباراتية التي أبقت غزّة تحت المراقبة والسيطرة؛ وكسر للسياج السياسي والشعوري الذي فرضه الاحتلال على غزة وتهميشها من النقاش واعتبارها مجرد سجن مفتوح لأكثر من مليوني شخص.
أما على الصعيد العسكري البحت فقد نجح المقاتلون أيما نجاح في مباغتة العدو وتوجيه ضربات عسكرية مؤلمة لفرقة غزة، بتحييد مئات الجنود ورجال الأمن واختطاف جنود من داخل دباباتهم، بالإضافة إلى جانب استعراضي متمثل في هجوم متعدد الأبعاد جوًا وبرًا وبحرًا في مشهد رسم قدرة الفلسطيني على المقاومة والرد عسكريًا، وعدم الاكتفاء بصورة الفلسطيني الذي يستجدي الحماية من المجتمع الدولي، عكس ما حاول عبّاس والسلطة ترسيخه.
كل عملية عسكرية تقوم على جملة من الافتراضات، بحيث أنها أشبه بالمعادلة التي تتكوّن من عدّة متغيّرات ومجاهيل لا يمكن توقّعها، فالحرب بتعريفها عبارة عن علبة سوداء كبيرة عصيّة على التنبّؤ حتى لدى أعتى الجنود، هنالك نقاش في الدراسات الأمنية نفسها حول إن كان ما يسمى بـ"الاستراتيجية" علمًا أو وهمًا منمّقًا.
وكلنا نسير في هذه الدنيا بناءًا على توقّعات وتصوّرت نظمّنها في تفاصيل يومنا، فأنا أشرب من علبة عصير البرتقال التي اشتريتها من الدكان بناءًا على افتراض أن العصير الذي مرّ من سلسلة إنتاج طويلة شارك فيها مجموعة من الأشخاص (الفلاح، ومن قطف حبّة البرتقال، والعامل في الآلة التي تعصر، ومن يغلّف العصير ومن ينقله إلى البقالة، ومن يبيعها) لا أحد من هؤلاء المجهولين سيُقدم على تسميم هذه العلبة، وأن جميعهم يتّسمون بقدر من العقلانية، بحيث تكون سلوكياتهم متوقّعة إلى حد ما وليست خارج دائرة المعتاد. صحيح أننا لا نفكّر كثيرًا قبل شرب علبة العصير، لأنّ هذه الافتراضات تأتي بالبداهة وتتحّول إلى نوع من الفطرة الإنسانية في توقُّع أن تسير الأشياء دائمًا بنفس المنطق الذي سارت عليه من قبل.
حسب تحليلي، فإن الافتراضات التي وضعها مُطلقو طوفان الأقصى، بناءًا على الخبرة السابقة، كانت تتمحور في عاملين:
1. أن أخذ المقاومة لمئات من المحتجزين/المختطفين سيُجبر الكيان إلى اللجوء إلى طاولة المفاوضات من أجل وقف الحرب وتقديم تنازلات، حفاظًا على حياة هؤلاء الأسرى، وذلك بناءًا على الخبرة والتجربة السابقة المتمثلة في المفاوضات على مصير الأسير جلعاد شاليط الذي استطاعت المقاومة أن تبادله بأكثر من ألف أسير فلسطيني.
2. أن إطلاق المقاومة لعملية طوفان الأقصى، وإعلان قائد الكتائب محمد الضيف لخطاب نادر يُعتبر إعلان بدأ ساعة الصفر للثورة الفلسطينية التاريخية المنتظرة من أجل التحرير والتي جاء فيها "ابدأوا بالزحف اليوم، الآن وليس غداً، نحو فلسطين، ولا تجعلوا حدوداً ولا أنظمة ولا قيوداً تحرمكم شرف الجهاد والمشاركة في تحرير المسجد الأقصى. {انفروا خفافاً وثقالاً، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}."
