هنري لورانس من حرب الى أخرى (1967 ـ 1973) حرب يونيو 1967

IF-15C

عضو مميز
إنضم
3 سبتمبر 2007
المشاركات
2,746
التفاعل
84 0 0
العمليات العسكرية

قرر المسئولون الاسرائيليون حشد جهودهم على الجبهة المصرية. وكانت استراتيجيتهم قائمة على عامل المباغتة وعلى سيطرة كاملة على الاجواء. وفي 5 يونيو بعيد الفجر وفي اللحظة التي قلت فيها يقظة المصريين هاجم الطيران الاسرائيلي المطارات المصرية. ودمر الطيارون الاسرائيليون في بضع دقائق اكبر جزء من الطيران المصري، فقد كانوا مدربين تدريباً فائقاً ومستعدين من امد طويل لهذه العملية، وقد قامت هجومات بعد الظهر باتمام العملية، فاصيب 17 مطاراً، واخفت السلطات العسكرية المصرية الكارثة واعلنت انها قضت على اكبر جزء من طيران العدو. ويبدو ان عبد الناصر ذاته لم يتم اطلاعه في الساعات الاولى على حقيقة الوضع. وحاولت الاردن نجدة مصر فتدخل طيرانها قليل العدد، ولكن الطيران الاسرائيلي هاجم الطائرات الاردنية حوالي منتصف النهار وحطم اهم قوة البلاد الجوية وفي الوقت ذاته، هاجمت الطائرات الاسرائيلية المنشآت السورية التي عرفت نفس مصير المنشآت الاردنية والمصرية. وفي اليوم التالي قصفت المطارات العراقية الواقعة على حدود المدى بدورها. وفي الجملة فقدت الدول العربية 814 طائرة (309 مصرية و60 سورية و29 اردنية و17 عراقية وطائرة لبنانية واحدة) مقابل 62 طائرة من الجانب الاسرائيلي. وفي الايام الموالية اوصلت العمليات الخسائر المصرية الى 338 والاسرائيلية الى 40 طائرة تقريباً. وذلك ما يبين تغيراً اكيداً لميزان القوى.

ولقد فوجئ المصريون والاردنيون بتواتر الهجمات الجوية وتركيزها فاتهموا الامريكان والبريطانيين بمشاركتهم في الهجوم فذكرى السويس ومعلومات 1965 عن خطة هجوم انجلوسكسوني مع تأكيد اشكول السابق بان الاسطول السادس هو احتياط استراتيجي للدولة العبرية فقد دفعهم الى ان يروا فيما حصل عدواناً ثلاثياً جديداً، وذلك غير صحيح رغم ان طائرات استطلاع امريكية تمكنت من مراقبة مسرح المعارك عن كثب. وكان التفوق الاسرائيلي يتركز على وجود عدد كبير من الطيارين المدربين تدريباً جيداً، وذلك ما سمح باستعمال مكثف للطائرات مع سرعة تعاقب الطواقم، وفي بضع ساعات تم تعطيل وسائل الدفاع الجوية الاسرائيلية(*) تقريباً ومن ثم امكن استعمال اقصى ما يمكن من الطائرات في عمليات الانقضاض.

ومنذ أن وقع الهجوم الجوي على التراب المصري دخل الجيش المصري الى سيناء وقطاع غزة. كانت القوات المصرية تعد بنحو من 90.000 رجل ثلثهم من المجندين الجدد غير المدربين على القتال. وكانت معرفتها الميدانية سيئة اذ ان سيناء كانت منزوعة السلاح تقريباً منذ عشرين سنين. وكانت حرب اليمن قد عودت الجنود المصريين على التحرك في وحدات صغيرة كما ان قيادة الاركان فلما كانت تجري مناورات يتم فيها التنسيق بين مجموعات ضخمة من البشر ولم يكن العتاد السوفييتي قد اعد خصيصاً لظروف الصحراء وكان كثيراً ما يتعطل. وكانت الاتصالات بين مختلف الوحدات سيئة جداً. وكانت المعارك في اليوم الاول عنيفة جداً وتمكن الجيش المصري من الصمود. وفي اليوم الثاني. تقدم الجيش الاسرائيلي بفضل مشاركة الطيران الاسرائيلي. وفي مساء 6 يونيو تراجع الجيش المصري في نظام متخلياً عن نصف سيناء. وفي يوم 7 يونيو انهارت القوات المصرية وتفاقمت الفوضى وكانت الاتصالات تتم بصعوبة واصاب الهلع المشير عبد الحكيم عامر الذي امر بتراجع عام صوب منطقة القتال. ولقد تخلى الجنود عن مركباتهم التي نفذ منها الوقود وفروا مذعورين، وفي يوم 8 يونيو تجاوز الجيش الاسرائيلي خط المضايق بالرغم من تعليمات موشي ديان وبلغ القنال. ومع ذلك وقعت معارك ضارية، خاصة معركة بالدبابات اشترك فيها الطرفان باعداد ضخمة ولقد كان العامل الاساسي للانتصار الاسرائيلي في معارك سيناء هو الاعتماد على الطيران الذي تدخل باستمرار منذ اليوم الثاني. وكان مجموع الخسائر المصرية قد بلغ نحو من 10.000 رجل و5000 اسير وكذلك اغلب العتاد الحربي (الدبابات والعربات والمدافع). لقد كانت حملة سيناء في يونيو 1967 آخر نجاح للحرب الخاطفة التي وضعها الالمان سنتي 1939 ـ 1940 والتي تعتمد على تعاون الطيران والمدفعية في مواجهة جيش مساو أو اكثر عدداً وعدة (ولا يمكن مقارنتها بحرب لبنان لسنة 1982 حيث كان التفوق العددي الاسرائيلي ساحقاً).

ظل الجيش الاردني افضل قوة مدربة ومنظمة في المشرق العربي ولكنها كانت تفتقد تماماً للغطاء الجوي ولم يكن لها قيادة فعلية. فقد كان الملك حسين قد اوكل قيادة الجيش الى قائد مصري ارسله عبد الناصر. ومنذ عزل غلوب باشا تخلى الجيش الاردني عن مذهب الدفاع في العمق وتبنى معركة الحدود. فقد جعلت ذكرى احتلال اللد ورام الله في يوليو 1948 النظرية الاولى غير مقبولة. ورغم ان اسرائيل سارعت الى الاعلان بانه ليس في نيتها مهاجمة الاردن فقد قرر الملك حسين الدخول في الحرب. فلقد التزم بذلك امام عبد الناصر وكان لا يريد ان يظهر بمظهر الخائن للقضية العربية (هو لم ينس التهم الموجهة ضد جده). ولقد خدع بالتأكيدات الكاذبة عن انتصارات مصرية ولكنه كان مقتنعاً كذلك بان الاسرائيليين يريدون الاستيلاء على الضفة الغربية. فتصرفاتهم سنة 1949 مازالت ماثلة لتؤكد له انه لا يمكن الوثوق بوعودهم. وبدأت المعارك في نهاية صبيحة 5 يونيو. كانت القوات الاسرائيلية آنئذ مشتبكة في سيناء وتركز الهجوم الاسرائيلي على شمال الضفة الغربية وفي منطقة القدس (عند بروز لطرون الشهير).

وفي يوم 6 يونيو تدخل الطيران الاسرائيلي بكثافة ضد الجيش الاردني الذي بدأ الانسحاب من كامل الضفة الغربية والقدس، وفي المساء قرر الملك حسين ـ بموافقة عبد الناصر ـ سحب كل قواته الى شرقي الاردن للدفاع عن الجزء الشرقي من المملكة. وسمح الانسحاب الاردني للجيش الاسرائيلي باحتلال القدس الشرقية وكامل الضفة دون مشاكل كبرى (7 يونيو) وفي 8 يونيو تمركز الجيش الاردني على نهر الاردن ووضع وقف اطلاق النار حداً للعمليات. وكانت الخسائر الاردنية فادحة اكثر من 6000 قتيل ومن المحتمل ان عدد الجرحى كان خمسة أضعاف ذلك من جيش يعد 50.000 رجل، وهذا برهان على ضراوة المعركة. ولقد مكنت السيطرة التامة بالطيران الاسرائيلي من احراز الانتصار الاسرائيلي (وقد بلغت خسائر اسرائيل رسمياً 302 قتيلاً و1453 جريحاً) وحيث ان الملك ظل على اتصال وثيق بالمصريين فقد تفادى اتهامات الخيانة التي وجهت للجيش العربي سنة 1948.

في 8 يونيو كان انتصار اسرائيل على مصر والاردن ساحقاً ولكن المعارك ضد سوريا كانت قليلة. وكان موشي ديان يعارض مشروع مهاجمة سوريا مخافة تدخل سوفييتي مباشر ولكن زميله في الحكومة ايغال ألون حصل على قرار الهجوم بدفاعه عن ضرورة الدفاع عن الجليل ضد القصف السوري وعن امكانية تحقيق تحول جغرافي سياسي في المنطقة بربط دروز سوريا باسرائيل ويكون ذلك خطوة أولى نحو تأسيس حلف من مسيحيي لبنان ودروز سوريا والاكراد وهو بذلك اعاد طرح المشروع الشهير العزيز على بن جوريون والمتمثل في تقسيم المشرق العربي تقسيماً طائفياً. وبدأ غزو الجولان يوم 9 يونيو بينما طلبت سوريا تطبيق وقف اطلاق النار الذي طبق على الجبهات الاخرى. وكانت المعركة ضارية ولم يتقدم الاسرائيليون الى بضة كيلومترات غير ان المقاومة السورية انهارت صبيحة يوم 10 يونيو انسحبت القوات السورية لتغطية دمشق. وبعد ان تم لاسرائيل احتلال الجولان قبلت وقف اطلاق النار في نهاية اليوم السادس من الحرب وفر 30.000 سوري من الجولان وفي الاشهر الستة الموالية طردت منهم 90.000 آخرين ولم تترك بالجولان تقريباً غير 7 آلاف درزي كانوا يسكون فيه من قبل
 
السياسة والدبلوماسية

أخذت إسرائيل نشوة الانتصار. ومنذ يوم 27 يونيو أدمجت القدس الشرقية في القدس اليهودية وهو أمر لم تعترف به الامم المتحدة. وفيما عدا هذا الضم الاول لم يحدد المسئولون الاسرائيليون صراحة اهدافهم من الحرب. وأعلنوا على رؤوس الملأ انهم ما عادوا مرتبطين باتفاقيات الهدنة الموقعة برودس، بما في ذلك ما يتعلق بحدود لبنان رغم عدم مشاركة لبنان في الحرب. واعادوا الى التذكير ان اتفاقيات الهدنة لا تخلق حقوقاً ترابية. وبخصوص الضفة الغربية فقد رفضوا الاعتراف بشرعية السيادة الاردنية عليها واعتبروا انها من 1948 الى 1967 لم تكن الا محتلة فحسب من قبل الاردنيين. وكان موقفهم متصلباً ولم يقبلوا التفاوض على اساس العلاقات المباشرة من دولة لدولة للحصول على تحديد جديد للحدود. وهم يؤكدون امام رئيسهم العام ان القدس وقطاع غزة والمواقع الاستراتيجية بالضفة الغربية ومرتفعات الجولان وحرية الملاحة بخليج العقبة وقناة السويس هي أهدافهم الدنيا. وبالنسبة للكثيرين منهم فان (اسرائيل كبرى) هي الغاية مع الحدود الطبيعية المتمثلة في قناة السويس ونهر الاردن والجولان.

أما في القدس فان المنازل القريبة من حائط المبكى قد هدمت وطرد سكانها من اجل سبع مساحة للدخول الى المكان المقدس اليهودي كما ان الحي اليهودي القديم بالمدينة القديمة الذي فقد سنة 1948 تم تجديده لتوطين الاسرائيليين به. واما خارج المدينة فقد دكت قرى عربية عديدة خاصة في قطاع اللطرون. كما ان اجراءات نزع ملكية الاراضي في بلديات اخرى قد اتخذت من اجل التمكن من الشروع في برنامج منهجي لاقامة مستوطنات يهودية جدية مهمتها مراقبة الاحياء العربية والمنافذ. وعلى المدى البعيد تمكن هذه المشاريع من تكوين أغلبية سكانية يهودية في تلك المنطقة.

وتسعى السياسة الاسرائيلية الى الحصول على تسوية شاملة للنزاع العربي الاسرائيلي على اساس الاعتراف بجميع الامور الواقعة منذ 1948 وتصفية المطالبة الفلسطينية وتوسيع ترابي هام يهدف الى ضم جزء كبير من الضفة الغربية على الاقل وتسع الى ما وراء فلسطين لعهد الانتداب في جزء من سيناء (خاصة على طول خليج العقبة حتى شرم الشيخ) وعلى مرتفعات الجولان وللحصول على معاهدة سلام تمنح جميع العلاقات بين البلدان ذات العلاقات السلمية (من تبادل السفراء وتنقل الاشخاص والممتلكات) وكل ما تعرضه اسرائيل ضمنياً هو استسلام كل العرب بلا قيد ولا شرط مقابل عودة مشروطة لجزء من الاراضي المحتلة، واعتقدت الدولة اليهودية انها ستحصل على ذلك بفضل انتصارها الساحق لسنة 1967 (يونيو) والذي يبدو انه برهان على تفوقها العسكري الدائم في المنطقة، ولكن هل تريد الدول ـ العربية وهل تستطيع ـ التخلي امام الضغوط الاسرائيلية؟.

