ليو الطرابلسي أحد أبطال البحرية الإسلامية
أ.د علي بن محمد عودة الغامدي
أ.د علي بن محمد عودة الغامدي
ليو الطرابلسي ، ويُنطق اسمه أيضاً لاون وليون ، وهو غلام زرافة ، وزرافة كان حاجباً للخليفة العباسي المتوكل.
والراجح أن ليو الطرابلسي وقع في ايدي المسلمين حين كان صغيراً خلال غارة شنها الفضل بن قارن على ميناء أنطالية البيزنطي الواقع في جنوب آسيا الصغرى سنة 246 هجرية ، واصبح ليو الطرابلسي من نصيب زرافة حاجب المتوكل ، فنشأ نشأة إسلامية ، ولكن الرواية البيزنطية تذكر انه نبذ النصرانية واعتنق الإسلام حين كان شاباً ، واستقر في طرابلس في الشام ولذلك عُرِفَ بالطرابلسي ، ولذلك تصفه المصادر البيزنطية وسائر الدراسات الغربية الحديثة عن الدولة البيزنطية بالمرتد ، وذلك من وجهة نظرهم الدينية الباطلة ، والحقيقة أنه باعتناقه الإسلام خرج من الظلمات إلى النور.
واصبح ليو ضمن المجاهدين في البحر ضد البيزنطيين ( الروم) ، وبخاصة من اهل طرسوس وطرابلس وكريت وغيرها.
وشن ليو الطرابلسي عدداً من الغزوات البحرية على سواحل آسيا الصغرى الجنوبية وفي عمق دولة الروم ، وشارك وقاد عدد من المعارك البحرية التي تصدت لغزوات بحرية قام بها الروم ضد إمارة كريت الإسلامية وغيرها . وقبل ان نتحدث عن أبرز غزواته ينبغي أن نشير ان تلك الغزوات كانت بجهوده الشخصية وبجهود من كان ينضم إليه من أهل طرسوس ومن مسلمي كريت ومن بعض موانئ الشام ومصر ، ولم يكن للخلافة العباسية أي دور في دعم غزواته لأنها كانت مشغولة حينذاك بفتن القرامطة وخطرهم وغاراتهم المتواصلة على بلاد الشام ، إضافة إلى أن مصر كانت قد انفصلت عن الخلافة زمن الدولة الطولونية التي دخلت بدورها في عصر الضعف والاضمحلال. وبهذا يمكن تقدير الغزوات الجريئة التي قادها ليو الطرابلسي ضد الدولة البيزنطية.
وسنعرض هنا أهم غزوتين قام بها ليو الطرابلسي ضد الدولة البيزنطية في سنة واحدة ، وأحرز فيهما انتصارين باهرين وكانت الغزوتان ضربتين موجعتين للدولة البيزنطية.
وحدثت الغزوة الاولى سنة 291 هجرية/904م حيث انطلق ليو الطرابلسي من عروس الثغور الشامية مدينة " طرسوس " ومعه بعض المجاهدين الذين تمرسوا في الغزو في البحر واتجه في ساحل آسيا الصغرى غرباً وانقض على أكبر موانئ الروم على هذا الساحل وهو ميناء " أنطالية " ، وهي مسقط رأسه ، واقتحمها بالسيف عنوة وقتل من الروم نحو خمسة آلاف رجل وأسر نحواً من ذلك ، كما انقذ أربعة ألآف من الأسرى المسلمين الذين كانوا مسجونين في أنطالية. وتمكن من الإستيلاء على القاعدة البحرية البيزنطية في انطالية وغنم منها ستين مركباً ، فشحنها بكل ما غنمه من الذهب والفضة والمتاع والرقيق. واجمعت المصادر على انه قُدِّر نصيب كل رجل من اصحاب ليو الطرابلسي الذين شاركوا معه في هذه الغزوة بألف دينار ذهباً.
واستبشر المسلمون بهذا الفتح ، ووصلت الأخبار بهذا النصر المبين إلى بغداد في رمضان سنة 291 هجرية/ 904م.
