بسم الله الرحمن الرحيم
في صباحٍ مشمس من أيام الحرب، يوم 8 يونيو 1967، كانت السفينة الأمريكية USS Liberty تمخر عباب البحر المتوسط، ترفع علم الولايات المتحدة بوضوح لا لبس فيه، وتبحر في المياه الدولية قبالة شواطئ العريش في سيناء. لم يكن طاقمها يتوقع أن تتحول مهمتهم الاستخباراتية إلى مأساة دموية، وأن تكتب أسماؤهم في واحدة من أخطر المؤامرات السياسية في القرن العشرين.
تعريف بالسفينة USS Liberty
USS Liberty (AGTR-5) هي سفينة استخبارات إلكترونية تابعة للبحرية الأمريكية، كانت جزءًا من برنامج سفن "الاستخبارات التقنية العامة" التابع لوكالة الأمن القومي NSA. تم بناؤها في الأصل كسفينة شحن من فئة Liberty في عام 1945 تحت اسم SS Simmons Victory، ثم أعيد تصنيفها وتجهيزها لأغراض استخباراتية عام 1963.
المواصفات الفنية:
- الطول: 455 قدمًا (138.7 مترًا)
- العرض: 62 قدمًا (18.9 مترًا)
- الإزاحة: حوالي 11,000 طن بعد التعديل
- السرعة القصوى: 18 عقدة
- الطاقم: 294 فردًا، منهم أكثر من 200 مختص في التنصت الإلكتروني
تم تجهيز السفينة بأجهزة راديو، أنظمة تنصت متطورة، وهوائيات متعددة لرصد الاتصالات السلكية واللاسلكية، وأجهزة تشفير وتحليل الإشارات. كانت واحدة من أكثر السفن تقدمًا في مهام SIGINT (الاستخبارات الإشارية) في زمنها.
العمليات السابقة:
قبل مهمة 1967، شاركت Liberty في عدد من المهمات الاستخباراتية في المياه الدولية، منها مراقبة الاتصالات خلال الأزمات السياسية في أفريقيا وغرب أوروبا. كانت مهمتها تتمثل في التنصت دون الدخول في مواجهات مباشرة، ما جعلها تبدو دائمًا بعيدة عن الصراع المباشر حتى لحظة استهدافها.
"Liberty لم تكن أبدًا سفينة قتال، بل سفينة آذان وعقول، لا مدافع." – تعليق من أرشيف NSA.
خلفية استخباراتية: ماذا كانت Liberty تفعل؟
لم تكن Liberty مجرد سفينة عسكرية، بل كانت عقلًا إلكترونيًا تابعًا لوكالة الأمن القومي الأمريكي NSA. تحمل على متنها أكثر من 200 من محللي الإشارات والمتخصصين في الاعتراض الراديوي، وكانت مهمتها اعتراض وتحليل الاتصالات في منطقة الشرق الأوسط خلال ذروة الصراع العربي الإسرائيلي. موقعها المثالي قبالة سيناء منحها قدرة استثنائية على التنصت على المكالمات بين القوات المصرية والإسرائيلية، وحتى اتصالات القيادة العليا.
"كانت Liberty أشبه بقمر صناعي عائم، تستمع لكل همسة في المنطقة" – من تقرير لوكالة الأمن القومي.
مسار السفينة الحربية الأمريكية ليبرتي، 8 يونيو 1967. تعكس المخططات الموجودة على هذه الخريطة مواقع السفينة الحربية الأمريكية ليبرتي كل ساعة، كما هو مسجل في سجل السفينة.
إسرائيل تتحرك: مخاوف من كشف أسرار قاتلة
في الأيام الأولى من الحرب، وقعت مذبحة أسرى مصريين في منطقة العريش على يد القوات الإسرائيلية، وهي جريمة لم يُكشف عنها رسميًا لعقود. ولكن Liberty، حسب محللين أمريكيين، التقطت إشارات تفضح ما جرى.
بالنسبة لإسرائيل، وجود Liberty في هذا التوقيت والمكان، يعادل كاميرا أمنية سجلت كل شيء، ولا يمكن تدمير تسجيلاتها إلا بإسكات الكاميرا بمن عليها.
▸ أبرز الحوادث الموثقة:
- مذبحة العريش: أُجبر الجنود المصريون على خلع ملابسهم وحُشروا في صفوف، ثم تم إطلاق النار عليهم جماعيًا. لاحقًا، وثّق صحفيون وشهود عيان وجود مقابر جماعية تم حفرها بسرعة لدفن الجثث.