افتراض انظمام أطراف أخرى خارج غّزة للثورة التي أطلقها الطوفان، كان قائمًا على تجربة سيف القدس سنة 2021 حين شهدت الساحة الفلسطينية لحظة وحدة نادرة حيث ثارت الضفة الغربية، والقدس (الشيخ جرّاح) والتحقت المقاومة بقصف الصواريخ. أي إن قادة الطوفان أطلقوا دعوة من أجل التحاق هذه الجبهات بالطوفان وتحويلها إلى ثورة شعبية شاملة. تنظّم إليها في أحسن السيناريوهات أطراف دولية أخرى في الدول التي ذكرها خطاب الضيف تشمل الفلسطينيين وغير الفلسطينيين من عرب ومسلمين وأحرار العالم أجمع:
((مجاهدونا الأبرار،يا شبابنا في الضفة الغربية،يا كل أهلنا على اختلاف تنظيماتكم،يا أهلنا في القدس، يا أهلنا في الداخل المحتل، في النقب والجليل والمثلث، في يافا وحيفا وعكا واللد والرملة، يا إخواننا في المقاومة الإسلامية، في لبنان وإيران واليمن والعراق وسورية، يا أهلنا في الأردن ولبنان، في مصر والجزائر، والمغرب العربي، في باكستان وماليزيا وأندونيسيا، وفي كل أنحاء الوطن العربي والإسلامي،
كل مَن عنده بندقية فليُخرجها، فهذا أوانها. ومَن ليس عنده بندقية، فليخرج بساطوره، أو بلطته، أو فأسه، أو زجاجته الحارقة، بشاحنته، أو جرافته، أو سيارته. اليوم، اليوم، يفتح التاريخ أنصع وأبهى وأشرف صفحاته، فمَن يسجّل اسمه واسم عائلته واسم بلدته في صحائف النور والمجد؟
يا أبناء أمتنا، ويا أحرار العالم،
مَن لم يستطع المشاركة في "طوفان الأقصى" مشاركة فعلية مباشرة، فليشارك بالتضامن والتظاهر والمساندة. اخرجوا للساحات والميادين، وارفعوا راية الحرية لفلسطين والأقصى، وأعلنوا الاعتصامات المفتوحة في كل مكان لمنع الأنظمة التي وفّرت الدعم والغطاء لجرائم الاحتلال من استمرارها في شراكته في جريمته. هذا يوم الثورة الكبرى من أجل إنهاء الاحتلال الأخير، ونظام الفصل العنصري الأخير في العالم.
أيها الصالحون والصالحات، يا صفوة الحفّاظ، يا حفظة كتاب الله، أيها العابدون، الصائمون، القائمون، الراكعون، الساجدون،))
ربما كان هذا الحد الأقصى، أو السيناريو المتفائل/المثالي الذي وضعه صانعوا الطوفان (أي انضمام كل الأطراف الفلسطينية بالإضافة إلى محور المقاومة إلى جانب أنصار القضية في مختلف أنحاء العالم العربي والإسلامي من أحزاب وتنظيمات لطالما رفعت شعار ع القدس رايحين شهداء بالملايين/مع فلسطين ظالمة أو مظلومة..إلخ). أما الحد الأدنى أو السيناريو المتشائم الذي لم يكن يُتصوّر أن يقع ما دونه، هو أن تنضمّ الضفة والمخيمات والداخل الفلسطيني والقدس إلى هذا النداء بقدر ملائم.
قرّر نتنياهو أن قضية أسراه ليست أولوية، فتخلى عنهم عمليًا واعتبرهم مجرّد ورقة سياسية من أجل حشد الدعم الغربي وتسويق ظروفهم لكسب مشروعية للحرب وتبرير استمرارها، دون أي عمل جاد لإخراجهم أو تقديم تنازلات في هذا السياق سوى عند سقف محدد.
أما الافتراض الثاني، فلم يشهد الداخل الفلسطيني والقدس أي تحرك أو انخراط في الطوفان، وهو معاكس تمامًا لما حدث في 2021 خلال عملية سيف القدس، فيما شهدت الضفة الغربية انتفاضة شعبية في البداية لكنها خفتت مع الوقت وانتهت تمامًا ولم تعد تشكّل أي ضغط على الكيان. كما شهدت المخيمات الفلسطينية (جنين وطل كرم) أعمال مقاومة، تصدّى لها الاحتلال بتنسيق مع أجهزة السلطة الفلسطينية.
