مؤلف «25 يومًا إلى عدن» يعتبره أول تسجيل للتاريخ العسكري لدولة الإمارات في حرب تحرير عدن على لسان جنود وبحارة وطيارين شاركوا فيها. وثّق صحفي عسكري كتابًا يحكي تفاصيل العملية الحربية الأولى لدولة الإمارات، التي انتهت بتحرير مدينة عدن اليمنية من أيدي الحوثيين.
وفي مقال بصحيفة “ذا ناشيونال“، يروي المتخصص في شؤون الخليج العسكرية والأمنية مايكل نايتس، كيف سطر كتابه “25 يومًا إلى عدن”، الذي يحكي فيه تفاصيل العملية بعد سنوات من البحث والتحقق والمقابلات مع أفراد من الجيش الإماراتي.
«25 يومًا إلى عدن» بالعربية والإنجليزية
يعتبر نايتس، في مقاله المنشور يوم الجمعة 6 يناير 2023، أن كتابه “25 يومًا إلى عدن” هو أول تسجيل للتاريخ العسكري لدولة الإمارات في حرب تحرير عدن، على لسان جنود وبحارة وطيارين شاركوا في هذه المعركة.
وسيصدر كتاب نايتس، وهو زميل في برنامج الزمالة “ليفر” في معهد واشنطن، خلال شهر يناير الحالي باللغتين العربية والإنجليزية.
الخط الأحمر
وفق مقال نايتس، كانت حرب تحرير عدن أول معركة في الصراع الدائر في اليمن منذ عام 2015، الذي اندلع عندما طلبت الحكومة اليمنية الدعم الدولي من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ومن جامعة الدول العربية، لإسقاط انقلاب الحوثيين على الشرعية.
ووضع قادة الخليج العربي خطًّا أحمر مفاده أن الحوثيين المدعومين من إيران لن يسيطروا على الجزء الجنوبي لشبه الجزيرة العربية، وعلى الممرات الملاحية الرئيسة التي تربط نصفي الكرة الشرقي والغربي، عبر البحر الأحمر وقناة السويس.
مضيق عدن
في الأيام الأولى للحرب، هبت الإمارات لمساعدة مقاتلي المقاومة اليمنية للسيطرة على مدينة عدن التي تقع في مكان استراتيجي على المحيط الهندي، والتي كانت في أحد الأيام أكثر الموانئ ازدحامًا في العالم.
ورأى نايتس أن الحوثيين إذا سيطروا على عدن، فلن يقتصر الأمر على احتلال ثاني أكبر مدينة في اليمن، بعد سيطرتهم الفعلية على العاصمة صنعاء، بل سيتحكمون في مضيق عدن، وسيكون نقطة اختناق بحرية، لأن 20% من حركة النفط العالمية تمر من خلاله.
ويعلق نايتس: “أخبرني أحد جنود القوات الخاصة، أن حرب اليمن كانت قصة قوات النخبة العربية التي قاتلت شبحًا شريرًا قادمًا من الجبال، بجوار أهم ممر بحري في العالم”.
الدقة في الكتابة
يتحدث نايتس عن أهمية مهمته في عدن، قائلًا: “يتحمل المؤرخ العسكري مسؤولية كبيرة لأنه يحافظ على ذكرى أولئك الذين ضحوا بأرواحهم من أجل بلدهم ومن أجل زملائهم المحاربين”.
ويردف: “يجب أن يكون التاريخ دقيقًا تمامًا قدر الإمكان، لأنه هديتنا للأجيال القادمة، ولأنه ليس من أجل الاحتفال بالانتصارات والإنجازات، لكن أيضًا لمعرفة الحقائق الصعبة واللحظات الحزينة، وتعلم الدروس التي يمكن أن تساعد الوطن وجنوده وبحارته وطياريه على مواجهة تحديات جديدة”.
5 سنوات من العمل
يذكر نايتس أنه استغرق أكثر من 5 سنوات لعمل بحث دقيق والتحقق من الحقائق، كي يسطر كتابه “25 يومًا إلى عدن”.
ويقول نايتس: “لفهم المعركة بنحو صحيح، على المرء التحدث إلى العديد من المشاركين فيها لمعرفة الأحداث التي لم تصل إلى السجلات الرسمية، والاطلاع على السجلات لكشف وتسجيل التفاصيل التي ينساها البشر”.
ويردف: “بنفس القدر من الأهمية، يحتاج المؤرخ أيضًا إلى إجراء أدق دراسة لخريطة تضاريس المنطقة، ثم السير على الأرض. وهذا ما فعلته في عدن”.
الرحلة على الأرض
يروي الكاتب كيف سار في المنطقة ليتمكن من تقدير التضاريس الصعبة لأقدم أجزاء من عدن. ويصف هذه التضاريس بأنها “حرفيًّا كالديرا بركانية عميقة محاطة بمنحدرات شاهقة يبلغ ارتفاعها ألف قدم”، ما يوضح صعوبة المعركة.
ويسرد نايتس مدى تعقيدات التضاريس، ويقول إنه اكتشف أن “التحرك ذهابًا وإيابًا إلى مطار عدن يكون عبر جسر مكشوف”، لكنه عرف أيضًا “مدى أهمية ودور المركبات المدرعة الإماراتية في التغلب على قوة النيران الحوثية التي دافعت عن المطار” في ظل هذه التضاريس الصعبة.
بداية تحرير عدن
بدأ تحرير عدن عندما وضعت المقاومة اليمنية أقدامها على ساحل البحر، بعد أن عانوا الهزيمة، وفقًا لتقدير الكاتب.
وأجرى نايتس مقابلات مع مقاتلين يمنيين وأفراد من القوات الإماراتية الذين دخلوا سرًّا في الجيب الدفاعي في عدن، ليسطروا معًا قصة هذه الشراكة في الصمود ثم تعزيز دفاعاتهم بدعم من “الفرسان الإماراتيين” ومدفعية القوات البرية.
طرد الحوثيين
شن المقاتلون الإماراتيون مع المقاومة اليمنية هجومًا مفاجئًا على الحوثيين، أدى إلى تدميرهم وطردهم إلى خارج عدن، ثم مطاردتهم لمسافة 100 كيلومتر في كل الاتجاهات.
وعملت القوات البحرية والجوية والدفاع الجوي لدولة الإمارات العربية المتحدة، على مدار الساعة وفي ظل ظروف مروعة، لإبقاء خطوط الإمداد مفتوحة مع مواصلة القصف الدقيق والثقيل على العدو.
ويصف نايتس هذا الدور الإماراتي بأنه “كان جهدًا جماعيًّا حقيقيًّا لأمة بأكملها تتجه نحو هدف واحد، وهو مساعدة اليمنيين على تحرير عدن”.
الحديث مع العسكريين
يشير الكاتب إلى أنه من غير المعتاد أن يتحدث شخص غريب مع العسكريين الإماراتيين عن خدمتهم، لكن في أثناء البحث وكتابة هذا الكتاب، قضى بالفعل مئات الساعات في المقابلات والعيش جنبًا إلى جنب مع أفراد الجيش الإماراتي. وجمع نايتس قصصًا عن العسكريين الإماراتيين في أثناء انتشارهم على جبهات القتال في اليمن، وذلك خلال زياراته لخطوط المواجهة، وقد تفضلوا بتخصيص أمسياتهم وأوقات فراغهم لإعادة سرد الأحداث من وجهة نظرهم.
زيارة عائلات الجنود
في أوقات أخرى، زار الكاتب الجنود وعائلاتهم في الإمارات، ويرى أن “إحياء ذكريات الحرب يبدو أنه يساعدهم على معالجة أفكارهم ومشاعرهم المدفونة منذ عام 2015، بالحد الذي يسمح به القانون”.
ويضيف نايتس: “عندما يقضي شخص أجنبي الكثير من الوقت في التحدث مع الإماراتيين بشأن موضوع حساس مثل الحرب، فإن التجربة تكون مفيدة للغاية لمعرفة عقلية الأمة تجاه الصراع”.
الجدية والنضج
عرف الكاتب في تجربته أن العسكريين الإماراتيين سواء من الرجال أو النساء لا يبتهجون بالحرب. ووجد نايتس أيضًا مستوى خاصًّا من “الجدية والنضج” في القوات الإماراتية، الذين يكرهون “الموت والبؤس” بسبب الحرب.
ويشهد نايتس، وهو ذو خبرة طويلة في الشؤون العسكرية والأمنية، بأن “القوات الإماراتية بلا شك جيدة في الحرب الحديثة، فقد تدربوا في صراعات حقيقية إلى جانب أفضل الجيوش الغربية، ويتمتعون بفهم أفضل للثقافة المحلية في اليمن وعلاقات ممتازة مع المقاومة”.
حماية الوطن
في نهاية المقال، يذكر نايتس تجربة عسكري إماراتي كان يبلغ من العمر في ذلك الوقت 27 عامًا، قال له: “بعد هذه الحرب الحقيقية، تغيرت عقليتي بالكامل”.
ويضيف نقلًا عن الجندي: “نشأت في هذا البلد، بمستويات معيشية جيدة وتعليم جيد، ثم أصبحت فجأة في منطقة حرب، بعيدًا عن أصدقائي وعائلتي وأولادي، وشعرت أني وحيد، لكنها جعلتني أقدّر الحياة. ثم رأيت الفقر والمعاناة في اليمن، وهذا جعلني أكثر معرفة بقيمة حماية وطننا”.
سأقدم عرض لصفحات من هذا الكتاب وان شاء الله اوفق في ذلك ،،،،
بداية الحملة الجوية كان من الصعب على العديد من الغربيين أن يدركوا قيام السعودية والإمارات ودول أخرى في التحالف العربي بشنّ حملة جوية واسعة النطاق ومستدامة بمفردهم، لكن هذا ما حدث مع انطلاق عملية "عاصفة الحزم" في الساعات الأولى من 26 مارس 2015. اعتماداً على المادة 51 (الدفاع عن النفس) من ميثاق الأمم المتحدة، وميثاق جامعة الدول العربية ومعاهدة الدفاع العربي المشترك، بدأ التحالف بتنفيذ أمر جوي كلاسيكي من 72 ساعة، وهذا النوع من العمليات يتطلب جدولاً زمنياً بالغ التعقيد لعمليات الاستهداف خلال الأيام الثلاثة الأولى من الضربات الجوية المعدّة مسبقاً، والتي تم تصنيفها في برنامج ذي أولوية من قبل المخططين السعودين في الأشهر الستة الأولى منذ مخاوف الحرب في سبتمبر 2014.