أما الغزوة الثانية وهي الأقوى والأخطر على الدولة البيزنطية (دولة الروم) فكانت في سنة 291 هجرية ، بعد الهجوم على أنطالية مباشرة. وهي غزوة سالونيك ، وكان الهدف من تلك الغزوة الانتقام من الدولة البيزنطية التي دأبت طوال نحو خمسين سنة سبقت الغزوة على شن غزوات بحرية عنيفة على إمارة كريت الإسلامية وعلى الولايات الإسلامية في صقلية وجنوب إيطاليا فضلا عن غاراتها البحرية على سواحل مصر والشام .
وكانت سالونيك في ذلك الحين قاعدة للأسطول البيزنطي ، وفيها ترسانة بحرية لصناعة السفن وإصلاحها ، وتلي سالونيك القسطنطينية في الأهمية ، وهي عاصمة إقليم مقدونيا ، وتُعتبر ملتقى طرق عديدة واهمها الطريق القديم الذي كان يربط بين روما العاصمة الرومانية القديمة وبين القسطنطينية وبلاد الشرق وتقع على راس خليج يمتد بعمق من بحر إيجه إلى داخل بلاد اليونان. وقد بُنيت سنة 315ق.م ، وسُميت بإسم سالونيكي ابنة موحد بلاد الاغريق فيليب المقدوني ، وشقيقة ابنه الأسكندر الأكبر.
ولسالونيك أهمية دينية فقد ورد ذِكْرُها في الكتاب المقدس عند النصارى ، فقد وجَّه بولس الذي يسميه النصارى بالرسول رسالتين إلى أهل تسالونيكي ، الأولى : تقع في خمس اصحاحات وتستغرق خمس صفحات ، والثانية : تقع في ثلاث اصحاحات وتستغرق ثلاث صفحات. إضافة إلى أن ضريح المدعو " القديس ديمتريوس " يقع داخل هذه المدينة ، وكان الروم وبخاصة اهل تسالونيك يقدسونه إلى درجة العبادة له من دون الله ويلجأون إليه في الملمات والشدائد لينقذهم منها طبقاً لعقائدهم الباطلة. وكل هذا يشير إلى أهميتها الدينية في الوجدان الرومي ( البيزنطي ). كما كانت سالونيك مركزاً فكرياً وثقافياً وفنياً يضاهي العاصمة القسطنطينية.
ويمكن اعتبار سالونيك في ذلك الحين بمثابة العاصمة الاقتصادية للدولة البيزنطية ، فقد نمت فيها تجارة الاستيراد والتصدير بشكل كبير وأصبحت من أشهر الحواضر التجارية في الدولة البيزنطية وفي اوربا العصور الوسطى فكانت السفن التجارية تقصدها من كل مكان محملة بمنتجات الأقطار القادمة منها ، ويتم فيها تبادل السلع فتعود كل سفينة بسلع اخرى الى بلدانها غير تلك التي جاءت بها. وكان بها سوق سنوي كبير يستمر أسبوعاً ويقصده التجار من سائر ارجاء العالم يسمونه " سوق القديس ديمتريوس " حيث تزدحم سالونيك بالوافدين إلى ذلك السوق. وأصبحت تنافس وتضاهي العاصمة القسطنطينية في المكانة والسمعة. ومما ساعد سالونيك على الازدهار الاقتصادي انها لم تتعرض لتهديد مباشر خلال قرنين من الزمان قبل غزوة وليم الطرابلسي.
وقد خرج ليو الطرابلسي من طرسوس بعدد من السفن المحملة بالمجاهدين وانضم إليه عدد آخر من سفن إمارة كريت المسلمة أضافة الى سفن من موانئ الشام ومصر بحيث اصبح تحت إمرة ليو الطرابلسي اربعاً وخمسين سفينة تجمعت في كريت وأبحرت شمالاً صوب بحر إيجه.