وفي يوم 9 يونيو ظهر جمال عبد الناصر على الاذاعة المرئية وأعلن استقالته وتشكلت في الحال تقريباً مظاهرات شعبية هائلة تطالبه بسحب استقالته وهي مظاهرات تلقائية دون شك وشكلت لحظة كبرى اخرى من الاتصالات بين الزعيم وبين شعبه. وقبل عبد الناصر الرجوع الى السلطة، وكان اول قرار يتخذه ان سحب من عبد الحكيم عامر ومن اهم القادة العسكريين المصريين مهامهم. واقترح على صديقه القديم الاغتراب، ورفض هذا الاخير وحاول العودة الى السلطة بالاعتماد على الضباط من انصاره. لكن محاولته التآمرية تم فضحها بسهولة وتم اعتقاله يوم 25 أغسطس 1967، وانتحر يوم 14 سبتمبر لكي لا يمثل امام محكمة ولقد تمكن عبد الناصر من استعادة سيطرته على الجيش بعد اختفاء عامر. وشرع منذ غداة الهزيمة بفضل تشكيل فريق جديد من الضباط الذين كانت لهم ارادة اعداد الثأر، في جعل الجيش البعيد عن السياسة مهنياً اكثر من ذي قبل وافضل تدريباً واكثر انضباطاً. وكان لزوال مركز القوة الذي كان يمثله الجيش ان زاد ثقل الاتحاد الاشتراكي العربي لعلي صبري. ولتعديل هذا التطور دفع عبد الناصر بالسادات الى الامام وهو الذي كان له حتى تلك الفترة دور ثان في النظام، فتلقى هذا الضابط الحر السابق مزيداً من المسئوليات واصبح نائياُ للرئيس في نهاية 1969.

ادان الاتحاد السوفييتي (العدوان الاسرائيلي) وطلب سحب القوات الاسرائيلية فوراً من الاراضي المحتلة. وعلى اثر الهجوم على سوريا قطع علاقاته الدبلوماسية مع اسرائيل واجبر الديمقراطيات الشعبية على الاقتداء به. وكان الرأي العام البولندي شديد العداوة لذلك. وباسم الكفاح ضد الصهيونية دخلت الحكومة الشيوعية البولندية في سنتي 1968 ـ 1969 في حملة حقيقية معادية للسامية. امام في تشيكسلوفاكيا فان الاستسلام للمطالب السوفييتية صار احد عوامل ربيع براغ في السنة الموالية. واما رومانيا فقد رفضت الانصياع لتظهر استقلالها وأبقت على علاقاتها مع اسرائيل.

وفي الامم المتحدة تواجه السوفييت والامريكان حول القرارات وقد قبلت الولايات المتحدة مبدأ الانسحاب الاسرائيلي لكن في اطار تسوية شاملة تضمن سلماً دائماً. ويرى اغلب البلدان العربية ان الولايات المتحدة تتحمل مسئولية ـ ولو بشكل غير مباشر ـ في الانتصار الاسرائيلي، وقطعت العلاقات بين الانظمة العربية التقدمية وبين القوة الغربية الرئيسية. ولقد أولت حرب يونيو 1967 على انها المرحلة الاولى لتصفية القوى المعادية للامبريالية في العالم العربي.

أما فرنسا فقد أدانت اسرائيل يوم 12 يونيو 1967 لانها كانت البادئة بالهجوم برغم تحذيراتها ودعت الدول العربية للقبول بحق اسرائيل في الوجود كما دعت اسرائيل الى الانسحاب من الاراضي المحتلة. ويرى ديجول ان تهديد السوفييت المواقع الغربية بالشرق الاوسط بواسطة اصدقائهم العرب انما هو رد على التورط الامريكي بفيتنام، وبفضل تحسن العلاقات بين فرنسا والبلدان العربية امكن هذه الاخيرة ايجاد سبل للالفات من الوصاية الخاصة التي كان الاتحاد السوفييتي يمارسها عليها، وكان مؤسس الجمهورية الخامسة (ديجول) يرى في سياسته العربية امكانية ضمان استقلال فرنسا على صعيد الطاقة بالحد من ثقل شركات النفط الانجلوسكسونية في تزودها بالهيدروكروبورات (وهو بذل يواصل عملاً كان قد بدأ في العشرينيات). ومن جهة اخرى فان احتلال الجولان والتهديد الاسرائيلي للبنان يتعارضان مع الارادة الفرنسية في حماية الاراضي التي كانت تحت انتدابها. ولقد برر ديجول هذه السياسة في مراسلة خاصة مع بن جوريون في ديسمبر 1967 إذ قال: (لا أنكر البتة ان حصار خليج العقبة المؤسف كان ضاراً ببلادكم دون سواها ولا اجهل ان بلادكم شعرت بالتهديد نظراً للتوتر الذي أغرق المنطقة الفلسطينية من جراء سيل السباب الذي اسرف في توجيهه لاسرائيل وكذلك الوضع المؤلف للعرب اللاجئين الى الاردن او المنفيين الى غزة غير اني ما زلت مقتنعاً بأن اسرائيل بصرفها النظر عن التحذيرات التي اعطتها حكومة الجمهورية الفرنسية لحكومتكم في الوقت المناسب وببدئها المعارك وباستيلائها عنوة على القدس وعدة أراضي اردنية ومصرية وسورية وباستعمالها القمع والطرد وهما النتائج المحتومة لاحتلال يرمي حسبما هو ظاهر الى الضم وباعلانها امام العالم ان حل النزاع لا يمكن ان يتحقق الا على اساس الغزوات المكتسبة وليس بشرط الجلاء عنها، انها تجاوزت حدود الاعتدال. اني لآسف لذلك خاصة سحب قوتها، يبدو ان هناك حلاً يتضمن اعتراف جيرانكم بدولتكم وضمانات أمنية على جانبي الحدود التي يمكن ضبطها بتحكيم دولي وحل مناسب وعادل يكفل للاجئين والأقليات حرية الملاحة للجميع في خليج العقبة وقناة السويس ربما كان ممكناً اليوم في اطار الامم المتحدة وفرنسا مستعدة للمساهمة في ايجاد هذا الحل عند الاقتضاء ليس على الصعيد السياسي فحسب بل ميدانياً كذلك..
 
(إن هذا المخرج الذي يعيد السلام الى الشرق الاوسط ويسهل الوئام العام يخدم في نظري مصلحة الشعوب المعنية بما في ذلك مصلحة شعبكم لا يلبي كل رغبات اسرائيل وأنا أعلم ذلك (…) وها هي اسرائيل بدلاً من جر منفاها في كل مكان عبر العالم ذلك المنفى المؤثر والممتد على ألفي سنة قد اصبحت حقاً دولة ضمن الدول الاخرى، تتوقف حياتها ودوامها على سياستها وفق القانون العام. والحال ان هذه السياسة ـ وكم من شعب قد جربها ـ لا قيمة لها الا متى كانت متلائمة مع الواقع [1] .

وقطع الحلف الضمني بين فرنسا واسرائيل نهائياً واضطرت اسرائيل الى الالتفات نحو الولايات المتحدة دون سواها من اجل الحصول على دعم سياسي ومالي وعسكري، وتوجب عليها قامة حوار سياسي من نمط جديد مقام على دور جماعة ضغط انتخابي مناصر للصهيونية قادر على تمرير القرارات المؤيدة لاسرائيل بالكونغرس الامريكي، ويتم التأكيد على المساهمة الاقتصادية والعسكرية وعلى ضرورة التصدي لكل اجراء يقدر انه ضد المصالح الاسرائيلية، وينبغي حمل المسئولين السياسيين بالولايات المتحدة على الاعتقاد بان الدفاع عن اسرائيل اساسي في الصراع ضد الاتحاد السوفييتي بحيث يتوجب ان تتقيد المصالح الاستراتيجية الامريكية بالمصالح الاسرائيلية، ولقد تم تنظيم الطائفة اليهودية الامريكية على هذا الاساس، فبالاضافة الى الدور التقليدي الذي يلعبه الناخبون اليهود الامريكيون في عدد من الولايات الهامة خاصة في الانتخابات الرئاسية تم تدريجياً وضع خريطة مفصلة للنظام السياسي، فتدخلات كل عضو من اعضاء الكونغرس في النقاش الخاص بالشرق الاوسط يتم تحليلها بمنهجية وكل عضو في البرلمان يبدو شديد العداوة او حتى فاتراً يشهد علماً مالياً سياسياً لمنافسيه في الانتخابات الموالية امام صديق اسرائيل فهو يتلقى مساعدة هامة. وهذا التأثير المتنامي لجماعة الضغط الصهيونية يمارس أحياناً خارج المسائل المتصلة مباشرة بالدعم الممنوح لاسرائيل: فالدول الراغبة في الحصول على حظوة ما من الولايات المتحدة سرعان ما تدرك أن قرارات الكونغرس مشروطة في الغالب بمواقف هذه الدول تجاه اسرائيل.

في الايام الاولى التي اعقبت الحرب، يبدو ان جمال عبد الناصر ظن ان الولايات المتحدة ستسلك سياسة شبيهة بسياسة ايزنهاور اثناء ازمة السويس. ولقد تحدد الموقف الامريكي اثناء قمة غلاسبورو بين جونسون وكسيغين يوم 17 يوليو 1967: فمسئولية العرب مردها الى غلق عبد الناصر خليج العقبة والولايات المتحدة لن تمارس ضغوطاً على اسرائيل من اجل انسحاب دون تسوية شاملة. وينبغي ان ترتكز هذه التسوية على مبادئ خمسة: حق جميع الامم في الوجود يعترف به للجميع، والعدل للاجئين وحرية المرور بالممرات البحرية الدولية والحد من سباق التسلح والاستقلال السياسي والهوية الوطنية لجميع الاطراف. ولقد أعيد تأكيد هذا الموقف لدى لقاء الملك حسين الذي وكله عبد الناصر للتحدث باسم العرب امام اهم رؤساء الدول الغربية، ولقاء الملك حسين بالرئيس الامريكي في نهاية يونيو وبداية يوليو 1968. ومن اسباب غياب مبادرة لواشنطن، استمرار حرب فيتنام شغل الحكومة الامريكية الشاغل ثم لم تكن هذه الاخيرة مستاءة من غلق قناة السويس وهي الطريق الرئيسي التي يستعملها السوفييت لمد الفيتنام الشمالية بالمساعدة.

ولم يلبث عبد الناصر أن أدرك ان اسرائيل في غياب ضغوط امريكية، يمكنها الاحتفاظ بموقفها المتصلب. فحصر النزاع في مواجهة فريدة بين اسرائيل ومصر لا يمكنه الا ان يترك هذه الاخيرة في موقف الضعف مما يصيرها غير قادرة على الاعتراض على الشروط التي يريد الاسرائيليون فرضها عليها. وبدأ عبد الناصر لعبة دبلوماسية وعسكرية معقدة من المفروض ان تسمح لمصر بقلب سلسلة العناصر التي كانت في غير صالحها. ولم يكن ذلك ممكنا الا بانتهاج تصعيد سياسي وعسكري مبني على تدويل النزاع، وهو تصعيد يفضي حتماً الى وضع متعب للاسرائيليين مما يضطرهم الى الحد من مطامعهم ومتعب للامريكيين الذين سيضطرون الى التخلي عن انتهازيتهم والتدخل حقاً في تسوية النزاع بالعمل على تأمين الانسحاب الاسرائيلي من الاراضي المحتلة.

ولعلمه بسخط العديد من العرب على الاتحاد السوفييتي الذي ينظر اليه على أنه مسئول عن هزيمة يونيو بتصرفه الدبلوماسي وكذلك بقصور سلاحه. اغتنم الفرصة زيادة المساعدة السوفييتية زيادة كبرى خاصة لزيادة حضوره في المنطقة. أما فكرة (برست ـ ليتوفسك شرقي السوفييتية (المتمثلة في التنازل في العاجل للمطالب الاسرائيلية لاعداد ثأر على المدى البعيد) فقد تم التخلي عنها. ولقد اصبح التراب المصري حراماً على الهجمات الاسرائيلية المحتملة بسبب الحضور السوفييتي بمصر في شكل مستشارين وتسهيلات بحرية، ذلك ان الدولة العبرية كانت لا تريد مواجهة عسكرية مباشرة مع قوة عظمى، وأمكن بذلك إعادة بناء القوة العسكرية المصرية. وكان تنامي الدور السوفييتي المستمر في هذه المنطقة الاستراتيجية من العالم لا يمكنه الا ان يثير قلق الولايات المتحدة، ففي نهاية الستينيات غيّر نمو الاسطول السوفييتي السطحي ميزان القوى في البحر المتوسط، فحتى تلك الفترة كان للولايات المتحدة تفوق ساحق ولم يكن للسوفييتي حتى ميناء رسو للتزود بالمؤن، وكان احد عوامل التفوق الاستراتيجي الامريكي متأتياً من كونها القوة العظمى الوحيدة ذات الاليات اللازمة للتدخل على مسافات بعيدة ومن ثم زيادة قوة الردع النووي بتوزيعها على كل البحار. وبتزويد عبد الناصر السوفييت بالتسهيلات البرية والبحرية التي كان تعوزهم يستطيع امتلاك عنصر مساومة مع الامريكان لاستعادة الاراضي المفقودة. ولقد كلفت مصر الاتحاد السوفييتي لتمثيلها في المفاوضات مع الولايات المتحدة حول تسوية النزاع لاظهار رغبتها في تدويل هذا النزاع. وكانت تعلم ان السوفييت لايمكنهم اقتراح تنازلات في غير صالح حليفتهم وانهم سيزيدون التزامهم في المنطقة اذا وقفت الولايات المتحدة الى جانب التصلب الاسرائيلي. كل مبادئ السياسة المصرية الجديدة هذه قد وضعت في اواخر ايام يونيو 1967 اثناء محادثات مع مسئولين سياسيين وعسكريين سوفييت، فضاعف الاسطول الخامس السوفييتي عدد قواته منذ نهاية يونيو 1967 بتبرير خرق اتفاقية مونترو حول المضايق بالوضع المتأزم في شرقي البحر المتوسط. وبدءا من يوليو بات للسوفييت تسهيلات دائمة في الموانئ المصرية. كما وضعت بمصر منظومة كشف تحركات الاسطول السادس يديرها السوفييت مباشرة.