لم يكن من قبيل الصدفة أن تحمل هذه الحملة الجوية أوجه شبه وثيقة مع العمليات الجوية التي شنتها الولايات المتحدة عام 1991 في العراق أو صربيا في 1999. فمنذ تسعينيات القرن الماضي، تدرب السعوديون على محاكاة القصف الجوي الأمريكي للعراق وصربيا. وقام متعهدون أمريكيون بملء الفجوات في قائمة الأهداف السعودية،
فكان النموذج مألوفاً للغاية: في البداية، كسب التحالف التفوق الجوي من خلال ضرب كافة القواعد الجوية وتدمير أكبر عدد ممكن من طائرات "ميغ" و"سو" و"إف- 5 إي إس" و"إل-39". كما وضع التحالف أولوية تدمير الدفاعات الجوية للعدو من خلال تدمير مواقع منصات صواريخ أرض جو "إس أيه- 2" و"إس أيه- 3". في الليلة الثانية من الهجوم، مع هامش أمان أكبر، ضرب التحالف أكبر عدد ممكن من مخازن سلاح الحوثي ومواقع منصات صواريخ أرض أرض، وكان الهدف الواضح من ذلك حرمان تحالف الحوثي - صالح من العتاد الحربي قدر الإمكان.
في اليوم الثالث أعيد ضرب أهداف لم تدمر في الموجتين الأولى والثانية. قصف أكثر من 150 هدفاً، استخدم خلالها التحالف 170 مقاتلة، تضمنت 100 طائرة "إف 15" و"تايفون" سعودية، و30 طائرة "إف - 16" و"ميراج" إماراتية، ومزيج من مقاتلات "إف - 16" بحرينية وأردنية ومغربية، إضافة إلى طائرات "إف آيه - 18" كويتية، و"سو- 24 إس" سودانية. كانت السماء صافية لطواقم الجو وطواقم إعادة التزود بالوقود، وحُظر الطيران على رحلات إعادة التزود الإيرانية. في الحروب الحديثة، حيث من الجوهري السيادة على الجو، وفّر الأسبوع الافتتاحي الناجح للحرب، القواعد الضرورية للعمليات التي ستلي ذلك. بينما كان معظم المراقبين يتساءلون كيف أمكن لدول الخليج العربي إطلاق عملية كبرى كهذه بمشاركة أمريكية بالحد الأدنى (اقتصرت على الدعم بإعادة تزويد المقاتلات بالوقود)
الشيخ محمد بن زايد يفكر في التحدي التالي. كان الناطق الرسمي باسم التحالف العربي العميد الركن أحمد عسيري قد حدّد "الهدف الرئيس" من "عاصفة الحزم" بأنه "حماية الحكومة في عدن". وبما أن الشيخ محمد بن زايد دارس حصيف للتاريخ العسكري، فقد كان يدرك أن الحرب لا تُكسب بالقوة الجوية وحدها، ولا يمكنها إنقاذ عدن. فقط القوات البرية المحلية يمكنها الدفاع عن المدينة. ففي الحد الأدنى، تحتاج القوة الجوية مراقبين أرضيين لمساعدة الطواقم الجوية على تحديد الأهداف المشروعة عسكرياً وتقليل مخاطر سقوط مدنيين. وبالقدر نفسه من الأهمية، سيحتاج التحالف إلى جنود على الأرض لتعزيز الروح المعنوية لقوات المقاومة المحلية، وقياس من إعادة التزود بالإمدادت والمؤن، وجمع "الحقائق الميدانية" عن الوضع المحلي.
لهذا السبب، في 23 مارس، حذرت سلسلة القيادة العسكرية الإماراتية قائد حرس الرئاسة بضرورة استعداد وحدات "قيادة العمليات الخاصة"، والفرسان "المغاوير" للقيام بمهمات في اليمن. في 25 مارس، بعد ساعات فحسب من انطلاق الحملة الجوية، وجه الشيخ محمد بن زايد قادته بضرورة التركيز على الاستعداد لإدخال قوات خاصة إلى عدن لحشد الميليشيات القبلية والوحدات المتبقية من المقاتلين المناصرين لهادي ودعمها. سوف يقود اليمنيون القتال، لكن الإمارات ستقدم لهم ما يحتاجون إليه لمواصلة المقاومة.
كان الدافع وراء تفكير الشيخ محمد بن زايد المبكر بالقيام بما يتجاوز الحدّ الأدنى – ولاسيما فعل ما هو أكثر من الهجمات الجوية فحسب – هو أنه بنى قوات برية متمكنة، كان واثقاً من أنها تستطيع إنجاز المهمة ، لتنفيذ ما كانت تفكر به الإمارات فلن تحتاج إلى إرسال تشكيلات عسكرية كبيرة. فالعمليات الإماراتية المتصورة في جنوب اليمن بمثابة توظيف فعال للقوة العسكرية من خلال الجمع بين القوات الخاصة وقوات الصاعقة الجنود وعناصر التحكم الجوي المتقدّم وطواقم المقاتلات والمروحيات، وقوة هجومية برمائية، وجسر جوي وبحري لنقل هذه القوة إلى اليمن وتزويدهم بالإمدادات اللازمة. وكانت نواة "قوة التدخل" هذه في مارس 2015 هي حرس الرئاسة الذي يتكون من "قيادة العمليات الخاصة"، ولواء الفرسان، ووحدتين بريتين من الحرس الأميري السابق، لواء خليفة بن زايد الثاني ميكانيكي ومجموعة الاستطلاع. يمكن لهذه الوحدات جيدة التسلح الاعتماد على أسلحة دعم (دبابات "لوكليرك" ومدفعيات هاوزر "جي – 6") المعارة من القوات البرية الأكبر عدداً، إضافة إلى ذلك يمكن لقوات الجو الإماراتية توفير دعم جوي مخلص كلما دعت الحاجة لذلك. وقد كانت طواقم مقاتلات "إف - 16" و"ميراج" تتمتع بخبرة عالية بحلول العام 2015.
مما دعم ذلك كله، أن الإمارات تميزت بشكل نادر بين شركائنا من حيث الاستثمار في قدرات النقل الجوي والتزود بالوقود في الجو، بحيث تكون ذاتية الانتشار والاكتفاء الذاتي، مما منح الإمارات وصولاً عالمياً واستقلالية في العمل. هذه المنظومات مثل طائرة "بوينغ سي 17 غلوبامستر 3" الناقلة العسكرية الأضخم، وطائرة "آيرباص أيه 330 إم آر تي تي" ناقلة الوقود متعددة المهام، وصلت في الوقت المناسب تماماً. على الرغم من أن بعض هذه المنظومات كانت في الخدمة منذ خمس سنوات قبل حرب 2015، فإن المجموعة الكاملة من الناقلات الحوية والبحرية كانت قد جهزت بالكامل ودمجت في القوة العسكرية قبل فترة قصيرة من الحرب. كانت هذه المعدات بالمعايير العسكرية جديدة تماماً وغير مجربة بعد، لكنها كانت سهلة الاستخدام مع بدء الحرب. بكلمات أخرى، كان ثمة قوة حديثة التجهيز جاهزة للقيام بالمهمة. سيتم الآن اختبار القدرة على التواصل مع الأصدقاء ودعمهم حيث حاول الحوثيون كسر إرادة الحكومة اليمنية والمقاومة في عدن.
أثبتت الأحداث صحة حدس الشيخ محمد بن زايد حول الأزمة في عدن. كانت الحكومة اليمنية وقواتها المتبقية في عدن مستعدة للمقاومة وقادرة على حشد قوة برية ذات فعالية، لكنها كانت بحاجة إلى الدعم ولن تتمكن من الصمود بمفردها. ورغم أن القوة الجوية تلعب دوراً دفاعياً حيوياً، لكنها ليست كافية لطرد الحوثيين من عدن قبل أن يتحصنوا فيها.
وقد وفّرت الأسابيع الأولى من حرب الشوارع في عدن صورة عن المعركة المطلوبة للحفاظ بداية على المواقع، ثم لتحرير المدينة. لم تقم قوات الحوثي - صالح بشن هجوم كامل على المدينة، وفي ذات الوقت لم يكُن هجومهم ضعيفاً، بل كان بين الاثنين. بعد تسلل القوات الخاصة التابعة للحوثيين وصالح إلى المدينة، كانت الخطوة التالية خلق حالة من الفوضى توحي بسقوط عدن، من خلال تفعيل تلك الخلايا في نقاط حساسة في أرجاء المدينة، وذلك عملاً بمشورة حزب الله حيث استخدم الحوثيون هذه المقاربة "العقدية" من قبل، مسيطرين على ما يسمى "نقاط سيطرة" في مدن شمال اليمن، لتقسيم المقاومة سريعاً إلى جيوب معزولة وكسب الأفضلية النفسية على الأعداء، من الناحية العملية يعني هذا وضع قناصين على أسطح المباني للسيطرة على الطرق الواسعة والدوارات بنيران استفزازية، وإرسال دوريات إلى المدينة حاملة مكبرات الصوت أو الطرق على أبواب المنازل حتى يدرك السكان سيطرة قوات الحوثي، وذلك مثلما فعلت حكومة صالح ضد الحوثيين خلال الحروب الستة بين الطرفين، وضد مدن الجنوب المضطربة.
أغلقت شبكة الاتصالات الهاتفية من المقار الرئيسية لشركات الاتصالات في صنعاء، مما زاد من الشعور بالعزلة وإمكانية إثارة الذعر. في هذه المرحلة، تحول الأمر إلى خدعة كبرى: الخدعة نفسها التي يعتمد عليها أي هجوم مباغت لإقناع العدو بأنه تعرض للهزيمة، في حين أنه، في واقع الأمر، ما زال قادراً على المقاومة إذا ما احتفظ بتوازنه.
في الواقع تعتبر عدن، من نواح عدة، مدينتين لا مدينة واحدة، تفصل بينهما أحواض الملح التي وفرت في الماضي أحد أغنى صادرات المدينة. إلى الغرب من مساحة 8 كيلومترات مربعة من أحواض التجفيف الضحلة تقع الأحياء الفقيرة المترامية الأطراف للشيخ عثمان: ومن الشرق باتجاه الغرب تقع مناطق "مصابين"، و"دار سعد"، و"البساتين"، و"بير فضل". أكثر من نصف سكان عدن يسكنون في هذه المدينة الكبيرة غير المخططة، والتي نشأت من الأسواق القبلية القديمة، إلى شمال المدينة الساحلية. إلى شرق أحواض الملح، جنوب المطار، يقع مركز المدينة التاريخي. بمحاذاة المطار يقع حي "خورمكسر"، الذي كان مقر قوات الدفاع الجوي الملكي البريطاني في عدن، وأسماء الشوارع هناك مستمدة من تاريخ الملاحة البريطاني مثل "فيسكونت" و"أفرو". بعد الحقبة البريطانية، بقي "خورمكسر" الحيّ الدبلوماسي لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، ومقر جامعة عدن وأقدم كلياتها. وهو يعرف بوصفه برزخاً رملياً يربط "كريتر" بالبر الرئيسي.