وتذكر بعض المراجع الغربية ان الهدف الذي انتوى ليو الطرابلسي ان يتجه إليه هو العاصمة القسطنطينية ، لكن من الصعب التسليم بهذا الرأي ، إذا يبدو أن هؤلاء المؤرخين توهموا هذا الهدف من خط سير ليو الذي اقترب من القسطنطينية وهاجم بعض المناطق في بحر مرمرة كنوع من التضليل والتمويه على هدفه الحقيقي وهو سالونيك ، إضافة إلى أن القائد ليو الطرابلسي متمرس في الحروب البحرية ضد البيزنطيين ويعرف حصانة القسططنطينية وموقعها الفريد ، وأنه لا يمكنه ان يغزوها وينتصر عليها إلا بقوات بحرية وبرية كبيرة جداً ، وهذا غير متوفر له فليس تحت يده سوى أربع وخمسين سفينة برجالها لذلك فإن هدفه كان منذ البداية مدينة سالونيك الضعيفة التحصين والتي لا يحيط بها إلا أسوار ضعيفة وبعض أجزاء الاسوار منخفضة يسهل اقتحام المدينة منها.
وسار ليو الطرابلسي بسفنه في بحر إيجه ثم اتجه نحو مضيق الدردنيل، وأغار على مدينة أبيدوس الواقعة شرقي المضيق ، ونجح ليو الطرابلسي في خداع الروم فقد توهم الامبراطور البيزنطي ليو السادس ، المُلَقَّب بالحكيم ، أن هدف الطرابلسي هو القسطنطينية ، فامر قائد الاسطول البيزنطي إيستاثيوس Eustathius بالتصدي للطرابلسي ومنعه من الوصول للقسطنطينية، وأخذ القائد البيزنطي يراقب تحركات الطرابلسي الذي عبر الدردنيل وحاصر مدينة باريوم في جنوب بحر مرمرة ، ثم انسحب عنها وعاد أدراجه عبر مضيق الدردنيل واتجه في بحر إيجه صوب شبه جزيرة خلقدونية ، ودار حولها متجهاً إلى سالونيك ، وارتكب القائد البيزنطي خطأً فادحاً ، ولم يواجه الطرابلسي وعاد إلى القسطنطينية باسطوله ليخبر الإمبراطور بهدف الطرابلس الحقيقي. ويبدو أن الامبراطور غضب على قائده ، فعزله وأسند قيادة الأسطول لوزيره الاول هيميريوس Himerius ، لكن هيميريوس ادرك ان الطرابلسي قد فاته فعاد إلى القسطنطينية.
وحاول الامبراطور ، بعد ان ادرك ضعف تحصينات سالونيك ، تقوية تحصيناتها ، وقام بإرسال دفعات من القوات إلى سالونيك ، وعلى رأس كل دفعة قائد جديد ، فوقع الأضطراب بين أولئك القادة ، و أصبح كل قائد يضع خططه الخاصة بالدفاع ، ثم ياتي القائد الذي بعده فينقضها ويضع خطة جديدة ، وكان أولهم بتروناس Petronas الذي عدل عن تقوية الاسوار ، وأمر بإلقاء أحجار كبيرة حول رصيف الميناء لتعوق سفن المسلمين من الدخول ، وجاءت دفعة ثانية من القوات بقيادة قائد يُدعى ليون ، فامر بوقف إلقاء الأحجار في المياه المحيطة برصيف الميناء ، وشرع في ترميم الأسوار وتحصينها ، وجاءت الدفعة الثالثة من القوات بقيادة قائد يدعى نيقتاس Niketas فانضم إلى ليون وأثنا تفقدهما لأسوار سالونيك سقط ليون عن ظهر فرسه وأصيب بجروج شديدة ، فعمد نيقتاس الى تكوين جيش جديد من سكان المدينة غير المُدربين ، كما استقدم بعض الجنود الصقالبة من المناطق القريبة من سالونيك.
اما معظم سكان سالونيك فقد لاذوا بكنائسهم وبضريح " قديسهم ديمتريوس " يستغيثون به ويتضرعون إليه ان يحميهم من غزو المسلمين لمدينتهم.
وتقدّم ليو الطرابلسي برجاله وسفنه نحو سالونيك فوصلها يوم الاحد الثاني عشر من رمضان سنة 291 هجرية/الموافق 29 يوليو 904م. فساد الخوف والذعر بين أهالي سالونيك وانغمسوا في شركهم داخل كنائسهم يتضرعو ويستنجدون بقديسهم ديمتريوس.