منذ الايام الاولى من يوليو 1967 وقعت على قناة السويس مصادمات عنيفة سمحت باختبار ارادة القنال لدى القوات المصرية ولما رضي المصريون بالنتائج قبلوا وضع ملاحظين من الامم المتحدة مكلفين بفرض احترام وقف اطلاق النار وتحديد المسئول عن خرقه.

وفي يوم 5 يونيو كان وزراء نفط الدول العربية المجتمعون ببغداد قد قرروا فرض حظر على تسليم النفط للدول المساندة للهجوم الاسرائيلي، ولقد دعم هذه الحركة مظاهرات هامة معادية لامريكا قامت في البلدان النفطية. وكان العمل يستهدف خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى المتهمتين بالمشاركة في العمليات العسكرية الاسرائيلية، وهكذا اخضع المحافظون في البلاد العربية الى ضغوط قوية من قبل التقدميين واوشكوا على ان تتقلص عائداتهم تقلصاً كبيراً وهو امر سربه عبد الناصر الذي رأى ان خصومه في البلاد العربية قد استفادوا من الهزيمة المصرية. وهو امر يعطيه خاصة عناصر للمساومة في الاطار العربي. وفي اجتماع وزراء الخارجية العرب بالخرطوم يوم غرة اغسطس 1967 فرض المصريون انسحاب القوات المصرية من اليمن لقاء عودة صيغة المفاوضة التي تمت الموافقة عليها في لقاء جدة سنة 1965 وتشكيل جبهة عربية موحدة ضد اسرائيل: وبالاضافة الى عودة الجيوش المورطة في اليمن كان عبد الناصر يأمل في امكانية الحصول على مساعدة مالية هامة تمكنه من تعويض خسارة عائدات قناة السويس ومن تمويل جزء من المجهود الحربي. وأبدى العراق معارضة لرفع الحظر النفطي رغم تحمس الدول النفطية الخليجية. وفي 15 اغسطس اجتمع وزراء النفط العرب ببغداد لتدارس المسألة على القمة العربية المتوقعة في الخرطوم.

والتأمت القمة العربية الرابعة بالخرطوم من 29 اغسطس الى غرة سبتمبر 1967 في غياب سوريا. ومكنت المناقشات التي أحسن اعدادها في الاجتماعات السابقة من التوصل الى مجموعة من القرارات الملموسة فتعهدت مصر بالجلاء عن اليمن وذلك ما يلغي خلافها الرئيسي مع العربية السعودية، ورفع الحظر النفطي لقاء اعطاء 20% من العائدات النفطية لبلدان المواجهة مع اسرائيل، وكان الملك فيصل المنتصر الاكبر في القمة: فالتصالح بين التقدميين والمحافظين في جبهة موحدة ضد اسرائيل مكنه من ان يصبح زعيماً امتدت سلطته وهيبته الى كامل العالم العربي. وكسب عبد الناصر مضاعفة هامة لامكانياته ضد اسرائيل.

ولعل الاهم من ذلك بخصوص المستقبل إدراك الدول العربية العوائق الناجمة عن غياب وسيلة للتنسيق وعن تركيبة السوق النفطية لفرض حظر. واصبح بإمكانهم وضع البنى اللازمة لاستعمال سلاح النفط في ظروف أكثر ملاءمة. ولقد اصبح استعمال الدولارات النفطية بشكل متنام في السياسة العربية يشكل عنصراً هاماً من عناصر تغيير معطيات الوضع فقد اصبح بامكان الدول العربية ـ النفطية منها وغير النفطية ـ ان تكون لها وسائل التمويلات الاقتصادية غير الخاضعة لسيطرة الدول العربية. وان توفر هذه العائدات مكنها من الوصول الى التكنولوجيا التي تحتاجها لتحديث اقتصادياتها على أسس تجارية خالصة وبالتالي أكثر تحرراً من الضغوط السياسية. وأصبحت بلدان الخليج القليلة السكان وذات الفائض المالي القوي تلعب دوراً متنامياً على الصعيد السياسي.
 
في الخرطوم حددت الدول العربية موقفها من النزاع العربي الاسرائيلي. ولقد سمح لها التصلب الاسرائيلي بتبني تصلب مضاد مكنها من تحديد اجماع هو نقطة انطلاق متطرفة في المفاوضة:

((1) تعيد القمة العربية التأكيد على وحدة الصف العربي ووحدة العمل والعزم الراسخ على تصفية آثار العدوان وتمسك كل البلدان بميثاق التضامن الذي تقرر في القمة الثالثة بالدار البيضاء.

((2) قررت القمة مضاعفة الجهود من اجل محو آثار العدوان وتعلن بأن الاراضي المحتلة عربية وان مهمة استرجاعها واجب كل البلدان العربية.

((3) اتفق الملوك ورؤساء الدول على توحيد جهودهم على الصعيد السياسي والدولي والدبلوماسي من أجل محو آثار العدوان والحصول على انسحاب الجنود الاسرائيليين من الاراضي المحتلة بعد 5 يونيو، وهذا العمل المزدوج سيتم الشروع فيه على أساس المبادئ المعترف بها من قبل كل الدول العربية والتي هي: لا مصلحة مع اسرائيل.. لا اعتراف بهذه الدولة.. لا تفاوض معها، واعادة تأكيد حقوق الشعب الفلسطيني على بلاده.

((4) وكان مؤتمر الوزراء العرب للمالية والاقتصاد والنفط قد أوصى باستعمال إيقاف ضخ النفط سلاحاً للنضال، غير أن القمة بعد فحص المسألة رأت ان ضخ النفط يمكن استعماله سلاحاً، إذ ان النفط ثروة قادرة على دعم اقتصاد البلدان العربية التي تعرضت للعدوان وتمكينها من مقاومة المحنة. لذلك قررت القمة استئناف ضخ النفط الذي هو سلاح يمكن استعماله لتحقيق الاهداف العربية ولقد ساعدت البلدان المنتجة للنفط بالفعل البلدان التي تعرضت للعدوان على مقاومة آثاره.

((5). وافق المشاركون في المؤتمر على المشروع الذي تقدمت به الكويت والذي ينص على اقامة صندوق تنمية اقتصادية واجتماعية عربية وفق توصية مؤتمر وزراء الاقتصاد والمالية والنفط الملتئم ببغداد.

((6). تلح القمة على ضرورة اتخاذ الاجراءات التي تسمح بدعم القوة العسكرية لمواجهة مقتضيات الساعة.

((7). قررت القمة الاسراع بتصفية القواعد الاجنبية بالعالم العربي.)

وإن ما يسمى لاءات الخرطوم الثلاث تسمح في اطار وساطة امريكية سوفييتية، بقبول نهاية حالة الحرب مقابل انسحاب اسرائيل. والمهم هو تسجيل رفض الدول العربية الاستسلام رفضاً مطلقا امام المطالب الاسرائيلية. وبما ان الموقف المقدم هو موقف متطرف فهو يسمح باجراء تنازلات في حالة مفاوضات محتملة مثلما أظهرت ذلك المرحلة التالية من الاجراء الدبلوماسي مع استئناف النقاش بالامم المتحدة.

القرار 242 بتاريخ 22 نوفمبر 1967:

في سبتمبر عاد النقاش الى الامم المتحدة. والحت اسرائيل على ضرورة اجراء مفاوضات ثنائية مع الدول العربية وذلك ما لا تقبل به الدول العربية فتجربة عام 1949 قد تركت ذكريات مؤلمة. واقترح الامين العام للامم المتحدة أوثانت تعيين وسيط للامم المتحدة للمساعدة في ايجاد تسوية. وقبل عبد الناصر مبدأ الوساطة وبالتالي المفاوضة قبل الانسحاب الاسرائيلي ولكنه لم يعلن عن استعداده الاعتراف باسرائيل الا بعد تسوية نهائية تتضمن عودة كامل الاراضي المصرية الى مصر وعرض مسألة خليج العقبة امام محكمة العدل الدولية أما مسألة المرور عبر قناة السويس فهي مرتبطة بتطبيع يتحدد في تسوية عادلة لمشكل اللاجئين.

في نهاية أكتوبر استؤنفت المعارك على القنال. وأفلح المصريون في اغراق مدمرة اسرائيلية بالبحر المتوسط ومارست اسرائيل اعمالاً انتقامية على الاراضي المصرية، واحرزت المساومات تقدماً بمجلس الامن. ولقد تقدمت دول مختلفة بمشاريع عديدة. كانت دول العالم الثالث تساند المواقف العربية حول الضرورة المطلقة للانسحاب. فهي ترى انه من الخطير جداً التغاضي عن خلق سابقة اكتساب أراض بالقوة، وهي سابقة يمكن ان تتخذ أسوة في آسيا وافريقيا بل وحتى في أمريكا اللاتينية وان تؤدي الى زعزعة مجموع الحدود المنبثقة عن الحرب العالمية الثانية وعن نهاية الاستعمار. وكان حافز هذه البلدان يرتكز على الضرورة الملحة للحفاظ على الضمان الجماعي للحدود، المفروض قاعدة للعلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية اكثر مما يرتكز على التضامن المناوئ للامبريالية، فكانت اسرائيل تظهر عندها بمظهر معكر هذا النظام الدولي.

وكان النقاش يدور حول فكرة الانسحاب واقترح السوفييت صيغة (الانسحاب من كل الاراضي المحتلة) واعترضت الولايات المتحدة على هذه الصيغة وكذلك على صيغة: (الانسحاب من الاراضي المحتلة) وفي النهاية كان المشروع البريطاني هو الذي صودق عليه يوم 22 نوفمبر واصبح القرار 242 الذائع الصيت.

(إن مجلس الامن:

(إذ يعبر عن القلق الذي يحدثه له الوضع الخطير بالشرق الاوسط)، ويشدد على عدم قبول اكتساب الاراضي بالحرب وضرورة العمل من اجل سلام عادل ودائم يسمح لكل دولة من دول المنطقة العيش في أمن (ويشدد كذلك على ان كل الدول الاعضاء بقبولها ميثاق الامم المتحدة قد عقدت التزاماً بالعمل وفق المادة 2 من الميثاق[2] .

(1) يؤكد أن إنجاز مبادئ الميثاق يتطلب إقامة سلام عادل ودائم بالشرق الاوسط، ينبغي أن يتضمن تطبيق المبدأين التاليين:ـ

(أ) انسحاب القوات المسلحة الاسرائيلية من الاراضي المحتلة أثناء النزاع الأخير.

(ب) ايقاف كل كلام عدواني أو كل حالات الحرب واحترام سلامة كل دولة من دول المنطقة واستقلالها والاعتراف بذلك وكذلك الاعتراف بحقها في العيش في سلام داخل حدود آمنة ومعترف بها في مأمن من التهديدات او اعمال العنف.

((2) يؤكد كذلك ضرورة:

(أ) ضمان حرية الملاحة على الطرق المائية الدولية بالمنطقة.

(ب) تحقيق تسوية عادلة لمشكل اللاجئين.

(ج) ضمان حرية كل دول المنطقة واستقلالها بإجراءات تشمل إحداث مناطق منزوعة السلاح.

((3) تدعو الامين العام الى تعيين ممثل خاص للذهاب الى الشرق الاوسط لاقامة اتصالات مع الدول المعنية والاحتفاظ بها للمساعدة في ايجاد اتفاق ودعم الجهود الرامية الى الوصول الى تسوية سلمية ومطابقة لمبادئ هذا القرار.

((4) تدعو الامين العام الى ان يقدم لمجلس الامن في اقرب وقت ممكن تقريراً عن النشاط حول جهود الممثل الخاص.)

ونص القرار حل وسط لبق بين مطالب هؤلاء وأولئك: فقد وضع مبدأ الانسحاب على نفس المستوى هو ومبدأ حق العيش في سلام داخل حدود آمنة ومعترف بها كما أن مبدأ حرية الملاحة قد وضع الى جانب تسوية عادلة لمشكل اللاجئين، أما تعيين وسيط للامم المتحدة فقد جاء وسطاً بين الموقفين المتطرفين المعلنين رسمياً وهما: رفض التفاوض والمطالبة بعلاقات ثنائية بالمعنى الضيق للكلمة.
 
قبلت مصر والاردن ولبنان القرار 242 ضد الآراء المعترضة للفلسطينيين الذين رفضوا ان يعتبر وضعهم مجرد مسألة لاجئين وضد رأي سوريا التي ظلت جذرية كالعادة. وفي الواقع ـ ومثلما بلوزان 1949 ـ اعترفت الدول العربية ضمنياً بالدولة العبرية، اما إسرائيل فقد وافقت، غير انها تقدمت بتأويل خاص للقرار.

يعتمد هذا التأويل على النص الانجليزي للقرار وخاصة على الجملة التي قد تترجم الى (اراض محتلة)(**) (ويجب ان يؤخذ في الحسبان ان النحو المستعمل ليس الاكثر شيوعاً في اللغة الانجليزية) غير ان الموقف الاسرائيلي متهافت اذ ينبغي في هذه الحالة التأكيد بان غياب أداة التعريف في اللغة الانجليزية يتضمن دوماً التنكير او الابهام وذلك ما يعطي للجملة الانجليزية هذه الترجمة (انسحاب قوات اسرائيلية مسلحة من اراض محتلة) فلا يكون للجملة كبير معنى او ترجمة المقطع التالي الموضح اكثر لهذا التهافت(***) :

(ضمان حرية ملاحة على طرق بحرية دولية، وهو ما يقوض طلب اسرائيل الخاص بحرية الملاحة في خليج العقبة وقناة السويس. والنص الفرنسي له نفس القوة القانونية التي للنص الانجليزي باعتباره لغة رسمية للامم المتحدة أضف الى ذلك في حالة وجود غموض في نص متعدد اللغات فان المبدأ القانوني ينص على الاعتماد على النص الادق لا على النص الأقل دقة. كما ان الترابط المنطقي الداخلي للقرار يشدد على عدم قبول اكتساب الاراضي بالقوة وقد تم التذكير بذلك فيما بعد بالاحالة الى المادة 2 من الميثاق الذي يعبر عن هذا المبدأ الاساسي لكل البلدان الاعضاء في الامم المتحدة. وتلح الاطروحة الاسرائيلية على فكرة حدود آمنة ومعترف بها وذلك ما يستتبع تعديلات اقليمية. والرد قد جاء في القرار نفسه إذ هو يذكر صراحة اجراءات ملائمة منها انشاء مناطق منزوعة السلاح.