هذا جعل "خورمكسر" ممراً يتوجب السيطرة عليه إذا ما أرادت قوات الحوثي - صالح السيطرة على المواقع ذات الأهمية السياسية ضمن ما يعرف باسم "عدن الكبرى" – قصر المعاشيق في "كريتر" والموانئ الرئيسية في "المعلا" و"التواهي".
اندفعت قوات الحوثي - صالح من اتجاهين من الشمال الغربي، معتمدة على ترسانة السلاح في "العند"، بدأت باختراق الأحياء الشمالية من "الشيخ عثمان". كان العائق أمامها اللجان الشعبية في تلك الأحياء المكتظة بالسكان. في الطرف الشمالي من "الشيخ عثمان"، عند "دوار القرع"، تم دحر لجنة أمجد خالد الشعبية من قبل قوة دبابات حوثية تقدّمت مباشرة نحو مواقع المقاومة المسلحة بأسلحة خفيفة. احتشدت المقاومة على بعد 1.5 كيلومتر إلى جنوب منطقة دار سعد حيث كانت فنادق شارع الشهيدة فيروز (طريق آر -17 السريع الرئيس الرابط بين الشمال والجنوب)، تحت سيطرة اللجان الشعبية بقيادة محمد البخاري وأحمد جلاب. وكان الجانب الغربي من شارع الشهيدة فيروز تحت قيادة باسم المنضار وعبد العزيز أبو البراء. أما الجانب الشرقي من "دار سعد" فكان تحت سيطرة لجنة ممضرة العدن بقيادة وسام الفطيسي.
لم تكن مجموعات المقاومة الصغيرة تلك مكوّنة من جنود مدربين. وقد روى محمد العميد علي ط لسعدي عضو المجلس المحلي في دار سعد لموقع "فايس" الإخباري الأمريكي: "المدافعون عن هذه المدينة هم طلبة جامعيون ومهندسون وكُتاب ورجال أعمال ومدنيون، ليس لدينا جيش للقتال ضد محتلي أراضنا"، رغم أن عدد الأسلحة في اليمن يفوق عدد الناس، إلا أن الكثير من تلك الأسلحة كانت مخزنة لدى قلة من الناس وتستعمله كأداة للشراء ووسيلة لإهداء المقربين. وكان العديد من أهل المدينة في اللجان الشعبية لا يحصل بصورة روتينية على الأسلحة وكان ثمة أقل من رشاش كلاشينكوف واحد لكل مقاتل في اللجان. أما الأسلحة الثقيلة الوحيدة التي كانت بحوزتهم فهي دبابة ثابتة من حين لآخر تستعمل كمتراس، وعربتان مدرعتان من طراز "بي إم بي 1"، ومدفع مضاد للطائرات.
رغم ذلك، فقد وجد الحوثيون صعوبة في اختراق منطقة "الشيخ عثمان"، وكانت في نهاية المطاف مصدر متاعب أكثر مما تستحق للسيطرة عليها. فحجم المنطقة وكثافتها السكانية، يؤهلانها لاستيعاب آلاف الجنود أكثر مما يمتلكه الحوثيون أو صالح. كان من الواضح أن اللجان الشعبية مستعدة للقتال دفاعاً عن أحيائها ولم يكن ينقصها الشهداء؛ سواء من أجل القضية الجنوبية أو الدعوة السلفية للجهاد التي كانت تردد ليلاً من مآذن الشيخ عثمان. رفعت السواتر لتصعيب دخول المدرعات الحوثية إلى منطقة "دار سعد" والوصول إلى قلب "الشيخ عثمان". وقد أثبتت القوة الجوية فعاليتها ضد الدبابات والمدرعات التي يملكها العدو في الشوارع العريضة التي تفصل أحياء المنطقة المكتظة.
تبلورت خطوط المواجهة الأمامية، مع منطقة خالية من البشر يبلغ طولها سبعمائة متر. ومثل جميع الخطوط الأمامية الحضرية، سوف تُدمر هذه المنطقة خلال الأشهر التالية من القصف والمناوشات، مع عدم قدرة أي من الطرفين على التقدم دون خسائر فادحة. اصطف الحوثيون بأكبر عدد من الدبابات والمدرعات ومضادات الطائرات وقاذفات الهاون وقاذفات "ب 10"، على طول الجبهة الممتدة لـ 2.5 كيلومتر، وواصلوا إطلاق النيران الاستفزازية على منطقة "الشيخ عثمان" التي زاد من اكتظاظها النازحون من الضواحي الشمالية. استقبل مستشفى الوحدة فريقاً جراحياً من "أطباء بلا حدود"، على بعد 480 متراً فحسب جنوب خط المواجهة. تعلم المدنيون ملازمة منازلهم خلال النهار، مع بدء محنة المنطقة التي استمرت أربعة أشهر. وهكذا بدأ حصار حضري مع مشاهد تذكرنا بالصراعات المعاصرة الأخرى مثل سراييفو وغروزني وماريوبول.
بينما صمدت "الشيخ عثمان" جاء الهجوم الحوثي الرئيسي من جانب "خورمكسر"، معتمداً على الترسانة العسكرية ل "الكود" و"جعار" و"زنجبار" (على بعد 50 إلى 60 كلم إلى شمال شرق الطريق الساحلي السريع) و"شقرة" (على بعد 90 كلم على الطريق السريع نفسه). وابتداء من 25 مارس، كان لدى قوات الحوثي – صالح مأوى ثابت داخل المطار في "خورمكسر"، وفي ذلك الوقت بدأت هذه القوات تتلقى تعزيزات من خارج المدينة. ثم خلال الفترة من 26 مارس إلى 2 أبريل، بدأت تقفز من معلم كبير إلى الآخر، مستخدمة المباني العالية للقنص والقصف المباشر بقذائف الهاون. تطلب الأمر نحو أسبوع من القتال العنيف لكي يفرض الغزاة سيطرتهم على 2 كيلومتر من "خورمكسر" وتطهيرها من أيدي اللجان الشعبية التابعة لمحمد أمزربة وسليمان الزامكي. كان واضح للعيان تفاوت أداء المقاومة في "خورمكسر": مقاتل أبين السلفي محمد أمزربة قاتل حتى النهاية المريرة، مات في حيه ، في حين فر الزامكي بعد أن خبأ الذخيرة التي وصلت إلى قواته لإعادة بيعها لاحقاً. كان خط المواجهة في "خورمكسر" يوصف بحسب المعالم التي يتم الظفر بها أو خسارتها أو استعادتها مجدداً: وزارة المالية، كلية الفنون، القنصلية الروسية، منزلا هادي وعلي محسن، "دوار الفلامينغو"، "مستشفى الجمهورية التعليمي". بدأت الجثث المنتفخة تتراكم في الشوارع المدمرة، ووجد المدنيون خطراً شديداً في استعادة الجثث لدفنها – مما يدل على شدة القتال، حتى في أوقات الليل.
لكن الأمور لم تمض وفق ما اشتهت رياح الحوثيين: تشير التقارير عن قتال أبريل المبكر، إلى أن المقاومة قامت على الأقل في 2 من الشهر بهجومين مضادين جسورين لقطع خط الإمداد الحوثي. الهجوم الأول شنته لجنة العصيمي والملاحات الشعبية واستهدف المطار، انطلاقاً من أحواض الملح، وتنبأ الفشل الدامي لهذا الهجوم بالعدد المرتفع من الضحايا الذي ستتكبده المقاومة مستقبلاً حين تهاجم المطار فوق أرض مفتوحة. وكان الهجوم الآخر مكلفاً بدوره، ووقع في ضاحية العريش ذات الكثافة السكانية المنخفضة والمفتوحة حيث حاول مزيج من الجيش واللجان الشعبية من "الشيخ عثمان" قطع الطريق الساحلي من خلال السيطرة على "دوار العلم". أسفرت هاتان المحاولتان الشجاعتان عن مقتل ثلاثين مقاتلاً من المقاومة، وهو رقم ضخم بالنسبة إلى اثنتين من اللجان الشعبية، والتي نادراً ما يزيد عدد المقاتلين في كل منهما الستين مقاتلاً.
ربما عن طريق الصدفة العمياء التزمت قوات الحوثي - صالح باحتياطياتها الرئيسية في هذه اللحظة الهشة بالذات. كان الحوثيون قد سيطروا على ستة قواعد عسكرية في منطقة أبين، وحتى مع الحالة المتردية للترسانات اليمنية، فقد أكسبهم ذلك عشرات الدبابات والمدرعات الفعالة والأسلحة الثقيلة. وبدأت هذه القوات بالتدفق ليل نهار على الطريق الساحلي، وتم استخدامها لسحق هجوم المقاومة المرتد على "دوار العلم"، حيث اصطدم المقاتلون مباشرة برتل من مدرعات "بي إم بي 1" ودبابات "تي – 55" و"تي – 62".
أثبتت المعارك التي جاءت بعد ذلك صحة حدس الشيخ محمد بن زايد بأن القوة الجوية وحدها غير قادرة على إنقاذ عدن. فالقوة الجوية ضرورية لكنها غير كافية، ولا حاجة إلى القول إن وضع المقاومة كان سيصبح أسوأ بكثير دون دعم التحالف الجوي. في الأسبوع الأول طهرت الحملة الجوية سماء اليمن من الطائرات التابعة لصالح كما تم قصف مقاتلات "إل – 39" القليلة التي ما زالت متمركزة في قاعدة العند، كما أنجزت القوات الجوية للتحالف مهمة ثمينة تمثلت في قطع الجسر الجوي بين قاعدة الديلمي الجوية في صنعاء وقاعدة العند، والذي استعملته قوات الحوثي - صالح لفترة وجيزة لنقل المقاتلين إلى الجنوب عبر طائرات "إليوشين آيه إل 76" التابعة لسلاح الجو اليمني. كان ما يسمى بضربات الاعتراض الجوي في ساحة المعركة تستهدف يومياً الجسور والطرق ومخابئ الوقود ونقاط التوقف التي تستخدمها قوات الحوثي - صالح لإرسال المقاتلين إلى جبهة عدن، فيما كانت البحرية المصرية والسعودية تستهدف بنيرانها الطريق الساحلي بين عدن وأبين ، والذي لم يكن يبعد من أيّ نقطة أكثر من 1.5 كيلومتر عن الشاطئ، ومع ذلك، لا يمكن لأي قوة نيران أن تغلق عدن من الشمال بإحكام، كانت قوات الحوثي – صالح تتقدم بأعداد كافية لتجاوز قوات المقاومة في برزخ "خورمكسر" الحيوي، وما إن تجتاز هذه القوات الطرقات المفتوحة إلى شمال مدينة عدن، حتى تسعى إلى تأمين غطاء لها في المنطقة الحضرية، حيث ترتفع مخاطر الأضرار الجانبية، فازدادت صعوبة العثور على تلك القوات واستهدافها.