دخل حزب الله على خط المواجهة في اليوم التالي، أي 8 أكتوبر، وفصائل عراقية (توقّفت فيما بعد)، بالإضافة إلى جماعة الحوثي التي بقيت إلى الآن مستمرة في خط المواجهة؛ لكن ليس بالقدر الذي يقلب موازين الحرب.
وبالتالي أصبحنا أمام سيناريو أسوء من السيناريو المتشائم: نتنياهو لا يعبأ بالأسرى ويعتبرهم مجرد خسائر جانبية، مما أفرغ هذا الملف من ثقله التفاوضي؛ بل حوّله إلى عبئ على المقاومة مرتبط بضرورات تأمينهم وإطعامهم. كما لم يتحرّك الداخل الفلسطيني والضفة الغربية وفلسطينيو الشتات لإسناد غزّة، تُركت وحيدة أمام الآلة الحربية الإسرائيلية.
لا يمكن أن تصف الكلمات الشجاعة والاستبسال التي اتسم بها مقاتلو المقاومة في مجابهة الاجتياح البري الاسرائيلي، والمقاطع المصوّرة التي خرجت تكشف روح قتالية عالية وتدريب محكم وبطولات فردية وتكتيكية ستبقى بلا شك خالدة في تاريخ النضال الفلسطيني؛ لكن درجة التصدّي للاجتياح والمواجهة عبر أسلوب حرب العصابات لم تصل إلى الدرجة التي تُجبر الاحتلال على الرضوخ والسعي إلى إيقاف الحرب. وتحوّلت المواجهة شيئًا فشيئًا إلى حرب استنزاف، بدون ضريبة بشرية على الاحتلال، وكان من الطبيعي أن ينتصر فيها الطرف الذي يملك خط إمداد مباشر من واشنطن، في حين لا يملك الطرف الآخر سوى ما راكمه خلال العقد الماضي دون أي وسيلة إمداد خارجية. عدا عن سلاح الجوّ الذي استخدمه الاحتلال في تطبيق سياسة الأرض المحروقة وموافقته على استهداف 100 مدني ليظفر بمقاوم واحد؛ وسلاح التجويع والحصار الخانق.
بناءًا على ما سبق، أُجادل بأن الطوفان كان في جوهره خيارًا عقلانيًا مبني على معطيات واقعية حسب التجارب السابقة (صفقة تبادل شاليط، وحدة الساحة الفلسطينية في سيف القدس 2021)؛ لكن الحِسبة أو المعادلة كان ينقصها عناصر معقولة التحقّق، ليست مثالية أو خيالية، لكن غيابها أدّى إلى واقع مختلف تمامًا عما كان من الممكن أن يحدث. بمعنى آخر، لو تحرّك الداخل الفلسطيني في عصيان مدني والشتات الفلسطيني في عمليات تستهدف العدو أينما وجد، والضفة الغربية بوتيرة أكبر؛ إضافة إلى عدم تخلّي نتنياهو عن ورقة الأسرى، وفعالية أكبر لحرب العصابات ترفع من الكلفة البشرية للاجتياح البري (كأن يُقتل 10 من جنود الاحتلال بشكل يومي لمدة سنة)، لكانت النتيجة مختلفة بشكل جذري، ولكان الكثير من الطاعنين في جدوى الطوفان يتبنّون وجهة نظر مختلفة.
لا يوجد حتمية في التاريخ، والقدرة على التنبؤ في السياسة بشكل عام، وفي الحروب بشكل خاص دائمًا ما تكون صعبة وضئيلة، وكل ما يملكه القائد هو بناء سيناريوهات وافتراضات مبنية على ما يملكه من معلومات ومعطيات، ثم الانطلاق نحو المجهول، وتمنّي أن يؤدّي تفاعل هذه العناصر المختلفة (السياق الداخلي والدولي، الإعداد العسكري، الانقسام في معسكر العدو، التجارب السابقة) إلى سيناريو أفضل من الواقع الحالي.
