حرب الذهب / كيف فكك المال السياسي الدولة السودانية؟
سليمان العقيلي
تلعب شبكات المال السياسي والتمويل الخارجي دوراً مركزياً في تفكيك الدول الهشة، والسودان اليوم مثال صارخ على ذلك، حيث تحوّل الذهب والرشوة والتحويلات العابرة للحدود إلى محرك رئيسي لاستمرار الحرب، وإضعاف الدولة والمجتمع معاً.
الحرب السودانية اليوم لا تُدار بالسلاح فقط، بل بالمال. والمال هنا ليس دعماً عابراً، بل منظومة تمويل ضخمة، عابرة للحدود، تحوّلت إلى المحرك الفعلي للصراع. في المشهد السوداني لا نرى مجرد مواجهة بين جيش ومليشيا، بل صداماً بين مشروع دولة وطنية تحاول البقاء، وشبكات مالية إقليمية ودولية وجدت مصلحتها في دولة ضعيفة ومفتوحة.
المال السياسي يخلق طبقة من “الوكلاء” داخل النخب (أحزاب، زعامات قبلية، كتاب ونخب إعلامية) تتقاضى مقابل تبني خطابات تقسيمية أو تعطيل أي مسار نحو حل وطني جامع، ما يحوِّل الخلافات الطبيعية إلى صراعات صفرية مفتوحة.
في الحالة السودانية استُخدم المال المتأتي من تهريب الذهب وشبكات الشركات المرتبطة بقادة المليشيات لشراء ولاءات أحزاب وفصائل مسلحة وإعلاميين، وتمويل حملات دعائية مكثفة تهاجم خصومهم وتُشيطن الجيش الوطني وتروّج لمشروع المليشيا كبديل للدولة، الأمر الذي عمّق الاستقطاب بين “معسكرات” متناحرة .
هذه الرشوة السياسية فرغت المؤسسات الانتقالية من مضمونها، إذ يتحول البرلماني أو القائد الحزبي أو زعيم القبيلة من ممثل لقاعدته إلى سمسار بين الممول الخارجي والبيئة المحلية، ما يفقد المجتمع السياسي ثقته بنفسه ويغذي نزعاته الجهوية والعنصرية كأدوات تعبئة ممولة لا كصراعات تلقائية.
وقد افادت تقارير أممية وحقوقية موثوقة باستخدام أراضي دول مجاورة كممرات رئيسية لتمرير السلاح والوقود والمرتزقة إلى أطراف الحرب في السودان، خاصة عبر تشاد وليبيا وجنوب السودان وأفريقيا الوسطى، في منظومة تهريب مرتبطة بذهب السودان وشبكات شركات عابرة للحدود
هذا التمويل الخارجي الكبير جزء منه قادم من عائدات الذهب المهرَّب مكّن قوات الدعم السريع من إنشاء شبكة لوجستية معقّدة: شراء أسلحة متطورة، دفع رواتب، وتمويل نقل مقاتلين ومرتزقة عبر الحدود، بدعم من أطراف مثل مجموعة فاغنر (أفريكا كوربس حالياً) وبعض شبكات في ليبيا وأفريقيا الوسطى.
في دول عديدة تحوّل التمويل السياسي غير المنضبط إلى أداة بيد شبكات الجريمة المنظمة والمليشيات، حيث يُستخدم المال لشراء الانتخابات أو تعطيلها، وتمويل حملات كراهية وهويات قاتلة، وشراء الحصانة من المحاسبة، ما يقود في النهاية إلى “دولة داخل الدولة” ثم إلى تفكك فعلي لكيان الوطن.
في السودان يمثل نموذج الدعم السريع أوضح مثال: ثروة قائمة على ذهب مدعوم بالتهريب والعلاقات مع أطراف خارجية وفرت استقلالاً مالياً عن الدولة، سمحت بإنشاء إمبراطورية شركات وإعلام وشبكات ولاء، ثم استُخدمت هذه الإمبراطورية لتمويل تمرد مسلح على الجيش، وشراء حواضن محلية وجهوية، وأحياناً "شراء الزمن الدولي " عبر شركات لوبي وعلاقات اقتصادية.
كذلك أدت شبكات التسليح العابرة للحدود إلى “تدويل المجتمع المحلي”: فالمقاتل المحلي بات جزءاً من سوق إقليمي للمرتزقة يتحرك حيث يتوفر التمويل، ما يضعف أي شعور بوطن محدد ويعزز ولاءات مرتبطة بالدافع المالي أو بالحماية التي توفرها المليشيا، لا بالهوية الوطنية الجامعة.
من الحلول الموضوعية لهذه الحال حسم مبدأ “احتكار السلاح” لصالح الدولة عبر دمج من يمكن دمجه، مع مراجعة جذرية لاقتصاد الجيش نفسه حتى لا يتحول إلى لاعب تجاري ينافس الدولة والمجتمع.
وايضاً إطلاق مسار سياسي مدني واسع مستقل مالياً قدر الإمكان عن الرعاة الخارجيين، بآليات شفافة لتمويل الأحزاب والمنظمات، وسقوف للتبرعات، وإلزام بالنشر الدوري للحسابات، لإنهاء دور “الحقائب المالية ” في شراء النخب وصناعة الاصطفافات.
وكذلك تفكيك اقتصاد الحرب (خاصة ذهب دارفور ) عبر فرض سيطرة سيادية على المناجم، وربط كل صادرات الذهب بالنظام المصرفي الرسمي وبشراكات شفافة، مع ملاحقة الشركات والوسطاء المتورطين في تهريب الذهب وتمويل المليشيات، بالتعاون مع آليات العقوبات الدولية حين يكون ذلك في مصلحة استعادة الدولة لا إضعافها.
بهذه المقاربة التي ينبغي ان تكون اساس الحل للازمة السودانية يتحول الصراع من سباق بين شبكات المال والسلاح إلى معركة لاستعادة الدولة الوطنية نفسها: مؤسسات شرعية، جيش محترف غير مُسَيَّس، واقتصاد شفاف يقلّص هوامش المناورة أمام المال السياسي الداخلي والخارجي.
السودان لا يعاني من حرب عسكرية فقط، بل من اقتصاد حرب صُمّم لإبقاء الدولة ضعيفة. كسر هذه المنظومة يبدأ بعودة الدولة لاحتكار السلاح والموارد والقرار وإغلاق منافذ المال السياسي الخارجي. دون ذلك، سيبقى السودان نسخة أكثر مأساوية من لبنان وليبيا والصومال معاً.