في عملية طوفان الاقصى الاخيرة, انضمت صورة مقاتلي القسام وهم يخترقون الاجواء الاسرائيلية لقائمة الصور الايقونة في الصراع بين حماس و الاسرائيلي, و احتلت مكانها الى جانب صور تاريخية مميزة اخرى في هذا الصراع كصورة يحيي عياش الشهيرة او صورة الضيف اثناء عملية فاكسمان.
و قد يختلف كثيرون في تقييميهم للعملية و فائدتها الا ان قليل من لايظن ان العملية كانت مليئة بالمفاجات للمشاهدين, ليس اقلها الطائرات الشراعية.
الطريف في هذا, ان الجهه الوحيدة ربما التي لم تتفاجئ بما رأته هي المخابرات و الجيش الاسرائيلي. السبب؟ لانها رأت نفس المشهد قبل 36 ولكن هذه المرة في الشمال, في قاعدة "غيبور" العسكرية القريبة من كريات شمونة (غيبور معناها "البطل" بالعبرية).
قبل الحديث عنما حدث في 1987, من الجدير بالذكر ان فكرة اختراق اسرائيل جوا ليست جديدة كليا. كانت اولى المحاولات في عام 1981 عن طريق عمليتين متتاليتين بفاصل اشهر قامت بهما جبهة التحرير الفلسطينية بقيادة ابو العباس التابعة للعراق, عن طريق مناطيد بالهواء الساخن. كان الهدف القاء قنابل على مدن شمال اسرائيل ثم نزول مقاتلين للاشتباك على الارض. فشلت العمليتين اذ عبثت الرياح بالمناطيد و ادت الى تحطمهم مما جعلهم صيدا سهلا للقوات الاسرائيلية الجوية و الارضية.
رغم فشل عملية ابو العباس, الا انها مثلت تجارب ثمينة لخصمه اللدود و صديق الماضي احمد جبريل, الذي -بدعم سوري و تمويل ليبي- درس العمليات الفاشلة و قرر ان ضعف قوة ادوات الطيران هو سبب فشل تلك العمليات. هنا ولدت فكرة الطائرات الشراعية المدفوعة بمحركات خفيفة في راس قيادة الجبهة الشعبية - القيادة العامة.
تشكلت في الجبهة الشعبية - القيادة العامة تحت اشراف جبريل ما عرف باسم "سرب الرواد" وهم اولى المقاتلين الذي تلقو تدريبا على الطيران الشراعي بواسطة خبراء سوريين و طائرات تم شراءها من المانيا الغربية عن طريق ليبيا. و تمت التدريبات في سرية تامة في قاعدة للجبهة الشعبية في سوريا بين حمص و دمشق.
(الصورة من ارشيف الجبهة الشعبية -القيادة العامة للتدريبات).
كانت مجموعة العملية مكونة من 4 افراد. فلسطينيان لاتزال اسماءهما مجهولة لليوم, و تونسي (ميلود بن لومة - ابو علي ) و سوري (خالد اكر - ابو رامي).
الصور ادناه من ارشيف الجبهة ايضا.
اطلق على العملية "عملية القبية" تذكيرا بقرية فلسطينية قامت الكتيبة 101 الاسرائيلية بقيادة اريئيل شارون بالهجوم عليها سنة 53 و قتلت فيها 63 مدنيا فلسطينيا. و كانت العملية بسيطة للغاية: لا أسرى, لاتفاوض و لا مبادلات. انما الهبوط على معسكر غيبور و ايقاع اكبر قدر ممكن من الخسائر في افراد حاميته.
و انعكس هذا الهدف على عتاد المجموعة المقاتلة التي شملت:
1- رشاش كلاشنكوف معدل لاطلاق القذائف (كانت مقاتلو الجبهة الشعبية مشهورون بامتلاكها في الحرب الاهلية اللبنانية) مع 12 مخزن ذخيرة
2- مسدس توكاريف مع كاتم صوت
3- دزينة من القنابل اليدوية الدفاعية المضادة للافراد
و لبس كل مقاتل في المجموعة سترة كيفلار مع حزام ناسف بالاضافة لحمله جهاز اتصال لاسلكي مفتوح مع غرفة العمليات التي كانت في دمشق لمتابعة اخبار العملية اثناء تنفيذها. و اخيرا -تروي المصادر الاسرائيلية - ان كل من المقاتلين تعاطى العديد من العقاقير المخصصة لتحسين الاداء و المشتقة من الامفيتامينات ( قبل ان يتحول اسمها لاحقا لكبتاغون).
و في يوم التنفيذ, نقلت المجموعة و طائراتها بشاحنات مدنية مغلقة للتمويه الى مكان الانطلاق قرب سهل البقاع اللبناني. ربما اراد السورييون ايصال رسالة باطلاق العملية من مناطق نفوذهم في لبنان. و مع بدء العد التنازلي لموعد العملية, بدأت سلسلة من الظروف الغير متوقعة. فبدء موسم المطر حال دون تنفيذ العملية في موعدها الاساسي و انتظر الطيارون في مكامنهم من 11\11 لغاية 25\11 حيث اختاروا يوما قلت امطاره لبدء التنفيذ.
