بين القرار والتنفيذ: لماذا لم تُنفذ الضربة السعودية ضد إسرائيل في 1973؟
في أجواء الحرب التي لا تُبقي على شيء إلا أثرها، تتكوّن القرارات خلف الأبواب المغلقة بسرعة لا تقلّ عن سرعة الطائرات التي تحلق فوق البحر. حين احتدمت المعارك في أكتوبر 1973، لم تكن الساحات الميدانية وحدها من تُقاس بها موازين القوة؛ بل كان للخيارات السرية، لتلك التي تُتخذ بعيدا عن مسرح الإعلام، وزنها في صناعة الأثر.
ضمن هذا الإطار ظهرت مبادرة عسكرية سعودية حاملة طابع المخاطرة: تجهيز قوة جوية محدودة لتوجيه ضربة ذات أثر اقتصادي ولوجستي ضد منشآت حيوية لدى الطرف المقابل - قرارٌ يجمع بين رسالة سياسية ورغبة في التأثير التكتيكي.
بين خط النار وخطوط الإمداد: الدور السعودي الإستراتيجي في 1973
لم يكن دخول المملكة في حرب أكتوبر 1973 مجرد موقف رمزي أو تضامن سياسي عابر؛ بل كان حضورًا فعّالًا على المستويين العسكري والدبلوماسي، فقد شاركت وحدات سعودية في القتال على الجبهة السورية مباشرة، حيث انخرطت في المواجهات إلى جانب الجيش السوري، بينما تمركزت قوات أخرى في الأردن لتأمين الجبهة ودعم الحلفاء، ما جعل الدور العسكري للمملكة ملموسًا وحقيقيًا في أرض المعركة.
وفي الميدان السياسي–الاقتصادي، قادت الرياض إحدى أهم معارك الحرب غير التقليدية: قرار حظر تصدير النفط إلى الولايات المتحدة والدول الداعمة لإسرائيل. هذه الخطوة التاريخية لم تكن مجرد ضغط اقتصادي، بل شكلت صدامًا مباشرًا مع واشنطن، ورسخت أن المملكة قادرة على استخدام أدواتها الإستراتيجية لتغيير موازين القوة خارج ساحة القتال.
هكذا تبلور الدور السعودي في حرب أكتوبر على جبهتين متوازيتين جبهة القتال عبر مشاركة القوات في سوريا والأردن، وجبهة السياسة والاقتصاد عبر سلاح النفط، في رسالة أكدت أن الرياض جزء فاعل في معادلة الحرب لا مجرد داعم على الهامش.
الهجمة الاقتصادية: كيف جهّزت السعودية مقاتلاتها لضرب المنشآت النفطية في ايلات
في لحظة بدت وكأنها مأخوذة من مشهدٍ عسكري مُحكم، وُضع على الطاولة خيار غير تقليدي أن تُحوّل المملكة السماء إلى سلاحٍ اقتصادي، عبر ضربة جوية تستهدف مواقع النفط والتكرير الحيوية للعدو، لم يكن القرار عشوائياً؛ بل رسالة تُترجم الرغبة في جعل الحرب أكثر كلفة، وتذكير الخصم بأن معادلة الصراع لا تقتصر على الجبهة الميدانية وحدها.
تم تشكيل قوة هجومية محددة تضم عشر طائرات من طراز F-5، يقودها نخبة من الطيارين ذوي الخبرة، ومن بينهم الأمير بندر بن سلطان ضمن التشكيل المكلف، التقسيم الذخائري كان محسوباً بدقة نصف القوة مزوّد بقنابل شديدة الإنفجار ، فيما جُهّز النصف الآخر بقنابل حارقة، الهدف لم يكن مجرد تدمير مادّي، بل إحداث أثر مزدوج إشعال البنية النفطية وتعطيل قدرات العدو الإسرائيلي في التكرير والإمداد.
التحضيرات لم تقتصر على تجهيز المقاتلات، بل شملت منظومة دعم كاملة ( صيانة دقيقة، و إعادة تذخير، و تعبئة وقود، وتجهيز نقاط التعليق ) كما تولّت القيادة إعداد برنامج تدريبي صارم، انطلق من قاعدة الظهران الجوية في المنطقة الشرقية، حيث تمرّن الطيارون على الطيران المنخفض بمحاكاة حقيقية على ارتفاع لا يتجاوز 30 قدماً فوق سطح البحر. يومياً كانت تُعقد مؤتمرات إحاطة لتوزيع الأدوار وتنسيق العمل بين الطيارين والفرق الأرضية، ما جعل المشهد أقرب إلى غرفة عملياتٍ مكتملة الجاهزية، بانتظار لحظة الإقلاع.