فادعى الاسرائيليون عندئذ بأن سيناء ليست حقاً أرضاً مصرية وان الجولان لا يتبع سوريا وذلك ما لا يستقيم قانونياً، وأن فلسطين التي كانت تحت الانتداب لها وضع خاص وهو أمر أقل عرضة للنقاش. وأضافوا انه مع القبول بمبدأ رفض الحصول على أراض بالقوة فليس ممنوعاً ان تعترف معاهدة سلام بهذه المكاسب، وذلك خير مثال على السفسطة. وكما برر الاسرائيليون طردهم الفلسطينيين في عامي 1948 ـ 1949 بهجوم الدول العربية غير المعلل، فقد أكدوا بان خطر الحرب الذي كانت الدول العربية تمثله قبل 5 يونيو 1967 يسمح باحتلال الاراضي المغزوة احتلالاً دائماً بل حتى احتمال ضمها. وكان موقف الحكومات العربية لا يتزعزع: لن يكون أي اتفاق ممكنا دون العودة الى حدود يونيو 1967. وما عدا ذلك فهو قابل كلية للنقاش.

ان هذا الموقف الذي يخدم مصالح الدول العربية يتضارب مع مصالح الفلسطينيين، والحال ان الثورة الفلسطينية قد انطلقت في تلك الفترة بالذات.

ازدهار الثورة الفلسطينية

الاراضي المحتلة:

كانت الاراضي المحتلة سنة 1967 يسكنها عندئذ حوالي 540.000 لاجيء فلسطيني من النزاع الاول و500.000 عربي من السكان العاديين. ولقد حدت سرعة الغزو في يونيو 1967 نسبياً من ظاهرة هجرة السكان العرب (خاصة من لاجئي 1949) اذ هاجر تقريباً 200.000 شخص، وكان عدد اللاجئين الفلسطينيين المسجلين آنذاك بوكالة غوث اللاجئين التابعة للامم المتحدة قد زاد بواقع نصف العدد بالقياس مع سنة 150 (1.344.576 بدلاً من 960.021) واصبحت اسرائيل تسيطر على كل فلسطين التي كانت تحت الانتداب وفي شرقي الاردن حيث استقر المنتقلون الجدد بلغ عدد اللاجئين 577.000 وتزايدت الارقام في السنوات التالية مع دفق الرحيل التواصل من الاراضي المحتلة الى شرقي الاردن.

في الاشهر الاولى من الاحتلال سلكت السلطات الاسرائيلية سياسة متساهلة نسبياً. وقد مارس موشي ديان انفتاحاً تجاه الاردن بالسماح باعادة لمّ شتات العائلات التي تفرقت بهجرة 1967 وبتركه تدفق البضائع والاشخاص عبر الاردن مع مراقبة الشرطة فحسب لاسباب أمنية (سياسة الجسور المفتوحة) وبمواصلة نوع من ادارة الشئون العامة من قبل الاردنيين الذين كانوا يدفعون جزءاً كبيراً من رواتب الموظفين. وفي الوقت ذاته شرع في ادماج اقتصادي مع اسرائيل خاصة بتشجيع دخول المنتجات الاسرائيلية الى الاراضي المحتلة (بينما كان الاتجاه المعاكس يثبط بشكل منهجي) وبالسماح لليد العاملة العربية بالمجيء للعمل في اسرائيل (لكن يحظر عليهم الاقامة فيها ليلاً) ولقد كانت هذه العمالة الرخيصة الاجر والضعيفة الغطاء الاجتماعي احد العناصر الهامة في النمو الاقتصادي الاسرائيلي السريع الذي تلا الحرب.

ولقد حصل الاجماع السياسي الاسرائيلي حول تعديل الحدود تعديلاً كبيراً. وكان اليمين الاسرائيلي يطالب بضم كامل الاراضي المحتلة، والشيء الذي يحمل دلالته هو ان الاسرائيليين يعتبرون الامر لا يتعلق (باحتلال) ولكن (بادارة) (وذلك ما يسمح بعدم احترام اتفاقيات جنيف الخاصة بالاحتلال العسكري) والغت اسماء الاماكن العربية وعوضتها باسماء توراتية مثل يهوذا والسامرة. ولم تتخذ حكومة الوحدة الوطنية برئاسة العمال قراراً نهائياً غير انها اعدت خطة عامة منذ صيف 1967. كانت خطة ألون (باسم باعثها) ترتكز رسمياً على اعتبارات عسكرية: فالامر يخص انشاء مناطق حاجزة لحماية داخل الارض الاسرائيلية. وهي تتضمن في سيناء الساحل المتوسطي حتى العريش وساحل خليج العقبة حتى شرم الشيخ فقطاع غزة يفصل بذلك كلية عن مصر. اما في الضفة الغربية فان وادي الاردن ينبغي اتخاذه خطاً دفاعياً فهذا الاخدود الطبيعي (إذ يبلغ فارق الارتفاع مئات عديدة من الامتار) هو افضل عائق لاي هجوم عربي ولتسللات الفدائيين ويمكن من عزل المناطق ذات الكثافة السكانية العالية بالضفة الغربية عن أي اتصال بشرقي الاردن. والجولان واقع في امتداد هذا الحاجز الامني، وفي هذه المنطقة الممتدة على عرض عدة كيلو مترات نفذت في الحال انشاءات عسكرية (تحصينات وحقول ألغام) وكلف ذلك مصادرة أراض عربية باسم الدواعي الامنية. وفي فترة ثانية وطن فيها مدنيون اسرائيليون للحصول على حجة لرسم حدود جديدة، وتستخدم هذه المستوطنات فيما سيأتي احتياطاً ودعماً للقوات المسلحة. والاستثناء الوحيد لمعطيات خطة ألون الاستراتيجية المحضة هو انشاء مدينة اسرائيلية قرب مدينة الخليل العربية، وهو مكان مهيب في التوراة فهو يحوي قبور الانبياء وهو مكان مقدس عند المسلمين واليهود على حد سواء. ورغم ان العمال لم يحدثوا مستعمرات استيطانية في المناطق ذات الكثافة السكانية العربية العالية (باستثناء حالة القدس التي فصلت عن الضفة الغربية) فان العزلة التي وضعت فيها المنطق العربية لا يمكنها ان تنبئ بشيء غير وضع ضيق من التبعية تجاه اسرائيل في حالة تسوية نهائية. فكل شيء يسير كما لو كان الاسرائيليون ـ مثلما تطوير مراكز الاستيطان اليهودي في السنوات 1930 و1940 ـ يقومون بالسيطرة على الطرق الاستراتيجية قبل الاستيلاء على اراضي الدواخل.

وتسعى المقاومة الفلسطينية الى التمركز في المناطق المحتلة. وتسلل عرفات والعديد من رفاقه الى الضفة الغربية وحاولوا اقامة شبكات مقاومة. وكان مركز الحركة هو نابلس المدينة ذات الماضي الوطني النشط جداً وكان الهدف اعداد الحرب الشعبية ضد المحتل وفق الانماط الثورية المستوحاة من التجربتين الجزائرية والفيتنامية، وكان القمع شديداً فقد ضاعفت السلطات العسكرية الاسرائيلية من الاعتقالات (اكثر من الف قبل نهاية السنة) والعقوبات الجماعية مثل حظر التجول لفترات طويلة وهدم المنازل التابعة لعائلات المشبوهين. وكان الضغط في بداية 1968 قد بلغ حداً اضطر معه عرفات ورجاله الى الانسحاب صوب الاردن. وبالاضافة الى صعوبة انشاء بنية تحتية للمقاومة من لا شيء فان موقف الوجهاء الفلسطينيين الذين كانوا يعتقدون بان الاحتلال الاسرائيلي سيكون قصير الاجل وان المنطقة لن تلبث ان تعود أردنية، يفسر فشل التمركز الاول لمنظمة فتح، فقد كانوا يريدون اجتناب كل ما من شأنه ان يقوض التسوية وما قد يجلب عليهم سخط السلطات الاردنية، وكانت اللعبة في الضفة الغربية ثلاثية بين المقاومة واسرائيل والاردن.

أما في غزة المنطقة المكتظة السكان فقد كان تمركز المقاومة أفضل. وكانت من فعل الجناح اليساري من الحركة الفلسطينية وخاصة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين برئاسة جورج حبش اكثر مما كانت بفعل فتح. ويجد هذا الوضع الفريد تفسيره في ان عبد الناصر كان قد سمح بتمركز حركة القوميين العرب اثناء الادارة المصرية وان جيش تحرير فلسطين قد رابط فيها قبل 1967. والسكان الذين كانوا قد مروا بتجربة اولى مريرة من الاحتلال الاسرائيلي في عامي 1956 ـ 1956 قد استردوا كميات هامة من الاسلحة الفردية. فالتمركز السياسي للمقاومة بغزة قد سبق الاحتلال على عكس الضفة الغربية. وكانت العمليات ضد قوى الاحتلال منتظمة. ولم يتمكن الجيش الاسرائيلي من القضاء على المقاومة المسلحة الا في صيف 1971 على اثر سياسة قمع قاسية قادها أريال شارون (هدم 1800 مسكن وفتح طرق مواصلات واسعة باستعمال الآلات الجرافة وباعادة توطين جزء من اللاجئين بالقوة خارج المخيمات بل وحتى في العريش بسيناء. وبعد (التهدئة) عينت السلطات الاسرائيلية احد أعيان المنطقة رشيد الشوا عمدة لغزة. وحاول هذا الاخير تحسين ظروف عيش مواطنيه وايجاد حل سياسي مع الاردن ولكن هذه التجربة من الادارة المدنية لم تدم الا الى اكتوبر 1972 حيث اعيدت الادارة العسكرية عند رفض رشيد الشوا القبول بمد خدمات مدينة غزة البلدية لتشمل المخيمات الفلسطينية المجاورة إذ كان ذلك سيؤدي الى القبول بمبدأ التخلي عن الحق في العودة.
 
تعدد منظمات المقاومة وتحولات منظمة التحرير الفلسطينية:

لقد أعطى تدفق الاشخاص المرحلين وتنامي السكان الفلسطينيين المستمر بالاردن قاعدة شعبية حقيقية لحركات المقاومة التي هي نتاج تجربة المنفى. وكان السكان الفلسطينيون قد تجمعوا بحسب أصولهم الجغرافية قبل الهجرة محتفظين بذلك بتجمعاتهم العشائرية الى جانب محافظتهم على هويتهم الفلسطينية. وبما ان الاعيان قد خسروا ثروتهم العقارية والهيبة التي كانت تكسبهم السلطة. فقد حلت حركات المقاومة محلهم عاملاً من عوامل الترابط الاجتماعي وللزعماء الجدد المنبثقين م الطبقة الوسطى المثقفة والذين عاشوا الهجرة مباشرة لهم تجربة ولغة تسمحان لهم بالاتصال بالسكان. وفي سنة 1967 ـ 1968 كان الفارق بيناً بين فلسطيني الضفة الغربية ـ الذين كانوا ما يزالون يعيشون في مجتمع يسيطر عليه الوجهاء ـ وبين اللاجئين الذين كانوا يهيئون لانفسهم اطاراً اجتماعياً جديداً. وأصبحت المخيمات الفلسطينية قواعد الحركة الطبيعية التي كانت تنظم عمليات فدائية ضد اسرائيل. ومنذئذ استؤنفت الدائرة الاعتدائية لعمليات الانتقام. ولقد جاء حدث رمزي يؤكد هذا التطور. ففي 21 مارس 1968 هاجم الجيش الاسرائيلي مخيم (الكرامة)، بهذا الاسم الذي اختاره القدر، حيث كانت فتح قد اقامت قاعدة لها، وأنذر الجيش الاردني الفلسطينيين مسبقاًن وكان يحارب الى جانب الفدائيين فرد هؤلاء الهجوم الاسرائيلي مضحين بـ120 قتيلاً من جانبهم و20 الى 30 قتيلاً من الجانب الاسرائيلي. ولقد أثار هذا النجاح حماس الرأي العام العربي في الوقت الذي كانت الجيوش العربية قد فقدت هيبتها، وأعلن الملك حسين نفسه بانه (سياتي يوم نصبح فيه كلنا فدائيين) واصبحت المقاومة الفلسطينية آخر حركة شعبية كبرى من حركات القومية العربية. واندفع الوف من المتطوعين الفلسطينيين وغيرهم للدخول في صفوف المقاومة مما أعطى زيادة كبيرة لاعداد أفرادها على حساب قدراتها التنظيمية التي لم تستطع المواكبة.

ولقد أدت هيبة المقاومة الفلسطينية لدى الرأي العام العربي وسرعة تزايد عدد أفرادها الى تزايد عدد المنظمات وذلك بسبب اختلاف المذاهب ورغبة الدول القريبة في تشكيل منظمات تابعة لها.