كانت المنطقة التي تسيطر عليها المقاومة بين "الشيخ عثمان" وأطراف "عدن الكبرى"، قد ضاقت إلى ممر من خمسمائة متر بين "دوار ريجال" الذي سمي تيمناً بكازينو قريب، و"جزيرة العمال" (العبيد سابقاً)، ومن هناك إلى "دوار كالتكس"، الذي سمي تيمناً بمحطة وقود "كالتكس" القديمة، وقد كانت دبابات قوات الحوثي - صالح التي وصلت حديثاً على أهبة الاستعداد لتأمين مداخل "كريتر" ومناطق الميناء. في الزاوية الجنوبية الغربية من "خورمكسر"، كان الطريق بين "دوار ريجال" ومنطقة الميناء في المعلا محشوراً بين حصون معسكر جبل حديد المرتفعة والميناء الداخلي، وفي الطرف الجنوب شرقي من "خورمكسر" تقع نقطة اختناق مماثلة أيضاً بين الحصون القديمة وجبل حديد وشاطئ "فندق ميركور". كل من هذين الشريطين الضيقين الشبيهين بممر "ترموبيل" حيث وقعت المعركة التاريخية بين الفرس والأغريق، تم الدفاع عنهما منذ القدم مثلما تدل التحصينات العثمانية والبريطانية التي تطل على كل من نقطتي الخنق. ولكن في أبريل 2015، كان المقاتلين المدافعين عن هاتين النقطيتن عبارة عن أشخاص مدنيين مسلحين بأسلحة خفيفة، لا تدعمهم سوى قوة التحالف البحرية والجوية.
لم يكن هناك شك بأن التحالف قادر على توجيه ضربات بقوة من البحر والجو حين تكون الأهداف واضحة. كانت الطائرة الهجومية الرئيسية المستخدمة لصد الحوثيين في ذلك الوقت هي طائرة "إف-15 إس أيه" التابعة للقوات الجوية الملكية السعودية، وهي طائرة نفاثة ذات محركين بطول نصف مقطورة وجناحين بمساحة علامة هوليوود الشهيرة. تعرف هذه المقاتلة الأمريكية الصنع باسم "النسر الضارب" وهي ذات شرسة حقيقية في قتال جو- أرض، وقد كان السعوديون يميلون إلى تزويد الطائرة المرسلة إلى عدن بثمانية قنابل "جي بي يو12- بيفوايII" الموجهة بالليزر والتي يبلغ وزن الواحدة منها 500 رطل، وبالتالي يمكن لكل تشكيل من طائرتين ضرب 16 هدفاً. وكانت تقوم على تشغيل تلك المقاتلات فوق اليمن أكثر أسراب الطيران خبرة في السعودية – السرب السادس والخامس والخمسون والثاني والتسعون، إضافة إلى مدربو مدرسة الأسلحة والتكتيكات، وقد تلقت منذ الحرب الحوثية السادسة في 2010 هذه الأسراب تدريبات مكثفة على يد مقاولين أمريكيين وتدربت في عمليات الهجوم البري ضد الحوثيين تحسباً لصراع جديد. وقد دكّت تلك المقاتلات قوات الحوثي - صالح شمال فندق ميركور وجبل حديد، لكنّ القوة الجوية لها حدودها، فكل زوج من طائرات "إف-15 إس أيه" يحلق لمدة ساعة من قاعدة خميس مشيط الجوية في السعودية، وما يتبقى لديها من الوقود يكفي للتحليق ساعة فوق عدن، وعليها خلال هذه الساعة إلقاء قنابلها الثمانية. وقد تعلم الغزاة القيام بغزواتهم القصيرة المدى للسيطرة على الأراضي بين تلك الطلعات الجوية.
بالتالي، كانت السماء خالية حين اقتحم رتل مدرع من قوات الحوثي "كريتر" وقصر المعاشيق في 2 أبريل، ومجدداً حين أخلى هجوم مشابه الممر غرب جبل حديد في 5 أبريل، محتلاً "مطعم الحمرا" و"حديقة عدن المائية"، وفي كلتا الحالتين اخترقت قوات الحوثي - صالح دفاعات المقاومة بحفنة من الدبابات والمدرعات. بدأ اليأس والذعر يتناميان. في "المعلا" و"التواهي"، ازدحمت أرصفة الموانئ لأيام بينما قامت بارجات حربية سعودية وصينية وتركية وهندية بإجلاء الرعايا الأجانب والعمال الوافدين من الموانئ نفسها التي كانت أضخم ناقلات البحر تنزل فيها الركاب سابقاً. وللمرة الأولى اقتربت السفن الحربية المصرية والسعودية من الميناء الخارجي، وقصفت قوات الحوثي - صالح المتقدمة. كانت قذائفهم شديدة الانفجار تسقط على بعد 4500 متر فحسب من أرصفة التحميل، قريبة بما فيه الكفاية للإحساس بها بقدر سماع دويها. بلغ اليأس ذروته: وللمرة الأولى، ألقت طائرة إماراتية ذخيرة وصواريخ مضادة للدبابات مباشرة فوق منطقة "التواهي" في الطرف الغربي من "عدن الكبرى"، مستخدمة مضلات مجهزة بأنظمة لتحديد المواقع لتحقيق عملية إيصال دقيقة وآمنة في تلك المنطقة المكتظة.
في أبوظبي، أصبح من الواضح أن "عدن الكبرى" ستسقط قريباً ما لم يتغير شيء ما على وجه السرعة، فجميع الأهداف الثابتة في قائمة الأهداف المشتركة للتحالف تم ضربها غالباً مرات عدة، وبات الأمر كله متعلقاً بما يسميه مخططو الحملة الجوية بالأهداف "الديناميكية"، ويقصد بها فرص الاستهداف التي تظهر فجأة ولفترة زمنية قصيرة فحسب. وغالباً ما تتحرك الأهداف الديناميكية، مثل الدبابات أو العربات التي تحمل مدافع مضادة للطائرات، بسرعة، مما يعني أنه يتوجب على الطائرة المقاتلة التي تقع تلك الأهداف في نطاقها، اتخاذ قرارات سريعة بالقصف أوالتراجع. كما أن ضرب أهداف حيوية داخل المدن يضيف طبقة جديدة من التعقيدات والخطر بسبب قرب الأهداف المدنية وتركزها في مساحات ضيقة، لكن كان على التحالف التعامل مع هذا التحدي إذا ما أراد مساعدة المقاومة العدنية على الصمود خلال الأسابيع المقبلة.
أراد الشيخ محمد بن زايد أن يكون متقدماً خطوة في تفكيره العسكري، فهو يولي اهتمام كبير بالتكنولوجيا العسكرية والتكتيكات القتالية، وهو نفسه طيار. ومن هنا، فقد أدرك القادة الإماراتيون أن القوة الجوية يمكنها أن تدعم بالكامل المقاومة إذا ما كانت فرق التحكم الجوي المتقدم موجودة على الأرض، إضافة إلى الحصول على نظرة أقرب إلى الأرض والتواجد المدني وأماكن انتشار العدو، فإن ضابط التحكم الجوي المتقدم مدرب أيضاً على إدارة المجال الجوي فوق الميدان، مما يتيح تهيئة الغطاء الجوي على مدار الساعة. إلا أن إرسال الجنود إلى الميدان يعدّ خطوة كبيرة، ويجب أن تتيقن الإمارات من أن اليمنيين سوف يقودون القتال.
زار قائد قيادة العمليات الخاصة الإماراتية العميد الركن مسلم ر، الرئيس هادي في مقر إقامته بالرياض، بعد أن فرّ من عدن. كانت القيادة اليمنية متحمسة لسماع أن الإمارات مستعدة لنشر قوات برية للمساعدة في عدن لإنقاذ المدينة. كان لدى الإمارات شرط واحد: أن يلتزم هادي بقيادة الحكومة شخصياً والعودة إلى عدن في أقرب وقت ممكن، لتقصير مدة قيادة الحكومة من المنفى واستئناف مسؤوليات إدارة المدينة، فكان رد هادي وبدون تردد: "بالطبع". وفي وقت متأخر من 6 أبريل وجّهت سلسلة القيادة الإماراتية بإرسال قوة سرية من القوات الخاصة وفريق تحكم جوي متقدم إلى عدن بشكل فوري.
دبّت الحياة حينئذ في بنية أوامر جديدة وغير مختبرة، حين وجه القادة العسكريون الإماراتيون ببداية العمليات الخاصة السرية في عدن.
في 5 أبريل، كلف الشيخ محمد بن زايد قائد حرس الرئاسة "إم جي إم" بقيادة جميع القوات في اليمن، في حين بقي العنصر الجوي تحت قيادة اللواء الركن ابراهيم أ، قائد القوات الجوية والدفاع الجوي بدولة الإمارات، تم تفعيل مركز العمليات المشتركة المؤقت التابع لحرس الرئاسة في 7 أبريل
في هذه المرحلة، كان تدمير القاعدة لا يزال المهمة الأساسية للإمارات في اليمن. كانت قيادة العمليات الخاصة الإماراتية تقود قوة مهام خاصة مشتركة في شرق اليمن، وصدرت إليهم تعليمات ببناء قواعد صلبة للمقاومة القبلية أينما كان الحوثيون غير موجودين. هذه القواعد لن تصدّ أيّ تقدم حوثي في المستقبل فحسب، بل الأهم من ذلك، سوف تمنع القاعدة من استغلال انهيار أو إعادة انتشار الجيش اليمني. وبالإضافة إلى العمليات المتزامنة في اليمن، فإن سلاح الجو الإماراتي ضمّ مقدرات جديدة للحفاظ على انخراط الإمارات في الحملة التي تقودها الولايات المتحدة ضد داعش في سوريا والعراق. من الآن فصاعداً، سوف تصبح الأنشطة المتزامنة في ثلاثة ميادين على الأقل واقعاً اعتيادياً، لأن الإمارات اختارت الحفاظ على مهام مواجهة الإرهاب، إلى جانب العبء الثقيل المتمثل في حشد الدفاع عن عدن.
تمثلت البذرة التي نمت منها مهمة حرس الرئاسة في قدرات "البحث والإنقاذ القتالي" التي شُكّلت على وجه السرعة لدعم طياري التحالف فوق جنوب اليمن. كان هذا أمراً بالغ الخطورة، فقبل أشهر قليلة من ذلك، في 3 يناير 2015، وقع الطيار في سلاح الجو الملكي الأردني معاذ صافي الكساسبة في قبضة تنظيم داعش في سوريا و وتم حرقه حياً في قفص خلال عملية إعدام تم تصويرها على شريط فيديو.
