في السادس من كانون الثاني/ يناير من العام 1921، جرى تأسيس الجيش العراقي.. وها نحن اليوم بذكرى مرور ثمانية وثمانين عاماً على التأسيس الأول.. وبلا شك كانت هذه السنوات الطويلة حبلى بالأحداث والمتغيرات، كما شهدت تحولات كبيرة وجذرية في مؤسسته وعقيدته وتوجهاته، ومما لاشك فيه إن التدخلات الحكومية المختلفة في صبغة الجيش العراقي ومنذ تأسيسه الأول ساهمت في تشويه الآلية المؤسساتية للجيش..
رؤية لواقع العسكرية في عراق ما قبل الحكومة:
الحكومة العراقية الأولى، شكلت في آب/أغسطس من العام 1920 بأشراف مباشر من السير (برسي كوكس) المندوب السامي البريطاني في العراق.. وكانت على شاكلة وزارة انيطت رئاستها بنقيب أشراف بغداد (عبد الرحمن الكيلاني)، ومن ثم جرى تنصيب الأمير (فيصل بن الحسين) نجل الشريف حسين (شريف مكة) ليصبح ملكاً للعراق في العام 1921.. مؤسسات المملكة العراقية الرسمية لم تكن منعدمة بطبيعة الحال فالبلاد في العهد العثماني كانت مقسمة لثلاث ولايات هي (بغداد، البصرة والموصل) وتظم كل ولاية بل كل مدينة ضمن الولاية على مؤسسات إدارية صغيرة.. وبعد سقوط الولايات العراقية في أيدي البريطانيين أبان الحرب العالمية الأولى، وضع البريطانيون مسؤوليتهم على المؤسسات الإدارية البدائية التي أنشئها العثمانيون في العراق وقاموا بصناعة مؤسسات بديلة حضارية وفق الطراز الإداري البريطاني آنذاك.. ومع تشكيل الوزارة النقيبية الأولى في آب 1920 جرى إدخال العراقيين لأول مرة ضمن الهياكل الإدارية الجديدة ومن ضمنها الجيش كما سيأتي ذكر ذلك لاحقاً.. ما يهم هنا معرفة الواقع أو الرؤية العراقية للعسكر والعسكرية قبيل تأسيس الجيش العراقي الأول عام 1921..
مما لاشك فيه إن العراقيين في العهد العثماني كانوا معادون للدولة وعلى غير وفاق معها ومن أكثر الأسباب التي نمت الخلاف بين المواطن العراقي والحكومة العثمانية آنذاك هو (التجنيد)، حيث إن الدولة العثمانية الكبيرة مترامية الأطراف عاشت في ظل حروب طويلة وكثيرة وخاصة في أوربا منذ القرن الثامن عشر.. كما شهدت تراجع بل تأكل في قوتها في تلك المرحلة صعوداً إلى قمة الانهيار مطلع القرن العشرين، حروب العثمانيين الخاسرة في أوربا، كانت في بعض الأحيان أشبه بالانتحار وقد استنزفت مئات الآلاف من المقاتلين ومعظمهم إن لم يكن جميعهم كانوا من ولايات بعيدة سوقوا للجبهات الأوربية عبر التجنيد الإلزامي المفروض عليهم رغم بعدهم الكبير عن هذه الجبهات.. العراقيون عانوا من ظاهرة التجنيد والحروب في الجبهات البعيدة بشكل كبير وخاصة في جبهة القوقاز الأوربية التي أخذت ألاف العراقيون دون أن تعيدهم بطبيعة الحال، حيث إنهم لولم يهلكوا بالحروب لهلكوا بالأجواء المتجمدة هناك.. وبعيداً عن الأمثلة والتفاصيل خلاصة القول إن العراقيون نقموا على التجنيد والعسكرية شر نقمة، كما ساهمت المعارك التي خاضوها مع رجال الدين في مواجهة الانكليز منذ العام 1915 ولغاية العام 1920 الذي شهد ذروة الأحداث بأندلاع ثورة العشرين العسكرية في مدن العراق.. بخسائر بشرية كبيرة بسبب الصدامات العسكرية المسلحة.. مما ضاعف من المشاعر الاجتماعية السلبية ضد العسكرية.. لكن من الجانب الآخر تجدر الإشارة إلى إن أركان الحكومة التي أسسها البريطانيون في العراق عام 1920 كانت من ضباط عراقيين سابقين في الجيش العثماني ممن فروا من الجيش العثماني واشتركوا بحركة الثورة العربية التي قادها الشريف حسين عام 1916.. أي إن النخبة الحاكمة الأولى طغى عليها الطابع العسكري، رغماً عن المشاعر الشعبية الغير متعاطفة مع المشكلات التي تكبدوها بسبب الحروب.