حديثي هنا محاولة لإعطاء نظرة أخرى للطوفان، لا تقصره على الضحايا المدنيين وصورة الإباذة التي يعرفها العام والخاص والتي نتألم لها جميعًا. لكن هؤلاء الضحايا لم يسقطوا في كارثة إنسانية أو جائحة مرضية، بل في سياق عملية تحرّر انطلقت منذ 70 سنة، رحمهم الله جميعًا.
رغم كل ما سبق لازلت أعتبر طوفان الأقصى أحد أعظم فصول النضال الفلسطيني، أما الحديث عمّا حققه من إنجازات فربما يأتي في موضع آخر. سلامًا على قادة الطوفان وشهدائه وجرحاه ومجاهديه المرابطين في ثغورهم وعقدهم القتالية، والرحمة على شهداء غزة أطفالًا وشيوخًا ونساءً ورجالاً، بصبرهم وصمودهم وشجعاتهم يرسمون أفقًا جديدًا نحو الحرية.
هنالك مقولة للزعيم الألماني خلال الحرب العالمية الثانية: "بداية كل حرب أشبه بفتح باب غرفة مظلمة. لا أحد يعلم ما يخفيه الظلام". بمعنى أن الحرب وبداياتها تكون دائمًا في حكم المجهول، ثم مع الوقت تفرض ديناميكية أو براديام معيّن، غالبًا ما تستمر عليه. عندما أطلق بوتين حربه على أوكرانيا كان يتوقّع أنها ستكون حربًا خاطفة يجري خلالها استبدال القيادة السياسية في كييف وتنتهي بنصر ساحق؛ لكن ديناميكيات أخرى هي التي فرضت نفسها: طول الحرب، هجمات الدرونز والحرب الإلكترونية والحرب على مستوى الإنتاج الحربي وخطوط الإمداد هي التي كانت المحدد الأبرز للحرب.
نفس الأمر ينطبق على التدخل الأمريكي في فييتنام، فلم يكُن يتصوّر أن هذه الدولة الفقيرة، وغير المحورية في جنوب شرق آسيا ستكون مستنقعًا يغرق فيه الأمريكي؛ خصوصًا بالنظر إلى أن الجيش الأمريكي كان يحقّق الانتصار تلو الآخر على الصعيد الميداني، وهو ما كان يُغريه بالاستمرار أكثر والبقاء لمدة أطول طلبًا للحسم الذي لا يأتي، كمن يشرب من ماء البحر، فيزداد عطشًا.
بدأ الطوفان بانتصار عسكري صريح، اختراق للسياج المفروض على حدود غزة، بما يحمله ذلك من رمزيّات مركز: السياج كرمز للحصار المطبق على غزة منّذ عقد ونصف، وإحراج للمنظومة الأمنية والاستخباراتية التي أبقت غزّة تحت المراقبة والسيطرة؛ وكسر للسياج السياسي والشعوري الذي فرضه الاحتلال على غزة وتهميشها من النقاش واعتبارها مجرد سجن مفتوح لأكثر من مليوني شخص.
أما على الصعيد العسكري البحت فقد نجح المقاتلون أيما نجاح في مباغتة العدو وتوجيه ضربات عسكرية مؤلمة لفرقة غزة، بتحييد مئات الجنود ورجال الأمن واختطاف جنود من داخل دباباتهم، بالإضافة إلى جانب استعراضي متمثل في هجوم متعدد الأبعاد جوًا وبرًا وبحرًا في مشهد رسم قدرة الفلسطيني على المقاومة والرد عسكريًا، وعدم الاكتفاء بصورة الفلسطيني الذي يستجدي الحماية من المجتمع الدولي، عكس ما حاول عبّاس والسلطة ترسيخه.
