هيمنة الغرب توشك أن تنقضي.. رؤية ألمانية
"لم يعد العالم كما كنا نعرفه، روسيا تقتحم دولا مجاورة من جديد، في العالم الإسلامي تتبع الحروب بعضها بعضا، الهند تتسلح نوويا، الصين نمت في العقود الماضية أسرع من أي دولة غربية، مصارف أمريكية وأوروبية تنهار مما لم نعرفه إلا في بلدان نامية، أسعار المواد الخام تتضاعف، ولئن عايش آباؤنا مثل هذه التحولات مرتين أو ثلاث في العمر، فنحن نعايشها متتابعة سنة بعد سنة".
هذه كلمات نيكولاس بوسّي، الصحفي المعروف بسعة اطلاعه وبكتاباته المتعمّقة عن السياسات الدولية في كبرى الصحف اليومية الألمانية "فرانكفورتر آلجيماينه"، وبهذه الكلمات في مستهل مقدمة كتاب "تجريد الغرب من سلطانه.. نظام جديد في العالم"، يحدّد المؤلف منطلق نظرته الشمولية للواقع العالمي، ويشرح ما يعنيه في المقدمة المتميزة كفصول الكتاب الأربعة، بأسلوب للعرض والتحليل وطرح النتائج بصياغة محكمة أشبه ببناء هندسي منتظم، وأقرب للوصول إلى عامة القراء، وذاك هدفه من الكتاب الذي لا يخلو من نقد ذاتي للهيمنة الغربية، ولكنه يريد على وجه التحديد أن يكون عامة السكان أكثر استعدادا لجهود غربية ضرورية ليحافظ الغرب على مكانة مستقبلية له، وهذا ما يظهر في شكواه -في خاتمة الكتاب- من أن ألمانيا تعيش شعبيا وسياسيا وفكريا في الماضي، فأكثر ما يطرح للبحث العلمي أو الكتابة الإعلامية يتناول تاريخها، في العهد النازي وما قبله، وعهد الشيوعية في الشرق وما خلفته، وهي لا تعرف مادة جامعية كعلم الإستراتيجية الذي يدرس في جامعات أمريكية وبريطانية، ويكثر فيها الخبراء الاقتصاديون ويقل الخبراء في شئون الأوضاع الدولية، أو على وجه التحديد في إتقان اللعبة السياسية الدائرة من وراء صنع الأحداث العالمية والتفاعل معها.
وينعكس هذا النقص في عدم انتشار المعرفة الكافية بأكثر من العناوين الكبرى للمتغيرات في واقع العالم، وقد تبدل تبدلا كبيرا عما كان عليه في ظل "نظام عالمي قديم"، وهذا عنوان الفصل الأول من الكتاب، فنشأت "القوى الدولية الجديدة"، وذاك عنوان الفصل الثاني، والنتيجة: "اهتراء السيطرة الغربية" عالميا، كما يقول عنوان الفصل الثالث، مما جعل أوروبا ومعها ألمانيا في موقع "الدفاع عن الغرب".. عنوان الفصل الرابع والأخير.
المحطة الأخيرة على هذا الطريق هي الحملة الأمريكية، المنطلقة من دولة "المهاجرين الأوروبيين" في الدرجة الأولى، باتجاه أمريكا الوسطى والجنوبية، ثم عبر محطة الفيليبين عالميا، وعبر نشأة القوات العسكرية الأمريكية وفي صلبها "مشاة البحرية" لبسط السيطرة بالقوة، حيثما وصلت الأنشطة الأمريكية، وكانت القفزة الأكبر عبر الحربين العالميتين، ثم من خلال اعتياد الأمريكيين على دور عالمي مهيمن أثناء الحرب الباردة.
ويقف الكاتب وقفة طويلة عند ظاهرة الدول القومية، ويراها من حصيلة تأثير الغرب على العلاقات الدولية، وقد ظهر أن نشوء أكثر من مائة دولة في العالم باستقلالها عن الاستعمار التقليدي، لم يوصل إلى قيام دول مستقلة مستقرة بمعنى الكلمة، وحيثما أصبحت نشأة الدولة القومية مطلبا قائما بذاته، واكبتها حروب دامية كما كان بين باكستان والهند. لقد استقلت بلدان "العالم الثالث" ولكن لم تمتلك القدرة على التصرف، فأصبح الحرص على الدولة القومية أشبه بالحرص على الرداء الطبي القسري في مستشفى الأمراض العقلية، حتى بات الانشغال به من أسباب العجز عن التحرر للتأثير على المسرح الدولي.