وتقدم ليو الطرابلسي بقواته وشن هجمات سريعة بهدف اختبار قوة التحصينات عن سالونيك وقدرة المدافعين عنها. وفي الثالث عشر من رمضان 291 هجرية/ 30 يوليو 904م هاجم المسلمون أسوار سالونيك واستخدموا المنجنيقات والسهام وتمكن بعضهم من الوصول إلى الجزء الشرقي من الأسوار وهاجموا بوابة تُسمى بوابة روما ، وأسندوا بعض السلالم على السور للصعود إلى أعلى السور ، ولكن المدافعين تمكنوا من صد هذه المحاولة. وطبق المسلمون في آخر اليوم خطة جديدة تتمثل في ملء قوارب صغيرة بالنفط والكبريت والحطب ونقلوها إلى جوار بوابة روما وبوابة أخرى قريبة منها وأضرموا النيران في القوارب ، فاحترقت بوابة روما والبوابة القريبة منها ، وحين انهارت البوابتان اتضح ان خلفهما بوابتان من الحجارة القوية.
وامضى المسلمون ليلتهم في الاستعداد للهجوم النهائي على سالونيك. وفي صبيحة الرابع عشر من رمضان 291 هجرية/31 يوليو شن المسلمون هجوماً عزوماً بالسهام والرماح وقوارير النفط الحارقة ، على المدافعين عن الأسوار فلم يستطع المدافعون الصمود فتقهقروا وهرب بعضهم ، فاندفع الابطال المسلمون وتسلقوا الأسوار ونزلوا إلى داخل سالونيك وفتحوا بقية البوابات ، ودارت معارك حامية الوطيس في شوارع سالونيك وأزقتها ، وتمكن المسلمون من القضاء على كل جيوب المقاومة وأحرزوا انتصاراً ساحقاً ، واصبحت سالونيك بكل ما فيها غنيمة سائغة لهم.
وقد مكث ليو الطرابلسي ورجاله في سالونيك عشرة أيام جمعوا فيها من الغنائم كل ما غلا ثمنه وسَهُل حمله في سفنهم وفي المراكب التي غنموها من ميناء سالونيك ، وأسروا من سالونيك اثنين وعشرين ألف أسير يشكلون عُشر سكان المدينة وكان ضمن الأسرى يوحنا كامينياتي الذي أرَخ تاريخ هذه الغزوة بالتفصيل ، ويمكن أن نستنتج من روايته - أنهم يشكلون عُشر سكان المدينة - ان المسلمين اختاروا اسراهم بعناية فلم يأخذوا إلا كل من يمكن مبادلته بأسرى مسلمين في ايدي الروم ، أو يمكن بيعه بسهولة في أسواق الرقيق.
ولم يكن هدف ليو الطرابلسي - منذ البداية - الفتح الدائم لسالونيك ، لأنه كان يُدرك أنه يصعب الاحتفاظ بهذه المدينة في قلب دولة الروم التي لن تسكت على ضياعها وسوف تحشد كل امكاناتها لاستعادتها ، وكان الهدف الرئيس لليو الطرابلسي تسديد ضربة موجعة للدولة البيزنطية رداً على غزواتها المتلاحقة على إمارة كريت الإسلامية وغيرها من بلاد المسلمين.
ثم أمر ليو الطرابلسي قواته بالرحيل بكل ما حازوه من غنائم وأسرى ، وأرسل الامبراطور ليو السادس بعض قطع الاسطول لمطاردة ليو ورجاله ، واستطاع ليو ان يتجنب الاشتباك مع السفن البيزنطية حفاظاً على الغنائم والاسرى التي بحوزته ، وتوقف للراحة في بعض جزائر بحر أيجه التي تخضع لإمارة كريت الإسلامية ، واخيراً وصل ليو ورجاله بغنائمهم وأسراهم الى مدينة الخندق عاصمة كريت الإسلامية فجرى لهم استقبال حافل من مسلمي كريت ، وجرى إرسال الغنائم والأسرى إلى طرسوس وبعض موانئ مصر والشام واستبقى أهل كريت جزءأً من تلك الغنائم والأسرى.
وقد اعتبر المؤرخون الغربيون غزوة سالونيك من أكبر الكوارث التي حلَّت بالدولة البيزنطية عبر تاريخها الطويل ، وقد أسقطت هيبتها في نظر جيرانها الآخرين مثل البلغار والروس وغيرهم وطمعوا في ممتلكاتها وحققوا بعض أطماعهم فيها.