البريطانيون اختاروا (جعفر العسكري) باشا ليكون أول وزير دفاع عراقي في الحكومة الأولى.. إي قبل تأسيس الجيش العراقي ذاته وانيطت به مهمة تأسيس الجيش العراقي، العسكري استعان بعديله المقرب (نوري السعيد) باشا وهو الأخر من الضباط العثمانيين السابقين الملتحقين بالثورة العربية ثم بحكومة الأمير فيصل القصيرة في سوريا والتي قضا عليها الفرنسيين بعد معركة (ميسلون) عام 1920، وقد أصبح نوري باشا السعيد وكيلاً لوزير الدفاع العراقي.. وجرى الإعداد بالتنسيق مع الإدارة البريطانية لتأسيس نواة الجيش العراقي الأول.
مرحلة تأسيس الجيش العراقي:
في السادس من كانون الثاني عام 1921 أعلن عن تأسيس الجيش العراقي من عشرة ضباط، وانيطت رئاسته بالفريق جعفر العسكري وزير الدفاع العراقي، وفي تموز من نفس العام جرى إعلان تشكيل أول فوج في الجيش العراقي.. وتحت اسم (فوج الإمام موسى الكاظم)، وقد اعتبرت الخدمة في الجيش تطوعية وليست إلزامية.. وكان نواة ضباط الجيش العراقي الأول من الضباط العثمانيين المحاربين ضمن الثورة العربية عام 1916 ومع الأمير فيصل في سوريا.. وقد شكل تولي الأمير فيصل لعرش العراق دعماً لضباط الجيش بكونهم حاربوا تحت إمرته في مكة وسوريا سابقاً.
العقيدة العسكرية العراقية الأولى لفت بثوب القومية العربية، بمباركة ضباطه الأوائل ذوي الميول القومية.. ولكن بطبيعة الحال لم تكن الفكرة القومية آنذاك بالشوفينية التي انتهجتها لاحقاً، ومن الجدير بالذكر إن الأولوية الحكومية في مرحلة تأسيس الحكومة والجيش لم تولى للجيش بل أولية لوزارة الداخلية.
السياسة تهيمن على الجيش:
إن الطبقة الحاكمة أو المؤثرة في المملكة العراقية أبان مراحلها الأولى، كانت تتراوح بين البريطانيين والهاشميين (الملك وحاشيته) والضباط الشريفيين (أي الضباط العثمانيين الملتحقين بالثورة العربية فيما بعد ومنهم العسكري والسعيد وآخرون أصبحوا غالبية المسئولين الحكوميين في المملكة العراقية لاحقاً) ومجموعة من كبار الملاكين وأصحاب رؤوس الأموال.. الملك وحاشيته وضباطه الشريفيون حاولوا من خلال تطوير الجيش والاهتمام بمؤسسته، بناءه على أساس عقيدة الولاء للملك والمملكة لحماية العرش الهاشمي.. بالتالي كان تسليح الجيش وتطويره يندرج ضمن أجندة تعضيد قوة الملك، إلا إن صعود طبقة جديدة من الضباط العراقيين من غير الشريفيين.. بالتزامن مع اتساع عدد عناصره وقطاعاته ونموقوته كجيش نظامي مؤثر وخاصة في أواسط ثلاثينيات القرن العشرين.. ساهم في ظهور بوادر سياسية في محاولة استغلال الجيش بتغير ولاءاته واستغلال سطوته لصالح السياسة.. وقد كانت اكبر مصادق التمحور السياسي في فلك المؤسسة العسكرية آنذاك قد تجسدت بأول انقلاب عسكري جرى في تاريخ العراق الحديث بقيادة العسكري العراقي (بكر صدقي) عام 1936، الذي عمل على إجراء تغيرات سياسية عكست الدور السياسي على الجيش.
وبطبيعة الحال إن التنوع السياسي الذي شهده العراق آنذاك.. بالاضافة لعمل الأجندات البريطانية حليفة المملكة العراقية، والروسية من خلال المد الشيوعي الذي دخل العراق بقوة تلكم المرحلة.. وملف آخر لا يقل خطورة عمل في عراق الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين وهو الملف النازي الألماني المناهض للبريطانيين.. هذه الملفات بأبعادها وأهدافها وآلياتها السياسية الكاملة استشرت في الجيش العراقي وبين الضباط العراقيين وخاصة الملف النازي الذي ساهم وبآليات عسكرية في خلق واحدة من اخطر الحركات الانقلابية على النظام الملكي الحاكم في العراق في أيار/مايو1941 من خلال الانتفاضة المسلحة التي قادها (رشيد عالي الكيلاني) مع مجموعة من الضباط في الجيش العراقي راغبة بإسقاط النظام الملكي ورئسه الوصي (عبد الإله بن علي).. حركة مايس ورغم الإطاحة بها إلا إنها سجل مؤشر خطير على غلغل السياسة في الجيش العراقي وخاصة وان المحرك للحركة كان النازيون.
