متابعة مستمرة مستقبل سوريا بعد التحرير


"سلام -توم باراك- الزُّجاجي"

ليست مقالة السفير توم بارّاك عن «سلام المشرق» مجرد خطاب تفاؤلي، بل انعكاس لأزمةٍ أعمق في الوعي الغربي تجاه المنطقة:
إذ تحاول واشنطن، بعد فشل السيطرة بالسلاح، أن تعيد إنتاج الهيمنة بالاستثمار، وأن تُؤمّم الفوضى تحت لافتة «السلام» فتمنح الحروب هوية اقتصادية وتُعيد تسمية الركام بـ«الإعمار».

في ظاهرها، تبدو رؤيته مشروعاً منفتحاً للتسوية الكبرى:
سوريا تتصالح، لبنان يُطهّر من سلاحه، وغزة تُرمّم بتمويلٍ خليجي، لكن خلف هذا الوهج تكمن تناقضاتٌ بنيوية تجعل (سلام بارّاك) استعارة سياسية لا مشروعاً قابلاً للحياة.

(السلام كصناعة أمريكية)
يطرح بارّاك نموذج «السلام الريعي» سلامٌ تُدار فيه الجغرافيا كمشروعاتٍ مشتركة لا ككياناتٍ ذات سيادة.
فالولايات المتحدة تحاول أن تحكم المنطقة هذه المرة بالعقود لا بالقواعد، وبالمستشارين لا بالجنود. غير أن حديثها عن «وحدة المشرق» يتناقض مع تمويلها المستمر لـ«قسد» بما يتجاوز 130 مليون دولار سنويا، بينما قسد كيانٌ يرسّخ التجزئة ويمنع قيام الدولة السورية الموحّدة.

وهكذا يتحول خطاب الوحدة إلى ممارسة (تفكيكٍ مقنّع) تُدار فيه الأطراف بيد القوّة وتُترك المركزية السورية في غيبوبةٍ طويلة.

(التناقض الإسرائيلي)
بعد قمة شرم الشيخ التي بُشّر بها كمنعطفٍ نحو السلام، شنت إسرائيل أكثر من مئة وعشرين غارة على غزة ووسّعت عملياتها في سوريا، لتؤكد أن الحرب ما زالت لغة التسوية المفضّلة.
«سلام بارّاك» يبدو إذاً هدنة مسلّحة يُدار فيها الدمار كمدخلٍ للإعمار، على النمط ذاته الذي جرّبته واشنطن في العراق وأفغانستان.

أما غياب القادة الخليجيين عن القمة فليس صدفةً، بل تعبير عن إدراكٍ بأن الاستثمار في فراغٍ أمني هو مخاطرةٌ سياسية، وأن المال لا يشتري استقراراً بلا ضمانات حقيقية.

(دمشق وواشنطن: السيادة المؤجلة)
يرى بارّاك أن رفع العقوبات عن سوريا ولادة جديدة للدولة، لكنّ واشنطن لا تريد دولة بل نظاماً قابلًا للضبط.
فالعقوبات لديها أداة وظيفية لا أخلاقية، تُفرض لتُساوَم. غير أنّ سوريا ليست قراراً اقتصادياً بل عقداً اجتماعياً معقّداً بين عدة هوياتٍ:
(عربية، كردية، سنّية، درزية، مسيحية، وعلوية)

رفع العقوبات دون معالجة هذا الجرح البنيوي لا يصنع دولةً، بل يجمّل هشاشةً عميقة. فالاستقرار الذي تطمح إليه واشنطن ليس استقرار شعبٍ بل توازن مصالح مؤقتة.

(لبنان ووهم السيادة)
تصوير «نزع سلاح حزب الله» كإجراءٍ إداري يتجاهل أن الحزب هو جزء من البنية العميقة للدولة اللبنانية، وسلاحه امتدادٌ لتوازنٍ طائفي هشّ.
لبنان ليس دولةً تحت ميليشيا بل (ميليشيا تملك دولة) وأي محاولةٍ لتفكيك هذه المعادلة بالقوّة قد تفجّر الكيان ذاته.

(الخليج وغياب الضمانات)
الحذر الخليجي من مشاريع واشنطن رسالةٌ واضحة: فالممالك التي موّلت استقرار المنطقة لم تعد ترى في أميركا ضامناً، بل مجرّد شريكٍ عابر.
الضمان الحقيقي يُستمد من الجغرافيا، من (أمن البحر الأحمر إلى توازن القوى مع إيران).

أصبحت دول الخليج تدرك أن أمنها إقليمي لا محلي، وأن أي «سلامٍ وظيفي» بلا بنية أمنية مشتركة هو عبءٌ مالي بلا عائدٍ سياسي.

(إسرائيل في زمن اللاعقاب)
فيما تسوّق واشنطن لمرحلة (ما بعد الحرب) تمارس تل أبيب منطق (الحرب إلى ما بعد السلام).
فهي تواصل خرق (السيادات الحليفة) من قطر إلى سوريا، دون أي منعٍ أميركي.
وهنا تكمن مفارقة الرؤية البارّاكية:
الضامن المفترض للسلام هو ذاته من يواصل إنتاج أسباب الحرب.

سلامٌ تُنتهك فيه السيادات لا يُعدُّ تسويةً بل إعادة تدويرٍ للهيمنة في هيئةٍ دبلوماسيةٍ أنيقة.

(المشرق كوحدة أمنية واحدة)
حين نزيح الغلاف البلاغي عن خطاب بارّاك، يظهر المشرق كمنظومةٍ واحدة لا فسيفساء دول:
من حلب إلى غزة، ومن لبنان إلى الخليج، تتقاطع الخطوط ذاتها للقوى الفاعلة (أميركا، إيران، تركيا، إسرائيل، وروسيا)

ولا يمكن لأي تسوية جزئية أن تنجح ما لم يُصَغ (عقدٌ أمنيٌّ إقليمي) يربط هذه الساحات في إطار واحد. فاستقرار سوريا مرهونٌ بلبنان، ولبنان مشروطٌ بغزة، وغزة لا تعيش دون ضمانةٍ مصرية وخليجية، وكل ذلك لا ينجو إلا بتفاهمٍ مشرقي جديد بين الرياض وأنقرة وطهران.

(ختامًا: من الخرائط إلى الوعي)
رؤية بارّاك تُعامل المشرق كاقتصادٍ يمكن ترميمه لا ككينونةٍ يمكن إحياؤها، لكنها تغفل أن الخرائط لا تُرمَّم بالمال بل بالإرادة.

فالشرق الأوسط الحقيقي -المجبول بالتاريخ والألم-لا يبحث عن سلامٍ يُدار من الخارج، بل عن عقدٍ جديدٍ تصوغه إرادته الداخلية.
بين واشنطن التي تموّل قسد، وتل أبيب التي تقصف، والخليج الذي يتريّث، وسوريا التي تتنفس ببطء، ولبنان الذي يترنّح، يولد المشرق من جديد.
لكنه لن يُبعث من رحم مشروعٍ أميركي، بل من (وعيٍ عربيٍّ مشرقيٍّ) يدرك أن السيادة ليست شعاراً، بل هندسة وجود متوازنة.
 
عودة
أعلى