سياسة التواضع في شرق أوسط مُدمَّر

Think Tanks

عضو
إنضم
2 يناير 2024
المشاركات
1,892
التفاعل
3,195 52 4
الدولة
Egypt
سياسة-التواضع-في-شرق-أوسط-مُدمَّر-970x695.jpg

يعيش الشرق الأوسط منذ يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 لحظات فارقة، حيث قامت حركة حماس الفلسطينية بهجوم مفاجئ على إسرائيل خلّف كثيرًا من القتلى والأسرى، فيما ردت تل أبيب بإطلاق واحدة من أكبر عمليات الإبادة ضد المدنيين الفلسطينيين داخل قطاع غزة، وخلفت عشرات الألوف من الشهداء والمصابيين والمشردين، كما شنت حربًا واسعة النطاق على جنوب لبنان، واحتلت قراه، وقامت بعدة ضربات جوية ضد جماعة أنصار الله الحوثي في اليمن، بالإضافة إلى استهداف الوجود الإيراني في سوريا قبل سقوط نظام الأسد، والآن تتوسع في منطقة الجولان السوري، وتحتل أراضي جديدة، وحاليًا يتوقف العمل العسكري الإسرائيلي باتفاقات مشروطة في لبنان وقطاع غزة، ومن المتوقع أن تشهد سوريا كذلك تقديم شروط لوقف العمليات العسكرية التوسعية، ومع وجود الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترمب ستجد إسرائيل دعمًا واسعًا لسياستها العنيفة، فماذا يمكن للبلدان العربية المُستهدفة أن تفعل سياسيًّا لمحاولة تقليل هذه الخسائر الكبيرة؟ وماذا يخبرنا التاريخ عن سياسات الشعوب المهزومة؟

في السادس والعشرين من مارس (آذار) 1946 وقف الألماني كونراد أديناور في القاعة الرئيسة المتضررة بشدة من جراء قصف الحلفاء لجامعة كولونيا أمام جمهور من الآلاف قائلًا: “كيف كان من الممكن أن يصل النازيون إلى السلطة لولا دعمكم؟ لقد ارتكبنا جرائم كُبرى، والآن عليكم الاعتراف بأن هذا ماضيكم من أجل إيجاد طريق نحو مستقبلكم”. كانت هذه الكلمات تمثل الخطوات الأولى للسياسي والمستشار الألماني الأول بعد الحرب العالمية الثانية كونراد أديناور (1876- 1967) الذي تحمل مسؤولية استعادة الكرامة والشرعية للمجتمع الألماني المحطم، الذي أصابته الهزيمة العسكرية الكاملة باستسلام غير مشروط، إلى جانب خسارته الكاملة للشرعية الأخلاقية والدولية.

وفي خطاب قبول قصير لمنصب المستشارية، أكد أديناور أنه وافق على قانون الاحتلال، وغيره من القيود المفروضة على السيادة التي قسمت ألمانيا إلى نصفين بين الولايات المتحدة والغرب والاتحاد السوفيتي، وأنه سيعمل في ضوء ما أُعلِنَ في إحدى خطبه السياسية باسم “إستراتيجية التواضع”، التي يمكن تلخيصها مِن خطابه أمام البرلمان الألماني (البوندستاغ) في الرابع والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني) 1949: “إنني أعتقد أنه يتعين علينا في كل ما نقوم به أن ندرك بوضوح أننا أصبحنا بلا قوة نتيجة للانهيار الكامل، ويتعين علينا أن ندرك بوضوح أن اللحظة النفسية تؤدي دورًا كبيرًا في المفاوضات التي يتعين علينا -نحن الألمان- أن نجريها مع الحلفاء من أجل الوصول تدريجيًّا للحصول على أي مكاسب، ولا يجوز لنا أن نطالب بالثقة ونتوقعها منذ البداية، ولا يجوز لنا أن نفترض أن الآخرين قد تغيروا فجأة تغيرًا تامًّا في المزاج تجاه ألمانيا، بل إن الثقة لا يمكن استعادتها إلا ببطء”.

