الدكتور محمد وليد يوسف
شاع القول منذ أيام في وسائل الاعلام في أن إیران قد خَذَلت حزب الله في منازلته الجديدة لإسرائيل في سبتمبر 2024 ، وفاضت وسائل التواصل الاجتماعي بنظرية المؤامرة حول متاجرة إيران بحلفائها في بعض بلدان الشرق الأوسط (حزب الله، حماس، الفصائل العراقية، حركة أنصار الله الحوثية)، وذلك في مراوضتها وتفاوضها مع الولايات المتحدة الامريكية والغرب عامةً.
ولعلّ التمحيص والتدقيق لدى الراصد السياسي والاستراتيجي الحاذق يفضي إلى خلاف ما ذاع من تلك المقولات.
أولاً: تسعى إيران إلى استعادة منزلتها المفقودة في عهد شاه إيران محمد رضا بهلوي وخاصةً بعد اعتماد إدارة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون استراتيجية أو مبدأ (الإعتماد على الوكلاء والحلفاء في ساحات جيوسياسية عامة) ، فكانت إيران – بعد زيارتَي نيكسون إلى موسكو وطهران عام 1972 – الحليفة الوكيلة على حراسة وحماية منطقة الخليج وبعض من الشرق الأوسط من تسلل النفوذ السوفياتي إليها، وذلك بمقارعة الحركات الشيوعية واليسارية فيها (اخماد الانقلاب والثورة في منطقة ظُفار بسلطنة عُمان عام 1975 شاهد وبرهان على ذلك).
وقد أطلق الرئيس الإيراني حسن روحاني في عام 2019 (مبادرة هرمز للسلام) لعرض قدرات وموارد إیران في حفظ الأمن والاستقرار في المنطقة على الغرب والتفاوض معه على مقايضة الهدوء والسكينة فيها بغض الطرف عن برنامجها الصاروخي والاستمرار في الاتفاق النووي لعام 2015 (اتفاقية العمل الشاملة المشتركة). وقد ذهب وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظریف إلى بيان ذلك حين قال: “إن مبادرة هرمز للسلام بمشاركة الدول المتعلقة به وهي المملكة العربية السعودية ، جمهورية العراق، سلطنة عُمان، الامارات العربية المتحدة، دولة الكويت، دولة قطر، مملكة البحرين والجمهورية الاسلامية الايرانية تتمتع بالامكانيات اللازمة والكافية لتحقيق الأمن الشامل في ربوع المنطقة”[1] وهي البلدان ذاتها التي كان مُناط حفظ الاستقرار فيها على كاهل إيران أثناء الحرب الباردة في القرن العشرين.
وقد سعت إيران إلى استعادة تلك المنزلة بصنع حلفاء لها في بلدان المنطقة بنشر الفوضى والاضطراب والأزمات فيها لعرض قدرات وموارد إيران على الغرب لاحتواء والإحاطة بتلك النتائج والعواقب من دون خذلان أولئك الحلفاء (أو بيعهم).
ثانياً: إن مشروع إيران في عهودها قاطبةً (الكسروي، الشاهنشاهي، الثوري الاسلامي الشيعي) هو نشر النفوذ والهيمنة الفارسية الإيرانية على منطقة الشرق الأوسط التي يراها القادة الإيرانيون على مختلف مشاربهم و مواردهم السياسية والاعتقادية أنها مراكز رماحهم ومساقط مصالحهم، وينقسم القادة فيها إلى مدرستَيْن:
المدرسة الأولى: المدرسة الفارسية القومية التقليدية: وتذهب هذه المدرسة إلى تقديم البُعد الفارسي القومي في مشروعها على البُعد الديني المذهبي من غير نكيرٍ أو جحودٍ للتشيّع التاريخي الذي يصبغ الشعب الفارسي الإيراني، غير أنها تُرجّح القومية الفارسية ومصالح الأمّة الإيرانية الاستراتيجية على الشيعية الاثنَي العشرية، وتجنح في سبيل ذلك إلى تحقيق هذه المصالح بأحد أمرين:
*إما الحصول على السلاح النووي الذي يكفل لإيران نفوذاً على منطقة الخليج والشرق الأوسط ويضمن هيمنة طويلة الأمد عليها، ولا حاجة بعدها إلى الحلفاء الشيعة في المنطقة، حيث رست القاعدة بأن الدول النووية لا يجرؤ أحد على محاربتها وغزوها وبذلك يأمن النظام السياسي في إيران غائلة الهجوم عليها من إسرائیل والولايات المتحدة وغيرها. وعند حصول إيران على السلاح النووي فإن ذلك يكفيها مؤونة تمويل وتسليح حلفائها الشيعة في لبنان والعراق واليمن وسورية وغيرها.
وأکثر السياسيين الاستراتيجيين في إیران من هذه المدرسة وفيهم الرؤساء الإيرانيون السابقون محمد خاتمي، محمود أحمدي نجاد وحسن روحاني، وكذلك الرئيس الايراني الحالي مسعود بزشكيان ونائبه محمد جواد ظریف وكذلك وزير الخارجية عباس عرقجي، وكان منهم الرئيس الإيراني الراحل هاشمي رفسنجاني.