ما خلفته مرحلة حرب عام 1948 (الحرب العربية – الإسرائيلية) على الجيوش العربية قاطبة من عقيدة الجيش القومي وما تلاه في مرحلة الخمسينيات ومع تنامي ظواهر المد القومي وخاصة بعيد وصول الناصريين لحكم مصر، ساهم في تشكيل تيار الضباط الأحرار في الجيش العراقي، وهوتيار خليط بين القوميين والشيوعيين يعمل ضد الملكية والمعسكر الغربي.. الجيش العراقي كان ركن المخطط السياسي للتغير في العام 1958.. وكان أداة الانقلابيين في تحقيق انقلابهم الدموي الشهير في 14 تموز 1958.. بل إن السلطة الحاكمة كانت عسكرية ايظاً بقيادة الزعيم (عبد الكريم قاسم) وهورجل عسكري.
ادلجة الجيش وفق الرؤية السياسية الحاكمة:
الجمهوريون في العراق.. وصلوا للحكم من خلال الجيش فبالتالي هم يدركون دور الجيش، وقد حرصوا كل الحرص على تبني الجيش لعقائد وإيديولوجيات خاصة بهم وتضمن استمراريتهم.. كما عملوا على تغيير قادة الجيش ورؤوسه الكبار الغير خاضعين لسلطاتهم، واضعفوا من نفوذ ودور قادة الجيش على جنودهم من خلال سحب قيادة الجيش برأس السلطة حتى لو كان مدني او غير مهني بالشؤون العسكرية.
بوادر الخلافات السياسية – العسكرية، برزت في حالات كثيرة في مسيرة العراق الجمهوري وخاصة في مراحل العنف الداخلي والصراعات الحزبية، والانقلابات المنظمة.. إلا إن الفجوة الحقيقية التي صنعتها السياسة في الجيش العراقي.. كانت في أوائل سبعينيات القرن الماضي عندما استخدم الجيش لأول مرة كأداة للقمع الداخلي للعراقيين أنفسهم وخاصة ضد الأكراد في شمال العراق والشيعة في الوسط والجنوب.
البعثيون ولدى استلامهم للسلطة في تموز 1968 وبأداة عسكرية أيضاً من خلال انقلاب عسكري قاده الضباط القوميون بالتعاون مع الشيوعيون، أدركوا إن سر بقائهم في السلطة يكمن بيد الجيش العراقي فقط، بالتالي عمل البعثيون وضمن برنامج منظم على ادلجة الجيش وفق حزبهم وبصورة علنية.. فالجيش العراقي قبل ذاك كان فيه الكثير من الحزبيين على اختلاف انتماءاتهم ولكنها كانت مصبوغة بالسرية لوطنية المؤسسة العسكرية ظاهراً.. أما البعثيون فبالظاهر والباطن ادلجوا الجيش وصيروه إحدى تنظيمات حزبهم من خلال رفع الشعارات القومية مستغلين مرحلة حرب العام 1973 العربية – الإسرائيلية، مقدمين الجيش العراقي كجيش قومي يذود عن العروبة في إشارة لتحويل العقيدة العسكرية للجيش العراقي وربطه بحزب البعث العربي الاشتراكي مباشرةً.
إن الظواهر التي حصلت في العراق الجمهوري ولغاية مرحلة الحرب العراقية – الايرانية تعطي انطباعا واضح بأن السياسة لم تحقق مصالحها إلا من خلال الجيش، كما عملت على ضم الجيش لصالحها بعبارة أخرى إن السياسة الحاكمة صيرت الجيش بوليسا يحميها ويحافظ على وجودها.