والراجح أن ليو الطرابلسي وقع في ايدي المسلمين حين كان صغيراً خلال غارة شنها الفضل بن قارن على ميناء أنطالية البيزنطي الواقع في جنوب آسيا الصغرى سنة 246 هجرية ، واصبح ليو الطرابلسي من نصيب زرافة حاجب المتوكل ، فنشأ نشأة إسلامية ، ولكن الرواية البيزنطية تذكر انه نبذ النصرانية واعتنق الإسلام حين كان شاباً ، واستقر في طرابلس في الشام ولذلك عُرِفَ بالطرابلسي ، ولذلك تصفه المصادر البيزنطية وسائر الدراسات الغربية الحديثة عن الدولة البيزنطية بالمرتد ، وذلك من وجهة نظرهم الدينية الباطلة ، والحقيقة أنه باعتناقه الإسلام خرج من الظلمات إلى النور.
واصبح ليو ضمن المجاهدين في البحر ضد البيزنطيين ( الروم) ، وبخاصة من اهل طرسوس وطرابلس وكريت وغيرها.
وشن ليو الطرابلسي عدداً من الغزوات البحرية على سواحل آسيا الصغرى الجنوبية وفي عمق دولة الروم ، وشارك وقاد عدد من المعارك البحرية التي تصدت لغزوات بحرية قام بها الروم ضد إمارة كريت الإسلامية وغيرها . وقبل ان نتحدث عن أبرز غزواته ينبغي أن نشير ان تلك الغزوات كانت بجهوده الشخصية وبجهود من كان ينضم إليه من أهل طرسوس ومن مسلمي كريت ومن بعض موانئ الشام ومصر ، ولم يكن للخلافة العباسية أي دور في دعم غزواته لأنها كانت مشغولة حينذاك بفتن القرامطة وخطرهم وغاراتهم المتواصلة على بلاد الشام ، إضافة إلى أن مصر كانت قد انفصلت عن الخلافة زمن الدولة الطولونية التي دخلت بدورها في عصر الضعف والاضمحلال. وبهذا يمكن تقدير الغزوات الجريئة التي قادها ليو الطرابلسي ضد الدولة البيزنطية.
وسنعرض هنا أهم غزوتين قام بها ليو الطرابلسي ضد الدولة البيزنطية في سنة واحدة ، وأحرز فيهما انتصارين باهرين وكانت الغزوتان ضربتين موجعتين للدولة البيزنطية.
وحدثت الغزوة الاولى سنة 291 هجرية/904م حيث انطلق ليو الطرابلسي من عروس الثغور الشامية مدينة " طرسوس " ومعه بعض المجاهدين الذين تمرسوا في الغزو في البحر واتجه في ساحل آسيا الصغرى غرباً وانقض على أكبر موانئ الروم على هذا الساحل وهو ميناء " أنطالية " ، وهي مسقط رأسه ، واقتحمها بالسيف عنوة وقتل من الروم نحو خمسة آلاف رجل وأسر نحواً من ذلك ، كما انقذ أربعة ألآف من الأسرى المسلمين الذين كانوا مسجونين في أنطالية. وتمكن من الإستيلاء على القاعدة البحرية البيزنطية في انطالية وغنم منها ستين مركباً ، فشحنها بكل ما غنمه من الذهب والفضة والمتاع والرقيق. واجمعت المصادر على انه قُدِّر نصيب كل رجل من اصحاب ليو الطرابلسي الذين شاركوا معه في هذه الغزوة بألف دينار ذهباً.
واستبشر المسلمون بهذا الفتح ، ووصلت الأخبار بهذا النصر المبين إلى بغداد في رمضان سنة 291 هجرية/ 904م.
أما الغزوة الثانية وهي الأقوى والأخطر على الدولة البيزنطية (دولة الروم) فكانت في سنة 291 هجرية ، بعد الهجوم على أنطالية مباشرة. وهي غزوة سالونيك ، وكان الهدف من تلك الغزوة الانتقام من الدولة البيزنطية التي دأبت طوال نحو خمسين سنة سبقت الغزوة على شن غزوات بحرية عنيفة على إمارة كريت الإسلامية وعلى الولايات الإسلامية في صقلية وجنوب إيطاليا فضلا عن غاراتها البحرية على سواحل مصر والشام .