لكن لحظة التنفيذ لم تأت في ساعات ما قبل الإقلاع بساعات قليلة، ورد تهديد رئاسي واضح من واشنطن إلى القاهرة مفاده أن استمرار العمليات العسكرية سيقابل بتدخل أمريكي مباشر، هذا التحذير ربط الاستمرار العسكري بعواقب دبلوماسية وسياسية فورية ورادعة، فقررت القيادة السعودية إلغاء المهمة قبل بدئها بفترة قصيرة، الإلغاء لم يكن نتيجة لخلل فني بقدر ما كان حسابًا استراتيجياً للضرر المحتمل في مواجهة قوة دولية، وتجسيدًا لواقعٍ مفاده أن حتى أفضل الخطط الميدانية قد تُحسم بالقرار السياسي في غرفة القيادة الدولية قبل أن تحسمها الطلقة الأولى.
لماذا منشآت النفط في إيلات؟ دوافع استراتيجية واضحة
اختيار أهداف من فئة منشآت النفط والتكرير نابع من مزيج من دوافع استراتيجية عملية وسياسية:
• تعطيل مراكز التكرير يقلص من قدرة الخصم على تزويد الآليات والعمليات لوجستياً، مما يُضعف القدرة القتالية على المدى المتوسط.
• أثر اقتصادي مباشر يُصيب بنية الدولة ويمارس ضغطاً داخلياً قد يؤثر على اتخاذ القرار السياسي.
• إحداث صدمة رمزية وإعلامية تدلل على أن الحرب تتخطى الأساليب التقليدية، وأن تكلفة الاستمرار سترتفع.
• من منظور تكتيكي، استهداف مرافق محددة يُخاطب النية في خلق تعطيل قابل للرصد الإعلامي دون خطوط اشتباك برية إضافية.
هذه الاعتبارات جعلت من المنشآت النفطية هدفاً يحمل أكثر من بعد مادي؛ كان هدفاً للرسالة الاقتصادية والسياسية بقدر ما كان هدفاً تكتيكياً.
اخيراً
لقد برز الدور السعودي في حرب أكتوبر 1973 باعتباره أكثر عمقاً وتعقيداً من مجرد قرار حظر النفط أو تحريك بعض الطائرات في السماء؛ فقد جسّدت المملكة قدرة متكاملة على التأثير في مسار الحرب عبر أبعاد متعددة: سياسي، اقتصادي، وعسكري. على الجبهة الميدانية، كانت وحداتها تشارك مباشرة في حماية الحلفاء وتعزيز خطوط الدفاع، وعلى الصعيد الدبلوماسي والاقتصادي، استخدمت أدواتها الاستراتيجية لإرسال رسائل صعبة التجاهل إلى القوى الكبرى.
في النهاية، لم يكن حضور المملكة مجرد مساهمة جانبية أو موقف رمزي، بل كان حضوراً يفرض الاحترام ويعيد رسم موازين القوى في المنطقة. رسالة السعودية في أكتوبر 1973 كانت واضحة: الدولة التي تتقن فنون القوة لا تقف عند حدود المعركة، بل تمتد لتحكم اللعبة من خلف الكواليس، فتجمع بين الطلقة، والقرار السياسي، والضغط الاقتصادي في معادلة واحدة يصعب تجاهلها.
لقد برز الدور السعودي في حرب أكتوبر 1973 باعتباره أكثر عمقاً وتعقيداً من مجرد قرار حظر النفط أو تحريك بعض الطائرات في السماء؛ فقد جسّدت المملكة قدرة متكاملة على التأثير في مسار الحرب عبر أبعاد متعددة: سياسي، اقتصادي، وعسكري. على الجبهة الميدانية، كانت وحداتها تشارك مباشرة في حماية الحلفاء وتعزيز خطوط الدفاع، وعلى الصعيد الدبلوماسي والاقتصادي، استخدمت أدواتها الاستراتيجية لإرسال رسائل صعبة التجاهل إلى القوى الكبرى.
في النهاية، لم يكن حضور المملكة مجرد مساهمة جانبية أو موقف رمزي، بل كان حضوراً يفرض الاحترام ويعيد رسم موازين القوى في المنطقة. رسالة السعودية في أكتوبر 1973 كانت واضحة: الدولة التي تتقن فنون القوة لا تقف عند حدود المعركة، بل تمتد لتحكم اللعبة من خلف الكواليس، فتجمع بين الطلقة، والقرار السياسي، والضغط الاقتصادي في معادلة واحدة يصعب تجاهلها.
- انتهى -
المصدر
كتاب الأمير
المصدر
كتاب الأمير