الهيمنة الغربية عالميا قائمة على احتكار السلاح منذ الحرب العالمية الثانية كما يقول الكاتب، لا سيما السلاح النووي، وعقب استخدامه لأول مرة كان يراد أن يصبح كالأسلحة التقليدية، فبدأت صناعة أسلحة نووية ميدانية بدرجات أدنى من التدمير الشامل، إلى أن اعتبر السلاح النووي مرفوضا من الأصل عبر اتفاقية حظر انتشاره، فسقطت قابلية استخدامه في الحروب كالأسلحة الأخرى، ولكن نشأ من جهة أخرى "مجتمع دولي طبقي".
وإلى جانب قوة السلاح امتلك الغرب بعد الحرب العالمية الثانية قوة المال، فأصبحتا معا ركيزتي الهيمنة، ولم يكن ذلك اعتباطيا، بل كانت البداية عبر دراسات أمريكية مكثفة منذ عام 1941 استهدفت صياغة نظام اقتصادي عالمي يقوم على تحرير الحركة التجارية، وانبثق عن ذلك تأسيس صندوق النقد الدولي والمصرف المالي العالمي عام 1944 بصياغةٍ ترسخ سيطرة من يملك السلاح والمال معا، وتلت ذلك صياغة "الاتفاقية العامة للتجارة والجمارك" عام 1948، ومنذ ذلك الحين أصبح مدخل أي دولة إلى النظام الاقتصادي رهنا إما بالانضمام إلى الإطار العام للهيمنة أو الانضواء تحت جناحها.
ولكن كانت في هذا النظام الطبقي الدولي ثغرة فتح الأبواب أمام أي دولة تصعد اقتصاديا وماليا لتأخذ مكانا لها بين القوى الدولية، وهنا يعتبر الكاتب صعود اليابان من بين دول الشرق بداية النهاية للسيطرة الاحتكارية الغربية عالميا.
وترى الدراسات المستقبلية أن الدول العشرة الأكبر اقتصاديا كانت تضم سبع دول غربية، ولن تضم عام 2050 سوى 3 دول غربية فقط، وآنذاك ستحتل رأس القائمة الصين أو الولايات المتحدة الأمريكية، تليها الهند فاليابان فالبرازيل فإندونيسيا فالمكسيك، وجميعها قبل ألمانيا وبريطانيا ثم فرنسا أو روسيا. وينوه الكاتب هنا بما سيطرأ على منظومة القيم عالميا، مستشهداً بما انتشر في بداية التسعينات من القرن الميلادي العشرين، وكانت نقطة انطلاقه من ماليزيا وسنغافورة، على خطى الصين والهند.
ويبدأ الفصل الثالث حول "اهتراء السيطرة الغربية" بمؤشرات رمزية، كالخرائط المستخدمة في الشرق حاليا، حيث لا تحتل أوروبا مركز "الوسط" عالميا، وحيث تتحول أمريكا إلى "الشرق الأقصى" بمنظور القوى الآسيوية الناهضة.. والمثال الرمزي الآخر استقبال الرئيس الباكستاني السابق مشرف في بروكسيل استقبالا حافلا، لا يحظى بمثله رئيس دولة نامية، والسبب بنظر الكاتب أن باكستان أصبحت دولة نووية، ويشير هنا إلى الملفين النوويين لكوريا الشمالية وإيران مع تطوير صواريخ بعيدة المدى، وما يعنيه اختراق "الجدار النووي" الذي اعتمد الغرب عليه حتى الآن، ويقول إن إحساس الغرب بالرعب إذا امتلكت دول أخرى القدرة على تهديد عواصم غربية، "يذكر موضوعيا بمفعول الردع المتبادل خلال الحرب الباردة"، والشاهد على ذلك إعلان حكومة بوش التمسك بالحل الدبلوماسي في الملف النووي لكوريا الشمالية، أثناء حربه ضد العراق بدعوى سعيه لامتلاك أسلحة نووية، فالمصادر الأمريكية تفسر ذلك بقوة الردع العسكرية التي وصلت كوريا الشمالية إليها. والمهم الحصيلة، وهي أن مفعول الهيمنة الغربية بات مقتصرا على التصرف بمصائر بلدان فقيرة أو ضعيفة أصلا، كأفغانستان والعراق والصومال والبوسنة وكوسوفا.