إنهاك الجيش العراقي في سلسلة الحروب الطويلة:
على الرغم من القيود السياسية للمؤسسة العسكرية في العراق، والتردي الكبير الذي غلفته بها وخاصة في ادلجته وتوجيهه نحو ملفات سياسية خالصة.. كان النظام السياسي بالعراق يعمل على تجهيز العراق بأفضل الإمكانات والأسلحة والتدريبات، وسرعان ما زجت به بحرب من أطول الحروب النظامية المعاصرة وهي الحرب العراقية – الإيرانية بين العامين 1980 – 1988.. الحرب الطويلة أنهكت الجيش وخلفت أثار وتداعيات كبيرة، سرعان ما تطورت سلبياً بدخول الكويت وما تلاه من حرب مدمرة (حرب الخليج الثانية) وإدخال العراق بحصار شامل ضمن عقوبات دولية مفروضة من الأمم المتحدة.. الحصار الاقتصادي أنهك الجيش العراقي بشخوصه ومعداته.. وولد تفشي لظواهر فساد مالي كبير في داخل مؤسسته طغى من خلالها مفهوم الرشوة والمحسوبية، وصاحبها تأكل كبير ببنية المؤسسة العسكرية العراقية مع تصاعد البنى الشخصية والحزبية.. حتى كانت الذروة بتحول الجيش عقيدتاً لتبعية شخص الرئيس ومنهجه.. ومع كل هذه التداعيات البنيوية وفي ضوء تفشي الفساد داخل المؤسسة العسكرية زج الجيش العراقي بحرب جديدة ضد الولايات المتحدة التي تمتلك أقوى جيش في العالم وكانت النتيجة تدمير ما تبقى من بنية الجيش وسقوط العراق ودخول القوات الأمريكية لبغداد.
الجيش العراقي بين قرار الحل وقرار إعادة التشكيل:
في أثناء حرب الخليج الثالثة عام 2003 التي شهدت سقوط نظام البعث بالعراق، فاجئ الجيش العراقي كل المتابعين، عندما تهاوى بين ليلة وضحاها.. كما أوضحت التقارير المنشورة إن قيادات كبيرة في الجيش العراقي قامت بخيانات كبيرة لعل أهمها خيانة قائد عمليات الجيش العراقي في مطار بغداد الذي سحب قواته لتدخل القوات الأمريكية إلى المطار وتتمركز به ثم هرب مع القوات الأمريكية، وخيانة قائد عمليات بغداد الذي سحب قطاعاته من مداخل المدينة.. وغير هذه الأمثلة كثير.. كما جرى هروب جماعي للمقاتلين من وحداتهم أثناء الحرب وبشكل أشبه بالعلني، هذا بمعزل عن العجز بالآليات العسكرية والخرائط الغير دقيقة وما شاكل.. المحصلة الأمريكان لم يجدوا جيشاً يقاتلهم فدخلوا بغداد بهدوء.
الحاكم المدني الأمريكي للعراق (بول بريمر) أعلن حل الجيش العراقي في قرار اعتبر لاحقاً بغلطة كبيرة.. والحقيقة إن الجيش العراقي كان قد حل ذاته بذاته مع سقوط بغداد ولكن بعد قرار بريمر اعتبر إقصاء للعسكريين العراقيين من الحياة المدنية وحرمانهم من المعاشات مما سبب بالتضافر مع عوامل أخرى باندفاع عدد من الضباط السابقين في جيش صدام بدخول الجماعات المسلحة الإرهابية التي ساهمت بزعزعة الوضع الهش للعراق الجديد وأدخلت البلاد إلى متاهات أوصلته إلى شفير هاوية في مرحلة ما.. قرار إعادة تشكيل الجيش وإعادة الضباط القدامى مع استثناء الرتب الكبيرة بإحالتهم على التقاعد كان حلاً لخطأ قرار الحل ولكن حلاً متأخراً.
حكومة المالكي سعت لحل مشكلة الجيش العراقي السابق حلاً جذرياً من خلال دعوة جميع الضباط الراغبين بالعودة للجيش أو الإحالة على التقاعد وإكمال معاملاتهم الرسمية بالتزامن مع حل مشكلة ملف البعثيين السابقين من خلال تأسيس هيئة المصالحة والعدالة.
إما الجيش العراقي بعد إعادة تشكيله فقد روعي به صنع عقيدة على أساس الوطنية، وبأفراد بعيداً عن المؤسسات الحزبية.. وعلى الرغم من إن الواقع يؤكد عدم اكتمال البنية المؤسساتية للجيش العراقي الجديد إلا إن البوادر ايجابية.. إما من الجوانب البنيوية فالجيش الحالي يبنى على أسس عصرية وبتجهيزات عالمية حديثة وبتدريب عالي المستوى.
ثمانية وثمانين عاماً:
في ذكراه الثامنة والثمانين أجد إن الجيش العراقي كان لاعباً مميزاً على الواقع العراقي.. وكل الإخفاقات والتداعيات التي أصابته نتجت بسبب إقحامه بالسياسة ضمن أجندات مختلفة وبمراحل مختلفة.. فالملاحظات التي سجلت أعلاه تعطي انطباعاً راسخاً مفاده إن ادلجة الجيش وتبعيته للسياسة كانت وراء انهياره.. وان المؤسسة العسكرية الرصينة هي المؤسسة التي لا تبنى إلا على أساس الوطنية ولا شيء سواها.
