( 2 )
هل لينين خالف كارل ماركس وتبنى رأسمالية الدولة في الاتحاد السوفييتي ؟
ارتبط النظام الرأسمالي منذ نشوئه بالدولة، التي لعبت دورًا كبيرًا في دعمه وحمايته وتوفير الفرصة له للنمو. فمنذ نشوء الرأسمالية خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر (مرحلة الرأسمالية التجارية) لعبت الدولة دورًا كبيرًا في دعم رأس المال التجاري من خلال قيامها بمنح التمويل والامتيازات والاحتكارات للتجار والشركات التجارية الضخمة عبر البحار. وسعت الدولة خلال هذه الفترة لفرض السيطرة على الدول الأضعف للحصول على مصادر إضافية للثروة. وبالتالي، ومن خلال قيامها بهذا الدور، استطاعت الدول الأوربية دعم برجوازياتها الوطنية البازغة اقتصاديًا وتهيئة المناخ لها للنمو.
بعد ذلك ومع ظهور رأس المال كطبقة مسيطرة في المجتمع الطبقي بدأت تظهر أكثر فأكثر الصلة الوثيقة بينها وبين الدولة التي تحمي مصالحه وتنحاز له في مواجهة الطبقات الأخرى. وهذا هو السبب الذي يجعل الماركسيين يصفون – عن حق – الدولة الحديثة والمعاصرة بأنها “دولة رأسمالية” أي أنها تنحاز لرأس المال وتخدم مصالحه، أو بمعنى أدق تمثل التعبير السياسي عن السيطرة الكاملة للرأسمالية على الجميع في ظل النظام الرأسمالي.
هذا الارتباط بين الدولة ورأس المال يتضح بدرجة أكبر إذا نظرنا إلى الدور الذي لعبته الدولة في دعم الرأسمالية في مواجهة الطبقة العاملة في مرحلة نشوء الرأسمالية الصناعية. ففي إنجلترا على سبيل المثال استطاعت الرأسمالية الصناعية استصدار تشريع في سنة 1799 يحرم على العمال في كافة الصناعات التجمع من أجل الحصول على أجور أعلى أو ساعات عمل أقل، أي أن الدولة استخدمت جبروتها وقوتها لقمع تحرك العمال. وهو ما كان له أكبر الأثر في إطلاق قبضة الرأسمالية الصناعية في تشديد استغلال العمال بدون السماح لهم حتى بالاعتراض.
هذا مثل واحد وعلينا أن نضعه في سياق الدور الذي لعبته الدورة الرأسمالية بشكل عام في هذه المرحلة (مرحلة نشوء الرأسمالية الصناعية) في توفير المواد الخام وفتح أسواق جديدة للبرجوازية الصناعية، ثم في المرحلة التي تليها (مرحلة الإمبريالية) من خلال استخدام القوة العسكرية لفرض السيطرة على المستعمرات في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
ولم تتخل الدولة عن لعب دور الداعم والحامي للرأسمالية بعد المراحل الأولى من نمو الرأسمالية، بل على العكس. فبازدياد المنافسة – والتي تعد جوهر النظام الرأسمالي – نجد أن الدور الذي تلعبه الدولة في ازدياد ويتخذ أشكال أكثر وضوحًا وأكثر عنفًا في بعض الأحيان. أما لماذا يتجه دور الدولة للتعاظم باشتداد المنافسة فهو الأمر الذي يمكن فهمه في ضوء فهمنا لطبيعة النظام الرأسمالي ذاته والمحرك الرئيسي له ألا وهو الرغبة في التراكم. فحتى يستطيع أي رأسمالي الاستمرار في السوق لا بد أن يقوم وبشكل مستمر بمراكمة المزيد من رأس المال واستخدام جزء منه لتطوير وتجديد أدوات إنتاجه ولمحاولة الابتكار حتى يستطيع الاستمرار في المنافسة وحتى لا يقوم منافسوه بإزاحته من السوق. ونتيجة لهذه العملية ونتيجة لميول الأزمة الكامنة في النظام الرأسمالي يتجه عدد الوحدات المتنافسة في السوق إلى التناقص، بينما تتزايد ظاهرة سيطرة حفنة من الشركات الكبرى على صناعات بكاملها، وهي العملية التي أطلق عليها ماركس “تركيز وتمركز رأس المال”. وقد أدت الأزمات الاقتصادية التي شهدها الاقتصاد العالمي في العشرين عامًا الماضية إلى حدوث زيادة أكبر في تركيز رأس المال، مع سلسلة الشراء والاندماج بين الشركات التي تعبر الحدود الوطنية.