ولا يستهان هنا بالمغزى من عجز الأمريكيين عن تحقيق أهداف سياسية بعد نصر عسكري مبدئي في حرب احتلال العراق، وهذا مقابل استفادة الصين بتطوير نفسها عسكريا على ضوء ما كشفته الأساليب الحربية المتبعة، فأصبحت الجوانب الإلكترونية محور اهتمام الصين عسكرياً.
ويعتبر بوسَي لقاء مجموعة العشرين عام 2008 مؤشرا آخر لترسيخ "قواعد جديدة للعبة السياسية الدولية"، رغم أنها تأسست عام 1999، ويستبعد أن يكون لتوسيع مجلس الأمن الدولي المحتمل تأثير، فلو حصل لن تتبدل القاعدة المسيطرة عليه والتي تجسد أوضاعا عالمية قبل أربعين عاما، وستبقى السياسة الدولية عموما سياسة طبقية، على نقيض نموذج العلاقات البينية داخل العالم الغربي، ولن تزول الطبقية بصعود الصين إلى مستوى قطب دولي، فهي تمارس الطبقية السياسية داخليا وإقليميا منذ زمن طويل.
إن اهتراء سلطان الغرب عالميا عملية تدريجية ولكنها مستمرة وفق رؤية الكاتب في مطلع الفصل الرابع، حيث يبحث عن سبل "دفاعية"، مشيرا إلى أن اضمحلال معالم النظام العالمي وفق صياغة الغرب له، لا يعني انعدام تأثير الغرب مستقبلا، وهذا ما ينبغي الانطلاق منه. ولكن يظهر هنا الهدف من الكتاب بوضوح أكبر، فليس القصد أن يتلاءم الغرب مع معطيات دولية جديدة، بقدر ما ينبغي وفق رؤية الكاتب أن يسعى للحفاظ على "مكانة" دولية ولو بالقوة، وهذا مما يؤخذ من الانتقاد الشديد والمطول لمعارضة غالبية سكان ألمانيا للمشاركة العسكرية في مهام دولية، فبدون ذلك لا تستطيع ألمانيا أن تضمن لنفسها مكانة دولية مع تزايد أقطاب الصراع عالميا، وشبيه ذلك يسري على الاتحاد الأوروبي المنقسم على نفسه في سياساته الخارجية.
وبصيغة أقرب إلى القنوط يقول الكاتب: "إن الحروب الأخيرة أظهرت الحدود الحقيقية للقدرات الأمريكية، وسببت الانشقاق داخل حلف شمال الأطلسي، ولهذا لن يكون التدخل الروسي في جورجيا آخر مظهر من مظاهر انحسار قدرة الحلف وبالتالي قدرة الغرب على التصرف. وستبقى الحصيلة أن العجز عن توحيد الرؤى الغربية على أرضية مشتركة، سيعجّل في نشأة أوضاع دولية وفق إرادة قوى جديدة تجعل من سيطرة الغرب عالميا حقبة تاريخية انقضت.. أو توشك أن تنقضي".
المصدر
http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=1252188260996&pagename=Zone-Arabic-News/NWALayout
"لم يعد العالم كما كنا نعرفه، روسيا تقتحم دولا مجاورة من جديد، في العالم الإسلامي تتبع الحروب بعضها بعضا، الهند تتسلح نوويا، الصين نمت في العقود الماضية أسرع من أي دولة غربية، مصارف أمريكية وأوروبية تنهار مما لم نعرفه إلا في بلدان نامية، أسعار المواد الخام تتضاعف، ولئن عايش آباؤنا مثل هذه التحولات مرتين أو ثلاث في العمر، فنحن نعايشها متتابعة سنة بعد سنة".