وفي الأيام الأولى من "عاصفة الحزم"، تعطلت مقاتلة "إف- 15" سعودية في جنوب عدن وتم انتشال الطاقم من المحيط بواسطة طائرة هليكوبتر تابعة للبحرية الأمريكية. وقد أقامت قوة المهام المشتركة الإماراتية قواعد في السعودية وجيبوتي لتغطية حالات الطوارئ المحتملة في عدن، مشغلة مروحيتي "شينوك سي إتش 47"، وست طائرات "إير تراكتور إيه تي 802 آي"، وطائرة هجومية خفيفة، إضافة إلى طائرة " فايكنغ دي إتش سي 6-400 توين أوتر"، والتي يمكنها الإقلاع والهبوط على المدارج القصيرة، كما تم تكليف 26 عنصراً من عناصر "قيادة العمليات الخاصة" مسلحين تسليحاً جيداً، بتولي الجوانب الميدانية على الأرض في أيّ عملية إنقاذ لطيارين يتم إسقاطهم.
وسيقود أول فريق يتم إرساله إلى عدن المقدم سالم د. أحد الضباط المخضرمين في "قيادة العمليات الخاصة" وخريج أكاديمية ساندهيرست العسكرية. كانت تعليمات "أم جي أم" واضحة ومباشرة: "أعثر على قاعدة متقدمة، قم بالاستعدادات الاستخباراتية للميدان على الطريق وفي القاعدة. أوصل فريقك وفريق التحكم الجوي المتقدم إلى عدن بطريقة ما. لا تعط وعوداً للمقاومة لا يمكنك الوفاء بها. هذه المهمة لا يمكن أن تفشل". في هذه المرحلة كان هناك خياراً واحداً فقط للقاعدة المتقدمة، وهو جمهورية جيبوتي أو "دي جاي" مثلما كانت تسميها "قيادة العمليات الخاصة". كانت جيبوتي، وهي مستعمرة فرنسية سابقة، قد أصبحت قاعدة عسكرية فرنسية ومركزاً لـ "قيادة العمليات الخاصة المشتركة" الأمريكية، التي تتركز عملياتها في اليمن والصومال. وبالقدر نفسه من الأهمية، فإن السفارة الإماراتية هناك، لديها خط اتصال آمن مع أبوظبي. لكن جيبوتي تنطوي على جانب سلبي: علاقات لا تتسم بالتعاون بين الإمارات والحكومات المتعاقبة في جيبوتي، وقد بلغت أدنى مستوياتها في أبريل 2015 بسبب الخلافات على مرفأ دوراليه للحاويات، وهو الأكبر من نوعه في أفريقيا. مضيفو الإمارات الفرنسيون في "معسكر ليمونير"، لم يريدوا أية مشاكل مع جيبوتي. فهذا التوتر الكامن من شأنه تعقيد كل ما تسعى "قيادة العمليات الخاصة المشتركة" لتحقيقه انطلاقاً من القاعدة في جيبوتي.
تم تشكيل الفريق بسرعة من تسعة عناصر فحسب وليس كما جرت العادة بأن يتكون الفريق من اثني عشر أو أربعة عشر عنصراً.
كانت المرافق في جيبوتي بسيطة جداً. عندما وصل المقدم سالم د. وجد مجموعة من طياري "سي إتش 47" والطاقم الأرضي، لكون وجودهم من المفترض أنه سري، لذلك كانوا يحصلون على إمدادات منخفضة رغم أنهم في قلب قاعدة "معسكر ليمونير"، ولتعامل مع هذا الأمر عقد سالم صفقة كلاسيكية مع قائد "القوة الخاصة" تتمثل في إيصال سالم بعض الطعام للقوة مقابل منح فريقه مكاناً صالحاً للإقامة والعمل، وقد ساعد على إنجاز هذ الأمر أنهم كانوا يعرفون بعضهم البعض من أفغانستان. كانت المساحة التي أعطيت لهم نصف مبنى ونصف خيمة، مع خرائط طيران تكتيكية ضخمة تبلغ مساحتها 1:250،000 و1:500,000 مثبتة على الجدران فيما وضعت العدة على طاولات قابلة للطيّ. لم يكن المكان بالعظيم، لكنه كان مقرهم. وعلى الأقل كان لدى الفريق اسم شيفرة جذاب: كوبرا.
لم تكن مهمة إدخال الفريق إلى عدن بالمهمة البسيطة، فعلى الخريطة، تبعد جيبوتي عن عدن مسافة 240 كلم يمكن قطعها بالقارب، لكن الرحلة كانت في الواقع 310 كلم (170 ميل بحري) بسبب التيارات القوية والرياح السائدة حول باب المندب.
أرسل طلب إلى البحرية الأمريكية - شريك التدريب الرئيسي لحرس الرئاسة –لاستخدام المدمرة "يو إس إس أيوا جيما"، وهي سفينة برمائية هجومية من فئة "واسب"، كمنصة لإطلاق قوارب الزودياك المطاطية. غير أنه كان واضحاً منذ البداية أن الموافقة على ذلك ستكون عملية طويلة ومعقدة، فيما الإمارات تحتاج إلى التحرك بسرعة. تمت دراسة خيارات أخرى: أولاً، استعمال سفينة حربية سعودية وقوارب مطاطية – نوع من القوارب الهجومية الصغيرة. ثانياً، عملية (هيلوكاست)، "القفز من مروحية في البحر" عبر طائرة "سي إتش 47 إس" إماراتية تقوم بإسقاط القوارب المطاطية قبالة سواحل عدن، فيما كان الخيار الثالت خياراً دراماتيكياً يقضي بإنزال مظلي على علو مرتفع، حيث يتم إسقاط عناصر الفريق سقوط حر من علو 30 ألف قدم ثم يقومون بفتح المظلات على ارتفاع 800 قدم فوق البحر. الأهم من ذلك كله، أن إدخال الفريق إلى عدن يجب أن يكون سرياً وتحت السيطرة الإماراتية، إلى أقصى درجة ممكنة.
عندما بدأت الشكوك تحوم حول الخيارات الأخرى، قررت الإمارات أن تجرب بنفسها مقاربة مباشرة باستخدام قوارب صلبة قابلة للنفخ. انطلقت القوارب من جيبوتي في 11 أبريل، ومنذ اللحظة الأولى بدت المحاولة موسومة بالحظ العاثر. كانت الخطة تقضي بقيادة قاربين من هذا النوع من جيبوتي إلى عدن، في رحلة تستغرق ست ساعات. ومع الاستعداد للانطلاق، أبدت السلطات في جيبوتي اهتماماً بالقاربين وحاولت تفتيشهما، مما أدى إلى وقوع شجار على رصيف الميناء حينما قام ضابط إماراتي بواجبه ومنع عملية التفتيش، لينطلق القاربان بركابهما الثمانية (باستثناء سالم د. الذي يدير العملية من جيبوتي)، عند السادسة من مساء 11 أبريل، لكن الرحلة كانت شاقة. فقد كانت مؤشرات "حالة البحر، التي تقيس ارتفاع الموج وسرعة الرياح، أعلى من المتوقع، وبحلول الساعة 00:40 يوم 12 أبريل، لم يكن القاربان قد قطعا نصف المسافة إلى عدن، أي مسافة 110 كلم تقريباً (60 ميل بحري) من جيبوتي، مما أدى إلى إلغاء إدخال الفريق إلى عدن ليلاً، وبالكاد تمكنت القوارب وطاقمهما المنهك من العودة إلى القاعدة في جيبوتي قرابة الساعة 05:00. ازداد القلق بين أعضاء الفريق. كانوا جميعاً جنوداً مخضرمين لكنهم أرادوا بإصرار هذه المهمة ليكونوا رأس الحربة في أول عملية إماراتية منفردة.
بدأ الخوف ينتشر من عدم الدخول إلى عدن أو إلغاء العملية برمتها بعد إحباط المحاولة الثانية لإطلاق القاربين نتيجة حجب الموافقات من الجانب الجيبوتي.
كان قادة الحرس الرئاسي منهكين تماماً بعد أسبوع من النشاط المتواصل بين أبوظبي وجيبوتي. لكن إدخال الفريق إلى عدن ليلة 13 أبريل سيكون مختلفاً هذه المرة، فالخيار الذي تم اتخاذه هو تنفيذ عملية (هيلوكاست) أي "القفز من المروحية في البحر"، حيث ستقوم طائرتا "سي إتش 47 إس"، بالتحليق إلى موقع يبعد نحو خمسة عشر ميلاً بحرياً قبالة ساحل عدن ومن ثم يتم إسقاط الجنود وقاربيهما المطاطين "زودياك" إلى البحر. ولضمان السيطرة الذاتية الكاملة على العملية تدرب أعضاء الفريق على توجيه دفة القارب. كان ذلك الخيار سريعاً وفعالاً: لم يكن لدى تلك المروحيات حواجز تساعد على إنزال آمن وسلس للقاربين من الجهة الخلفية، كما لم تكن مزودة بالأسلحة: فالأسلحة القتالية الصغيرة التي تثبت عادة على النوافذ الجانبية لم تُجلب إلى جيبوتي. سيكون رمز النداء الخاص بالفريق "كوبرا 1- 1"، لقد بدوا وهم يصعدون إلى الحافلة كأنهم فريق كرة قدم ذاهب إلى لعب مباراة خارج أرضه، وهي الصورة التي رسختها تصرفاتهم الغريبة وقيام المدرب، وهو في هذه الحالة الرائد عبدالله أ، بعدّ العناصر.
رغم المحاولة الأخيرة التي قام بها برج المراقبة الجيبوتي لمنع المهمة إلا أن الطائرتان وعند الساعة 19:37 من 13 أبريل أقلعتا في ليل مظلم وملبد بالغيوم، يتذكر سالم د. مشاهدته الطائرتين وهما تغيبان عن أنظاره: "وصل الأدرينالين لدي إلى ذروته – كنا مشدودي الأعصاب لعدة أيام. وكم ارتحت حين أقلعت الطائرتان.
