عرفت الحرب العدوانية الجارية على قطاع غزة في الأيام القليلة الماضية، تزامنا مع استكمال هذه الحرب شهرها السادس، وحلول بركات عيد الفطر المبارك، انقلابا كبيرا في الموازين لصالح الفلسطينيين والمقاومة، بدأت بحادثة قتل الجيش الإسرائيلي لعمال الإغاثة الدوليين من “المطبخ العالمي المركزي” وما خلفته من غضب دولي، وانقلاب في مواقف الكثير من الدول بما فيها الأشد دعما للصهاينة مثل أمريكا وبريطانيا نحو الدفع لوقف إطلاق النار، واتسعت بسبب الرعب الذي يسكن الكيان هذه الأيام خوفا من “الرد الإيراني” على ضرب الكيان لقنصلية إيران بدمشق، وتعمقت باتساع دائرة المظاهرات والانقسامات السياسية الحادة داخل الكيان، والتي باتت تضغط بشكل كبير على حكومة نتنياهو لإبرام صفقة تبادل للأسرى، مع استعداد تل أبيب نتيجة الضغوط الكبيرة التي تتعرض لها داخليا وخارجيا لـ”دفع الثمن”، مع بداية تدفق المساعدات الإنسانية للقطاع ودخول مئات الشاحنات عبر معابر مختلفة، بسبب هذا الضغط الدولي، وصولا إلى حد “الانسحاب المذل” لجيش الكيان من قطاع غزة، بشكل شبه كامل، بعد الضربات الموجعة التي تلقاها هذا الجيش الجبان في خانيونس.
الانقلاب العالمي و”الانعطافة” الأمريكية
وشكلت حادثة قتل الجيش الصهيوني لسبعة من عمال الإغاثة الغربيين من عمال “المطبخ العالمي المركزي”، نقطة التحول الكبرى في سلسلة الانقلابات الدراماتيكية التي تعرفها الحرب العدوانية على غزة، حيث أدت إلى ردود فعل عنيفة من مختلف دول العالم ضد تصرفات الصهاينة “الرعناء”، بمن فيها الدول الغربية المعروفة تاريخيا بمساندتها المطلقة لـ”إسرائيل” مثل بريطانيا وفرنسا، والأكثر أهمية هنا، هو حالة “الانعطافة” التاريخية للموقف الأمريكي، الذي تغير بشكل ملحوظ ناحية الضغط لوقف إطلاق النار، وإدخال المساعدات لسكان غزة، وتحقيق صفقة التبادل مع حماس.
وجاءت مكالمة بايدن مع الإرهابي نتنياهو الخميس الماضي، عقب حادثة موظفي برنامج “المطبخ العالمي المركزي”، لتفرض على الكيان الذهاب إلى مفاوضات جدية مع حماس لوقف فوري لإطلاق النار في غزة، حيث وجهت واشنطن لأول مرة منذ بداية الحرب، إنذارا شديد اللهجة لتل أبيب، بأنها قد تضطر لوقف دعمها السياسي والعسكري في حال استمرت في المماطلة وارتكاب الجرائم التي باتت واشنطن عاجزة عن الدفاع عنها في المحافل الدولية.
وكان لافتا أن الانقلاب العالمي وتحديدا “الغربي” ضد ممارسات “إسرائيل” التي تجاوزت كل الحدود، قد تميز إلى جانب مواقف بايدن الجديدة، بخروج عشرات النواب الديمقراطيين بقيادة رئيسة مجلس النواب الأمريكي السابقة، نانسي بيلومسي، لإطلاق نداءات تطالب بايدن بوقف فوري لنقل الأسلحة الأمريكية إلى إسرائيل بسبب المجازر التي تُرتكب في غزة، وذلك في اليوم الذي تبنى فيه مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان قرارا دعا فيه جميع الدول إلى “وقف بيع ونقل وتحويل الأسلحة والذخائر إلى إسرائيل”، ومحاسبة تل أبيب على “جرائم” بحق الفلسطينيين في قطاع غزة.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل دعت إسبانيا التي تلوح بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، الاتحاد الأوربي إلى مراجعة علاقاته مع إسرائيل، كما عبرت بريطانيا الحليف التقليدي الثاني بعد الولايات المتحدة، على لسان رئيس الوزراء ريشي سوناك، عن “صدمتها من حمام الدم” في غزة، وطالبت بأن “هذه الحرب الرهيبة يجب أن تنتهي”.
كما وجه 115 برلمانيا فرنسيا طلبا إلى الرئيس ماكرون بوقف جميع مبيعات الأسلحة لإسرائيل، وهي الإجراءات الواسعة التي بدأت تشهدها الكثير من الدول الأوربية التي اكتشفت حقيقة الكيان الإجرامية، على غرار هولندا وكندا وإيرلندا.