رؤية لواقع العسكرية في عراق ما قبل الحكومة:
الحكومة العراقية الأولى، شكلت في آب/أغسطس من العام 1920 بأشراف مباشر من السير (برسي كوكس) المندوب السامي البريطاني في العراق.. وكانت على شاكلة وزارة انيطت رئاستها بنقيب أشراف بغداد (عبد الرحمن الكيلاني)، ومن ثم جرى تنصيب الأمير (فيصل بن الحسين) نجل الشريف حسين (شريف مكة) ليصبح ملكاً للعراق في العام 1921.. مؤسسات المملكة العراقية الرسمية لم تكن منعدمة بطبيعة الحال فالبلاد في العهد العثماني كانت مقسمة لثلاث ولايات هي (بغداد، البصرة والموصل) وتظم كل ولاية بل كل مدينة ضمن الولاية على مؤسسات إدارية صغيرة.. وبعد سقوط الولايات العراقية في أيدي البريطانيين أبان الحرب العالمية الأولى، وضع البريطانيون مسؤوليتهم على المؤسسات الإدارية البدائية التي أنشئها العثمانيون في العراق وقاموا بصناعة مؤسسات بديلة حضارية وفق الطراز الإداري البريطاني آنذاك.. ومع تشكيل الوزارة النقيبية الأولى في آب 1920 جرى إدخال العراقيين لأول مرة ضمن الهياكل الإدارية الجديدة ومن ضمنها الجيش كما سيأتي ذكر ذلك لاحقاً.. ما يهم هنا معرفة الواقع أو الرؤية العراقية للعسكر والعسكرية قبيل تأسيس الجيش العراقي الأول عام 1921..
مما لاشك فيه إن العراقيين في العهد العثماني كانوا معادون للدولة وعلى غير وفاق معها ومن أكثر الأسباب التي نمت الخلاف بين المواطن العراقي والحكومة العثمانية آنذاك هو (التجنيد)، حيث إن الدولة العثمانية الكبيرة مترامية الأطراف عاشت في ظل حروب طويلة وكثيرة وخاصة في أوربا منذ القرن الثامن عشر.. كما شهدت تراجع بل تأكل في قوتها في تلك المرحلة صعوداً إلى قمة الانهيار مطلع القرن العشرين، حروب العثمانيين الخاسرة في أوربا، كانت في بعض الأحيان أشبه بالانتحار وقد استنزفت مئات الآلاف من المقاتلين ومعظمهم إن لم يكن جميعهم كانوا من ولايات بعيدة سوقوا للجبهات الأوربية عبر التجنيد الإلزامي المفروض عليهم رغم بعدهم الكبير عن هذه الجبهات.. العراقيون عانوا من ظاهرة التجنيد والحروب في الجبهات البعيدة بشكل كبير وخاصة في جبهة القوقاز الأوربية التي أخذت ألاف العراقيون دون أن تعيدهم بطبيعة الحال، حيث إنهم لولم يهلكوا بالحروب لهلكوا بالأجواء المتجمدة هناك.. وبعيداً عن الأمثلة والتفاصيل خلاصة القول إن العراقيون نقموا على التجنيد والعسكرية شر نقمة، كما ساهمت المعارك التي خاضوها مع رجال الدين في مواجهة الانكليز منذ العام 1915 ولغاية العام 1920 الذي شهد ذروة الأحداث بأندلاع ثورة العشرين العسكرية في مدن العراق.. بخسائر بشرية كبيرة بسبب الصدامات العسكرية المسلحة.. مما ضاعف من المشاعر الاجتماعية السلبية ضد العسكرية.. لكن من الجانب الآخر تجدر الإشارة إلى إن أركان الحكومة التي أسسها البريطانيون في العراق عام 1920 كانت من ضباط عراقيين سابقين في الجيش العثماني ممن فروا من الجيش العثماني واشتركوا بحركة الثورة العربية التي قادها الشريف حسين عام 1916.. أي إن النخبة الحاكمة الأولى طغى عليها الطابع العسكري، رغماً عن المشاعر الشعبية الغير متعاطفة مع المشكلات التي تكبدوها بسبب الحروب.