هذا الاتجاه نحو تركيز وتمركز رأس المال أدى لدوره لحدوث تغير في علاقة الدولة برأس المال. فسيطرة مجموعة من الشركات العملاقة على اقتصاد دولة ما يعني أنه في حالة تدهور أداء شركة ما أو إفلاسها يعني هذا تهديد لاقتصاد هذه الدولة بكامله! وفي ظل انتقال المنافسة للمستوى العالمي لا يقل بل يتزايد ويتعاظم دور الدولة في تقديم الدعم لشركاتها العملاقة في مواجهة شركات الدول الأخرى حتى لو وصل الأمر للتهديد باستخدام القوة العسكرية المباشرة من أجل حماية مصالح برجوازية هذه الدولة.
وقد كان الميل نحو قيام الدولة بلعب دور أكبر في الاقتصاد (بالتحديد دور الرأسمالي ذاته)، أو ما يسمى بالميل نحو رأسمالية الدولة، هو الميل السائد في الرأسمالية العالمية على مدى عقود عديدة في القرن العشرين. وفي ظل هذا الاتجاه ظهر الاتحاد السوفيتي الذي كان تجسيدًا لرأسمالية الدولة في أقصى حالاتها، أي أنه كان حالة خاصة من القانون العام.
فمع صعود الستالينية والانحراف عن مبادئ الثورة الاشتراكية وجد الاتحاد السوفيتي نفسه في وضع خطير كدولة متخلفة صناعيًا محاطة برأسماليات متقدمة تمثل تهديدًا دائمًا له. فكان الحل أمام ستالين هو الشروع في بناء صناعة قوية بأقصى سرعة حتى يكون في مقدور الاتحاد السوفيتي إنتاج المعدات الحربية بنفس قدرة هذه الدول. ونظرًا لسيطرة الدولة الستالينية على وسائل الإنتاج بشكل كامل ولعدم وجود ملكية خاصة كان في إمكان الدولة في الاتحاد السوفيتي أن تكثف من استغلال العمال بشكل قاسي من أجل تحقيق هذا الهدف بدون إبطاء ومن أجل أن تكون قادرة على المنافسة مع الرأسماليات القوية.
وتثير فكرة أن الاتحاد السوفيتي دولة رأسمالية العديد من الانتقادات. حيث يرى البعض أنه بما أنه لا توجد ملكية فردية لوسائل الإنتاج داخل الاتحاد السوفيتي بل على العكس توجد ملكية دولة وتخطيط وتحكم مركزي في وسائل الإنتاج، فإنه من المستحيل القول بأن تلك الدولة كانت رأسمالية خاصة في ظل غياب المنافسة بين الرأسمالية والتي تعد جوهر النظام الرأسمالي هناك.
هذه الانتقادات تقوم على نظرة خاطئة ترى الاتحاد السوفيتي كوحدة معزولة وغير مرتبطة بالاقتصاد العالمي. وإذا ما اقتصرنا على هذه النظرة الخاطئة فلا بد بالفعل أن نسلم أن الاتحاد السوفيتي هو حلقة في سلسلة رأسمالية عالمية. وبصفته هذه يمكننا أن نكتشف طابعه الرأسمالي الأكيد. فالمحور الرئيسي لكل القرارات الاقتصادية الأساسية في الاتحاد السوفيتي كان ضرورات المنافسة مع الغرب، أي ضرورات المنافسة بينه، (بين رأسمالية الدولة السوفيتية) وبين الرأسماليات الغربية. المنافسة إذن كانت أساس النظام الرأسمالي السوفيتي، ولكنها منافسة من نوع خاص تسود فقط في عصر الإمبريالية ورأسمالية الدولة.