وكانت سالونيك في ذلك الحين قاعدة للأسطول البيزنطي ، وفيها ترسانة بحرية لصناعة السفن وإصلاحها ، وتلي سالونيك القسطنطينية في الأهمية ، وهي عاصمة إقليم مقدونيا ، وتُعتبر ملتقى طرق عديدة واهمها الطريق القديم الذي كان يربط بين روما العاصمة الرومانية القديمة وبين القسطنطينية وبلاد الشرق وتقع على راس خليج يمتد بعمق من بحر إيجه إلى داخل بلاد اليونان. وقد بُنيت سنة 315ق.م ، وسُميت بإسم سالونيكي ابنة موحد بلاد الاغريق فيليب المقدوني ، وشقيقة ابنه الأسكندر الأكبر.
ولسالونيك أهمية دينية فقد ورد ذِكْرُها في الكتاب المقدس عند النصارى ، فقد وجَّه بولس الذي يسميه النصارى بالرسول رسالتين إلى أهل تسالونيكي ، الأولى : تقع في خمس اصحاحات وتستغرق خمس صفحات ، والثانية : تقع في ثلاث اصحاحات وتستغرق ثلاث صفحات. إضافة إلى أن ضريح المدعو " القديس ديمتريوس " يقع داخل هذه المدينة ، وكان الروم وبخاصة اهل تسالونيك يقدسونه إلى درجة العبادة له من دون الله ويلجأون إليه في الملمات والشدائد لينقذهم منها طبقاً لعقائدهم الباطلة. وكل هذا يشير إلى أهميتها الدينية في الوجدان الرومي ( البيزنطي ). كما كانت سالونيك مركزاً فكرياً وثقافياً وفنياً يضاهي العاصمة القسطنطينية.
ويمكن اعتبار سالونيك في ذلك الحين بمثابة العاصمة الاقتصادية للدولة البيزنطية ، فقد نمت فيها تجارة الاستيراد والتصدير بشكل كبير وأصبحت من أشهر الحواضر التجارية في الدولة البيزنطية وفي اوربا العصور الوسطى فكانت السفن التجارية تقصدها من كل مكان محملة بمنتجات الأقطار القادمة منها ، ويتم فيها تبادل السلع فتعود كل سفينة بسلع اخرى الى بلدانها غير تلك التي جاءت بها. وكان بها سوق سنوي كبير يستمر أسبوعاً ويقصده التجار من سائر ارجاء العالم يسمونه " سوق القديس ديمتريوس " حيث تزدحم سالونيك بالوافدين إلى ذلك السوق. وأصبحت تنافس وتضاهي العاصمة القسطنطينية في المكانة والسمعة. ومما ساعد سالونيك على الازدهار الاقتصادي انها لم تتعرض لتهديد مباشر خلال قرنين من الزمان قبل غزوة وليم الطرابلسي.
وقد خرج ليو الطرابلسي من طرسوس بعدد من السفن المحملة بالمجاهدين وانضم إليه عدد آخر من سفن إمارة كريت المسلمة أضافة الى سفن من موانئ الشام ومصر بحيث اصبح تحت إمرة ليو الطرابلسي اربعاً وخمسين سفينة تجمعت في كريت وأبحرت شمالاً صوب بحر إيجه.
وتذكر بعض المراجع الغربية ان الهدف الذي انتوى ليو الطرابلسي ان يتجه إليه هو العاصمة القسطنطينية ، لكن من الصعب التسليم بهذا الرأي ، إذا يبدو أن هؤلاء المؤرخين توهموا هذا الهدف من خط سير ليو الذي اقترب من القسطنطينية وهاجم بعض المناطق في بحر مرمرة كنوع من التضليل والتمويه على هدفه الحقيقي وهو سالونيك ، إضافة إلى أن القائد ليو الطرابلسي متمرس في الحروب البحرية ضد البيزنطيين ويعرف حصانة القسططنطينية وموقعها الفريد ، وأنه لا يمكنه ان يغزوها وينتصر عليها إلا بقوات بحرية وبرية كبيرة جداً ، وهذا غير متوفر له فليس تحت يده سوى أربع وخمسين سفينة برجالها لذلك فإن هدفه كان منذ البداية مدينة سالونيك الضعيفة التحصين والتي لا يحيط بها إلا أسوار ضعيفة وبعض أجزاء الاسوار منخفضة يسهل اقتحام المدينة منها.