كان أديناور مدركًا أن الخضوع فعل مؤقت، وأن الأهم استغلال الظروف لنهاية عدم المساواة أمام قوى الحلفاء، لكن ضغط القوى السياسية الألمانية عليه، واستهجانها تصرفاته إلى حد وصفه بأنه “مستشار الحلفاء”، دفعاه ذات مرة إلى الصراخ في البرلمانيين: “مَن تعتقدون أنه خسر الحرب؟”. كان يدرك في هذه اللحظة أن الخضوع هو السبيل الوحيد للمضي قدمًا، قائلًا: “أخبرني الحلفاء أن تفكيك المصانع الألمانية لن يتوقف إلا إذا استوفيت رغبة الحلفاء في الأمن”. في تلك الأثناء كانت السياسة الفرنسية تهدف إلى تعطيل الإنتاج الصناعي الألماني، ووضع منطقة “سار” تحت السيطرة الفرنسية؛ لذا كان الهدف الأساسي لأديناور هو المصالحة مع فرنسا وتهدئة مخاوفها، وبالفعل التقى بروبرت شومان، وزير خارجية فرنسا آنذاك، لأول مرة في عام 1948.

وقد أكد أديناور أن التعاون مع التدابير العقابية المختلفة التي فرضها الحلفاء كان المسار الحكيم الوحيد. وفي الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) 1949، وفي مقابلة صحفية أعلن: إذا أظهرنا رد فعل سلبيًّا تجاه قانون الاحتلال، فإن فرنسا سوف تفسر هذا بوصفه علامة على القومية الألمانية، وعملًا من أعمال التحدي الذي سيولد رد فعل، وهو ما يجب تجنبه الآن”، فقد كان قانون الاحتلال، الذي صدر قبل أسبوعين من تأسيس الجمهورية الاتحادية في مايو (أيار) 1949، أعلى من القانون الأساسي، وفرض شروطًا قاسية على ألمانيا.

وبدأت إستراتيجية التواضع لأديناور تُثبت فعاليتها؛ ففي وقت لاحق من عام 1949، دعاه الحلفاء إلى التفاوض على علاقة جديدة مع سلطة الاحتلال، وتقليص عدد المصانع المقرر تفكيكها، وفي منتصف عام 1950، طرح الوزير الفرنسي روبرت شومان، الحريص على ربط ألمانيا بفرنسا، خطة لإنشاء الجماعة الأوروبية للفحم والصلب (مهددت للاتحاد الأوروبي)، التي كانت في ظاهرها سوقًا مشتركة لهذه السلع، ولكن هدفها الأساسي كان سياسيًّا. وبمثل هذه الاتفاقية، أعلن شومان أن “الحرب بين فرنسا وألمانيا لم تصبح مجرد أمر من الماضي، بل أصبحت مستحيلة”. وفي مؤتمر صحفي، أيد أديناور الخطة بعبارات مماثلة، قائلًا إنها “خلقت الأساس الحقيقي للقضاء على جميع الصراعات المستقبلية بين فرنسا وألمانيا”.

كان أديناور يرى أن إعادة تسليح ألمانيا أمر ضروري لاستعادة الهوية السياسية، ولكنه في البداية رفض المناقشة العامة بشأن هذا الموضوع حتى لا يتعارض مع حصول ألمانيا على عضوية المؤسسات الأوروبية، لكن حصل على ما أراد؛ ففي أغسطس (آب) 1950، اقترحت بريطانيا والولايات المتحدة رسميًّا إعادة تسليح ألمانيا، وسرعان ما أيدت ألمانيا هذا الاقتراح. في نوفمبر (تشرين الثاني) 1952، قرر الرئيس الأمريكي الجديد أيزنهاور أن توحيد أوروبا ودفاعها المشترك، بما في ذلك جمهورية ألمانيا الاتحادية، هو الحل الأمثل الذي يحقق نوعًا من “الاحتواء المزدوج”؛ إذ يمكن إبعاد الاتحاد السوفيتي عن أوروبا، وإبقاء ألمانيا في أوروبا، دون الخوف مِن أن يتمكن أي منهما من السيطرة على القارة؛ وبهذا، وبعد أقل من عقد من الزمان على الاستسلام غير المشروط، أصبح حلف شمال الأطلسي يتألف من قوات وطنية اتحادية، بما في ذلك القوات الألمانية.

لقد أعاد أديناور بناء القوات المسلحة الألمانية طيلة السنوات المتبقية من ولايته، وبحلول أوائل عام 1964، بلغ تعداد القوات المسلحة الألمانية (415) ألف ضابط وجندي، واعتبرت هذه القوات “رأس الحربة” لحلف شمال الأطلسي، و”محور الدفاع عن أوروبا الغربية ضد أي هجوم سوفيتي تقليدي”. فضلًا عن ذلك، كان الجيش بمنزلة الدعامة الأساسية لعودة جمهورية ألمانيا الاتحادية إلى الدبلوماسية الدولية، وهي إشارة ملموسة إلى أن ألمانيا الجديدة كانت موضع ثقة حلف شمال الأطلسي، فضلًا عن كونها مساهمًا مسؤولًا في الدفاع المشترك عن أوروبا.