وظلت فتح اهم المنظمات وبفارق كبير. وهي قبل كل شيء ممثلة الوطنية الفلسطينية التي ترى ان تحرير فلسطين له الاولوية على الوحدة العربية او الثورة الاجتماعية. وهي ما تزال تحت قيادة زعمائها التاريخيين، برغم تجدد اعداد افرادها وازديادهم.

اما حركة القوميين العرب فقد تولد عنها يوم 11 ديسمبر 1967 الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. ويلح برنامجها على العلاقة بين النضال من اجل تحرير فلسطين وبين مجموع الكفاح ضد الامبريالية العالمية. والمنهج المتبع هو (الاشتراكية العلمية) بالمعنى الماركسي للفظة. ولقد وضعت هذه النزعة الماركسية اللينينية (الثورية بعض الشيء) المقامة الفلسطينية على صلة بالقوى (الثورية) العالمية في فترة كانت فيه هذه الاخيرة مزدهرة بشكل خاص في دول مثل الصين او الاتحاد السوفييتي او في المنظمات السرية (الارهابية) بأوروبا وامريكا وآسيا (خاصة باليابان).

ومنذ 1968 حدثت انقسامات داخل الحركة نتح عنها منظمات مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـ القيادة العامة ـ لاحمد جبريل والجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين لنايف حواتمة. ويراد للاتجاه ان يكون أكثر ثورية، فبالاضافة الى الميل الى تأسيس مجموعات صغيرة مشتركة بين مجموع الحركات المشابهة فان القطيعة ذات صلة بطموحات ومنافسات شخصية. وينبغي الاشارة الى وجود كثير من المسيحيين الروم الارثودكس في كل المجموعات المنبثقة عن حركة القوميين العرب مثلما كان الامر بالنسبة للبعث والحزب القومي الاشتراكي حيث يسمح التجذير السياسي بمحو الفوارق الطائفية.

وفيما عدا النزعتين: القومية والماركسية توجد (فروع) الحركات السياسية والدول العربية. واهمها الصاعقة وهي الفرع العسكري لمنظمة طلائع الحرب الشعبية للتحرير والمتولدة قبل 1967 من الاطارات الفلسطينية لحزب البعث السوري. والصاعقة ذاتها لم يتم انشاؤها الا بعد حرب يونيو 1967. وبرنامجها هو برنامج البعث السوري. فالثورة الفلسطينية جزء من الثورة العربية الاعم. وان مصير فلسطين ينبغي ان يتقرر في اطار كامل الشام. وينبغي رفض كل استسلام يعترف بالكيان الصهيوني في فلسطين وقوة المنظمة مردها الدعم النشط الذي تمنحه اياها حكومة دمشق. وهي تبدو المنافسة لحركة فتح غير ان ضعفها ناجم عن كونها اصبحت اداة للسياسة السورية في الاردن وفي لبنان وفي الحركة الفلسطينية بوجه عام. اما جبهة التحرير العربي فهي من صنع البعث العراقي في ابريل 1969. وتجنيدها عربي عام (والفلسطينيون فيها أقلية) غير ان بعد القواعد العراقية عن مناطق خط الجبهة وضعف تمركزها في المخيمات الفلسطينية كانا السبب في ان هذه المنظمة لم تكسب اهمية عددية. واخيراً منظمة الانصار الناشئة عن الاحزاب الشيوعية بالمنطقة. وهي مقطوعة عن جماهير السكان العرب شأنها في ذلك شأن تلك الاحزاب ذاتها. وهي لم تكن قوات مسلحة في الاردن واما في الاردن فقد تلقت مساعدة الحزب الشيوعي اللبناني المتأصل في الجنوب ولم تفلح هذه المنظمة قط في ان تصبح منظمة هامة.

كل هذه الحركات ترى ان الكفاح المسلح هو الوسيلة الوحيدة لتحرير فلسطين وهي تستوحي تجاربها من تجربة الثورة الشعبية بالجزائر وفيتنام، ولكنها تغفل في حسابها نسبة السكان ومساحة الارض التي سمحت بالنصر الجزائري في الحالة الاولى، كما تغفل في حسابها وجود جيش نظامي قوي ودولة ذات ارض واقتصاد في الحالة الثانية. ولئن وفر التوجه الثوري والمعادي للامبريالية حلفاء مفيدين خارج العالم العربي فان البلاغة الخطابية الملتهبة الداعية الى النضال ضد القوى الرجعية (فالنظام الناصري ينعت بانه نظام برجوازي صغير من قبل قدماء حركة القوميين العرب) لا يمكنها الا ان تثير مخاوف الدول العربية القائمة وان تؤدي بها الى الارتياب. ولئن كان المسئولون العرب يشاطرون الامل في تحرير فلسطين فلقد كانوا يعرفون موازين القوى الحقيقية في الميدان والتي تعطي النصر الاخير للاسلحة التقليدية. وكانوا يخشون الاعمال غير المسئولة التي قد تجر اعمالاً انتقامية اسرائيلية وخاصة قد تجر الى تحويل العمل الفلسطيني نحو الصراعات العربية.

لقد شمل فقدان الهيبة الذي طال كل المسئولين عن هزيمة 1967، منظمة التحرير الفلسطينية الاولى. وفقد احمد الشقيري زعيمها خاصة اعتباره بتطرفه اللفظي الذي أساء كثيراً للقضية الفلسطينية. فاضطر الى الاستقالة في ديسمبر 1967 وظلت المنظمة ضرورية باعتبارها تمثل الفلسطينيين. وفي سنة 1968 دخلت منظمات المقاومة في منظمة التحرير الفلسطينية حيث شكلت فيه اغلبية المجلس الوطني الفلسطيني وفي يوليو 1968 اجرى المجلس الوطني الفلسطيني الرابع تعديلاً لميثاق عام 1964 اجرى المجلس الوطني الفلسطيني الرابع تعديلاً لميثاق عام 1964 بتجذيره واعطاء الاولوية للكفاح المسلح لتحرير فلسطين وهو ينعت بانه معركة ضد الامبريالية لا تقبل اية هوادة.

((6) ان اليهود الذين كانوا يعيشون بطريقة عادية بفلسطين حتى بداية الاجتياح الصهيوني فلسطينيون (…)

((9) ان الكفاح المسلح هو السبيل الوحيد لتحرير فلسطين. وذلك نهج استراتيجي لا خط مرحلي. وان الشعب العربي الفلسطيني يؤكد عزمه الراسخ على قيادة الكفاح المسلح ودفع الثورة الشعبية من اجل التحرير وعودته الى وطنه كما يؤكد حقه في العيش عيشة عادية بفلسطين وفي ممارسة حقه في تقرير مصيره وفي سيادته.

((21) ان الشعب العربي الفلسطيني الممثل في ثورته المسلحة يرفض أي حل بديل عن تحرير فلسطين تحريراً كاملاً. كما يرفض كل المقترحات الرامية الى تصفية المشكل الفلسطيني او الى تدويله.

((22) ان الصهيونية حركة سياسية مرتبطة ارتباطاً عضوياً بالامبريالية العالمية وهي تعارض كل حركات التحرير او التقدم في العالم، والصهيونية بطبعها متعصبة وعنصرية وهي ذات أهداف عدوانية وتوسعية واستعمارية وطرقها هي طرق الفاشيين والنازيين. واسرائيل هي أداة الحركة الصهيونية. وهي قاعدة جغرافية وبشرية للامبريالية العالمية التي يمكنها انطلاقاً من هذه القاعدة تسديد ضربات للوطن العربي لمحاربة تطلعاته الى التحرير والوحدة والتقدم. ان اسرائيل تهديد دائم للسلام بالشرق الاوسط والعالم اجمع.)

ولقد ترددت منظمة فتح لحظة بين خيار احداث منظمة واحدة تسيطر عليها كلية تكون قد قضت ولو بالقوة على كل المنظمات الفلسطينية الاخرى حسب النمط الجزائري (جبهة التحرير) وبين خيار الابقاء على تعددية التعبير إذ ان منظمات المقاومة هي قوى نضال واحزاب سياسية في آن معاً. واختارت الخيار الثاني تجنباً لحرب اهلية فلسطينية محتملة. ولقد أدخل خيار التعددية هذا في الحياة السياسية الفلسطينية مجموعة من المتحالفات والمعارضات التي كانت الدول العربية في الغالب تشجعها. وظلت فتح صاحبة الاغلبية دون منازع في منظمة التحرير الفلسطينية ولدى الفلسطينيين وذلك ما كرسه المجلس الوطني الفلسطيني الخامس في 2 ـ 4 فبراير 1969 الذي أصبح فيه ياسر عرفات رئيساً للمنظمة. وان الازمات السياسية المتعاقبة للحركة الفلسطينية ينبغي ألا تنسينا الاستقرار الكبير للطبقة السياسية المشكلة. حتى الآن وبعد اكثر من عشرين سنة من مؤسسي مختلف المنظمات في الستينيات.

ولقد قامت منظمة التحرير الفلسطينية الثانية، الى جانب مهامها في التمثيل السياسي للحركة الفلسطينية، بتطوير مجموعة من الخدمات المدنية في الصحة (الهلال الاحمر الفلسطيني) والنشر والمالية (ادارة الاموال الفلسطينية ودفع معاشات لاسر شهداء القضية).. وهي تنزع الى ان تصبح شبه دولة بتجميع عدد من المهام. ويمكن مقارنة عملها بالمنظمة الصهيونية العالمية والوكالة اليهودية لما قبل 1948، ومصدر التمويل الاسهامات التطوعية لفلسطيني الشتات والمساعدة الهام التي تقدمها الدول النفطية بالخليج. (ولقد سمح للمنظمة في فترة ما بتحصيل ضريبة من الفلسطينيين بالخليج) وتقوم الامارات النفطية بدعم منظمة التحرير الفلسطينية باسم القومية العربية ورغبة في السيطرة على الحركة الفلسطينية بالابقاء عليها في الخط السياسي ليسار عرفات المعتدل نسبياً. وترتكز سلطته السياسية على هيبته باعتباره مؤسس المقاومة الفلسطينية وعلى صدق وطنيته التي ترفض أي تحالف مشبوه مع الانظمة العربية غير التحالف المرحلي (التكتيكي) وعلى موهبته الخطابية وعلى تشبهه بالمناضلين الانفار (لذلك اعتاد ارتداء زي الفدائيين) وعلى رقابته على مالية منظمة التحرير الفلسطينية.)

وفي غرة يناير 1969 حددت فتح في تصريح رسمي تصورها لدولة فلسطينية مستقلة وديمقراطية (ينعك كل مواطنيها اياً كانت ديانتهم بحقوق متساوية) ورفضت القرار 242 رفضاً قاطعاً (لتجاهله الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني ولانه لا يشير الى وجود هذا الشعب. وكل حل يزعم انه سلمي يتجاهل هذه الحقيقة الاساسية مصيره الفشل) وفي المجلس الوطني الفلسطيني الخامس المنعقد في فبراير 1969 تم توضيح هذا البرنامج فالهدف المنشود هو (اقامة مجتمع ديموقراطي حر في فلسطين مفتوح لكل الفلسطينيين: المسلمين والمسيحيين واليهود. والى جانب رفض القومية الصهيونية يظل الغموض قائماً حول تعريف (اليهود الفلسطينيين) الذين ـ اذا ما تقدينا بقراءة ميثاق 1968 ـ لا يشملون الا الذين يعود وجودهم بفلسطين الى ما قبل 1917. ويهود اسرائيل يعتبرون طائفة دينية دون حقوق قومية، ولم يعط أي ايضاح حول مسائل اساسية مثل مسألة الثقافة او اللغة.
 
ولقد رفض المسئولون الاسرائيليون في تصريحات عامة عديدة سنة 1969 الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني. وهكذا اكدت غولدا مائير رئيسة الوراء الجديدة بعد موت ليفي اشكول، يوم 15 يونيو: (متى كان شعب فلسطيني مستقل بدولة فلسطينية؟ فقد وجد اقليم الشام الجنوبي قبل الحرب العالمية الاولى ثم فلسطين التي شملت الاردن. (فليس الامر كما لو وجد شعب عربي بفلسطين وقمنا بطرده بعد مجيئنا واخذ بلاده. بل لم يكن ذلك موجوداً [3] ، وفي رأيها لا يمكن للضفة الغربية ان تصبح مستقلة ولا يمكنها الا ان تكون احدى مكونات اسرائيل والاردن. وفي تصريح آخر أقرت بوجود شعب فلسطيني لكنها اضافة مباشرة بان مصيره مرتبط بمصير شعب الاردن ارتباطاً لا انفصام له.

ومع ذلك بدأ الاسرائيليون يتخذون موقف الدفاع حول هذا الموضوع. وفي نهاية 1969، اعترف الاتحاد السوفييتي وبلدان حلف وارسو بشرعية نضال الشعب الفلسطيني. والاهم من ذلك هو ان الجمعية العامة للامم المتحدة قد اشارت لاول مرة في ديسمبر في قرارها رقم 2535 ب (24) (الى حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف) فكفت عن استعمال لفظ (لاجئين) المستعمل منذ 1948.

تطور الكفاح المسلح والعلاقات مع الاردن ومصر:

في نهاية عام 1968، لا شك ان عدد الفدائيين قد بلغ حوالي عشرين الف رجل متمركزين خاصة بالاردن. ولقد سمح الاعتراف الرسمي بهم والذي حصلوا عليه إثر معركة الكرامة بان أقاموا مقرهم العام بالعاصمة الاردنية عمان، واصبحت مخيمات الفلسطينيين ـ بما في ذلك مخيمات عمان قواعد للمقاومة. ومنذ صيف 1968 كان الفلسطينيون المسلحون يتجولون بكل حرية وتعددت الحوادث مع الجيش والشرطة الاردنية. ووقعت معركة اولى في نوفمبر 1968 بين عناصر متطرفة من المقاومة التابعة لسوريا وبين الجيش الاردني اثناء الاحتفال بذكرى إعلان بلفور. وكسب الملك حسين هذه المعركة مع أنه اضطر الى قبول اتفاق ينظم الوجود الفلسطيني. وتعهدت المقاومة بألا تترك العناصر المسلحة تتجول بأسلحتها خارج المخيمات التي لم يعد للجيش والشرطة الاردنيين حق دخولها.