وسار ليو الطرابلسي بسفنه في بحر إيجه ثم اتجه نحو مضيق الدردنيل، وأغار على مدينة أبيدوس الواقعة شرقي المضيق ، ونجح ليو الطرابلسي في خداع الروم فقد توهم الامبراطور البيزنطي ليو السادس ، المُلَقَّب بالحكيم ، أن هدف الطرابلسي هو القسطنطينية ، فامر قائد الاسطول البيزنطي إيستاثيوس Eustathius بالتصدي للطرابلسي ومنعه من الوصول للقسطنطينية، وأخذ القائد البيزنطي يراقب تحركات الطرابلسي الذي عبر الدردنيل وحاصر مدينة باريوم في جنوب بحر مرمرة ، ثم انسحب عنها وعاد أدراجه عبر مضيق الدردنيل واتجه في بحر إيجه صوب شبه جزيرة خلقدونية ، ودار حولها متجهاً إلى سالونيك ، وارتكب القائد البيزنطي خطأً فادحاً ، ولم يواجه الطرابلسي وعاد إلى القسطنطينية باسطوله ليخبر الإمبراطور بهدف الطرابلس الحقيقي. ويبدو أن الامبراطور غضب على قائده ، فعزله وأسند قيادة الأسطول لوزيره الاول هيميريوس Himerius ، لكن هيميريوس ادرك ان الطرابلسي قد فاته فعاد إلى القسطنطينية.
وحاول الامبراطور ، بعد ان ادرك ضعف تحصينات سالونيك ، تقوية تحصيناتها ، وقام بإرسال دفعات من القوات إلى سالونيك ، وعلى رأس كل دفعة قائد جديد ، فوقع الأضطراب بين أولئك القادة ، و أصبح كل قائد يضع خططه الخاصة بالدفاع ، ثم ياتي القائد الذي بعده فينقضها ويضع خطة جديدة ، وكان أولهم بتروناس Petronas الذي عدل عن تقوية الاسوار ، وأمر بإلقاء أحجار كبيرة حول رصيف الميناء لتعوق سفن المسلمين من الدخول ، وجاءت دفعة ثانية من القوات بقيادة قائد يُدعى ليون ، فامر بوقف إلقاء الأحجار في المياه المحيطة برصيف الميناء ، وشرع في ترميم الأسوار وتحصينها ، وجاءت الدفعة الثالثة من القوات بقيادة قائد يدعى نيقتاس Niketas فانضم إلى ليون وأثنا تفقدهما لأسوار سالونيك سقط ليون عن ظهر فرسه وأصيب بجروج شديدة ، فعمد نيقتاس الى تكوين جيش جديد من سكان المدينة غير المُدربين ، كما استقدم بعض الجنود الصقالبة من المناطق القريبة من سالونيك.
اما معظم سكان سالونيك فقد لاذوا بكنائسهم وبضريح " قديسهم ديمتريوس " يستغيثون به ويتضرعون إليه ان يحميهم من غزو المسلمين لمدينتهم.
وتقدّم ليو الطرابلسي برجاله وسفنه نحو سالونيك فوصلها يوم الاحد الثاني عشر من رمضان سنة 291 هجرية/الموافق 29 يوليو 904م. فساد الخوف والذعر بين أهالي سالونيك وانغمسوا في شركهم داخل كنائسهم يتضرعو ويستنجدون بقديسهم ديمتريوس.