ولقد استغل أديناور رأس المال السياسي الذي تراكم في أثناء تشكيل حلف شمال الأطلسي لتحقيق هدفه الأساسي المتمثل في إنهاء احتلال ألمانيا. وللحصول على العضوية الكاملة في حلف شمال الأطلسي، والمضي قدمًا في تفكيك قانون الاحتلال، في الخامس من مايو (أيار) 1955، أصبحت الجمهورية الاتحادية دولة ذات سيادة مرة أخرى. وبعد أن صدّق المفوضون الساميون للحلفاء على انتخاب أديناور قبل ست سنوات، قبلوا الآن رحيلهم، ووقف أديناور على درجات مبنى مكتبه (قصر شاومبورج) ورُفِع العلم الألماني فوق المباني الحكومية في مختلف أنحاء بون، وبهذا أنجز أديناور أولى مهامه الكبرى؛ وهي ضمان نهاية سلمية وسريعة وودية لقانون الاحتلال.

وبعد يومين مِن إنهاء الاحتلال، وفي إطار تجسيد التزام بلاده بالشراكة الكاملة في أوروبا والحلف الأطلسي، قاد أديناور وفدًا إلى باريس، حيث حصلت ألمانيا على عضوية كاملة داخل حلف شمال الأطلسي. وفي غضون ستة أعوام مصيرية، نجح أديناور في نقل بلاده من حالة التقسيم التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، والقيود المُذلة بموجب قانون الاحتلال والتعويضات، إلى المشاركة في الجماعة الأوروبية، والعضوية الكاملة في حلف شمال الأطلسي، وحققت إستراتيجية التواضع هدفها المتمثل في المساواة في إطار هيكل جديد لأوروبا؛ لذا اختتم أديناور مذكراته بهذا المشهد: “زرت قبر الجندي المجهول في الولايات المتحدة الأمريكية، ورُفع العلم الألماني (العلم الثلاثي الألوان الأسود والأحمر والذهبي للجمهورية الاتحادية، وليس النسر الأسود الذي يحمل سيفًا في بروسيا، أو الصليب المعقوف الذي كان يرمز إلى الرايخ الألماني الذي دام ألف عام)، وبينما كنت أتقدم نحو القبر، انطلقت طلقات التحية العسكرية بإحدى وعشرين طلقة، وكانت فرقة أمريكية تعزف النشيد الوطني الألماني، ورأيت الدموع تنهمر على وجه أحد رفاقي، وتأثرتُ أنا أيضًا تأثرًا عميقًا. لقد كان الطريق طويلًا وشاقًّا منذ الكارثة الشاملة التي حلت بالبلاد عام 1945”.

أخيرًا، يدرك الشرق أوسطيون الآن مكانة ألمانيا في العالم، لا سيما السوريون أكثر من غيرهم، وهذه ليست دعوة إلى الاستسلام، أو الخضوع، أو التطبيع مع إسرائيل؛ بل قراءة في التاريخ لفهم السياسة المُلتزمة التي تضع المنفعة والهدف الأسمى هو مصلحة الشعب والأمة، وليس الأيديولوجيا والمغامرات القصيرة الأمد، كما أن التجارب لا تتشابه، بل تختلف، وقد لا تصلح للتكرار، ولكن الاطلاع عليها له فائدة، ولو بسيطة لتعلم، لا سيما أن أديناور من طراز غير كاريزمي؛ لذا لا يذكره التاريخ في منطقتنا العربية، مثل ستالين، أو ماو، أو حتى جمال عبد الناصر، وصدام حسين، والقذافي، ومَن على هذه الشاكلة من الزعماء، لكن أديناور نجح -بوصفه رجل دولة- في قيادة بلاده إلى مرحلة الأمان، ولا شك أن الألمان يذكرونه اليوم بأنه واضع أساس استقرارهم، حيث قال لهم بوضوح في بداية عهده: “لقد ولّت شعارات الزمن الماضي، نحن الآن مُجبرون على العمل؛ لأن الانغماس في العدمية أو اللا مبالاة يشكل خيانة لأسرتنا، وللشعب الألماني. إن الحزب الديمقراطي المسيحي يناشد كل القوى الراغبة حديثًا في البناء على الثقة الثابتة في الصفات الطيبة التي يتسم بها الشعب الألماني، والعزم الذي لا يقهر على جعل المثل العليا للديمقراطية الحقيقية أساسًا للعصر الجديد”. واليوم، يحتاج الشرق الأوسط إلى رجال دولة من أمثال أديناور أكثر من رجال يظنون أنهم أنبياء.

 

المواضيع المشابهة

عودة
أعلى