البريطانيون اختاروا (جعفر العسكري) باشا ليكون أول وزير دفاع عراقي في الحكومة الأولى.. إي قبل تأسيس الجيش العراقي ذاته وانيطت به مهمة تأسيس الجيش العراقي، العسكري استعان بعديله المقرب (نوري السعيد) باشا وهو الأخر من الضباط العثمانيين السابقين الملتحقين بالثورة العربية ثم بحكومة الأمير فيصل القصيرة في سوريا والتي قضا عليها الفرنسيين بعد معركة (ميسلون) عام 1920، وقد أصبح نوري باشا السعيد وكيلاً لوزير الدفاع العراقي.. وجرى الإعداد بالتنسيق مع الإدارة البريطانية لتأسيس نواة الجيش العراقي الأول.
مرحلة تأسيس الجيش العراقي:
في السادس من كانون الثاني عام 1921 أعلن عن تأسيس الجيش العراقي من عشرة ضباط، وانيطت رئاسته بالفريق جعفر العسكري وزير الدفاع العراقي، وفي تموز من نفس العام جرى إعلان تشكيل أول فوج في الجيش العراقي.. وتحت اسم (فوج الإمام موسى الكاظم)، وقد اعتبرت الخدمة في الجيش تطوعية وليست إلزامية.. وكان نواة ضباط الجيش العراقي الأول من الضباط العثمانيين المحاربين ضمن الثورة العربية عام 1916 ومع الأمير فيصل في سوريا.. وقد شكل تولي الأمير فيصل لعرش العراق دعماً لضباط الجيش بكونهم حاربوا تحت إمرته في مكة وسوريا سابقاً.
العقيدة العسكرية العراقية الأولى لفت بثوب القومية العربية، بمباركة ضباطه الأوائل ذوي الميول القومية.. ولكن بطبيعة الحال لم تكن الفكرة القومية آنذاك بالشوفينية التي انتهجتها لاحقاً، ومن الجدير بالذكر إن الأولوية الحكومية في مرحلة تأسيس الحكومة والجيش لم تولى للجيش بل أولية لوزارة الداخلية.
السياسة تهيمن على الجيش:
إن الطبقة الحاكمة أو المؤثرة في المملكة العراقية أبان مراحلها الأولى، كانت تتراوح بين البريطانيين والهاشميين (الملك وحاشيته) والضباط الشريفيين (أي الضباط العثمانيين الملتحقين بالثورة العربية فيما بعد ومنهم العسكري والسعيد وآخرون أصبحوا غالبية المسئولين الحكوميين في المملكة العراقية لاحقاً) ومجموعة من كبار الملاكين وأصحاب رؤوس الأموال.. الملك وحاشيته وضباطه الشريفيون حاولوا من خلال تطوير الجيش والاهتمام بمؤسسته، بناءه على أساس عقيدة الولاء للملك والمملكة لحماية العرش الهاشمي.. بالتالي كان تسليح الجيش وتطويره يندرج ضمن أجندة تعضيد قوة الملك، إلا إن صعود طبقة جديدة من الضباط العراقيين من غير الشريفيين.. بالتزامن مع اتساع عدد عناصره وقطاعاته ونموقوته كجيش نظامي مؤثر وخاصة في أواسط ثلاثينيات القرن العشرين.. ساهم في ظهور بوادر سياسية في محاولة استغلال الجيش بتغير ولاءاته واستغلال سطوته لصالح السياسة.. وقد كانت اكبر مصادق التمحور السياسي في فلك المؤسسة العسكرية آنذاك قد تجسدت بأول انقلاب عسكري جرى في تاريخ العراق الحديث بقيادة العسكري العراقي (بكر صدقي) عام 1936، الذي عمل على إجراء تغيرات سياسية عكست الدور السياسي على الجيش.
وبطبيعة الحال إن التنوع السياسي الذي شهده العراق آنذاك.. بالاضافة لعمل الأجندات البريطانية حليفة المملكة العراقية، والروسية من خلال المد الشيوعي الذي دخل العراق بقوة تلكم المرحلة.. وملف آخر لا يقل خطورة عمل في عراق الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين وهو الملف النازي الألماني المناهض للبريطانيين.. هذه الملفات بأبعادها وأهدافها وآلياتها السياسية الكاملة استشرت في الجيش العراقي وبين الضباط العراقيين وخاصة الملف النازي الذي ساهم وبآليات عسكرية في خلق واحدة من اخطر الحركات الانقلابية على النظام الملكي الحاكم في العراق في أيار/مايو1941 من خلال الانتفاضة المسلحة التي قادها (رشيد عالي الكيلاني) مع مجموعة من الضباط في الجيش العراقي راغبة بإسقاط النظام الملكي ورئسه الوصي (عبد الإله بن علي).. حركة مايس ورغم الإطاحة بها إلا إنها سجل مؤشر خطير على غلغل السياسة في الجيش العراقي وخاصة وان المحرك للحركة كان النازيون.