تدفق المساعدات على غزة
وأدى هذا الضغط العالمي والانقلاب الكبير في المواقف الغربية والأمريكية، إلى رضوخ الكيان وقيامه بإجراءات فورية ملموسة لأول مرة لزيادة المساعدات إلى قطاع غزة، وبالفعل فقد لوحظ زيادة كبيرة في عدد الشاحنات الإنسانية التي تعبر معبر رفح المصري، والتي وصلت في هذا المعبر وحده إلى حوالي 300 شاحنة يوميا، كما سمح الكيان مضطرا غير مخير، بمرور المساعدات الأردنية عبر معبر كرم أبو سالم، كما سمحت الإجراءات الاستثنائية الجديدة بتوصيل المساعدات الإنسانية عبر ميناء أسدود ومعبر إيرز البري (بيت حانون).
ولم تكن الضغوط الغربية والأمريكية وحدها بعد حادثة مقتل عمال الإغاثة الدوليين، السبب الوحيد في تراجع الكيان عن سفهه وعنجهيته نحو ممارسة حرب التجويع ضد الفلسطينيين، بل إن الأوامر الجديدة التي أقرتها محكمة العدل الدولية المتعلقة بقرار ملزم قانونا بـ “ضمان، دون تأخير” تقديم المساعدات الإنسانية إلى غزة، بما في ذلك الضروريات مثل الغذاء والماء والكهرباء وغيرها من الضروريات الأساسية، ساهم بدوره في زيادة الضغط على الكيان، وإجباره على الرضوخ، وذلك في أعقاب تقارير مزايدة من هيئات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية، عن وجود إثباتات عن ارتكاب الكيان جرائم في حق الإنسانية بعد تسجيل حالات كثيرة من الوفيات بين الأطفال والكبار بسبب الجوع، علاوة على القرار الذي صدر عن مجلس الأمن في 25 مارس الماضي، القاضي بوقف إطلاق النار ودخول المساعدات إلى غزة دون عوائق.
رعب من “الرد الإيراني”
ويشكل الرعب الكبير الذي يسكن الكيان الصهيوني هذه الأيام، بعد الضربة الإسرائيلية التي استهدفت الأسبوع الماضي، القنصلية الإيرانية في دمشق، وخلفت مقتل سبعة من كبار القادة العسكريين الإيرانيين، من طبيعة “الرد الإيراني” على تلك الضربة التي تجاوزت كل الأعراف الدولية والقوانين ذات الصلة، أكبر عوامل حالة الانكفاء الصهيوني الحالية، خوفا من أن يكون الرد الإيراني مزلزلا وكاسرا لكل قواعد الاشتباك، الأمر الذي أدخل جيش الاحتلال بأكمله في حالة طوارئ قصوى، استعدادا لهذا الرد، مع وضع كامل قواته بما فيها تلك التي كانت في غزة، واضطر لسحبها أخيرا، لمواجهة هذا الخطر الإيراني الداهم.
وتضغط الولايات المتحدة بشدة بعد الضربة الإسرائيلية لقنصلية إيران في دمشق، والتي قالت إنها وقعت دون معرفتها ولا بتنسيق معها، على تل أبيب لكي توقف إطلاق النار في غزة، قبل حصول الرد الإيراني المتوقع، حتى يتم تبريد هذا الرد ولا يكون ساخنا بالدرجة التي يهدد مصالح الكيان ووجوده، خاصة وأن الرد الإيراني المرتقب والذي توعد به كل قادة إيران بمن فيهم المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي، سيكون منفصلا عن رد حلفاء طهران في المنقطة، من أمثال حزب الله والحوثيين أو الفصائل العراقية، وهو ما زاد في رعب الكيان، وخضوعه للنصائح الأمريكية بضرورة تفادي هذا الرد عبر إنفاذ صفقة مع حماس تؤدي إلى وقف إطلاق النار بما في ذلك النيران الإيرانية المتحفزة.
“انسحاب مذل” لجيش الكيان من غزة
ولعل من أبرز معالم انقلاب الموازين في حرب غزة، هو اضطرار جيش الكيان أخيرا، وتحت وقع ضربات المقاومة، إلى سحب معظم قواته التي كانت متمركزة في خانيونس، في حمة فاجأت حتى الإسرائيليين أنفسهم، حيث يجد هذا الجيش نفسه مجبرا على الانسحاب من خانيونس بعد أربعة أشهر من المعارك، دون أن يحقق أيًا من أهدافه لا في موضع القضاء على حماس التي واصلت مطاردته حتى وهو ينسحب، ولا في استعادة الأسرى.