انتهت مشكلات الإدارة والتنسيق التي عشناها خلال الأيام الثلاثة الماضية. أخيراً صرنا في عالم من الحركة العسكرية؛ العالم الذي نعرفه، عدم اليقين الذي تدربنا عليه". سيمضي سالم والفريق الإداري المتبقي في جيبوتي ليلة طويلة لاسيما وأن الاتصالات بين القاعدة الأمامية وفريق عبدالله كانت ضعيفة متقطعة. وقد تشاحن مع المراقبين الجويين للاحتفاظ بغطاء "إف – 16" خلال عملية الإدخال، حتى بعد تأخره عن الجدول الزمني المحدد. تولى سالم الاتصالات مع المقر الرئيسي في أبوظبي لوضعه في صورة التطورات على مدار الساعة، محتفظاً بساعة على توقيت الإمارات بيد، وباليد الأخرى ساعة وفق توقيت الزولو – التوقيت الدولي المنسق، الذي يتوافق مع توقيت غرينيتش، على خط الطول صفر – كوسيلة لضمان الدقة حين يعمل قادة العمليات في مناطق زمنية مختلفة.
حلقت طائرتا "سي إتش 47 إس"، التابعتان لـ "قيادة الطيران المشتركة"، عبر خليج عدن على مقربة شديدة من الماء، وكان الطيارون والمدفعيون (الذين لا يحملون أسلحة)، كانوا جميعهم يحدقون من خلال معدات الرؤية الليلية الخاصة بهم. استغرقت رحلة الذهاب 78 دقيقة، ووصلت إلى نقطة الإنزال عند الساعة 20:55، وفي ذلك الوقت كان هناك غارة جوية على عدن وهي فكرة اقترحها العميل الموثوق (الذي لا يمكن تسميته أو وصفه لأسباب أمنية) الذي سيقابل الفريق على الشاطئ. كانت تلك الانفجارات الناتجة عن الغارة بهدف التغطية على هدير الطائرتين. وبمجرد أن ارتطم القاربان المطاطيان "زودياك" بالماء وقفز أعضاء الفريق رحلت مروحيتا "شينوك". لم يكن الفريق مستعداً لأيّ مجازفات. ورغم أن الحوثيين لا يقومون بدوريات بحرية، إلا أن أحد شركاء الأعمال القدماء مع علي عبدالله صالح يملك العديد من ناقلات النفط المتوقفة قبالة سواحل عدن، وكان ثمة قلق من أن ترصد رادارات السفن أو المراقبين البحريين الطائرتين والقاربين. باستخدام معدات الرؤية الليلية مسح الفريق المناطق المحيطة ، تم تحديد الاتجاه باستخدام البوصلة ونظام تحديد المواقع. كانوا على بعد 22 كلم (15 ميل بحري) إلى الجنوب من حي "شعب" الذي يمتد على الشريط الساحلي بين "الشيخ عثمان" والمصفاة في شبه الجزيرة التي تعرف باسم "عدن الصغرى". وبسبب التيارات القوية، ستكون الساعة 23:00 قبل أن يقتربوا من نقطة اللقاء الأولى.
تم اختيار شاطئ "شعب" من قبل الاستخبارات الإماراتية والعميل اليمني ليكون موقع اللقاء الأول لكونه يقع بجوار البيت الذي سيتخذه الفريق مقراً له (البيت الآمن 1)، وهو عبارة عن فيلا مجهولة على بعد 6 كلم داخل اليابسة تبرع بها أحد المقاتلين السلفيين، في السماء كانت طائرة "إف – 16" اماراتية تراقب وترصد الحيّ وترسل تقارير بمشاهداتها إلى الرائد عبدالله في القارب المطاطي. كانت الطائرة حلقة الوصل التي تربط مع العالم وذلك نتيجة عدم تواصل هواتف الثريا مع جيبوتي أو أبوظبي. كانت نيران الطلقات الخطاطة تتقوس بكسل في السماء قرب نقطة الهبوط. وفي الوقت الذي كان الإماراتيين يتوقعون بحسب ما قيل لهم وجود سيارتين وخمسة أشخاص في استقبالهم رصد طيار الـ "إف - 16" نحو ثلاثين شخصاً يطلقون النار في الهواء. تبيّن لاحقاً أنهم رجال قبليون يحاولون إسقاط ذخيرة سعودية كان يجري إنزالها بالمظلات إلى رجال المقاومة، على أمل قطع مسارها لتسقط في منطقة الميليشيا ويتم السيطرة عليها أو دفنها أو بيعها. تبادل أعضاء الفريق والرائد عبدالله النظرات: تذكر أحدهم تلك اللحظات: "كنا مصدومين. ها نحن، في أجواء من السرية الكاملة، في هذه المهمة المعقدة. ثم يحدث هذا الأمر"، ثم أضاف ضاحكاً: "لقد كانت بداية طيبة!".
زحف القاربان عبر الميناء الخارجي ببطء، وذلك لإبقاء صوت المحركين منخفضاً، خلال الاتجاه إلى نقطة اللقاء الثانية، الواقعة إلى غرب شبه جزيرة "عدن الصغرى"، بين حياد صخرية وجزر صغيرة. كانت الساعة 01:15 يوم 14 أبريل حين وصلت المجموعة إلى الشاطئ. قام العناصر بإنزال معداتهم وأغرقوا القاربين في المياه الضحلة، ثم بدلوا بزاتهم الرياضية وسراويلهم القصيرة بملابس يمنية زودهم بها العميل. استقلوا سيارات لاندكروزر، وأخبرهم بقصة التغطية لعمليتهم وقال لهم: "ازعموا أنكم نائمون. سوف أقول لنقاط التفتيش إنكم مقاتلون من الريف جئتم للانضمام إلينا". وصلوا إلى آخر نقطة تفتيش قبل "شعب"، عند ما يسمى "الجسر الفارسي"، الذي يربط بين "عدن الصغرى" و"الشيخ عثمان"، كان مقاتلو اللجان الشعبية على الحاجز في حالة من الإثارة بفعل القات، أذهلوا الفريق بإطلاق الأعيرة النارية في السماء ترحيباً بالمتطوعين الجديد. بعد نحو خمس ساعات تأخير عن الموعد المحدد وصل فريق "كوبرا 1-1" إلى البيت الآمن في الساعة 03:41 قرابة الفجر، وتم إبلاغ سالم في جيبوتي وأبوظبي بوصول الفريق، كانت فيلا مبنية من الطوب تقع جنوب مبنى كلية الحقوق بجامعة عدن. وبحيث يكون البيت الآمن في موقع هبوط المروحيات تم اختيار مكانه في في الطرف الشمالي من المناطق الحضرية، مع نطاق واسع لإطلاق النار، لكن هذا يعنى أن العدو ليس بعيداً. من على سطح الفيلا ذات الطابقين يمكن لعناصر الفريق رؤية الدخان من قاذفات الهاون التي يطلقها العدو على بعد أربعة آلاف متر إلى الشمال فحسب، "كانت السرية دفاعنا الوحيد" مثلما تذكر أحد أعضاء الفريق.
بالكاد استقر فريق الكوبرا 1-1 في "البيت الآمن 1" حتى انخرطوا بشكل غير متوقع في القتال، عندما لاحظ الفريق النظرات القلقة والمحادثات الهامسة بين مقاتلي المقاومة بدأ يشعر بأن هناك شيئاً خاطئاً، كان كل واحد من اليمنيين يحمل مجموعة هواتف يستخدمها معاً مثل قائد أوركسترا، رسائل نصية قصيرة ومكالمات هاتفية تصل دون توقف، وكان التجهم بادياً على وجه العميل الذي قال لهم: "يؤسفني فعل ذلك لكم بمجرد وصولكم، لكن الحوثيين قادمون. اليوم سيستولون على عدن الصغرى. يجب أن تغادروا. لا يمكننا حمايتكم هنا". أراد الرائد عبد الله أ معرفة المزيد. أراد رؤية العدو عن كثب لكن في تلك المرحلة لم يكن هناك طائرات استطلاع دون طيار فوق عدن لتحدد أماكن الحوثيين. كان العميل ورفاقه يرسمون صورة عن الواقع الميداني من خلال هواتف موتورولا: بعد سيطرة قوات الحوثي – صالح على الترسانة التابعة للجيش في تعز، حيث نقلت العديد من دبابات "تي – 55" ومدرعات "بي إم بي 1" على الطريق الجبلي السريع الملتوي البالغ طوله 170 كلم، إلى نقطة تجمع "مصنع عدن للحديد"، شمال "عمران". في محاكاة لذات التكتيك الذي أتاح لعلي محسن (الذي كان في حينها يقاتل الجنوب) اختراق دفاعات عدن خلال حرب 1994 الأهلية، مستخدماً "عمران" و"عدن الصغرى" بمثابة "باب خلفي" إلى "الشيخ عثمان".
رأى "عبد الله أ" أن الوضع في عدن كان أكثر خطورة مما توقعه أي شخص. "ذعر الدبابات" هي العبارة التي برزت في الحرب العالمية الأولى، حين واجهت القوات الألمانية للمرة الأولى الدبابات البريطانية وارتدت على أعقابها مصدومة لأنها لم تستطع إلحاق الضرر بالوحوش الفولاذية. كان "ذعر الدبابات" قائماً هنا أيضاً. فالمقاومة كانت تعاني من نقص خطير في قاذفات "آر بي جي" وفي ذات الوقت نُقلت الدبابات الست غير المتحركة التي تملكها إلى جبهات أخرى. قد يجد المدافعون أنفسهم بمواجهة نحو 12 دبابة حوثية تتقدم في هجوم كبير على "عمران" ثم "صلاح الدين"، مدخل "عدن الصغرى" الجنوبي. لكن عبدالله كان واثقاً: لقد عمل مع فريق "التحكم الجوي المتقدم" في أفغانستان، ويعرف ما يمكنهم فعله.
كان من الواضح جداً في ذهن عبدالله أن نية قادته هي القتال، وليس الاختباء. كانت معنويات الفريق عالية. ماذا يمكنه أن يفعل؟ كانوا ثمانية رجال وجهاز إرسال فحسب.
هكذا بدأت الـ48 ساعة الأولى الحيوية من القتال المتواصل لعبد الله ورفاقه ومساعديهم اليمنيين. حين يفكر المرء بعناصر التحكم الجوي المتقدّم، فمن السهل عليه أن يتخيل جنوداً على الجبهة الأمامية يحدّدون الأهداف بأشعة الليزر ويستدعون القصف الجوي ضمن مجال رؤيتهم. لكن بالنسبة إلى عبدالله وفريقه، فإن المعركة كانت بعيدة تماماً، ولكنها كانت حميمية بصورة غريبة، كانوا متجمعين معاً تحت مشمع أزرق تعصف به الريح على السطح، والذي شقه العناصر لكي لا ينتفخ كالشراع. لم يكن مخبأهم ظاهراً من منازل أخرى بسبب الجدار المنخفض المحيط بالسطح. على الأرضية أمام عبد الله وعناصره كانت مجموعة من أجهزة الاتصال: أجهزة سامسونغ وألواح كمبيوتر تجلب الإشارة من خوادم الأقمار الاصطناعية؛ هاتف ثريا محمول وطبق؛ جهاز راديو من نوع هاريس، وهواتف نوكيا القابلة للطي التي تخصّ العميل اليمني ورفاقه. كانت أسلاك الكهرباء والشواحن تمتد عبر السلالم والنوافذ. هكذا بدت غرفة قيادة العمليات الخاصة في الشهور الأولى من المعركة، لم تكن هناك شاشات تلفزيونية كبيرة في تلك المرحلة، بل مجرد شاشات الهواتف الصغيرة، التي لا تخلو واجهاتها من التصدعات.
