الأستاذ خضير ، بين طموحه الشخصي ، وقسوة الحياة.

طويق (!)

عضو
إنضم
24 مارس 2013
المشاركات
2,979
التفاعل
6,261 53 0
الدولة
Saudi Arabia
في كوكب المريخ ، شرقي صدع إيوس ، نهاية وادي مارينير ، أعلنت شركة ناشئة في مدينة ارست ، عن وظيفة إدارية مهمة فيها ، وكان من بين المتقدمين الأستاذ "خضير"، مما لفت نظر أحد أعضاء لجنة المقابلة ، وقرر ضمه للمترشحين للمقابلة ، لا أدري على ماذا بني قراره، لكني أرجح أنه لم يكن أكثر من فضول عابر. فعرض على المجموعة مقابلته ، وبين أخذ ورفض ، تمت المقابلة ، وما إن رأى المتقدمون أن اللجنة وافقت على مقابلة "خضير"، حتى انسحبوا فوراً، والذي أجزم بأنها ليست عنصرية عرقية أبداً . وصل خبر انسحابهم لرئيس اللجنة ، فالتفت للفضولي بحنق ، فابتسم الفضولي، وقال له : على الأقل ، فـ"خضير" يحمل أسفارا.

استلم "الأستاذ خضير" المكتب ، فعلق عليه شهاداته العلمية والمهنية ، "وسام الصبر من الدرجة الأولى" ، دبلوم "الفكر الجامد" ، بكالوريوس "العمل تحت الضغط"، ماجستير "صفرية المخرجات في سوق العمل" ، ودكتوراه "الجمود الفكري واثره على سرمدية السعادة" ، وأخيراً ، شهادة "وسام المرياع الذهبي" ، وهذه كانت أكبر شهادة يعتز بها في مشوره الوظيفي، لذا ، كانت معلقة خلف كرسيه مباشرة . وكان شعاره الدائم في العمل "انجاز عملي بلا اهتزازات فكرية" ، لاحظ الموظفون ، صرامة هذا الشعار في قراراته ، في انفعالاته ، في حتى ردوده على التقارير ، سواء للموظفين ، أو الإدارة العليا ، وكانت فلسفته في تقديس الماضي ، أن يسير إلى الأمام، ولكن بالاتجاه الخلفي، فهو لا يهمل الماضي لأنه لا يرفع عينيه عنه، ولا يضيع المستقبل، لأنه ببساطة لا يفكر فيه!!.

في يوم ، وقف موظفين في مكتب الأستاذ خضير الفارغ، حيث كان مشغولا في تحضير أكواب القهوة ، وتعديل وتنظيف الكراسي ، وفتح الستارة ، وترتيب قوارير الماء مقابل كل كرسي في قاعة الاجتماع ، وذلك قبل حضور أعضاء مجلس الإدارة لاجتماعهم الأسبوعي. فسأل أحد الموظفين الآخر ، ما قصة "وسام المرياع الذهبي" هذا؟!. فقال الثاني: هذه شهادة تقدير شرفية ، حصل عليها خضير ، في تدريب عملي ، بعد نيله شهادة الدكتورة ، حيث قاد قطيعا من الغنم في إحدى القرى ، في سهول سيرتيس الكبرى ، لمدة خمس سنوات بلا أجر.​
 
(2)


المرياع الأخير.

عندما رجع الأستاذ خضير مكتبه ، وجلس على الكرسي ، أمال جسده فيه للأسفل ، ورأسه للأعلى ، وعيناه مسمرتان في السقف ، استحضر لحظة وقوفه، قبل قليل، بعد أن أنهى تجهيز قاعة الاجتماع ، مكتف اليدين، بابتسامة باهتة، وإيماءات ترحيب للأعضاء عند دخولهم. فقد كان ينتظر إشارة للمشاركة، أو حتى إيماءة عابرة ، لعل وعسى. لكن، وكالعادة، جاءه الطلب المعتاد : "في أمان الله يا أبا صابر ، وأغلق الباب خلفك".

في هذه اللحظة ، وهو يعيد الذاكرة ، راح يردد في باطنه ، اغنية حزينة ، حفظها من تراث غربي صدع إيوس ، وشيئا فشيئاً ، بدأ الصوت يرتفع ، ثم ، وفجأة ، يخترق صوته "الجهوري" ، بمقام بيات موجع ، من "ري" إلى "مي" ، وبانطلاقة كالرصاصة في السكون ، يردد الأغنية بصوت عال.
وبلحظة سريعة ، يرن الخط الداخلي ، قاعة الاجتماعات ، لينظر له خضير ، بيعين الفرح والأمل ، والترقب القديم ، لعل وعسى.
رئيس المجلس : "الصوت" يا أبا صابر ، يا رعاك الله!!.
خضير : تبشر ياطويل العمر ، مايصير بخاطرك إلا الطيب.
رجع للمكتب ، فتح الدرج ، ليجد روايته المفضلة ، "بالصدفة بلتازار" ، غمره شعور بالحنين لهذه الروية ، وإلى أنها تمثله ، بكل مافيها من تراجيديا الصبر والمأساة ، وعيناه تفيض من الدمع ، فيندب حظه تارة ، وحظ أبناء مدينة كمت تارة أخرى، تلك المدينة الحالمة ، في غربي صدع إيوس ، ويتساءل بحرقة ، كيف رمى بهم الزمن هنا ، ما بين وادي مارينير وسهول سيرتيس الكبرى ، وإذ هو في هذه الحالة ، متقلب بين ندب الحظ ، والحنين للرواية ، دخل عليه أبو زعيق ، شخص من بلدته الأصلية ، كميت ، يعمل معه في الشركة ، يستصرخه:

يا أستاذ خضير هناك من الصق ورقة على لوحة الشركة ، يسب فيها آلهتنا؟! ، ويصفها بخرافات الأولين ، وأنهم كانوا بدو بدائيين.
خضير ، اعتدل فوراً ، وهو مذهول: ماذا تقول؟! .
أبو زعيق ، وبصوت خافت: أن المنشور يستحقر آلهتنا ، ورموزنا ، ولا شك أنه من أحد موظفي ارست ، أو أحد من بلدات سهول سيرتيس.
نهض خضير ، ومعه الممحاة . فإذا بأبي زعيق ، يستوقفه ، ويقول: ماذا تفعل يا أستاذ؟! ، خذ الكماشة ، وإن شئت العتلة ، فالأمر خطير يارجل ، فهذه طعنة في ذاكرتنا وتراثنا ، فالرمح لا يغني عن السيف.
انطلقا ، في المقدمة الأستاذ خضير ، في يده اليمنى العتلة ، وأبو زعيق ، ينظر له من الخلف ، بفخر شديد ، وهو يقول في نفسه ، وعيناه تفيض من الدمع : انت المرياع الأخير يا أستاذ خضير ، فحفظك الله لنا.​
 
اطلع على هذا الموضوع احد الأصدقاء ، وطلب مني إعادة صياغته ، بعد أن ذكرت له أنه نتاج عاطفة لحظية ، بودي أن أفعل ، ولكني أخشى مقص الرقيب.​
 
عودة
أعلى