و ما ان اقلعت المجموعة حتى استمرت سلسلة العثرات الغير متوقعة, فقد تعطلت محركات المقاتلين الفلسطينيين و تحطمتا في الداخل اللبناني , بينما سقطت طائرة احد الطيارين في داخل حدود اسرائيل فيما اكمل الرابع طريقه الى معسكر غيبور.
إلى هنا, يحصل اختلاف بالروايات. فيما تقول الجبهة الشعبية ان من سقط في الاراضي الاسرائيلية هو التونسي ميلود , بينما تابع خالد اكر طريقه لمعسكر غيبور, تقول احدى الرواية الاسرائيلية بعكس ذلك. احد اسباب الخلاف قد تكون ان جبريل اراد مجاملة رعاته السوريين بالقول ان نجم العملية هو سوري, او قد يكون السبب هو خلط اسرائيلي بين من قتل في المعسكر و من قتل خارجه.
تحطم الطائرة بالاضافة الى صوت المحركات الذي دوى في سكون الليل في سماء الجليل, اشعل الشكوك في قلب سكان الشمال فبدات التقارير تتوارد لقيادة الجيش في الشمال و اعلن الاستنفار بكل تفاصيله:
اضواء كاشفة, قذائف انارة و دوريات جوية و برية.
لسبب ما, لم تصل الاخبار بالاستنفار لمعسكر غيبور بينما كان الطيار الرابع يهبط بطائرته قرب المعسكر.
بدأت ليلة الطائرات الشراعية قبل الوقت المخصص لها حين اصطدم المقاتل المتقدم بضابط اسرائيل و مجندة كانا -لسبب ما- مختليين ببعضهما خارج القاعدة في سيارة الضابط. فتح المقاتل النار على السيارة بمن فيها ثم تابع توجهه نحو المعسكر.
المثير في الموضوع ان حارس الموقع (الذي سيصبح بطل قضية عسكرية فيما بعد) حين شاهد شبحا يتقدم نحوه, بدلا ان يصرخ لايقافه تجمد في مكانه من الذعر مما سمح للشبح المتقدم برميه بـ قنبلة اف-1 من حزامه والتي هرب المجند الاسرائيلي ما ان شاهدها بين قدميه.
هنا, اصبح الطريق مفتوحا امام المقاتل الفلسطيني. برشاش كلاشنكوف بيمينه, مسدس بيساره, وحزام مملوء بالقنابل اليدوية و الذخيرة و دماء مدججة بعقاقير محسنة لردود الفعل, اقتحم المقاتل القاعدة فاتحا نيرانه بغزارة و ملقيا قنابله كلما سنحت له الفرصة.
حاول عدد من الجنود التصدي للمقاتل المتسلل (من ضمنها محاولة دهسه بالسيارة) و لكنها باءت بالفشل مع مقتل اصحابها.
اخيرا, تسلل فني صيانة القاعدة قرب المتسلل و جهز سلاحه للنيل منه, سمع المقاتل صوت تلقيم السلاح فالتفت و اطلق النار بنفس التوقيت الذي فتح فيه الاسرائيلي النار.
اصيب الجندي في كتفه و ساقيه بينما اخترقت طلقاته راس المتسلل بعد سبقته اجزاء من سترته الواقية التي تلقت العديد من الطلقات و الشظايا.
و بهذا انتهى الجزء الاول من عملية القبية بحصيلة 14 اسرائيليا بين قتيل و جريح. تتمة العملية كانت باجراءات البحث التي شرعت بها اسرائيل في الشمال والتي اثمرت بايجاد المتسلل الثاني الذي تحطمت طائراته و اصيب بالتواء شديد منعه من التحرك و جعله صيدا سهلا للقوات الاسرائيلية.
اما الجزء الثالث, فكان مع نادءات المحاسبة في اسرائيل التي ارادت ان تعرف المسؤول عن التقصير. في البداية, تم محاكمة العريف الحارس بتهمة الجبن و التسبب بمقول زملاءه (الذي هرب في اول المعمعة بعد ان القيت عليه قنبلة) ولكن, بضغوطات شعبية قامت الاركان الاسرائيلية بعزل قائد عمليات القاعدة ايضا الى عمل مكتبي.
و اخيرا, اسدل الستار باقامة نصب تذكاري لقتلى العملية
اغلب معلومات المنشور هي مقتطفات مترجمة بتصرف من كتاب الاسرائيلي "صامويل كاتس" المعنون بـ "اسرائيل ضد جبريل: حرب الثلاثين عاما ضد ارهابي استاذ" وهو كتاب يؤرخ من وجهة النظر الاسرائيلية الحرب التي خاضها احمد جبريل و من وراءه داعموه الاساسيون (القذافي و الاسد) ضد دولة اسرائيل. الكتاب لطيف للغاية و ممتع خصوصا انه يروي وجهة النظر المقابلة من صحفي لديه الكثير من الكتب عن الصراع الفلسطيني الاسرائيلي.
كالعادة, اي تصحيح او اضافة مرحب بها.