واتهم الاسرائيليون الاردن بالتواطؤ مع الفدائيين واستأنفوا اعمال الثأر التي كانت لا تهدف الى ضرب الفدائيين مباشرة لصعوبة الوصول اليهم بل الى جعل الموقف لا يحتمل بالنسبة للسكان المدنيين لينقلبوا ضد المنظمات الفلسطينية. وصارت المقاومة تجنح الى تشكيل دولة داخل الدولة. وبالفعل عادت الريبة التقليدية بين الهاشميين وبين الوطنية الفلسطينية. ورغم ان سكان الاردن في غالبيتهم من اصل فلسطيني فان القوات المسلحة في جزء هام منها من اصل بدوي وهي وفية للملكية. فلم تتسامح مع الهجوم الدائم على النظام واحسست بالاهانة من الطريقة التي كان الفدائيون يعبرون بها عن زهوهم بمآثرهم والحال ان الجيش الاردني قد دفع غالياً ثمن مشاركته في حرب يونيو 1967. وكان المسئولون العسكريون الاردنيون يدركون ان الحرب الشعبية تصبح غير ذات فعالية البتة في حالة اذا ما عم القتال وان الجيش النظامي الاردني قادر على تصفية وقوات المقاومة بفضل تفوقه عدداً وعدة وتدريباً. ورغم أن لمنظمة فتح خطاً سياسياً يقضي بعدم التدخل في الشئون الداخلية للدول العربية فقد انجرت بفعل المنظمات الاخرى الى سياسة خطيرة هي سياسة التصادم مع الملك حسين، وكانت العناصر الثورية ترى ان قلب الملكية الهاشمية قد اصبح خطوة ضرورية في النضال من اجل تحرير فلسطين. وكانت هذه النزعة من المقاومة ذات نفوذ خاصة وانها كانت معروفة بعملياتها في الارهاب الدولي.

وكان الحركيون الفلسطينيون قد قاموا منذ يوليو 1968 بجملة من الارهاب الدولي بدأت باختطاف طائرات مدنية اسرائيلية بأوروبا، ونظراً لفعالية الاجراءات الامنية الاسرائيلية المتزايدة، هاجموا الطائرات الامريكية، وكانت الغاية من ذلك اظهار ان الدعم الغربي لدولة اسرائيل ينبغي ان يكلف اجراءات انتقامية عربية باهظمة وكذلك ان النزاع لا يمكن حصره في مجرد، مواجهة بين الدول العربية وبين اسرائيل وانه ينبغي ان يحسب حساب للفلسطينيين، وذلك ما اكد جورج حبش يوم 18 فبراير 1969: (لعلنا خرقنا القوانين الدولية في ظروف استثنائية وضد ارادتنا ولكن الصهاينة طالما داسوا هذه القوانين الى حد ان ذلك صار عندهم مسألة روتينية. ولقد ازدروا كل قرارات الامم المتحدة الخاصة بالمشكل الفلسطيني[4] .

اما موقف الدول العربية فقد كان يكتنفه غموض كبير. ولقد كان عبد الناصر واعياً بان المقاومة الفلسطينية كانت تسليه رصيده من الشعبية داخل العالم العربي وانه ملتزم بالاعتراف علانية. بمزايا اعمال المقاومة. لقد ولي ذلك الزمن كان فيه ـ بفضل نفوذه واستخدامه منظمة التحرير الفلسطينية الاولى ـ يستطيع السيطرة على الفلسطينيين، كما كان عبد الناصر يدرك ان الحل الحقيقي للنزاع العربي الاسرائيلي لا يمر عبر حرب العصابات ولكن بالصدام بين الجيوش النظامية في مواجهات جديدة على نطاق واسع، وفي اطار خطته الشاملة سعى الى استعمال الفلسطينيين لتحقيق اهدافه هو. ففي اغسطس 1967 استقبل عضوين من الاعضاء المؤسسين لمنظمة فتح هما ابو اياد وفاروق القدومي. وفي نهاية السنة استقبل ياسر عرفات، وعرض عليه ما اصبح اساس حواره مع المنظمات الفلسطينية وهو ألا تعارض بين مصر والفلسطينيين ولئن قبلت القرار 242 فما ذلك الا لاقتناعها بانه لن تكون له نتائج تذكر. فإن طبق فلن يفيد غير مصر والاردن وسوريا فللمعارضة الحق إذن في رفضه والعمل للتمكن من انجاح مطالبها. وعلى المقاومة ان تبقى على استقلالها تجاه الدول العربية وان تنسق نشاطاتها معها[5]. وبامكانها ان تكون مفيدة على الصعيد العسكري. مثلما قاله لعرفات: (لم لا تصبحون شتيرن العرب؟ لم لا تصبح بيغين العرب؟ ينبغي ان تكونوا غير المسئولين منا. وعلى هذا الاساس فاننا نمنحكم كل ما نستطيع من مساعدة[6]، ومن جهة أخرى أظهر حدود المقامة مذكراً بالحاح عبر الصحافة المصرية بان فلسطين ليست الجزائر وأن بضعة آلاف الفدائيين لن يتمكنوا أبداً من تحرير وطنهم بمفردهم.

لقد مكن عبد الناصر منظمات المقاومة من الاستيلاء على منظمة التحرير الفلسطينية وقدم ياسر عرفات للمسئولين السوفييت اثناء رحلة قام بها الى موسكو في يوليو 1968. والمقاومة الفلسطينية عند الرئيس المصري هي خاصة اداة اضافية بعد التورط السوفييتي وتمويل الدول النفطية المجهود الحربي. وذلك من اجل المزايدة السياسية والعسكرية لحمل القوى العظمى على التدخل لوضع حل أكثر ملاءمة للعرب،
 
التصلب السوري والازمة اللبنانية:

تقوم السياسة السورية على دعم المنظمات بالخارج وعلى مراقبتها مراقبة صارمة بالداخل. فكل نشاطات فلسطينيين سوريا وتحركاتهم وتصريحاتهم تخضع لاذن السلطات السورية المسبق. فأبسط استقلالية للعمل غير مسموح بها فضلاً عن استخدام الاراضي السورية لعمليات ضد اسرائيل دون موافقة وزارة الدفاع بقيادة حافظ الاسد. وهذه القيود تسري على داخل سوريا فقط وعلى العكس من ذلك فان النشاطات الفلسطينية بلبنان والاردن يتم تشجيعها. والقضية الفلسطينية في نظر حكومة دمشق هي احدى مكونات العمل العربي باكمله وينبغي ان تخضع للسلطة العربية ممثلة في حزب البعث.

إن الفلسطينيين ملزمون بالتعامل بحذر مع السوريين. فنشاطاتهم في سوريا خاضعة للسوريين وهم في حاجة الى دعمهم للعمل في البلدان الاخرى كما يتوجب عليهم في ذات الوقت الدفاع عن إرادتهم في الاستقلال عن أي حكومة عربية. وفتح التي هي منظمة وطنية فلسطينية بشكل خاص كثيراً ما تجد نفسها مضطرة الى التصادم مع السلطات السورية. اما المنظمات الاخرى خاصة ذا النزعة الثورية بالاضافة الى الصاعقة التابعة لسوريا فهي ميالة الى الامتثال الى الطلبات السورية بسهولة أكبر. وهي ترى في المساعدة التي تتلقاها من سوريا وسيلة لموازنة هيمنة فتح في منظمة التحرير الفلسطينية.

وأما العراق فهو لا يلعب الا دوراً هامشياً في بلدان خط المواجهة باستثناء الاردن حيث كانت الوحدات العراقية المرابطة هناك منذ 1967 غالباً ما تقدم دعمها للفلسطينيين في خصوماتهم مع الجيش الاردني.

وأما لبنان ذو التماسك السياسي الهش فقد اصبح ضحية تطور المسألة الفلسطينية فاثناء حرب يونيو 1967 طالب رئيس الحكومة السني رشيد كرامي بتدخل الجيش اللبناني في القتال. ورفض قادة الجيش المارونيون المدركون لحقيقة ميزان القوى مما اثار اول توتر طائفي، ومنذ نهاية المعارك الغت اسرائيل كل اتفاقيات الهدنة (رغم فحواها الذي ينص على ان التغييرات لا يمكن ادخالها الا بموافقة مشتركة من الاطراف) وساور المسئولين اللبنانيين القلق مما اعتبروه خطوة أولى نحو امكانية ضم اراض لبنانية. وكان غزو الاسرائيليين للجولان قد مدد خط حدود لبنان بعشرين كيلومتراً تقريباً.

وحتى ذلك التاريخ كانت الاستخبارات السرية للجيش (المكتب الثاني) قد مارست رقابة صارمة على المخيمات الفلسطينية غير ان كامل السكان المسلمين كانت تبدي تحمسها للقضية الفلسطينية والعربية بينما رفض المسيحيون كل قطيعة مع الولايات المتحدة. ولقد قامت على امتداد عام 1968 في كبريات المدن اللبنانية مظاهرات تضامن مع القضية الفلسطينية بينما فتحت المنظمات الفلسطينية مكاتب لها ببيروت وكان دور هذه المدينة جوهرياً في اذاعة الانباء في الشرق الاوسط بكامله. وكانت بيانات المنظمات الفلسطينية والتي كانت تمارس الارهاب باوروبا منها خاصة تذاع من العاصمة اللبنانية واتخذت اسرائيل من هذا الوضع ذريعة للقيام بعمليات انتقام اثر عمليات ضد طائرات ركاب اسرائيلية. ففي يوم 28 ديسمبر 1968 قام هجوم اسرائيلي محمول جواً بتحطيم ثلاث عشرة طائرة ركاب لبنانيين بمطار بيروت. وسخط اليسار والمسلمون على عدم تدخل الجيش (الذي ينبغي ان يعزى الى عدم كفاءة القيادة آنذاك اكثر مما يعزي الى رغبة سياسية بعدم التدخل)، وكانت فرنسا البل الوحيد الذي قدم مساعدته للبنان بمعاقبة الهجوم الاسرائيلي باعلان حظر كامل على الاسلحة الموجهة الى اسرائيل بما في ذلك قطع الغيار هذه المرة (3 يناير 1969). ولعل الجنرال ديغول رأى في تلك العملية رغبة اسرائيل في ان تسجل بان الحماية الفرنسية الممنوحة تقليدياً للبنان لم يعد لها تأثير بعد ان قطعت فرنسا تحالفها مع الدولة العبرية.

لقد اختارت اسرائيل للانتقام اضعف البلدان العربية المتاخمة لها وأقلها تورطاً في المسألة الفلسطينية. صحيح ان الفلسطينيين شرعوا في الاشهر الاخيرة من سنة 1968 في اقامة قواعد عسكرية لهم في لبنان غير ان ذلك تم خاصة في مناطق الجنوب قرب الجولان. كما ان العمليات الفدائية انطلاقاً من الاراضي اللبنانية لم تبدأ الا سنة 1969 ولم تستهدف الا الاراضي المحتلة سنة 1967. لقد وضعت زعزعة النظام السياسي اللبناني والتي عجل بها الهجوم الاسرائيلي وضعت حداً لرقابة الاستخبارات العسكرية على المخيمات الفلسطينية. وتحولت مسألة دعم القضية الفلسطينية الى معارضة طائفية. وفي الجنوب. وفي أبريل عام 1969 حاول الجيش اللبناني منع تمركز القواعد الفلسطينية مما أدى الى صدام مع المقاومة والى احتجاجات عنيفة من جانب المسلمين المتضامنين مع الفلسطينيين.

وبينما واصل الجيش الصدام مع الفلسطينيين تفاقم التوتر السياسي ولم تتوصل أية وزارة الى الاتفاق حول مكانة الفلسطينيين واستمرت الازمة الحكومية سبعة أشهر. وفي صائفة 1969 قام الجيش الاسرائيلي بهجمات ضد قرى الجنوب التي كانت متهمة بتقديم العون للفلسطينيين. واتهمت الدول العربية التقدمية دولة لبنان بالخيانة وفي النهاية عرض جمال عبد الناصر وساطته التي افضت الى ابرام اتفاق القاهرة بتاريخ 3 نوفمبر 1969 والذي يضفي الشرعية على وجود الجيش الفلسطيني في المخيمات ويسمح بالعمليات الفدائية من الجنوب في اتجاه الجولان وفي عام 1970 قام الجيش الاسرائيلي بعمليات كبرى لطرد الفلسطينيين من قواعدهم بالجنوب. غير ان هذه القواعد سرعان ما عادت للظهور.

وامام المصادمات المتزايدة مع الدول العربية تبنت المنظمات الفلسطينية يوم 6 مايو 1970 برنامج عمل سياسي وعسكري أقره المجلس الوطني الفلسطيني السابع بالقاهرة في الشهر الموالي وهو يعلن بان (الشعب الفلسطيني وحركة تحريره الوطني يناضلان من اجل التحرير الكامل ويرفضان كل الحلول السلمية التي تتضمن التصفية والاستسلام بما في ذلك المناورات الرجعية والاستعمارية التي تهدف الى اقامة دولة فلسطينية على جزء من الارض الفلسطينية وكذلك القرار الذي تبناه مجلس الامن بتاريخ 22 نوفمبر 1967 والمتضمن التصفية.

(إن المقاومة تعتبر أرض البلدان العربية المجاورة لاسرائيل مجال عمل شرعي للكفاح الفلسطيني كما تعتبر كل محاولة ترمي الى منع المقاومة الفلسطينية بأي بلد عربي خيانة للهدف الفلسطيني والامة العربية الا وهو تحرير فلسطين.