- فيديو أرنون (1981): نشر المصور العسكري الإسرائيلي "دافيد أرنون" لاحقًا مقطعًا يُظهر جنودًا إسرائيليين وهم يحيطون بأسرى مصريين عُزّل. وقد أزيل لاحقًا من الأرشيف الرسمي بعد ضغوط سياسية.
- شهادة الجندي موشيه جيفن: ورد في مذكراته أنه تلقى أوامر "بإطلاق النار على كل من لا يرفع يديه"، في إشارة واضحة لمذبحة ممنهجة.
▸ علاقة USS Liberty:
تفيد تقارير استخباراتية أن USS Liberty كانت تلتقط إشارات لاسلكية ومكالمات داخلية إسرائيلية حول مواقع تمركز الأسرى المصريين و"الإجراءات الأمنية حولهم"، وهو ما يرجح أن السفينة سجلت أدلة صوتية على المجازر.
"كانت هناك إشارات مشفرة تم فكها لاحقًا تتحدث بوضوح عن التخلص من 'العبء البشري'" – من تحليل NSA غير المعلن.
بداية الهجوم: دقيقة بدقيقة
عند الساعة 13:58، انقضت طائرات ميراج الإسرائيلية على Liberty، رغم أنها كانت ترفع العلم الأمريكي بوضوح، وتُعرّف نفسها بأجهزة البث الخاصة بها. الهجوم استمر حوالي 25 دقيقة بالطائرات، تبعه قصف مباشر من ثلاثة زوارق طوربيد إسرائيلية.
"لقد هاجمونا وكأنهم يعرفون تمامًا من نكون، كانوا يضربون غرفة الاتصالات، أنظمة البث، الهوائيات، كل شيء يدل على من نحن" – شهادة الناجي بوب كاري.
تم إطلاق خمسة طوربيدات، أصاب أحدها السفينة، محدثًا فجوة ضخمة. ثم أُطلقت نيران الرشاشات على قوارب النجاة، وهي جريمة حرب لا لبس فيها.
تُظهر هذه الخريطة مدى شبكة الدفاع الراداري الساحلية الإسرائيلية. كان مسار سفينة يو إس إس ليبرتي خلال معظم ساعات نهار 8 يونيو التي سبقت الهجوم ضمن نطاق تغطية الرادار الإسرائيلي. كانت يو إس إس ليبرتي أكبر هدف راداري في هذه المنطقة.
فضيحة "False Flag": من خليج تونكين إلى شواطئ سيناء
في عام 1964، استخدمت الولايات المتحدة حادثة مزعومة في خليج تونكين لتبرير دخولها حرب فيتنام. تم الادعاء أن قوارب فيتنامية شمالية هاجمت المدمرة USS Maddox، رغم أن تقارير لاحقة نفت حدوث الهجوم بالصورة المعلنة.
"حادثة تونكين كانت الكذبة التي أطلقت 58 ألف جندي أمريكي نحو الموت. وكان يُراد لليبرتي أن تكون كذبة جديدة ضد مصر" – من تحليل مركز Wilson Center.
P-4 فيتنامية شمالية تهاجم يو إس إس مادوكس، 2 أغسطس 1964
السيناريو الإسرائيلي في 1967 كان واضحًا:
- تُغرق السفينة،
- يُعلن أن طائرات MIG-17 المصرية نفذت الهجوم (وهي طائرات تملك إسرائيل بعضها سريًا!)،
- تُفبرك الأدلة،
- ترد أمريكا بقوة ضد مصر.
"لدينا أدلة تشير إلى أن إسرائيل كانت تخطط لاستخدام طائرات مصرية استولت عليها سابقًا لتضرب بها السفينة، كي يبدو الهجوم مصريًا بالكامل." – شهادة محلل استخباراتي سابق أمام لجنة سرية للكونغرس.
لماذا فشل المخطط؟
نجا أحد أجهزة الاتصال الثانوية في السفينة، وأرسل نداء استغاثة إلى الأسطول السادس. أقلعت طائرات أمريكية من حاملة "ساراتوغا" للرد، لكن صدر أمر بالانسحاب في اللحظات الأخيرة.