وقد قامت الأدلة على ذلك وانتصبت البراهين حين ذهب اسفنديار رحيم مشائي إلى القول إن “الإيرانيين أصدقاء لجميع شعوب العالم حتى الإسرائيليين”[2]، وإن “هناك عدة تفسيرات للإسلام (حول العالم) لكن فهمنا لحقيقة إيران والإسلام ينبع من المدرسة الإيرانية. من الآن وصاعداً علينا أن نقدم المدرسة الإيرانية للعالم”[3].
وكذلك فإنّ إقرار الرئيس الإيراني بزشكيان بعجز حزب الله بمفرده عن مقارعة إسرائيل لاعتقاده الراسخ بأن الحرب على إسرائیل ودعم الشعب الفلسطيني (وتحرير القدس) مناطٌ بالمسلمين عامةً والبلدان السنيّة خاصةً لأنها ليست قضيةً إيرانية فارسية شيعية فقط، ويعاضده على ذلك عامةً الاستراتيجيين والساسة وقادة الفكر الرأي في إيران، وقد صرح بذلك محمد جواد ظريف ودعا إليه وناظر عليه على رؤوس الناس وعلى الملأ وفي وسائل الاعلام من غير نكير من أحد عليه، وفاض قوله حول ذلك بعد أحداث 7 أكتوبر 2023 في غزة وإسرائيل حين قال: “الشعب الإيراني سئم من أن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم، وانتقاد سياسة الجمهورية الإسلامية تجاه فلسطين لا يعني تبديل الموقف ممن هو ظالم ومن هو مظلوم، بل أن تدافع إيران عن المظلومين وفقاً لدستورها، لكن لا تقاتل بدلاً منهم”[4].
ولا ترى هذه المدرسة في هذه الاستراتيجية غضاضةً ولا خذلاناً لحلفائهم (حزب الله، حماس، الفصائل العراقية، حركة أنصار الله الحوثية)، لأنها تُقدّم مصلحة الأمة الايرانية الفارسية على غيرها من الأطراف. وستصل هذه المدرسة في سياساتها إلى امتلاك سلاح نووي لإيران من دون إعلان حرب عليها، لأنها لن تغامر بضرب إسرائیل وإنما مقصدها من ذلك التوازن مع باكستان الإسلامية السنية النووية ومع باقي البلدان الإسلامية السنية القوية تقليدياً مثل (مصر، تركيا، السعودية،….).
*أو بدعم حلفائها من الفصائل الشيعية في المنطقة، وهذا ما تذهب إليه المدرسة الثانية.
المدرسة الثانية: المدرسة الثورية الإسلامية الشيعية الإثنَي عشرية: وتجنح هذه المدرسة إلى التوازن بين المصلحة القومية الإيرانية الفارسية والبُعد الشيعي الاثنَي عشري لإيران، وتذهب إلى الجمع بين استخدام الإستراتيجيتَين معاً، الحصول على السلاح النووي والتحالف مع الحلفاء الشيعة في بلدان الشرق الأوسط لنشر النفوذ والهيمنة الإيرانية في المنطقة، وينتظم في هذه المدرسة الحرس الثوري وتيار من رجال الدين في الحوزات العلمية وعناصر الباسيج ويغلب على هذه المدرسة الشيعة من غير الفرس (الأذريون، العرب، …).
ويقف مُرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي حكماً بين المدرستَين ويقدّم تارةً المدرسة الأولى وتارةً المدرسة الثانية حسبما تقتضيه المصلحة الإيرانية، وتقتضي المصلحة في هذه المدّة غلبة المدرسة الأولى، وقد كان آیة الله الخميني الراحل من المدرسة الأولى.
ولذلك فإن ایران تريد بلوغ مقاصدها الاستراتيجية في الشرق الأوسط، ولا ترى في الإعراض عن دخول الحرب مع حزب الله علی إسرائیل خذلاناً للحزب وغيره من الحلفاء، لأن الحصول على السلاح النووي يُقدم بلا ريب عند القيادة الإيرانية على الحرب، حيث لا سبيل لبلوغ هذا السلاح مع رجحان لكفّة المدرسة الثانية.
[1] alraimedia.com,10-10-2019.
[2] bbc.com, 22-07-2009.
[3] al-akhbar.com, 09-08-2010.
[4] aljarida.com, 08-11-2023.
السلاح النووي أهمّ إلى إيران من حلفائها الشيعة في المنطقة
شاع القول منذ أيام في وسائل الاعلام في أن إیران قد خَذَلت حزب الله في منازلته الجديدة لإسرائيل في سبتمبر 20204 ، وفاضت وسائل التواصل الاجتماعي بنظرية المؤامرة حول متاجرة إيران بحلفائها في بعض بلدان الشرق الأوسط (حزب الله، حماس، الفصائل العراقية، حركة أنصار الله الحوثية)، وذلك في مراوضتها...
icgers.com