في يونيو 2025، وخلال فعاليات معرض لوبورجيه للطيران والدفاع، أعلنت شركة Turgis & Gaillard الفرنسية عن دخولها الرسمي إلى سوق أنظمة المدفعية الصاروخية متعددة القنوات من خلال راجمة الصواريخ الجديدة التي حملت اسم "الصاعقة". هذا النظام، الذي جرى تطويره في سرية شبه تامة على مدى عامين، يمثل أول محاولة فرنسية مستقلة لمنافسة نظام HIMARS الأمريكي، وملء الفراغ الذي سيتركه تقاعد أنظمة LRU الفرنسية مع نهاية 2027.
السياق الاستراتيجي لتطوير النظام
تطوير "الصاعقة" ليس مجرد استثمار صناعي، بل هو استجابة مباشرة لتحوّلات البيئة الاستراتيجية التي تواجهها فرنسا وأوروبا. فمع تنامي التهديدات المتماثلة وغير المتماثلة، وعودة الحرب البرية الواسعة النطاق إلى القارة الأوروبية (كما في أوكرانيا)، برزت الحاجة الماسة إلى تعزيز قدرات الضربات الأرضية الدقيقة بعيدة المدى.
أنظمة LRU (Lance-Roquettes Unitaire)، التي تعد النسخة الفرنسية من M270 الأمريكية، أصبحت غير قابلة للترقية المجدية تقنيًا أو ماليًا، في ظل استهلاك مخزوناتها وتآكل بنيتها الميكانيكية. ومع تسليم أربع وحدات منها إلى أوكرانيا، وبقاء عدد محدود فقط قيد الخدمة، وجدت القوات البرية الفرنسية نفسها على حافة فجوة نارية حرجة في قدرتها على تنفيذ ضربات دقيقة على عمق يتجاوز 70 كم.
الهيكلية والمنصة
راجمة "الصاعقة" تعتمد على منصة مدولبة 6x6 مشتقة من شاسيه Renault Kerax العسكري، ما يمنحها قابلية عالية للانتشار الاستراتيجي والتكتيكي، خصوصًا في بيئات ذات بنى تحتية محدودة. هذا يجعلها أكثر مرونة مقارنة بالأنظمة المجنزرة الثقيلة التي تتطلب وسائل نقل متخصصة. ويمكن تحميل "الصاعقة" داخل طائرة C-130، ما يفتح أمامها آفاقًا لعمليات الإنزال الجوي السريع والتدخلات البعيدة.
وزن المنظومة فارغًا لا يتجاوز 18 طناً، في حين يصل الوزن القتالي إلى حدود 26 طناً حسب الحمولة التسليحية ونوع الذخيرة. وتتمتع بمعدل تسارع مقبول على الطرق المعبدة، مع قدرة على العمل الميداني في تضاريس غير ممهدة بفضل نظام تعليق مستقل ونظام ضغط إطارات مركزي قابل للتحكم.
وحدة الإطلاق والتسليح
تعتمد وحدة الإطلاق في "الصاعقة" على حاوية إطلاق معيارية قابلة للتبديل، تسمح بتحميل أنواع متعددة من الذخائر. حاليًا، يجري اختبار النظام باستخدام ذخائر M31A1 من عيار 227 ملم، وهي ذخائر موجّهة بنظام GPS/INS ويصل مداها إلى 70–85 كم بدقة إصابة دون 10 أمتار (CEP).
كما تم تصميم النظام ليكون متوافقًا مع الذخائر الأحدث مثل PrSM (Precision Strike Missile)، التي تطورها شركة Lockheed Martin، والتي توفر مدى يتجاوز 500 كم مع إمكانية تحميل رأسي حربي متفجر واحد أو حشوات اختراق. التخطيط على المدى المتوسط يشمل قابلية دمج صواريخ كروز أرض-أرض بمدى عملياتي يصل إلى 1000–2000 كم، ما يجعل "الصاعقة" منصة هجومية استراتيجية.