هذه كلمات نيكولاس بوسّي، الصحفي المعروف بسعة اطلاعه وبكتاباته المتعمّقة عن السياسات الدولية في كبرى الصحف اليومية الألمانية "فرانكفورتر آلجيماينه"، وبهذه الكلمات في مستهل مقدمة كتاب "تجريد الغرب من سلطانه.. نظام جديد في العالم"، يحدّد المؤلف منطلق نظرته الشمولية للواقع العالمي، ويشرح ما يعنيه في المقدمة المتميزة كفصول الكتاب الأربعة، بأسلوب للعرض والتحليل وطرح النتائج بصياغة محكمة أشبه ببناء هندسي منتظم، وأقرب للوصول إلى عامة القراء، وذاك هدفه من الكتاب الذي لا يخلو من نقد ذاتي للهيمنة الغربية، ولكنه يريد على وجه التحديد أن يكون عامة السكان أكثر استعدادا لجهود غربية ضرورية ليحافظ الغرب على مكانة مستقبلية له، وهذا ما يظهر في شكواه -في خاتمة الكتاب- من أن ألمانيا تعيش شعبيا وسياسيا وفكريا في الماضي، فأكثر ما يطرح للبحث العلمي أو الكتابة الإعلامية يتناول تاريخها، في العهد النازي وما قبله، وعهد الشيوعية في الشرق وما خلفته، وهي لا تعرف مادة جامعية كعلم الإستراتيجية الذي يدرس في جامعات أمريكية وبريطانية، ويكثر فيها الخبراء الاقتصاديون ويقل الخبراء في شئون الأوضاع الدولية، أو على وجه التحديد في إتقان اللعبة السياسية الدائرة من وراء صنع الأحداث العالمية والتفاعل معها.
وينعكس هذا النقص في عدم انتشار المعرفة الكافية بأكثر من العناوين الكبرى للمتغيرات في واقع العالم، وقد تبدل تبدلا كبيرا عما كان عليه في ظل "نظام عالمي قديم"، وهذا عنوان الفصل الأول من الكتاب، فنشأت "القوى الدولية الجديدة"، وذاك عنوان الفصل الثاني، والنتيجة: "اهتراء السيطرة الغربية" عالميا، كما يقول عنوان الفصل الثالث، مما جعل أوروبا ومعها ألمانيا في موقع "الدفاع عن الغرب".. عنوان الفصل الرابع والأخير.
النهضة.. والسيطرة
يخصص الكاتب الفصل الأول لاستعراض تاريخي لانتشار السيطرة الغربية عالميا، وتحليل أسبابها، إلى درجة جعلتنا -حسب تعبيره- "نعيش في عالم هو عالم الرجل الأبيض"، فعلى النقيض من الإمبراطوريات القديمة، أوصلت النهضة الأوروبية إلى هيمنة عالمية شاملة، وما يراه الغرب "تخلّفا في العالم الثالث"، هو الوجه الأول من الميدالية، أما وجهها الثاني فهو فرض "الوصاية" عليه، فمنذ "الاكتشافات الجغرافية" حتى القرن الميلادي العشرين، اتخذت المسيرة الأوروبية شكل السيطرة على الآخر، وانتهت بإضعافه ماديا.المحطة الأخيرة على هذا الطريق هي الحملة الأمريكية، المنطلقة من دولة "المهاجرين الأوروبيين" في الدرجة الأولى، باتجاه أمريكا الوسطى والجنوبية، ثم عبر محطة الفيليبين عالميا، وعبر نشأة القوات العسكرية الأمريكية وفي صلبها "مشاة البحرية" لبسط السيطرة بالقوة، حيثما وصلت الأنشطة الأمريكية، وكانت القفزة الأكبر عبر الحربين العالميتين، ثم من خلال اعتياد الأمريكيين على دور عالمي مهيمن أثناء الحرب الباردة.
ويقف الكاتب وقفة طويلة عند ظاهرة الدول القومية، ويراها من حصيلة تأثير الغرب على العلاقات الدولية، وقد ظهر أن نشوء أكثر من مائة دولة في العالم باستقلالها عن الاستعمار التقليدي، لم يوصل إلى قيام دول مستقلة مستقرة بمعنى الكلمة، وحيثما أصبحت نشأة الدولة القومية مطلبا قائما بذاته، واكبتها حروب دامية كما كان بين باكستان والهند. لقد استقلت بلدان "العالم الثالث" ولكن لم تمتلك القدرة على التصرف، فأصبح الحرص على الدولة القومية أشبه بالحرص على الرداء الطبي القسري في مستشفى الأمراض العقلية، حتى بات الانشغال به من أسباب العجز عن التحرر للتأثير على المسرح الدولي.
الهيمنة الغربية عالميا قائمة على احتكار السلاح منذ الحرب العالمية الثانية كما يقول الكاتب، لا سيما السلاح النووي، وعقب استخدامه لأول مرة كان يراد أن يصبح كالأسلحة التقليدية، فبدأت صناعة أسلحة نووية ميدانية بدرجات أدنى من التدمير الشامل، إلى أن اعتبر السلاح النووي مرفوضا من الأصل عبر اتفاقية حظر انتشاره، فسقطت قابلية استخدامه في الحروب كالأسلحة الأخرى، ولكن نشأ من جهة أخرى "مجتمع دولي طبقي".