حين سمح الإنترنت باستعمال خرائط غوغل أصبح لدى الفريق صورة عن جغرافية شمال "عمران". أندهش عبد الله أ وفريقه حين لاحظوا إلى أن تلك المنطقة هي المكان نفسه الذي حطوا فيه في وقت باكر من ذلك اليوم. في الواقع، هاجم الحوثيون الشاطئ بعد ساعتين فقط من وصول الفريق هناك . خلال بحثهم عن الذخيرة السعودية التي ربما تكون قد سقطت في البحر، رصد الحوثيون أشكالاً مظلمة في المياه الضحلة ووجدوا القاربين المطاطيين الغارقين.
كانت الأرض غرب "عدن الصغرى" تُعرف باسم "السبخة" (أرض صحراوية ملحية منخفضة تصبح رطبة خلال موسم المطر أو العواصف، لكنها تجف تماماً في مواسم الحرّ). كانت تبدو الأرض مستوية، لكنها في حقيقة الأمر، ومثل معظم الصحراء، متموجة تتخللها الأودية. نتيجة لذلك، علقت المركبات أعلى طريق 66 السريع. بدأت مقاتلات "إف – 16" الإماراتية والسعودية بالتناوب لتغطية الأجواء فوق تلك المنطقة على مدار الساعة – كان الطيارون وأجهزة الاستشعار عالية الدقة، عيون فريق التحكم الجوي المتقدم في السماء. لم يكن هناك مدنيون في تلك المنطقة وكانت الطرقات فارغة. بعد الطريق السريع إلى جهة الشمال، بدأ الطيارون بإرسال التقارير إلى فريق التحكم عن رصد دبابات العدو ومدرعاته وشاحنات الشاص شاص في الوديان حيث تم اخفاؤها تحت الأشجار في "المناطق الخضراء" حيث سمح توافر المياه بانتشار النباتات. أعلى الطريق السريع كان هناك مصنع ضخم للمعادن، يقع "مصنع عدن للحديد"، الذي بدا أنه المركز الرئيسي لناقلات الحوثي - صالح الثقيلة التي تجلب الدبابات والمدرعات من تعز. بوجود عيون يمنية على الأرض ومقاتلات في الجو، استعان أعضاء فريق التحكم بتطبيقات خرائط غوغل لجمع أجزاء الصورة معاً من داخل خيمتهم المؤقتة.
لم تكن لدى المقاتلة الإماراتية في السماء أية مخاوف بشأن نيران العدو، لذلك حافظت على مدارات تحليق رشيقة في الأعلى. لضمان بيئة آمنة في الأيام الأولى من الحرب استهداف جميع مواقع مضادات الطائرات "أس أيه – 2" و"أس أيه – 3"، في عدن سواء التي يسيطر عليها هادي أو غيره. لم تعد قوات الحوثي - صالح قادرة على التحليق بمقاتلات أو مروحيات بسبب بسبب الدوريات الجوية القتالية للتحالف. بالنسبة إلى فريق التحكم وطواقم الطيران وفرق إعادة التزود بالوقود في الجو، فإن التحدي الأبرز كان الحفاظ على التغطية فوق جبهات القتال، وهو ما تطلب المناوبة الحذرة بين المقاتلات، مثل أوراق اللعب. ولكي يتمكن فريق "كوبرا 1-1" من البقاء في موقعه السري، فإن قواعد حماية القوة العسكرية، تفيد بحاجته أيضاً إلى تغطية جوية دائمة في أجواء البيت الآمن، مما يخلق استنزافاً إضافياً للموارد. ومع ذلك، وعبر الاستخدام الحصيف للغطاء الجوي المتوفر، كانت المقاتلة الإماراتية تنتظر وجاهزة عندما يأتي هجوم الحوثيين.
دمرت الضربات الجوية الأولى مصنع الحديد البالغ طوله خمسمائة متر ومرأب الشاحنات في الخارج. ليبدأ فريق التحكم بعد ذلك باستهداف "الأهداف الديناميكية". استدعى الفريق ثلاث أزواج من الطائرات المقاتلة بشكل متتال لصد هجوم الحوثيين، الذي بدأ قرابة الساعة 23:00 يوم 14 أبريل.
في الضربة الأولى، تمركزت طائرتا ميراج 2000-9، في وضعية تأهب، وكانت كل منهما تحمل ست قنابل موجهة بالليزر زنة 500 رطل، ومزودة بجراب استهداف من نوع شهاب ورؤية أمامية بالأشعة تحت الحمراء. ثم وصل تشكيل من طائرتي "إف - 16"، كل منهما مسلح بدوره بست قنابل زنة 500 رطل ومدفع قناص ورؤية أمامية بالأشعة تحت الحمراء. أخيراً، وصلت طائرتا "ميراج" لإنهاء القتال. كان الطيارون الإماراتيون قد قاموا بمهمات هجومية في أفغانستان وليبيا وسوريا وخلال الأسابيع المحمومة الأولى من عملية "عاصفة الحزم" في اليمن، لكنّ هذه المهمة كانت مختلفة. فقد كانوا يحمون جنوداً إماراتيين في احتكاك مع العدو، في عملية إماراتية منفردة، تعتمد حصراً على استخبارات الاستهداف الخاصة بهم وطواقم إعادة التزود بالوقود وخبراء لوجستيين إماراتيين.
رصدت أجهزة استشعار الأشعة تحت الحمراء للطائرة الهجومية دبابات العدو ومدرعاته مركبات "شاص "، خلال تسعين دقيقة، تردد دوي 36 صاروخاً في أرجاء الصحراء شمال "عمران". تم إحصاء عشرين مركبة تم تدميرها بالكامل من الجو بواسطة رجلين تحت غطاء من المشمع على بعد خمسين كيلومتراً. انتشرت أنباء الانتصار الكبير سريعاً بين المدافعين اليائسين عن عدن. بدأت مآذن المساجد بالتكبير بصيحات "الله أكبر"، واشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي، ومثلها طلقات الرصاص الاحتفالية التي أضاءت سماء عدن. كانت المقاومة قد عرضت العفو عن السجناء في سجون عدن إذا ما تطوعوا للقتال في اللجان الشعبية. لكن قلة قليلة من رجال المقاومة كانت تعلم لماذا أصبحت قوات التحالف الجوية فعالة فجأة، وفي الوقت الحالي فإن عناصر فريق التحكم سيظلون "رجالاً رماديين"، متخفين وغير معترف بهم. حتى الحوثيين، رغم اكتشافهم الزورقين الغارقين على شاطئ "عمران"، لم يستنتجوا حقيقة ما حدث.
جاء ضباط الارتباط التابعين للمقاومة لمقابلة فريق عبدالله وقالوا لهم بعيون دامعة: "لقد أنقذتم عائلاتنا"، فجأة بدا الجنود الإماراتيون الشبان حليقوا الرؤوس مما إثار للإعجاب بالنسبة لليمنيين، يتذكر أحد قادة المقاومة "لقد كانوا ثمانية لكنهم بنظرنا كانوا ثمانية آلاف".
كما هو الحال مع جميع القوات الشريكة التي تحصل على قوة جوية حديثة، لم يتطلب الأمر وقتاً طويلاً حتى أصبحت المقاومة اليمنية مدمنة على الضربات الجوية الإماراتية. وجد عبد الله أ وفريقه، أنفسهم في عالم غريب. لقد ناموا والسماعات على رؤوسهم ، ليستيقضوا في حالة تأهب تام على صوت الطيار لدى وصوله إلى موقع تنفيذ المهمة، أصبح الطيارون وفريق التحكم الجوي المتقدم يعرفون بعضهم البعض من خلال الصوت ورموز الاتصال، سواء في غرفة مظلمة أو على السطح ليلاً، فقد عاشوا في الظلام، دون إنارة سوى تلك التي توفرها الشاشات الخضراء الرمادية والمصابيح التي يضعونها على رؤوسهم. ملأت أجهزة الإرسال الهواء بصراخ غريب متنافر تخللته نوبات مجنونة من الكلام الصاخب وضغط النداءات لطلب الدعم الناري التي يتلقاها المساعدون اليمنيون عبر عشرات الهواتف القابلة للطي.
كان عبد الله أ معتاداً على الحركة والتنقل، لكنه لا يستطيع الابتعاد عن سماعات الأذن واتصالاتهم اللامتناهية لطلب توجيه الضربات. في غرفة خانقة مظلمة يسير حافي القدمين وبسروال قصير، لم يكن عبدالله ذو المظهر الفتي، يمتلك الوقت ببساطة للقيام بالدور الآخر من استشارات العمليات الخاصة، تلك التي تسمى بـ "الاشتباك الرئيسي للقائد" مع مجلس المقاومة.
في الطرف الآخر من هاتف الثريا في جيبوتي، كان سالم د. يضغط على رؤسائه في أبوظبي للحصول على فرصة الذهاب إلى عدن لتولي عملية "الاشتباك الرئيسي للقائد". وانطلاقاً من رغبته الكبيرة في الخروج من جيبوتي والذهاب إلى الجبهة، جرب سالم كل حجة ممكنة، بما في ذلك أنه أكبر بقليل من عبدالله ولديه لحية كاملة وسوف يبدو أكبر سناً بالنسبة إلى اليمنيين، أما عبدالله والآخرون فإن لحاهم ما زالت قصيرة.
بعد ثلاثة أيام محطمة للأعصاب من أذونات الذهاب المرفوضة حصل سالم على الإذن "للمضي قدماً" إلى عدن صباح 21 أبريل، اليوم نفسه الذي أعلن فيه التحالف نهاية الحملة الجوية، عملية "عاصفة الحزم"، وبداية مرحلة جديدة، عملية "إعادة الأمل". في تلك الليلة سوف يتم إنزال سالم من خلال القفز من المروحية (هيلوكاست) في خليج عدن مع ستة من "قيادة العمليات الخاصة". رغم مرور سنوات على تلك الليلة، بقيت كل تفاصيلها والمشاعر التي اكتنفته خلالها واضحة تماماً: "حتى بعد عشرين عاماً في الجيش، كان الأدرينالين لدي في أعلى مستوياته. هذه المهمة كانت بمثابة الهدية في نهاية حياة عسكرية. ليست بالمهمة البسيطة. بل أفضل ما يمكنني تقديمه لبلدي. وهي مهمة للإمارات، ولقيادة العمليات الخاصة. لإثبات قيمة هذا الفريق. لإثبات لماذا نحن متميزون، ولماذا استثمر الشيخ محمد بن زايد فينا منذ العام 1991. كل هذا يجعلك تنسى الخطر الماثل أمامك، ويجعلك تمضي إلى وكر الشياطين".