"كنا على بعد دقائق من الوصول، وصدرت لنا أوامر بالعودة. شيء ما كان يحدث خلف الكواليس" – شهادة قائد الطيران.
الرئيس جونسون، حسب شهادات لاحقة، خشي من توتر العلاقات مع إسرائيل، خاصة في ظل نفوذ اللوبي المؤيد لها، فتوقف التحقيق الفعلي، وتم دفن الأدلة.
خلفية تاريخية: ليس أول محاولة إسرائيلية
في عام 1954، نفذت إسرائيل عملية "سوزانا" (الشهيرة بفضيحة لافون)، حين فجرت مجموعة من عملائها أهدافًا أمريكية وبريطانية في القاهرة والإسكندرية، بهدف إلصاق التهمة بمتطرفين مصريين. الهدف كان مشابهًا: تبرير التدخل الغربي.
"حين تكون المصالح على المحك، قد تتحول الصداقة إلى عباءة تُخبئ خنجرًا." – وصف استخباراتي للحوادث المتكررة.
المتورطين في فضيحة لافون
إسرائيل تنكر، وأمريكا تصمت
رغم الأدلة، زعمت إسرائيل أن الهجوم كان عن طريق الخطأ، وأنهم اعتقدوا أن السفينة مصرية. التحقيقات الأمريكية لم تُعرض على العلن بالكامل، والطاقم المُصاب لم يُسمح له بالشهادة أمام الكونغرس بحرية.
لكن القبطان ويليام ماكغوناغل، الذي نجا بأعجوبة، ظل يطالب بكشف الحقيقة حتى وفاته:
"لم يكن خطأ. كانوا يعرفون تمامًا من نحن. لقد أرادوا قتلنا جميعًا... ولم يُرد أحد في واشنطن سماع ذلك."
القبطان ماكجوناجل يشير إلى الأضرار التي لحقت بالسفينة الحربية يو إس إس ليبرتي.
موقف مصر وتحقيقات الكونغرس
في القاهرة، ورغم الانشغال بالهزيمة الثقيلة في الحرب، رصدت القيادة المصرية أنباء الهجوم، دون تفاصيل مؤكدة. بعض الأصوات الإعلامية أشارت إلى "محاولة لإلصاق التهمة بمصر"، لكن تم تجاهل الملف دوليًا. في المقابل، أُجري تحقيق أولي من قبل البحرية الأمريكية، تلته تحقيقات متعددة مغلقة في الكونغرس، أبرزها في عامي 1979 و2003.
"لم يُسمح للشهود بالإدلاء بشهاداتهم بحرية، وواجهنا تكتيمًا رسميًا مخيفًا." – من شهادة النائب John Conyers، لجنة الخدمات المسلحة.
عدد من المحللين في الكونغرس شككوا في صدق الرواية الإسرائيلية، لكن الضغط السياسي والإعلامي حال دون اتخاذ موقف رسمي صارم.
ما بعد الكارثة: مكافأة بدل إدانة؟
بدل أن تعاقب واشنطن إسرائيل، قامت في العام التالي بتزويدها بطائرات F-4 Phantom، وزادت من دعمها العسكري. لم تُصدر الإدارة الأمريكية أي إدانة حقيقية، وتم تكريم قبطان Liberty بشكل سري دون تغطية إعلامية.
"عندما يكون القاتل حليفًا، يتم دفن الضحية مع الحقيقة" – صحفي أمريكي.
ماذا لو نجح السيناريو؟
لو نجح الهجوم بشكل كامل، وغرقت السفينة دون شهود، كانت الرواية الإسرائيلية ستمر بسهولة، وكانت أمريكا سترد بقصف أهداف مصرية.
ربما كان مفاعل إنشاص يُقصف، وربما كانت القاهرة تحت قنابل الطائرات الأمريكية. السيناريو كان على وشك التنفيذ، وما أنقذ المنطقة من حرب عالمية ثالثة هو الصدفة وحدها.
خاتمة:
في عالم السياسة، لا تكفي الحقيقة وحدها لتحمي الأبرياء. حادثة USS Liberty تُظهر كيف يمكن أن يتحول الحليف إلى خطر، والصمت إلى خيانة، والمصالح إلى سيف يُسلّط على رقاب الأبرياء.
"حين يصبح الحليف قاتلاً، ويصبح الشاهد ضحية، تبقى الحقيقة وحدها تسبح ضد التيار."