قبل 170 عاما تنبّأ كارل ماركس في منشوره السياسي الأشهر (البيان الشيوعي) بنهاية الرأسمالية قائلا بأن الرأسمالية لا تُطّوّر فقط الصناعات الكبيرة وإنما “تنتج قبل كل شيء حفار قبرها”، والمقصود بذلك البروليتاريا (أي الطبقة العاملة الصناعية) التي ستتولى مهمة دفن النظام الذي يشكّل مصدر اضطهادها. لهذا كان ماركس وأتباعه على قناعة تامة بأن انهيار الرأسمالية وانتصار “الطبقة الأكثر ثورية” في التاريخ أمر محتّم، لأن البروليتاريا بحسب العبارة التي اختتم بها بيانه الشيوعي “لن تخسر سوى أغلالها وستربح العالم كله”. لكن الرأسمالية (ومعها البروليتاريا) خيّبت أمل الفيلسوف والثوري الكبير، بل وأثبتت العكس تماما. لم تنجح قلاع الرأسمالية ومراكزها المتطوّرة في ترويض الطبقة العاملة واستيعابها عبر إصلاحات اجتماعية وسياسية عميقة فحسب، وإنما شيّعت أيضا البروليتاريا إلى مثواها الأخير.
لم يأت اضمحلال الطبقة العاملة الصناعية جرّاء الاستغلال والقمع من قبل عدوّها الطبقة البرجوازية، وإنما نتيجة العولمة والتقدّم التكنولوجي والثورة الرقمية التي جعلت من العمل في المصانع -على الأقل في مهد الرأسمالية في أوروبا وشمال أميركا- الاستثناء وليس القاعدة. هذه الظاهرة دفعت الكثير من المفكّرين المحسوبين على اليسار مثل هربرت ماركوز وسمير أمين وأندريه غورتس إلى مراجعة المواقف الدوغمائية مما يُدعى بالرسالة التاريخية للطبقة العاملة في الدول الصناعية المتقدّمة، بل وذهب الفيلسوف الفرنسي أندريه غورتس، أحد أهم تلامذة مدرسة سارتر لإصدار كتاب بعنوان “وداعا أيها البروليتاريا” في عام 1980، مثيرا غضب اليسار التقليدي حينها. ثم جاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب ليخلط الأوراق من جديد ويضفي غرابة أكبر على المشهد عندما نجح في حملته الانتخابية في توظيف مخاوف العمّال، خاصة البيض منهم، من مظاهر العولمة ومن تبعات إغلاق المصانع ونقل فرص العمل إلى الخارج حيث الأجور المتدنية.
لكنَّ الرأسمالية، وباستعارة مصطلحات ماركس نفسه، لن تكون وفيّة لنفسها إذا لم تقم بإعادة إنتاج، ليس فقط قاعدتها الاقتصادية، وإنما أيضا تناقضاتها الوطنية والدولية، ولكن على مستوى أعلى وبأبعاد أكبر. صحيح أن بديلها الأكثر خطورة المتمثل في المعسكر الاشتراكي انهار فجأة في مطلع تسعينات القرن الماضي وتخلّت دوله في شرق أوروبا (وقبلها الصين) عن نهج التخطيط المركزي لصالح تحرير الأسواق والاندماج في السوق العالمي، إلا أن التاريخ لن ينتهي كما توقّع المفكّر الأميركي فرانسيس فوكوياما. فمنطق التاريخ بحسب ابن خلدون يقول ببساطة إن كل ما له بداية له نهاية أيضا. هذه البديهية لا تتجسّد فقط في الأزمات الدورية التي تجتاح أسلوب الإنتاج الرأسمالي بين الحين والآخر، وإنما أيضا في تحديات وجودية تمسّ أسس النظام نفسه. وإذا كان هذا النظام أثبت مرة أخرى قدرته على التأقلم والتطوّر من خلال استيعاب التداعيات الخطيرة لأزمة 2007 المالية العالمية، فإنه يجد نفسه الآن أمام تحدٍّ من نوع جديد مرتبط بظاهرة العولمة، أحد أهم أسرار قوّته.