كل عملية عسكرية تقوم على جملة من الافتراضات، بحيث أنها أشبه بالمعادلة التي تتكوّن من عدّة متغيّرات ومجاهيل لا يمكن توقّعها، فالحرب بتعريفها عبارة عن علبة سوداء كبيرة عصيّة على التنبّؤ حتى لدى أعتى الجنود، هنالك نقاش في الدراسات الأمنية نفسها حول إن كان ما يسمى بـ"الاستراتيجية" علمًا أو وهمًا منمّقًا.
وكلنا نسير في هذه الدنيا بناءًا على توقّعات وتصوّرت نظمّنها في تفاصيل يومنا، فأنا أشرب من علبة عصير البرتقال التي اشتريتها من الدكان بناءًا على افتراض أن العصير الذي مرّ من سلسلة إنتاج طويلة شارك فيها مجموعة من الأشخاص (الفلاح، ومن قطف حبّة البرتقال، والعامل في الآلة التي تعصر، ومن يغلّف العصير ومن ينقله إلى البقالة، ومن يبيعها) لا أحد من هؤلاء المجهولين سيُقدم على تسميم هذه العلبة، وأن جميعهم يتّسمون بقدر من العقلانية، بحيث تكون سلوكياتهم متوقّعة إلى حد ما وليست خارج دائرة المعتاد. صحيح أننا لا نفكّر كثيرًا قبل شرب علبة العصير، لأنّ هذه الافتراضات تأتي بالبداهة وتتحّول إلى نوع من الفطرة الإنسانية في توقُّع أن تسير الأشياء دائمًا بنفس المنطق الذي سارت عليه من قبل.
حسب تحليلي، فإن الافتراضات التي وضعها مُطلقو طوفان الأقصى، بناءًا على الخبرة السابقة، كانت تتمحور في عاملين:
1. أن أخذ المقاومة لمئات من المحتجزين/المختطفين سيُجبر الكيان إلى اللجوء إلى طاولة المفاوضات من أجل وقف الحرب وتقديم تنازلات، حفاظًا على حياة هؤلاء الأسرى، وذلك بناءًا على الخبرة والتجربة السابقة المتمثلة في المفاوضات على مصير الأسير جلعاد شاليط الذي استطاعت المقاومة أن تبادله بأكثر من ألف أسير فلسطيني.
2. أن إطلاق المقاومة لعملية طوفان الأقصى، وإعلان قائد الكتائب محمد الضيف لخطاب نادر يُعتبر إعلان بدأ ساعة الصفر للثورة الفلسطينية التاريخية المنتظرة من أجل التحرير والتي جاء فيها "ابدأوا بالزحف اليوم، الآن وليس غداً، نحو فلسطين، ولا تجعلوا حدوداً ولا أنظمة ولا قيوداً تحرمكم شرف الجهاد والمشاركة في تحرير المسجد الأقصى. {انفروا خفافاً وثقالاً، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}."
افتراض انظمام أطراف أخرى خارج غّزة للثورة التي أطلقها الطوفان، كان قائمًا على تجربة سيف القدس سنة 2021 حين شهدت الساحة الفلسطينية لحظة وحدة نادرة حيث ثارت الضفة الغربية، والقدس (الشيخ جرّاح) والتحقت المقاومة بقصف الصواريخ. أي إن قادة الطوفان أطلقوا دعوة من أجل التحاق هذه الجبهات بالطوفان وتحويلها إلى ثورة شعبية شاملة. تنظّم إليها في أحسن السيناريوهات أطراف دولية أخرى في الدول التي ذكرها خطاب الضيف تشمل الفلسطينيين وغير الفلسطينيين من عرب ومسلمين وأحرار العالم أجمع:
((مجاهدونا الأبرار،يا شبابنا في الضفة الغربية،يا كل أهلنا على اختلاف تنظيماتكم،يا أهلنا في القدس، يا أهلنا في الداخل المحتل، في النقب والجليل والمثلث، في يافا وحيفا وعكا واللد والرملة، يا إخواننا في المقاومة الإسلامية، في لبنان وإيران واليمن والعراق وسورية، يا أهلنا في الأردن ولبنان، في مصر والجزائر، والمغرب العربي، في باكستان وماليزيا وأندونيسيا، وفي كل أنحاء الوطن العربي والإسلامي،
كل مَن عنده بندقية فليُخرجها، فهذا أوانها. ومَن ليس عنده بندقية، فليخرج بساطوره، أو بلطته، أو فأسه، أو زجاجته الحارقة، بشاحنته، أو جرافته، أو سيارته. اليوم، اليوم، يفتح التاريخ أنصع وأبهى وأشرف صفحاته، فمَن يسجّل اسمه واسم عائلته واسم بلدته في صحائف النور والمجد؟
يا أبناء أمتنا، ويا أحرار العالم،
مَن لم يستطع المشاركة في "طوفان الأقصى" مشاركة فعلية مباشرة، فليشارك بالتضامن والتظاهر والمساندة. اخرجوا للساحات والميادين، وارفعوا راية الحرية لفلسطين والأقصى، وأعلنوا الاعتصامات المفتوحة في كل مكان لمنع الأنظمة التي وفّرت الدعم والغطاء لجرائم الاحتلال من استمرارها في شراكته في جريمته. هذا يوم الثورة الكبرى من أجل إنهاء الاحتلال الأخير، ونظام الفصل العنصري الأخير في العالم.