(تعلن المقاومة انها مستقلة تماماً عن الانظمة العربية وترفض كل المحاولات الهادفة الى عزلها او فرض الوصاية عليها او الى الجامها أو الى إخضاعها.)

ان هذا التصلب حول المبادئ لم يكن مرده المصادمات مع السلطات اللبنانية والاردنية والرغبة في الافلات من المطامع السورية فحسب، ولكن الاخطر من ذلك ان المقاومة كانت تتأهب لمعارضة عبد الناصر ذاته وبالقوة ان لزم الامر.
 
الدول العربية والحرب ضد اسرائيل

التغيرات في الجغرافيا السياسية العربية

لقد شكلت السنوات 1967 ـ 1970 الفترة النهائية لتشكل الانظمة العربية المعاصرة: فالمملكة العربية السعودية صارت منذ قمة الخرطوم تحتل مكانة متنامية في السياسة العربية بفضل امكانياتها المالية المتزايدة باستمرار. كما ان نفوذها يرتكز على معطيات جغرافية سياسية: ففي يناير 1968 اعلنت بريطانيا العظمى عزمها على الانسحاب من الخليج سنة 1971. وفي الحال أعلنت الامبراطورية الايرانية مطالبتها بالبحرين وعن رغبتها في لعب دور حامي الخليج بعد رحيل الانجليز وخلفت المطامع الايرانية توتراً جديداً بين ايران والبلدان العربية. والتفت هذه البلدان بطبيعة الحال الى فيصل الذي اكد من جديد دوره بصفته حامي حمى العروبة.

ولم يتخل عن مشاريعه القديمة الخاصة بالوحدة الاسلامية. وفي يوم 21 اغسطس 1967 قام احد المختلين الاستراليين باضرام النار في المسجد الاقصى احد اهم البقاع المقدسة الاسلامية المشيد على موقع معبد القدس المفترض. واتهم العالم الاسلامي باكمله اسرائيل بانها المسئولة عن المساس بالمقدسات واغتنم فيصل هذا السخط العام لتجسيد فكرة القمة الاسلامية التي كانت تخامره. والتأمت اول قمة اسلامية بالرباط من 22 الى 25سبتمبر 1969. وقررت اقامة مؤسسة تشاور دائمة هي (المؤتمر الاسلامي) الذي سيجمع دورياً رؤساء الدول الاسلامية او ممثليهم في مؤتمرات قمة اسلامية، وتقرر الحاق عدد من مؤسسات التعاون الثقافي والاقتصادي بهذه المنظمة الجدية التي سيكون مقرها بجدة. وفي قمة الرباط قبلت منظمة التحرير الفلسطينية لاول مرة على قدم المساواة مع وفود الدول ذات السيادة. وكان فيصل بشكل عام يدعم التشكيلة الوطنية المعتدلة الممثلة في منظمة فتح واخذ يقدم نفسه باعتباره وسيطاً في النزاعات بين الفلسطينيين والدول العربية.

وفي العراق، اثارت حرب يوليو 1967 موجة جديدة من العداء للغرب باستثناء فرنسا التي كانت بصدد ربط علاقات اقتصادية ممتازة خاصة في مجال النفط، غير ان نظام عبد السلام عارف كان ضعيفاً. وفي يوم 17 يوليو 1968 قام تحالف هش جداً بين عسكريين يمينيين وبين بعثيين بقلب نظام عارف. وبعد صراع قصير على السلطة استولى البعثيون نهائياً على مقاليد الدولة بتاريخ 30 يوليو 1968. وظهرت البعث العراقي بمظهر الوفي لتعليم مؤسسي الحزب والتي خانها بعث سوريا. وكان انصار هذا الحزب سنيين وكانت المجموعة القيادية به اصيلة نفس المدينة ـ تكريت ـ التي ينتمي اليها الحسن البكر ومساعده صدام حسين وكان الحزب مقراً العزم على عدم تكرار اخطاء سنة 1963، فكان يريد اقامة نظام مستقر بواسطة الارهاب السياسي فقامت سلسلة من المحاكمات التي انتهت في الغالب باعدام علني قامت بالقضاء على الناصريين وانصار الغرب وعلى الشيوعيين في فترة لاحقة.

وفي داخل جهاز الحزب كانت السيطرة للعسكريين غير انهم اخذوا منذ 1969 ـ 1970 يفقدون مواقع هامة لصالح النزعة المدنية بقيادة صدام حسين الذي اصبح تدريجياً الرجل القوي في النظام. اما السياسة الخارجية فقد بدت متصلبة جداً. فقد ارسل العراق جنوداً الى الاردن وساند الفلسطينيين في رفضهم القرار 212. وكانت مطامع ايران في الخليج تثير قلق بغداد. وفي فبراير 1969 برزت مسألة شط العرب من جديد وفي أبريل الغت ايران معاهدة 1937 وطالبت بان تكون الحدود متطابقة مع القلعة (اخفض خط في الوادي) ولم تعد تحترم قو اعد الملاحة في الشط. ورداً على ذلك أخذ العراق يمول المعارضة الايرانية للشاه ويدعمها، وردت ايران من جانبها بفعل الشيء نفسه مع اكراد العراق الذين كانوا في تمرد مستمر.

وفي سوريا فقد قوت هزيمة 1967 من عداء الشعب للنظام البعثي الذي حمل مسئولية الحرب وفقدان الجولان. واحس حافظ الاسد بالهزيمة كما لو كانت اهانة شخصية لحقته ورأي ان زملاءه تصرفوا تصرفاً غير مسئول إذ بعدم مراقبتهم منظمة فتح جروا العالم العربي الى النكبة وبعدم مشاركتهم في قمة الخرطوم حرموا سوريا من المساعدة المالية العربية. ورأى الاسد منذ ذلك التاريخ ان التعاون مع الدول العربية ومراقبة نشاطات الفلسطينيين ينبغي ان يكونا مبدأ السياسة السورية. ولقد أدى به هذا التوجه (القومي) الصريح الى التصادم مع قادة الحزب الاخرين المهتمين خاصة ببعث التحولات الاشتراكية بالبلاد. وبشكل عام بدأ حافظ الاسد عملياً في الشئون الداخلية والخارجية بينما ظل منافسه جديد اكثر التصاقاً بالعقيدة والمبادئ الثورية. وأفلح الاسد وزير الدفاع تدريجياً في وضع اتباعه بالمواقع الهامة بالجيش بينما احتفظ جديد بمواقعه بالحزب وذلك مما خلق انشقاقاً في الجناح المدني والجناح العسكري. وفي فبراير 1969 بدا حافظ الاسد الرجل القوي بالبلاد بعد استعراض اول للقوة ادى الى تصفية العديد من خصومه ومع ذلك ظل يتردد في اخذ السلطة وانتظر تطور الموقف.

اما في مصر وفي نهاية فبراير 1968 فقد قامت مظاهرات هامة من العمال والطلبة بالاحتجاج ضد ضعف العقوبات التي حكم بها بعد محاكمات، على المسئولين عن الهزيمة. واضطرت السلطة الى عدم التصديق على الاحكام والى تقديم المتهمين ثانية امام المحكمة. وفي يوم 3 مارس قام عبد الناصر بنقده الذاتي امام نقابات العمال معترفاً بانه ترك طبقة جديدة طفيلية من العسكريين المنشغلين بالسياسة تنمو فحاولت مصادرة الثورة وهي المسئولة عن الهزيمة، ومتى هزمت (مراكز السلطة) هذه يمكن للثورة تصحيح نفسها. وقام بتعديل الوزارة وتقدم يوم 30 مارس ببرنامج اصلاحات فمسئولو الاتحاد الاشتراكي العربي لن يتم تعيينهم كالسابق ولكنهم سيتم انتخابهم، وسيجمع الرئيس جميع السلطات بين يديه. وفي 2 مايو تمت المصادقة على البرنامج في استفتاء بنسبة 99.989% من الاصوات الموافقة. غير ان تجديد اطارات الاتحاد الاشتراكي العربي لم يمنع الاضطرابات الطلابية من المعاودة في نوفمبر. ودعا عبد الناصر الى الوحدة الوطنية وقام بقمع معتدل. وحد استئناف القتال على القناة في عام 1969 من الازمة السياسية. غير انها مع ذلك دليل على رفض النظام الناصري.

ولقد حصلت مصر على انفراج كبير بحدوث انقلاب في السودان بتاريخ 24/25 مايو 1969 اوصل اللواء النميري الى السلطة وانقلاب الفاتح في سبتمبر في ليبيا الذي ادى الى قلب الملكية لصالح نظام ثوري بقيادة العقيد القذافي فجارتاها الافريقيتان اصبحتا حليفتين مستعدين للمشاركة في الكفاح ضد اسرائيل ولمنحها العمق الاستراتيجي اللازم لاقامة منشآت عسكرية خارج مدى الطيران الاسرائيلي. ومنذ نهاية 1969 تم تبني مبدأ الاتحاد بين البلدان الثلاث. ورأى في ذلك عبد الناصر خاصة امكانية تكريس موقفه العربي الافريقي الجديد ودعم هذا الحلف الضروري له لمواصلة عملياته العسكرية. غير أن العقيد القذافي قد أخذ مبدأ الاتحاد مأخذ الجد وذلك ما اصبح في السنوات التالية مصدر خلاف.

ان سقوط الملكية الليبية كان جزئياً احدى نتائج حرب يونيو 1967، فالقوميون العرب الليبيون كانوا موقنين بان القواعد العسكرية الامريكية قد اتخذت سنداً (لوجستياً) للهجوم الجوي الاسرائيلي يوم 5 يونيو 1967. وكان من اوائل اعمال النظام الثوري الجديد هو المطالبة باجلاء القواعد الامريكية والحصول عليه. وسر جمال عبد الناصر للضربة التي سددت للمصالح الامريكية. ونصح القذافي بعدم التوجه الى الاتحاد السوفييتي للحصول على السلاح. وبما ان لليبيا عائدات نفطية اقترح عليه اللجوء الى اوروبا والى فرنسا خاصة. وتلقت هذه الاخيرة الطلبات الليبية بقبول حسن وباعتها خاصة طائرات الميراج.

منذ 1968 كان عبد الناصر الذي يقود الكفاح ضد اسرائيل رجلاً مريضاً جسمياً. فقد كان مصاباً بالسكري والح أطباؤه المصريون والسوفييت على ضرورة الحد من نشاطاته بشكل كبير وأن يأخذ قسطاً من الراحة، غير ان منطق حكمه ذاته خاصة بعد تصفية مركز القوة العسكرية مقام على تركيز متزايد للمسئوليات حول رئيس الدولة. وكان على عبد الناصر ان يلعب لعبة دبلوماسية وعسكرية من أشدها قسوة طيلة السنتين الاخيرتين من حياته.

مفاوضات يارينغ وروجرز وحرب الاستنزاف:

عين امين عام للامم المتحدة السفير السويدي يارينغ وسطياً طبقاً للقرار 242، والحت اسرائيل لاعتباره مجرد مبعوث ليس له تقديم مقترحات ويتوجب عليه التهيئة لمفاوضات مباشرة بين اسرائيل ومصر. وطالبت مصر بالتعرف على المطامع الاسرائيلية بشكل دقيق. وبما ان اسرائي رفضت مبدأ الانسحاب من كل الاراضي المحتلة فقد انتهت مهمة يارينغ الاولى سنة 1968 بالفشل، وبموازاة ذلك قبلت مصر مشروع الجنرال ديجول القائم على اتفاق الدول الكبرى الاربع (فرنسا وانجلترا والولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي). وكان ناصر يعرف ان الولايات المتحدة ستكون الوحيدة لدعم الموقف الاسرائيلي (ففي 1968 اعاد اقامة علاقات دبلوماسية وثيقة مع بريطانيا العظمى التي كانت تجلي آخر مواقعها بالعالم العربي). ويبدو ان جونسون رد على مقترحات الرئيس الفرنسي متسائلاً عن الدولتين العظميين الاخريين.. وقامت محادثات رباعية بالامم المتحدة لكن دون ان تعيرها الولايات المتحدة أي أهمية.

وفي الاشهر الاولى من سنة 1968 كان الوضع على القناة هادئاً نسبياً، واغتنم المصريون فرصة ذلك لاعادة تسليح جيوشهم بالعتاد السوفييتي ولاتقان تدريبهم بفضل المستشارين السوفييت المتزايد عددهم، وكان هدف عبد الناصر هو اعداد تصعيد عسكري يعيد للجيش المصري الثقة بنفسه ويجبر القوى العظمى على التدخل لعرض تسوية تقبل بها مصر. ومنذ صيف 1968 اصبح تبادل القصف المدفعي متكرراً. وفي شهري سبتمبر ـ اكتوبر صار القصف قصف عرقلة (سد) بينما اخليت مدى القناة ممن تبقى بها من السكان. وكان الجيش الاسرائيلي الاضعف في هذا النوع من القتال يرد بهجمات محمولة جواً ضد اهداف اقتصادية بالصعيد وكان يريد اظهار عجز مصر في مواجهة تلك الهجمات وتكليفها غالياً على الصعيد الاقتصادي من جراء اعمالها على القناة. فعلق عبد الناصر العمليات على القناة ونظم ميليشيات شعبية في كامل البلاد. وأقام الاسرائيليون خطاً من المواقع المحصنة على القناة لمنع أية محاولة عبور مصرية وتأمين سلامة الجنود الاسرائيليين ضد رصاص القناصة المصريين وسمي هذا الخط بخط برليف باسم رئيس أركان حرب اسرائيل.