وتقدم ليو الطرابلسي بقواته وشن هجمات سريعة بهدف اختبار قوة التحصينات عن سالونيك وقدرة المدافعين عنها. وفي الثالث عشر من رمضان 291 هجرية/ 30 يوليو 904م هاجم المسلمون أسوار سالونيك واستخدموا المنجنيقات والسهام وتمكن بعضهم من الوصول إلى الجزء الشرقي من الأسوار وهاجموا بوابة تُسمى بوابة روما ، وأسندوا بعض السلالم على السور للصعود إلى أعلى السور ، ولكن المدافعين تمكنوا من صد هذه المحاولة. وطبق المسلمون في آخر اليوم خطة جديدة تتمثل في ملء قوارب صغيرة بالنفط والكبريت والحطب ونقلوها إلى جوار بوابة روما وبوابة أخرى قريبة منها وأضرموا النيران في القوارب ، فاحترقت بوابة روما والبوابة القريبة منها ، وحين انهارت البوابتان اتضح ان خلفهما بوابتان من الحجارة القوية.
وامضى المسلمون ليلتهم في الاستعداد للهجوم النهائي على سالونيك. وفي صبيحة الرابع عشر من رمضان 291 هجرية/31 يوليو شن المسلمون هجوماً عزوماً بالسهام والرماح وقوارير النفط الحارقة ، على المدافعين عن الأسوار فلم يستطع المدافعون الصمود فتقهقروا وهرب بعضهم ، فاندفع الابطال المسلمون وتسلقوا الأسوار ونزلوا إلى داخل سالونيك وفتحوا بقية البوابات ، ودارت معارك حامية الوطيس في شوارع سالونيك وأزقتها ، وتمكن المسلمون من القضاء على كل جيوب المقاومة وأحرزوا انتصاراً ساحقاً ، واصبحت سالونيك بكل ما فيها غنيمة سائغة لهم.
وقد مكث ليو الطرابلسي ورجاله في سالونيك عشرة أيام جمعوا فيها من الغنائم كل ما غلا ثمنه وسَهُل حمله في سفنهم وفي المراكب التي غنموها من ميناء سالونيك ، وأسروا من سالونيك اثنين وعشرين ألف أسير يشكلون عُشر سكان المدينة وكان ضمن الأسرى يوحنا كامينياتي الذي أرَخ تاريخ هذه الغزوة بالتفصيل ، ويمكن أن نستنتج من روايته - أنهم يشكلون عُشر سكان المدينة - ان المسلمين اختاروا اسراهم بعناية فلم يأخذوا إلا كل من يمكن مبادلته بأسرى مسلمين في ايدي الروم ، أو يمكن بيعه بسهولة في أسواق الرقيق.
ولم يكن هدف ليو الطرابلسي - منذ البداية - الفتح الدائم لسالونيك ، لأنه كان يُدرك أنه يصعب الاحتفاظ بهذه المدينة في قلب دولة الروم التي لن تسكت على ضياعها وسوف تحشد كل امكاناتها لاستعادتها ، وكان الهدف الرئيس لليو الطرابلسي تسديد ضربة موجعة للدولة البيزنطية رداً على غزواتها المتلاحقة على إمارة كريت الإسلامية وغيرها من بلاد المسلمين.
ثم أمر ليو الطرابلسي قواته بالرحيل بكل ما حازوه من غنائم وأسرى ، وأرسل الامبراطور ليو السادس بعض قطع الاسطول لمطاردة ليو ورجاله ، واستطاع ليو ان يتجنب الاشتباك مع السفن البيزنطية حفاظاً على الغنائم والاسرى التي بحوزته ، وتوقف للراحة في بعض جزائر بحر أيجه التي تخضع لإمارة كريت الإسلامية ، واخيراً وصل ليو ورجاله بغنائمهم وأسراهم الى مدينة الخندق عاصمة كريت الإسلامية فجرى لهم استقبال حافل من مسلمي كريت ، وجرى إرسال الغنائم والأسرى إلى طرسوس وبعض موانئ مصر والشام واستبقى أهل كريت جزءأً من تلك الغنائم والأسرى.
وقد اعتبر المؤرخون الغربيون غزوة سالونيك من أكبر الكوارث التي حلَّت بالدولة البيزنطية عبر تاريخها الطويل ، وقد أسقطت هيبتها في نظر جيرانها الآخرين مثل البلغار والروس وغيرهم وطمعوا في ممتلكاتها وحققوا بعض أطماعهم فيها.