أيها الصالحون والصالحات، يا صفوة الحفّاظ، يا حفظة كتاب الله، أيها العابدون، الصائمون، القائمون، الراكعون، الساجدون،))
ربما كان هذا الحد الأقصى، أو السيناريو المتفائل/المثالي الذي وضعه صانعوا الطوفان (أي انضمام كل الأطراف الفلسطينية بالإضافة إلى محور المقاومة إلى جانب أنصار القضية في مختلف أنحاء العالم العربي والإسلامي من أحزاب وتنظيمات لطالما رفعت شعار ع القدس رايحين شهداء بالملايين/مع فلسطين ظالمة أو مظلومة..إلخ). أما الحد الأدنى أو السيناريو المتشائم الذي لم يكن يُتصوّر أن يقع ما دونه، هو أن تنضمّ الضفة والمخيمات والداخل الفلسطيني والقدس إلى هذا النداء بقدر ملائم.
قرّر نتنياهو أن قضية أسراه ليست أولوية، فتخلى عنهم عمليًا واعتبرهم مجرّد ورقة سياسية من أجل حشد الدعم الغربي وتسويق ظروفهم لكسب مشروعية للحرب وتبرير استمرارها، دون أي عمل جاد لإخراجهم أو تقديم تنازلات في هذا السياق سوى عند سقف محدد.
أما الافتراض الثاني، فلم يشهد الداخل الفلسطيني والقدس أي تحرك أو انخراط في الطوفان، وهو معاكس تمامًا لما حدث في 2021 خلال عملية سيف القدس، فيما شهدت الضفة الغربية انتفاضة شعبية في البداية لكنها خفتت مع الوقت وانتهت تمامًا ولم تعد تشكّل أي ضغط على الكيان. كما شهدت المخيمات الفلسطينية (جنين وطل كرم) أعمال مقاومة، تصدّى لها الاحتلال بتنسيق مع أجهزة السلطة الفلسطينية.
دخل حزب الله على خط المواجهة في اليوم التالي، أي 8 أكتوبر، وفصائل عراقية (توقّفت فيما بعد)، بالإضافة إلى جماعة الحوثي التي بقيت إلى الآن مستمرة في خط المواجهة؛ لكن ليس بالقدر الذي يقلب موازين الحرب.
وبالتالي أصبحنا أمام سيناريو أسوء من السيناريو المتشائم: نتنياهو لا يعبأ بالأسرى ويعتبرهم مجرد خسائر جانبية، مما أفرغ هذا الملف من ثقله التفاوضي؛ بل حوّله إلى عبئ على المقاومة مرتبط بضرورات تأمينهم وإطعامهم. كما لم يتحرّك الداخل الفلسطيني والضفة الغربية وفلسطينيو الشتات لإسناد غزّة، تُركت وحيدة أمام الآلة الحربية الإسرائيلية.