وتنبع أهمية تمسكنا بنقد الرأي القائل بأن الاتحاد السوفيتي لم يكن دولة رأسمالية وإنما كان دولة عمالية في طريقها للاشتراكية، من الانعكاسات المستتبعة لهذا الرأي، وهو لما يجعل من نقدنا أمرًا ذو أهمية حالية وليس فقط حديثًا تاريخيًا من أجل تصفية الحسابات. فأولئك الذين يرون أن الاتحاد السوفييتي كان دولة عمالية يتبنون دائمًا تصورات غير اشتراكية وغير ثورية بصدد طبيعة الثورة الاشتراكية والمجتمع الاشتراكي. فإذا ما كان الاتحاد السوفيتي بالنسبة لأي أمرؤ كان دولة اشتراكية، فبالتأكيد أن صاحب هذا الرأي سوف يدعو إلى تبني النموذج الستاليني للدولة والاقتصاد (أي سوف يدعو إلى تبني نموذج قائم على القمع والاستغلال) بوصفه الهدف الاشتراكي! أما إذا كان صاحب هذا الرأي يرى أيضًا أن دول أوربا الشرقية كانت دولاً اشتراكية، فإنه بالتأكيد سوف يضيف إلى انحرافه الأول انحرافًا آخر أفظع يتعلق بتصوره عن طبيعة الثورة الاشتراكية (حيث يرى أنه من الممكن أن تتم ثورة اشتراكية بدون دور للعمال فيها كما حدث في أوربا الشرقية).
وإضافة إلى إصابته لليسار الستاليني والإصلاحي بدوار أيديولوجي، فقد كان لانهيار الاتحاد السوفيتي آثار كبيرة على تفكير عدد من الاقتصاديين اليساريين. فقد بدأ هؤلاء يبشرون ببداية عهد جديد تكتسح فيه عولمة رأس المال كل العوائق والحواجز بما فيها الدولة. ويستعين هؤلاء في محاولتهم لإثبات موقفهم بالتحولات التي تشهدها الرأسمالية العالمية في العقدين الأخيرين، بما فيها ظهور مجموعة من الشركات المتعدية للقوميات تتجاوز ميزانياتها ميزانيات الدول ودرجات الاندماج والتركز في الاقتصاد العالمي ليؤكدوا أنها قد خلقت ما يمكن أن يسمى برأس المال العالمي المتجانس وبالتالي فلا حاجة للدولة.
والواقع أن هذه الآراء تغفل حقيقة هامة للغاية. فتركز رأس المال على المستوى العالمي ليس أمرًا جديدًا أولاً، وثانيًا يعبر عن احتدام المنافسة أكثر مما يعبر عن المزيد من التجانس والتوافق وأخيرًا وليس آخرًا فهو تعبير عن زمن الأزمة الرأسمالية التي تصبح فيها للدولة أهمية قصوى. ويكفي بالنسبة لنا أن نشير إلى التقرير الأخير للبنك الدولي الذي ينبه قيادات الطبقة الرأسمالية إلى أهمية دور الدولة في مواجهة أزمة الرأسمالية. ولا يتوقف الأمر عند ذلك، فأزمة جنوب شرق آسيا الأخيرة ترينا أن الدولة تبقى صمامًا أساسيًا لمحاصرة آثار الأزمات ولحسم الخلافات بين الطبقات الرأسمالية المختلفة.
إن الرأسمالية قائمة بالأساس على استغلال الملايين من البشر وعلى قمعهم وعلى منافسة حادة تأخذ أحيانًا أبعادًا عسكرية وبالتالي فإن أهمية الدولة التي عرفها ماركس بأنها لجنة إدارة شئون الطبقة الحاكمة تبقى حاسمة.