وإلى جانب قوة السلاح امتلك الغرب بعد الحرب العالمية الثانية قوة المال، فأصبحتا معا ركيزتي الهيمنة، ولم يكن ذلك اعتباطيا، بل كانت البداية عبر دراسات أمريكية مكثفة منذ عام 1941 استهدفت صياغة نظام اقتصادي عالمي يقوم على تحرير الحركة التجارية، وانبثق عن ذلك تأسيس صندوق النقد الدولي والمصرف المالي العالمي عام 1944 بصياغةٍ ترسخ سيطرة من يملك السلاح والمال معا، وتلت ذلك صياغة "الاتفاقية العامة للتجارة والجمارك" عام 1948، ومنذ ذلك الحين أصبح مدخل أي دولة إلى النظام الاقتصادي رهنا إما بالانضمام إلى الإطار العام للهيمنة أو الانضواء تحت جناحها.
ولكن كانت في هذا النظام الطبقي الدولي ثغرة فتح الأبواب أمام أي دولة تصعد اقتصاديا وماليا لتأخذ مكانا لها بين القوى الدولية، وهنا يعتبر الكاتب صعود اليابان من بين دول الشرق بداية النهاية للسيطرة الاحتكارية الغربية عالميا.
الثغرة الواحدة أصبحت ثغرات
من هذا المنطلق التاريخي للهيمنة الغربية وجذورها الأولى في النهضة الأوروبية وركائز تثبيتها الأمريكية عبر القرن الميلادي العشرين، ينتقل الكاتب في الفصل الثاني إلى طرح صورة المتغيرات في الواقع العالمي المعاصر تحت عنوان "القوى الدولية الجديدة"، بادئاً بما كشفته الأزمة الرأسمالية العالمية؛ فمع انهيار المصارف المالية الأمريكية الكبرى في سبتمبر 2008 بدأ العالم المالي الغربي يستنجد بمراكز المال العالمي الأخرى، في شنغهاي وبومباي ودبي، بل أصبح الاحتياطي النقدي الكبير في الصين "طوق النجاة" للنظام المالي الغربي المهيمن عالمياً، ولا ريب أن النتائج الأبعد مدى ستظهر في السنوات التالية، مع صعود قوى جديدة، وقد بدأت بوادره بالفعل على قائمة تصنيف "الاقتصادات الوطنية" العالمية، فصعدت سنغافورة مثلا من المركز 59 إلى 44، وكوريا الجنوبية من 23 إلى 13، والصين الشعبية من رقم 10 إلى 4.وترى الدراسات المستقبلية أن الدول العشرة الأكبر اقتصاديا كانت تضم سبع دول غربية، ولن تضم عام 2050 سوى 3 دول غربية فقط، وآنذاك ستحتل رأس القائمة الصين أو الولايات المتحدة الأمريكية، تليها الهند فاليابان فالبرازيل فإندونيسيا فالمكسيك، وجميعها قبل ألمانيا وبريطانيا ثم فرنسا أو روسيا. وينوه الكاتب هنا بما سيطرأ على منظومة القيم عالميا، مستشهداً بما انتشر في بداية التسعينات من القرن الميلادي العشرين، وكانت نقطة انطلاقه من ماليزيا وسنغافورة، على خطى الصين والهند.
ويبدأ الفصل الثالث حول "اهتراء السيطرة الغربية" بمؤشرات رمزية، كالخرائط المستخدمة في الشرق حاليا، حيث لا تحتل أوروبا مركز "الوسط" عالميا، وحيث تتحول أمريكا إلى "الشرق الأقصى" بمنظور القوى الآسيوية الناهضة.. والمثال الرمزي الآخر استقبال الرئيس الباكستاني السابق مشرف في بروكسيل استقبالا حافلا، لا يحظى بمثله رئيس دولة نامية، والسبب بنظر الكاتب أن باكستان أصبحت دولة نووية، ويشير هنا إلى الملفين النوويين لكوريا الشمالية وإيران مع تطوير صواريخ بعيدة المدى، وما يعنيه اختراق "الجدار النووي" الذي اعتمد الغرب عليه حتى الآن، ويقول إن إحساس الغرب بالرعب إذا امتلكت دول أخرى القدرة على تهديد عواصم غربية، "يذكر موضوعيا بمفعول الردع المتبادل خلال الحرب الباردة"، والشاهد على ذلك إعلان حكومة بوش التمسك بالحل الدبلوماسي في الملف النووي لكوريا الشمالية، أثناء حربه ضد العراق بدعوى سعيه لامتلاك أسلحة نووية، فالمصادر الأمريكية تفسر ذلك بقوة الردع العسكرية التي وصلت كوريا الشمالية إليها. والمهم الحصيلة، وهي أن مفعول الهيمنة الغربية بات مقتصرا على التصرف بمصائر بلدان فقيرة أو ضعيفة أصلا، كأفغانستان والعراق والصومال والبوسنة وكوسوفا.