كانت الساعات الأخيرة منهكة للأعصاب، هذه المرة حُمّل الزورقان في مروحية "الشينوك" نفسها التي حلقت من جيبوتي الساعة 21:36. وعند الساعة 22:53 أوصلت الطائرة فريق سالم في موقع اللقاء. وحدتا نظام تحديد المواقع اللتان يحملهما الفريق، لم تعملا، فقام سالم بعملية رصد بصري وبالبوصلة لخط الساحل وانطلقت القوارب بهدوء إلى موقع اللقاء، وهي جزيرة صخرية تدعى "صليل كبير"، قبالة "عدن الصغرى" مباشرة. كانت ليلة مشرقة بالنجوم شديدة الوضوح ولا توجد فيها سحابة. في موقع اللقاء حاول الفريق مرة أخرى الحصول على قراءة من نظام تحديد المواقع وحاولوا استخدام هاتف الثريا للتواصل مع عميل محلي سوف يستقبلهم بقارب صيد. في تلك اللحظة تماماً أعمى أبصارهم ضوء كشاف. كان ثمة قارب في الجوار، أخبر سالم رجاله بعدم إطلاق النار وعكس اتجاه الزورقين بهدوء. عند الساعة 01:04 اتجه الفريق إلى موقع اللقاء الثاني وهو جزيرة أخرى صغيرة قبالة "عدن الصغرى"، وكان القارب الغامض يقوم بتمشيط المياه خلفهم باستخدام كشافه. عند الساعة 01:34، وصلوا إلى الموقع الثاني ووجدوا العميل بنتظارهم بقارب خشبي كبير مليء بشباك الصيد، وأحشاء الأسماك والمياه الملوثة بالديزل. بعد السلام والعناق والقبل، شعر العميل بالحرج عنما سمع بأمر الكشاف الضوئي، فقط نسي رشوة فريق خفر السواحل الذي كانوا ما زالوا يقومون بدوريات في المياه بجوار المصفاة والميناء النفطي.
بعد بضع دقائق وصل فريق سالم إلى شاطئ "عدن الصغرى" تحت سماء مقمرة تتناثر فيها سحب بيضاء رقيقة. استقبلهم فريق من ثلاثة مقاتلين ملتحين يقودهم أبو محمد وأبو أنس، وهما سلفيان معتدلان. لم يشعر سالم وفريقه بالراحة مع مضيفيهم الجدد، فقد ظلوا مرتابين من الخيانة يمسحون محيطهم بحذر، ويستخدمون أسماء مستعارة. حملتهم حافلة صغيرة إلى موقع اختباء جديد في "شعب"، البيت الآمن 2 الذي يملكه قائد عمليات المقاومة هاشم السيد، والذي كان يبعد 380 متراً فقط عن البيت الآمن الأول. كانت الساعة 02:49 حين وصلوا وبدأوا بإعداد الاتصالات ومواقع القناصة على السطح.
سرعان ما وصل قادة كبار من مجلس المقاومة لمقابلة سالم جلب هاني بن بريك، أفضل خطيب وداعية للمقاومة، معه عشرين من القيادات الأعلى رتبة وضابط الاستخبارات الخاص به عبدالرحمن المحرمي، الذي يكنى باسم أبو زرعه. سرعان ما تبين لسالم أنه قام بالخطوة الصحيحة بالذهاب إلى عدن. أولئك القادة كانوا محتاجين إلى ضابط اتصال معهم، والأمور بمجملها لم تكن على ما يرام في المقاومة التي تكبّدت للتو ضربة أخرى كبيرة حين قتل أربعون مقاتلاً في هجوم كارثي على خطوط الحوثي في "الشيخ عثمان". قال لهم سالم إنه سيأتي لهم بمزيد من الدعم ويخفض خسائرهم ووعدهم "سأوقف نزيف مقاتليكم وأحقق لكم النصر".
كان لدى سالم شرط واحد: أن يعينوا قائداً عسكرياً ليكون نظيراً له ويتحدث باسم كافة أعضاء مجلس المقاومة في الشؤون العسكرية. بالإجماع تقريباً، اختاروا صاحب البيت الآمن، هاشم السيد. متسلحاً بالسلاح العربي الأفغاني، وهو البديل القصير للكلاشينكوف 47 ويعرف باسم كرينكوف، كان هاشم قيادياً سلفياً يتمتع بالاحترام وقد قاتل الحوثيين في الحروب الستة. كان أيضاً شخصية مرحة، في حياته السابقة، كان لاعب أكروبات تدرب على يد الروس. أعطه مدفع 23 ملم وبعض الإطارات الجديدة لعربته المدرعة، صاح هاشم بثقة، وسوف يكونون جاهزين لاستعادة عدن. ابتسم الجميع: سوف ينتصرون.
ابتسم الجميع باستثناء رجل واحد. كان هذا الرجل الهادئ ذو الملامح الوسيمة، ضابط الاستخبارات أبو زرعه، وهو سلفي آخر، هو من رسم صورة مختلفة عن جهود المقاومة التي أوشكت على الانهيار، على الرغم من جهود الإماراتيين البطولية.
احتاج سالم إلى سماع كلام إيجابي واثق، في حين بدا أبو زرعه سلبياً ساخراً. لكن قبل أن يمر وقت طويل، أدرك سالم أن أبو زرعه كان المراقب الأذكى في المقاومة وبين قادة الجبهات – رجل لديه عطش لا يضاهى للتفاصيل وذاكرة فيل. كان انتصار "عمران" وحشد قادة الميليشيا، بمثابة مهلة مؤقتة أعطت الوهم بأن النصر في متناول اليد. في حقيقة الأمر، كان الكثير من جبهات المقاومة يعيش في الوقت الضائع.
كان وصول أول فريق من قيادة العمليات الخاصة إلى الشاطئ في 13 أبريل، مصدر راحة كبير. لكن في تلك الليلة، كانت أنظار الشيخ محمد بن زايد تتجه إلى التحدي التالي. كان قادة العمليات منشغلين على مدار الساعة بإكمال مختلف الاستعدادات المتعلقة بالتدخل العسكري، بينما يأخذ محمد بن زايد نظرة متبصرة وأعمق فقد كان لديه قدرة فريدة على جعل الأمور تحدث.
ليلة وصول فريق "كوبرا 1-1"، أمر الشيخ محمد بن زايد قائد حرس الرئاسة "أم جي أم" والقادة الأخرين بالقيام بالترتيبات اللازمة لنقل مدفعية "هاوتزر جي 6" ذاتية الدفع بشكل سري إلى الشاطئ، وهي مدفعية 155 ملم من صنع جنوب أفريقيا، قادرة على توجيه ضربات دقيقة ومدمرة على أيّ نقطة في عدن. من وجهة نظر الشيخ محمد بن زايد فإن "هاوتزر جي 6" ستكون الأداة المثالية لمضايقة واعتراض خطوط الإمداد الحوثية إلى عدن. فكانت هذه الفكرة النواة لسلسلة متصاعدة من التحضيرات لعمليات الهبوط البرمائية في عدن. ولتشغيل المدفعية بصورة آمنة في عدن، فإن ذلك يتطلب جهوداً هندسية لجلبها أولاً إلى الشاطئ، ثم قوة لحمايتها، ووجود زورق على بعد 5 كلم من الساحل في حالة الحاجة إلى استخراجها بصورة طارئة، إضافة إلى ضباط استخدام المدفعية وصيانتها. لهذه الأسباب نفسها، رفضت فكرة إرسال مقاتلة أباتشي التي يتطلب تشغيلها مستوى أكبر من الدعم، كما أنها تشكل هدفاً أكثر جاذبية للعدو.
بينما أصبحت القاعدة في جيبوتي أقل قابلية للاستمرار يوماً بعد يوم، أخرج الشيخ محمد بن زايد جهازه اللوحي، واقترح بديلاً كان يحتفظ به لمناسبة كهذه.
كان الميناء النائي وغير المستعمل الذي يفكر به هو ميناء "عصب"، في إريتريا المنعزلة على البحر الأحمر. كان الأب المؤسس لدولة لإمارات الشيخ زايد، أسس علاقات قوية مع أسياس أفورقي الذي حكم إريتريا زمناً طويلاً، وكانت دولة الإمارات تفاوضت مؤخراً على استئجار القاعدة للاستخدام العسكري لمدة تسعة وتسعين عاماً. لم تكن "عصب" أبعد من جيبوتي عن عدن، ويمكن للإمارات الحصول فيها على حرية التنقل كاملة دون معوقات. لم تكن تلك المرة الأولى ولا الأخيرة، التي يقدم فيها الشيخ محمد بن زايد خياراً لم يفكر به أحد. مثلما تذكر "أم جي أم": "كان صاحب السمو يفكر دوماً خارج الصندوق. لطالما فاجأ قادته العسكريين، لاسيما في تلك الأيام الأولى من حرب عدن. كما ترى فهو قادر على جعل المستحيل ممكناً".
كان الجيش الإماراتي حريصاً على الهجوم وسرعان ما صدرت إشارات من عدن على أن المقاومة في حاجة ماسة للنصر – ليس من خلال تدمير قوات العدو من الجو فحسب، بل تحقيق انتصارات واضحة داخل مدينة عدن. كانت النهاية المفاجئة لعملية "عاصفة الحزم" في 21 أبريل قد أربكت المقاومة، بل وأربكت الجنود الإماراتيين الذين وصولوا حديثاً إلى عدن. قالت قيادة التحالف في الرياض أن العملية "حققت أهدافها العسكرية" فانقطعت الضربات الجوية فوراً. بالنسبة إلى المقاومة في عدن، أصبح المستقبل غير مؤكد فجأة؛ هل يعني هذا نهاية تدخل التحالف العسكري؟ ماذا عن قوات الحوثي - صالح في عدن؟ على الأرض، كان سالم د. يشعر بالحاجة إلى الحفاظ على الزخم. وكانت أوامر الشيخ محمد بن زايد لقائد حرس الرئاسة واضحة تماماً: "علينا تحفيز المقاومة واستعادة عدن. علينا أن نقود، ونقاتل وندرب. هذه ستكون عملية الإمارات المنفردة الكبرى، وسوف تكون تاريخية، وبالتالي علينا أن ننتصر".