وجاء هذا “الانسحاب المذل” لجيش الكيان، مباشرة بعد العلميتين الجريئتين لكتائب القسام في منطقتي الزنة والأمل بخانيونس، والتي خلفت بحسب مصادر المقاومة مقتل ما لا يقتل عن 14 جنديا صهيونيا، قبل أن تتكفل الحركة بإرسال تهديدات واضحة لهذا الجيش، بأنه سيحترق في حال معاودته الدخول مجددا إلى القطاع، مع رسالة من خمسة صواريخ أطلقت من المنطقة ذاتها التي انسحب منها الجيش الصهيوني فحواها أن مهمتهم قد فشلت في وقف الصواريخ والقضاء على المقاومة.
ولم يبق في كامل قطاع غزة، بعد سحب الفرقة 98 بألويتها الثلاثة، سوى لواء واحد يتمركز في ممر نتساريم الفاصل والقاطع لشمال غزة وجنوبه، كآخر ورقة ضغط على ما يبدو في أيدي المفاوض الصهيوني بعد أن فقد الكيان معظم أوراقه للضغط على حماس والمقاومة، خاصة ورقة الغذاء، وورقة احتلال القطاع عسكريا وإقامة حكم عميل داخله، وهو ما تبين فشله بشكل كامل.
نحو صفقة بشروط حماس والمقاومة
وبتضافر كل هذه الظروف التي يبدو أنها جاءت بمجملها في صالح المقاومة وحماس، وفي صالح الشعب الفلسطيني في غزة الذي عاش الويلات طوال نصف السنة الماضية، نكون الآن أمام تبلور معالم صفقة بين حماس والكيان تكون فيها الغلبة للمقاومة الفلسطينية، والتي ستمهد لهزيمة تاريخية للكيان برغم كل الدمار الذي خلفه في القطاع.
مشاهدة المرفق 1712629093601.jpeg
وتظهر ملامح النصر الفلسطيني في ما يرتقب من مفاوضات الصفقة المنتظرة، في إعلان حماس التي أرسلت وفدا قياديا للقاهرة لاستكمال التفاوض، أنها متمسكة بنفس مطالبها المعروفة والمتعلقة بوقف العدوان وانسحاب جيش الكيان من القطاع وعودة النازحين الى بيوتهم في الشمال، وإغاثة وإيواء الغزيين، وإجراء عملية تبادل للأسرى جادة، بينما تدخل إسرائيل هذه الجولة، تحت ضغوط أمريكية ودولية وحتى داخلية كبيرة بسبب تصاعد حدة المظاهرات لأسر الأسرى في تل أبيب والقدس، إلا أن الانعطافة الأمريكية التي حدثت مؤخرا بسبب تراجع شعبية بايدن مع اقتراب انتخابات الرئاسة في أمريكا بسبب حرب غزة، يبدو أنها العامل الأكثر حسما في هذه الجولة من المفاوضات، خاصة وأن باين أرسل مدير وكالة المخابرات المركزية بيل بيرنز للإشراف على إتمام الصفقة مهما كان الثمن.
وبحسب التسريبات التي تخرج من القاهرة، فإن حماس بصدد تحقيق نصر كبير من خلال فرض عودة النازحين إلى شمال القطاع، وحرية الحركة نحوه، إلى جانب فرض شروط بخصوص المفرج عنهم من السجناء الفلسطينيين وأعدادهم، أما بخصوص سحب القوات الإسرائيلية من القطاع، فإن الكيان بادر إلى ذلك من تلقاء نفسه، تجنبا للإحراج حتى لا يقال أنه قد أجبر على الخروج من القطاع ضمن شروط الصفقة.
واللافت هنا، أن نتنياهو هو من يجد نفسه متحرقا لإنجاز صفقة التبادل ووقف إطلاق النار بحسب مصادر إسرائيلية في حكومة تل أبيب، بعكس ما كانت عليه الحال في السابق، وأن الذي أجبره على هذا التغير هو مقتل عمال الإغاثة الدوليين وانقلاب العالم ضده، إضافة إلى حالة الغضب الشعبي داخل إسرائيل وتصاعد المظاهرات المطالبة بإنجاز صفقة فورية مع حماس لإطلاق سراح الأسرى، وهي المظاهرات التي باتت تقض مضاجع نتنياهو، وتحاصره حتى في بيته.
كل هذه الانقلابات المثيرة في موازين الحرب العدوانية على غزة، يبدو أنها تأتي كنجدة إلهية لسكان غزة ومقاومتها الباسلة، الذين ضربوا جميعا أروع صور البطولة والصبر على أبشع أنواع الإبادة التي يمكن أن يتعرض لها البشر، لتكون بذلك كل هذه المتغيرات، بمثابة تمهيد لنصر عظيم سينتصر فيه الدم الفلسطيني على الدبابة والطائرة الصهيونية “ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم”.
https://elikhbaria.dz/انقلاب-في-موازين-الحرب-وغزة-تنتصر/