ولا يستهان هنا بالمغزى من عجز الأمريكيين عن تحقيق أهداف سياسية بعد نصر عسكري مبدئي في حرب احتلال العراق، وهذا مقابل استفادة الصين بتطوير نفسها عسكريا على ضوء ما كشفته الأساليب الحربية المتبعة، فأصبحت الجوانب الإلكترونية محور اهتمام الصين عسكرياً.
الهيمنة الغربية.. تاريخ يوشك أن ينقضي
يرى الكاتب في النفط والغاز وفي حصيلة الأزمة الرأسمالية وفي تطور عدد السكان بين منطقة وأخرى، أسبابا أخرى لتبدل موازين القوى الدولية، وفي جميع هذه الميادين تزداد مظاهر "اهتراء" السيطرة الغربية عالميا، ويكفي التنويه بما أنجزته الصين عبر استثماراتها وبضائعها في أنحاء العالم، وارثة المواقع الغربية.ويعتبر بوسَي لقاء مجموعة العشرين عام 2008 مؤشرا آخر لترسيخ "قواعد جديدة للعبة السياسية الدولية"، رغم أنها تأسست عام 1999، ويستبعد أن يكون لتوسيع مجلس الأمن الدولي المحتمل تأثير، فلو حصل لن تتبدل القاعدة المسيطرة عليه والتي تجسد أوضاعا عالمية قبل أربعين عاما، وستبقى السياسة الدولية عموما سياسة طبقية، على نقيض نموذج العلاقات البينية داخل العالم الغربي، ولن تزول الطبقية بصعود الصين إلى مستوى قطب دولي، فهي تمارس الطبقية السياسية داخليا وإقليميا منذ زمن طويل.
إن اهتراء سلطان الغرب عالميا عملية تدريجية ولكنها مستمرة وفق رؤية الكاتب في مطلع الفصل الرابع، حيث يبحث عن سبل "دفاعية"، مشيرا إلى أن اضمحلال معالم النظام العالمي وفق صياغة الغرب له، لا يعني انعدام تأثير الغرب مستقبلا، وهذا ما ينبغي الانطلاق منه. ولكن يظهر هنا الهدف من الكتاب بوضوح أكبر، فليس القصد أن يتلاءم الغرب مع معطيات دولية جديدة، بقدر ما ينبغي وفق رؤية الكاتب أن يسعى للحفاظ على "مكانة" دولية ولو بالقوة، وهذا مما يؤخذ من الانتقاد الشديد والمطول لمعارضة غالبية سكان ألمانيا للمشاركة العسكرية في مهام دولية، فبدون ذلك لا تستطيع ألمانيا أن تضمن لنفسها مكانة دولية مع تزايد أقطاب الصراع عالميا، وشبيه ذلك يسري على الاتحاد الأوروبي المنقسم على نفسه في سياساته الخارجية.
وبصيغة أقرب إلى القنوط يقول الكاتب: "إن الحروب الأخيرة أظهرت الحدود الحقيقية للقدرات الأمريكية، وسببت الانشقاق داخل حلف شمال الأطلسي، ولهذا لن يكون التدخل الروسي في جورجيا آخر مظهر من مظاهر انحسار قدرة الحلف وبالتالي قدرة الغرب على التصرف. وستبقى الحصيلة أن العجز عن توحيد الرؤى الغربية على أرضية مشتركة، سيعجّل في نشأة أوضاع دولية وفق إرادة قوى جديدة تجعل من سيطرة الغرب عالميا حقبة تاريخية انقضت.. أو توشك أن تنقضي".
المصدر
http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=1252188260996&pagename=Zone-Arabic-News/NWALayout