ما خلفته مرحلة حرب عام 1948 (الحرب العربية – الإسرائيلية) على الجيوش العربية قاطبة من عقيدة الجيش القومي وما تلاه في مرحلة الخمسينيات ومع تنامي ظواهر المد القومي وخاصة بعيد وصول الناصريين لحكم مصر، ساهم في تشكيل تيار الضباط الأحرار في الجيش العراقي، وهوتيار خليط بين القوميين والشيوعيين يعمل ضد الملكية والمعسكر الغربي.. الجيش العراقي كان ركن المخطط السياسي للتغير في العام 1958.. وكان أداة الانقلابيين في تحقيق انقلابهم الدموي الشهير في 14 تموز 1958.. بل إن السلطة الحاكمة كانت عسكرية ايظاً بقيادة الزعيم (عبد الكريم قاسم) وهورجل عسكري.
ادلجة الجيش وفق الرؤية السياسية الحاكمة:
الجمهوريون في العراق.. وصلوا للحكم من خلال الجيش فبالتالي هم يدركون دور الجيش، وقد حرصوا كل الحرص على تبني الجيش لعقائد وإيديولوجيات خاصة بهم وتضمن استمراريتهم.. كما عملوا على تغيير قادة الجيش ورؤوسه الكبار الغير خاضعين لسلطاتهم، واضعفوا من نفوذ ودور قادة الجيش على جنودهم من خلال سحب قيادة الجيش برأس السلطة حتى لو كان مدني او غير مهني بالشؤون العسكرية.
بوادر الخلافات السياسية – العسكرية، برزت في حالات كثيرة في مسيرة العراق الجمهوري وخاصة في مراحل العنف الداخلي والصراعات الحزبية، والانقلابات المنظمة.. إلا إن الفجوة الحقيقية التي صنعتها السياسة في الجيش العراقي.. كانت في أوائل سبعينيات القرن الماضي عندما استخدم الجيش لأول مرة كأداة للقمع الداخلي للعراقيين أنفسهم وخاصة ضد الأكراد في شمال العراق والشيعة في الوسط والجنوب.
البعثيون ولدى استلامهم للسلطة في تموز 1968 وبأداة عسكرية أيضاً من خلال انقلاب عسكري قاده الضباط القوميون بالتعاون مع الشيوعيون، أدركوا إن سر بقائهم في السلطة يكمن بيد الجيش العراقي فقط، بالتالي عمل البعثيون وضمن برنامج منظم على ادلجة الجيش وفق حزبهم وبصورة علنية.. فالجيش العراقي قبل ذاك كان فيه الكثير من الحزبيين على اختلاف انتماءاتهم ولكنها كانت مصبوغة بالسرية لوطنية المؤسسة العسكرية ظاهراً.. أما البعثيون فبالظاهر والباطن ادلجوا الجيش وصيروه إحدى تنظيمات حزبهم من خلال رفع الشعارات القومية مستغلين مرحلة حرب العام 1973 العربية – الإسرائيلية، مقدمين الجيش العراقي كجيش قومي يذود عن العروبة في إشارة لتحويل العقيدة العسكرية للجيش العراقي وربطه بحزب البعث العربي الاشتراكي مباشرةً.
إن الظواهر التي حصلت في العراق الجمهوري ولغاية مرحلة الحرب العراقية – الايرانية تعطي انطباعا واضح بأن السياسة لم تحقق مصالحها إلا من خلال الجيش، كما عملت على ضم الجيش لصالحها بعبارة أخرى إن السياسة الحاكمة صيرت الجيش بوليسا يحميها ويحافظ على وجودها.