أنظمة القيادة والتحكم والتكامل الشبكي
من أهم نقاط قوة "الصاعقة" هي تكاملها الكامل مع منظومات ISR (الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع) ومنظومات C4I. فهي ترتبط مباشرة بمنصة الاستطلاع الجوي "Aarok"، وهي درون MALE (متوسط الارتفاع طويل التحمل) يوفر قدرة استخباراتية حية في الزمن الحقيقي. كما تستفيد من نظام ODIN، وهو حزمة اتصالات تكتيكية تتيح ربط فِرق النيران بوحدات الاستطلاع ومراكز القيادة، باستخدام روابط بيانات مؤمّنة عالية السعة.
هذا التكامل الشبكي يُمكّن النظام من الاشتراك في حلقات "الاستهداف الديناميكي" Dynamic Targeting، وتفعيل دائرة F2T2EA (Find, Fix, Track, Target, Engage, Assess)
بشكل فعّال، ما يتيح استجابة نارية في غضون دقائق من اكتشاف الهدف.
أنماط التشغيل والدعم اللوجستي
تم تصميم "الصاعقة" لتعمل بوضعية تشغيل مستقلة (Stand-alone) أو كجزء من بطارية متكاملة تضم وحدات دعم لوجستي، وإعادة تذخير، ونقل ذخائر. النظام يعمل بطاقم من شخصين فقط بفضل مستوى الأتمتة العالي، مع واجهات تشغيل رقمية بالكامل ودعم للقيادة النصف ذاتية في الحالات الميدانية المعقدة.
يتميز النظام بقدرة إعادة التذخير السريعة خلال أقل من 15 دقيقة، سواء عبر الذراع الآلية المدمجة أو من خلال وسائل الدعم الأرضي. كما أن توقيت الخروج من موقع الرمي وإعادة التمركز لا يتجاوز 90 ثانية، ما يمنحه قدرة عالية على المناورة النارية وتفادي الرصد المعادي.
الجدوى الاقتصادية والاستقلالية الصناعية
يمثل "الصاعقة" استثمارًا فريدًا من نوعه في القطاع الدفاعي الفرنسي، إذ تم تمويله بالكامل من ميزانية الشركة دون دعم حكومي مباشر، على غرار ما هو شائع في المشاريع الدفاعية الكبرى. هذا النموذج من التمويل الذاتي يمنح Turgis & Gaillard حرية أكبر في التطوير، كما يقلل من أعباء البيروقراطية المرتبطة بالمشتريات العسكرية.
وبالنظر إلى التكلفة المتوقعة لمنظومة "الصاعقة" مقارنة بمنظومات HIMARS الأميركية أو K239 الكورية، فإن المنظومة تقدم حلاً أكثر تنافسية من حيث السعر والكفاءة التشغيلية، ما يعزز فرصها في التصدير، خاصة للدول الأوروبية الراغبة في حلول غير أميركية.
آفاق التصدير والتكامل الأوروبي
تسعى الشركة المنتجة إلى دمج المنظومة ضمن مشروع ELSA (European Long-Range Strike Approach)، وهو مشروع أوروبي يهدف إلى توفير بديل قاري مستقل عن المنظومات الأميركية في مجال الضربات بعيدة المدى. وتُجري الشركة محادثات مع عدة شركاء أوروبيين، من بينهم ألمانيا، إيطاليا، وبولندا.
كما يُنتظر أن تتقدم المنظومة في عروض التسلّح المُقدّمة لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، خاصةً تلك التي تبحث عن بدائل تتماشى مع شروط سيادية مرنة ولا تخضع لقيود الاستخدام الصارمة المفروضة من واشنطن.
تمثّل "الصاعقة" أكثر من مجرد راجمة صواريخ فرنسية؛ إنها تجسيد لتحوّل في عقيدة الدفاع الأوروبية نحو حلول مرنة، شبكية، وذات مدى ممتد، دون الارتهان للصناعة الأميركية. وإذا ما أثبتت المنظومة نجاحها في اختبارات النيران الحية المخطط لها في 2026، فإنها قد تشكل نقطة تحوّل في ميدان المدفعية الصاروخية الأوروبية وتعيد رسم موازين التسليح في حلف الناتو.
في عالم تُعاد فيه صياغة مفاهيم النيران المشتركة والضربات ما فوق الخطوط الأمامية، تضع "الصاعقة" فرنسا في موقع متقدّم ضمن سباق إعادة تشكيل البيئة القتالية الحديثة.