لا يمكن أن تصف الكلمات الشجاعة والاستبسال التي اتسم بها مقاتلو المقاومة في مجابهة الاجتياح البري الاسرائيلي، والمقاطع المصوّرة التي خرجت تكشف روح قتالية عالية وتدريب محكم وبطولات فردية وتكتيكية ستبقى بلا شك خالدة في تاريخ النضال الفلسطيني؛ لكن درجة التصدّي للاجتياح والمواجهة عبر أسلوب حرب العصابات لم تصل إلى الدرجة التي تُجبر الاحتلال على الرضوخ والسعي إلى إيقاف الحرب. وتحوّلت المواجهة شيئًا فشيئًا إلى حرب استنزاف، بدون ضريبة بشرية على الاحتلال، وكان من الطبيعي أن ينتصر فيها الطرف الذي يملك خط إمداد مباشر من واشنطن، في حين لا يملك الطرف الآخر سوى ما راكمه خلال العقد الماضي دون أي وسيلة إمداد خارجية. عدا عن سلاح الجوّ الذي استخدمه الاحتلال في تطبيق سياسة الأرض المحروقة وموافقته على استهداف 100 مدني ليظفر بمقاوم واحد؛ وسلاح التجويع والحصار الخانق.
بناءًا على ما سبق، أُجادل بأن الطوفان كان في جوهره خيارًا عقلانيًا مبني على معطيات واقعية حسب التجارب السابقة (صفقة تبادل شاليط، وحدة الساحة الفلسطينية في سيف القدس 2021)؛ لكن الحِسبة أو المعادلة كان ينقصها عناصر معقولة التحقّق، ليست مثالية أو خيالية، لكن غيابها أدّى إلى واقع مختلف تمامًا عما كان من الممكن أن يحدث. بمعنى آخر، لو تحرّك الداخل الفلسطيني في عصيان مدني والشتات الفلسطيني في عمليات تستهدف العدو أينما وجد، والضفة الغربية بوتيرة أكبر؛ إضافة إلى عدم تخلّي نتنياهو عن ورقة الأسرى، وفعالية أكبر لحرب العصابات ترفع من الكلفة البشرية للاجتياح البري (كأن يُقتل 10 من جنود الاحتلال بشكل يومي لمدة سنة)، لكانت النتيجة مختلفة بشكل جذري، ولكان الكثير من الطاعنين في جدوى الطوفان يتبنّون وجهة نظر مختلفة.
لا يوجد حتمية في التاريخ، والقدرة على التنبؤ في السياسة بشكل عام، وفي الحروب بشكل خاص دائمًا ما تكون صعبة وضئيلة، وكل ما يملكه القائد هو بناء سيناريوهات وافتراضات مبنية على ما يملكه من معلومات ومعطيات، ثم الانطلاق نحو المجهول، وتمنّي أن يؤدّي تفاعل هذه العناصر المختلفة (السياق الداخلي والدولي، الإعداد العسكري، الانقسام في معسكر العدو، التجارب السابقة) إلى سيناريو أفضل من الواقع الحالي.
حديثي هنا محاولة لإعطاء نظرة أخرى للطوفان، لا تقصره على الضحايا المدنيين وصورة الإباذة التي يعرفها العام والخاص والتي نتألم لها جميعًا. لكن هؤلاء الضحايا لم يسقطوا في كارثة إنسانية أو جائحة مرضية، بل في سياق عملية تحرّر انطلقت منذ 70 سنة، رحمهم الله جميعًا.
رغم كل ما سبق لازلت أعتبر طوفان الأقصى أحد أعظم فصول النضال الفلسطيني، أما الحديث عمّا حققه من إنجازات فربما يأتي في موضع آخر. سلامًا على قادة الطوفان وشهدائه وجرحاه ومجاهديه المرابطين في ثغورهم وعقدهم القتالية، والرحمة على شهداء غزة أطفالًا وشيوخًا ونساءً ورجالاً، بصبرهم وصمودهم وشجعاتهم يرسمون أفقًا جديدًا نحو الحرية.