إنهاك الجيش العراقي في سلسلة الحروب الطويلة:
على الرغم من القيود السياسية للمؤسسة العسكرية في العراق، والتردي الكبير الذي غلفته بها وخاصة في ادلجته وتوجيهه نحو ملفات سياسية خالصة.. كان النظام السياسي بالعراق يعمل على تجهيز العراق بأفضل الإمكانات والأسلحة والتدريبات، وسرعان ما زجت به بحرب من أطول الحروب النظامية المعاصرة وهي الحرب العراقية – الإيرانية بين العامين 1980 – 1988.. الحرب الطويلة أنهكت الجيش وخلفت أثار وتداعيات كبيرة، سرعان ما تطورت سلبياً بدخول الكويت وما تلاه من حرب مدمرة (حرب الخليج الثانية) وإدخال العراق بحصار شامل ضمن عقوبات دولية مفروضة من الأمم المتحدة.. الحصار الاقتصادي أنهك الجيش العراقي بشخوصه ومعداته.. وولد تفشي لظواهر فساد مالي كبير في داخل مؤسسته طغى من خلالها مفهوم الرشوة والمحسوبية، وصاحبها تأكل كبير ببنية المؤسسة العسكرية العراقية مع تصاعد البنى الشخصية والحزبية.. حتى كانت الذروة بتحول الجيش عقيدتاً لتبعية شخص الرئيس ومنهجه.. ومع كل هذه التداعيات البنيوية وفي ضوء تفشي الفساد داخل المؤسسة العسكرية زج الجيش العراقي بحرب جديدة ضد الولايات المتحدة التي تمتلك أقوى جيش في العالم وكانت النتيجة تدمير ما تبقى من بنية الجيش وسقوط العراق ودخول القوات الأمريكية لبغداد.
الجيش العراقي بين قرار الحل وقرار إعادة التشكيل:
في أثناء حرب الخليج الثالثة عام 2003 التي شهدت سقوط نظام البعث بالعراق، فاجئ الجيش العراقي كل المتابعين، عندما تهاوى بين ليلة وضحاها.. كما أوضحت التقارير المنشورة إن قيادات كبيرة في الجيش العراقي قامت بخيانات كبيرة لعل أهمها خيانة قائد عمليات الجيش العراقي في مطار بغداد الذي سحب قواته لتدخل القوات الأمريكية إلى المطار وتتمركز به ثم هرب مع القوات الأمريكية، وخيانة قائد عمليات بغداد الذي سحب قطاعاته من مداخل المدينة.. وغير هذه الأمثلة كثير.. كما جرى هروب جماعي للمقاتلين من وحداتهم أثناء الحرب وبشكل أشبه بالعلني، هذا بمعزل عن العجز بالآليات العسكرية والخرائط الغير دقيقة وما شاكل.. المحصلة الأمريكان لم يجدوا جيشاً يقاتلهم فدخلوا بغداد بهدوء.
الحاكم المدني الأمريكي للعراق (بول بريمر) أعلن حل الجيش العراقي في قرار اعتبر لاحقاً بغلطة كبيرة.. والحقيقة إن الجيش العراقي كان قد حل ذاته بذاته مع سقوط بغداد ولكن بعد قرار بريمر اعتبر إقصاء للعسكريين العراقيين من الحياة المدنية وحرمانهم من المعاشات مما سبب بالتضافر مع عوامل أخرى باندفاع عدد من الضباط السابقين في جيش صدام بدخول الجماعات المسلحة الإرهابية التي ساهمت بزعزعة الوضع الهش للعراق الجديد وأدخلت البلاد إلى متاهات أوصلته إلى شفير هاوية في مرحلة ما.. قرار إعادة تشكيل الجيش وإعادة الضباط القدامى مع استثناء الرتب الكبيرة بإحالتهم على التقاعد كان حلاً لخطأ قرار الحل ولكن حلاً متأخراً.
حكومة المالكي سعت لحل مشكلة الجيش العراقي السابق حلاً جذرياً من خلال دعوة جميع الضباط الراغبين بالعودة للجيش أو الإحالة على التقاعد وإكمال معاملاتهم الرسمية بالتزامن مع حل مشكلة ملف البعثيين السابقين من خلال تأسيس هيئة المصالحة والعدالة.
إما الجيش العراقي بعد إعادة تشكيله فقد روعي به صنع عقيدة على أساس الوطنية، وبأفراد بعيداً عن المؤسسات الحزبية.. وعلى الرغم من إن الواقع يؤكد عدم اكتمال البنية المؤسساتية للجيش العراقي الجديد إلا إن البوادر ايجابية.. إما من الجوانب البنيوية فالجيش الحالي يبنى على أسس عصرية وبتجهيزات عالمية حديثة وبتدريب عالي المستوى.
ثمانية وثمانين عاماً:
في ذكراه الثامنة والثمانين أجد إن الجيش العراقي كان لاعباً مميزاً على الواقع العراقي.. وكل الإخفاقات والتداعيات التي أصابته نتجت بسبب إقحامه بالسياسة ضمن أجندات مختلفة وبمراحل مختلفة.. فالملاحظات التي سجلت أعلاه تعطي انطباعاً راسخاً مفاده إن ادلجة الجيش وتبعيته للسياسة كانت وراء انهياره.. وان المؤسسة العسكرية الرصينة هي المؤسسة التي لا تبنى إلا على أساس الوطنية ولا شيء سواها.