ووجدت قاعدة جديدة للنزاع العربي الاسرائيلي وكان سبب الهدوء النسبي تغيير رئيس الولايات المتحدة. وكان الانتظار يخص التحديد الجديد للسياسة الامريكية وآخر عمل هام لادارة جونسون كان قبول مبدأ تزويد اسرائيل بأحدث الطائرات الامريكي وهي طائرات فانتوم (ف/4). ولقاء ذلك طلب الرئيس من اسرائيل توقيع معاهدة عدم انتشار الاسلحة النووية. ورفضت اسرائيل وتعهدت بشكل غير صريح بالا تكون اول دولة بالمنطقة (تدخل) هذا النزع من السلاح. وذلك يعني فقط ان الدولة العبرية لن تكون اول من يعترف رسمياً بامتلاكها السلاح النووي. اما القدرة النووية الاسرائيلية فقد ولدت من تعاونها مع فرنسا في نهاية الجمهورية الرابعة وبداية الجمهورية الخامسة ولقد منع الجنرال ديجول في بداية الستينيات هذه المساعدة الفرنسية التي لم يكن يعلم بأهميتها حتى ذلك التاريخ. وتوجب على الولايات المتحدة القبول بالصيغة التي ردت بها اسرائيل على طلب الرئيس الامريكي غير انها ثأرت منها بتذكير الاسرائيليين بتاريخ 2 نوفمبر 1968 بأن الولايات المتحدة تؤيد جلاء كاملاً عن سيناء في اطار تسوية شاملة
 
وفي يوم 27 يناير 1969 أبدى نيكسون علناً ـ بعد اسبوع من تنصيبه ـ قلقه من خطر انفجار بالشرق الاوسط قد يجر مواجهة جديدة بين الدولتين النوويتين العظميين واعلن انه سيقوم بمبادرات للحد من التوتر، واستقبل المسئولون العرب تصريح نيكسون بارتياح. وكان الرئيس الجديد مقتنعاً بضرورة ايجاد تسوية تجنب سيطرة الاتحاد السوفييتي التامة على المنطقة. وكان وزيره للشئون الخارجية وليام روجرز من انصار خط العمل هذا، ولكنه تصادم مع طموح كيسنجر المنافس له ومستشار الرئيس ومسؤول مجلس الامن القومي وهو جهاز تابع للبيت الابيض ومكلف من قبل الرئيس بتحديد كبريات توجهات السياسة الخارجية الامريكية ونقلها داخل مختلف الوزارات. وكان نيكسون قد كلف روجرز بملف الشرق الاوسط غير ان كيسنجر قد خط تفسيره للسياسة الامريكية واجتهد في احباط مشاريع وزير الخارجية. فقد كان كيسنجر يرى ان غياب الحلول سيضطر العرب الى ادراك عجز السوفييت عن ان يحصلوا لهم على شروط سلام مرضية وسيجبرهم على اللجوء الى التدخل الامريكي للخروج من المأزق الراهن. ولن يقدم لهم الدعم الامريكي الا اذا ما حدوا من علاقاتهم بالاتحاد السوفييتي. أما وزارة الخارجية فكانت ترى على العكس من ذلك ان المأزق لا يعمل الا على زيادة التطرف العربي. ودخل الدبلوماسيون الامريكان في حوار مع نظرائهم السوفييت (الذين كلفهم عبد الناصر) لتحديد شروط تسوية سلمية.

وابتداء من مارس 1969 بدأ جمال عبد الناصر حرب الاستنزاف على قناة السويس وهي مرحلة أولى يراد لها ان تفضي الى الحرب الشاملة: فعند ما يصبح الجيش مستعداً ومتأكداً من اضعاف التفوق الجوي الاسرائيلي، يمكنه عبور القناة واسترداد ولو جزء من سيناء. تلك هي خطة (الغرانيت)، غير ان الخيار العسكري لا يمنع الحلول الاخرى. فاذا ما سمحت الظروف الدبلوماسية باستعادة الاراضي المحتلة يمكن توفير العملية العسكرية غير المعروفة النتائج. اما على المدى القريب فانه يسمح بزيادة الضغط على القوى العظمى من اجل الحصول على حل نهائي. وتتمثل حرب الاستنزاف في قصف المواقع الاسرائيلية قصفاً مكثفاً وفي عمليات القناصة وفي عمليات فدائية مصرية في الخطوط الاسرائيلية. واصبحت الخسائر الاسرائيلية ملموسة ورد الاسرائيليون بهجمات محمولة جواً داخل التراب المصري لم تتوصل الى ثني المصريين. وبدءاً من يوليو 1969 استعملت اسرائيل القصف الجوي على نطاق واسع في منطقة القناة وخليج السويس. بغية تحطيم نظام الدفاع المضاد للطيران والذي كان لابد منه لعبور القناة. ولئن تحقق هذا الهدف فان الاسرائيليين لم يتمكنوا من فرض وقف اطلاق النار اللازم لوضع حد لاستنزاف قواتهم.

وفي تلك الاثناء استمرت المناقشات بين الامريكان والسوفييت، وتوصلوا الى الاتفاق على تحديد المبادئ العامة لعملية السلام: ان التعديلات في الحدود تكون طفيفة والتسوية الشاملة تؤدي الى سلام عام تقبله كل الاطراف قبل وضعه موضع التطبيق وكانت وزارة الخارجية الامريكية ترى ضرورة تهدئة الرأي العام العربي الذي تألب ضد الولايات المتحدة إثر تسليم طائرات ف/4 لاسرائيل في سبتمبر 1969. وفي يوم 4 ديسمبر قدم روجرز علناً خطته من اجل السلام: ستقوم اسرائيل ومصر بتحديد روزنامة للجلاء عن سيناء وستقوم حالة سلم حقيقية بين البلدين وسيتم استحداث مناطق منزوعة السلاح من اجل ضمان أمن الحدود. وفي اليوم التالي أعادت اسرائيل التي كانت قد أطلعت على فحوى الخطة تأكيد موقفها حول ضرورة اجراء مفاوضات مباشرة دون ان ترفض خطة روجرز بشكل صريح. غير ان وزير الخارجية اقترح يوم 18 ديسمبر على الاربعة بنيويورك مشروع تسوية تخص الضفة الغربية يتضمن نفس المبادئ (مع نزع شامل للاراضي بعد الجلاء عنها). وفي الحال رفضت اسرائيل المشروع وقامت بحملة لدى الرأي العام الامريكي ضد روجرز. بينما كررت مصر طلبها بانسحاب اسرائيل غير المشروط. واغتنم كيسنجر الفرصة ليبين لنيكسون ان الاتحاد السوفييتي يرفض ممارسة الضغط على مصر وأنه بالتالي من غير المفيد الاختلاف مع اسرائيل. ولما اعلنت مصر في يناير وبواسطة السوفييت عن استعدادها للتفاوض على اساس خطة روجرز جاء ردها هذا متأخراً اذ كان نيكسون قد قرر الانفصال عن وزير خارجيته.

وأرادت اسرائيل استعادة موقف القوة الذي كان لها. وبدءاً من 7 يناير 1970 اطلقت حملة قصف جوي استراتيجي داخل الاراضي المصرية وكانت تهدف الى ضرب المنشآت العسكرية قرب كبريات التجمعات السكانية في ضواحي القاهرة إن أمكن ذلك لتظهر تفوق الطيران الاسرائيلي الساحق. وفي هذه الظروف أصيبت منشآت مدنية كالمصانع والمدارس وكانت الخسائر البشرية في السكان هامة. وكان الهدف الحقيقي لهذا الهجوم الجوي هو حمل الشعب المصري على فهم ان ساسته يقودونه نحو مأزق سياسي وعسكري، وكما هي القاعدة في القرن العشرين فإن هذه العمليات الجوية السيكولوجية قد جرت الى رد فعل معاكس من تدعيم للتماسك السياسي للسكان المتضررين ومن الاصرار على الكفاح ضد العدو.

وهرع عبد الناصر الى موسكو يوم 22 يناير 1970. وطلب تسليم صواريخ مضادة للطائرات أحسن أداء وبأعداد كبيرة وهذه الصواريخ هي سام 3. ووافق السوفييت غير أنهم طلبوا ان يتدرب المصريون على استعمالها اولاً بالاتحاد السوفييتي ولمدة ستة اشهر وذلك ما سيترك مصر مكشوفة طيلة هذه المدة وقام عبد الناصر بالمساومة تجاه مخاطبيه بان هددهم بالاعتراف علانية امام المصريين بأن السوفييت غير قادرين على حمايتهم وأنه من الافضل الالتفات الى الامريكان، فاضطر الكرملين الى تزويده بمنصات صواريخ يستخدمها سوفييت وتزويده خاصة بطائرات من آخر طراز يقودها سوفييت كذلك. ويبدو أن الدافع الحقيقي للاتحاد السوفييتي كان إقامة نظام دفاع مضاد للطائرات متماسك يسيطر عليه هو بالكامل ويغطي بالموانئ المصرية التي اصبحت جوهرية بالنسبة لاسطوله بالبحر المتوسط.

ومنذ مارس 1970 اصطدمت الطائرات الاسرائيلية بصواريخ سام 3 وتخلت عن العمليات بجوار المدن الكبرى. وفي 13 ابريل أوقف القصف الاستراتيجي اثر ظهور اوائل الطائرات التي يقودها سوفييت. وتمركزت المعركة على منطقة القناة حيث حاول المصريون نصب بطاريات من صواريخ سام3. ولقد جعل التصرف الاسرائيلي من عبد الناصر رمزاً للمقاومة الوطنية بدلاً من اضعافه امام شعبه. واخر الامريكان تسليم طائرات جديدة لازمة لتعويض الخسائر لانهم كانوا ضد سياسة القصف الاستراتيجي التي لم تكن لها من نتيجة غير دعم الوجود السوفييتي. وارسلوا يوم غرة مايو مبعوثاً الى عبد الناصر، واعلمهم هذا الاخير بان التصعيد الحربي لا يمكنه الا ان يوسع الهوة بين العرب والامريكان وناشدهم القيام بمبادرات لايقاف هذا المنحى الخطير قبل فوات الاوان، وأعلن الاسرائيليون الذين انزعجوا من الرفض الامريكي عن قبولهم التفاوض على اساس القرار 242 عن طريق وسيط (وفي الاصطلاح الدبلوماسي لتلك الفترة كان ذلك يعني (صيغة رودس) اشارة الى مفاوضا الهدنة لسنة 1949). وتخلوا عن طلبهم السابق الخاص بالمفاوضات المباشرة.

وفي النهاية يونيو أقام المصريون شبكة كثيفة من بطاريات سام 3 والمدفعية المضادة للطيران قرب القناة. واذا ما أفلحوا في اتمام هذا التجهيز فستكون لهم السيطرة على الاجواء في القطاع الموجودة فيه الجيوش. ولقد أظهر العتاد السوفييتي الجديد فعاليته باسقاط عدة طائرات اسرائيلية. لم يشأ الامريكان الدخول في مجابهة جديدة ضد السوفييت في الوقت الذي كانوا يحاولون فيه التخلص من حرب فيتنام فعرضوا مبادرة جديدة ووجدوا في تصريحات عبد الناصر في غرة مايو تشجيعاً لهم في هذا الصدد. وتضمن خطة روجرز الثانية وقفاً لاطلاق النار لمدة ثلاثة أشهر واستئناف مهمة غونار يارينغ وقبول جميع الاطراف بتطبيق القرار 242. ورفض عبد الناصر المقترحات الامريكية، ثم سافر الى الاتحاد السوفييتي في اقامة استمرت 19 يوماً (فقد كانت حالته الصحية في تدهور متزايد وكان عليه الخضوع لعلاج صحي) وفي نهاية إقامته أعلم السوفييت بقبوله خطة روجرز الثانية، فإيقاف اطلاق النار المؤقت سيسمح له بإتمام اقامة منظومة الدفاع المضاد للطائرات على طول القناة والضرورية لتنفيذ خطة (الغرانيت) لعبور القناة.

كما رفض الاسرائيليون من جانبهم المقترحات الامريكية واقترحت عليهم ادارة نيكسون استئناف تسليم الطائرات لقاء موافقتهم على خطة روجرز. أما على القناة فقد تدهور الوضع بالمعارك الجوية الاولى التي اشترك فيها طيارون سوفييت (وكانت نتائج المعارك مشرفة للإسرائيليين غير أنهم كانوا يدركون أنهم لا يمكنهم ان يسمحوا لأنفسهم بمحاربة السوفييت مباشرة.) وفي يوم 23 يوليو 1970 (الذكرى الثامنة عشر لثورة 1952) اعلن عبد الناصر قبوله خطة روجرز. وفي يوم 26 يوليو تبعه الملك حسين في نفس المسعى. وبما ان الاردن كانت تحترم وقف اطلاق النار لسنة 1967 على الصعيد الرسمي فتصريح الملك حسين يعني أن الاردن ستلتزم بمنع تسلل الفدائيين الفلسطينيين.

وبعد التأكد من مجموعة من الضمانات الامريكية قبلت الحكومة الاسرائيلية يوم أول اغسطس نفس المقترحات، وشملت هذه الضمانات استئناف تسليم الاسلحة والابقاء على نفس تأويل القرار 242 وتسوية لمسألة اللاجئين تسوية لا تهدد من جديد أمن اسرائيل وضرورة حصول اتفاق مسبق حول التسوية الشاملة قبل بداية الانسحاب الاسرائيلي. وفي يوم 8 أغسطس 1970 عند الساعة الواحدة صباحاً بتوقيت القارة طبق وقف اطلاق النار من قبل الطرفين اللذين التزما بعدم تغيير الحالة العسكرية في منطقة عمقها 50 كيلو متراً من جانبي القناة غير ان التحديد الدقيق للانتهاكات الممكنة لم يعرف الا يوم 9 أغسطس بسبب تأخر الاتصالات بين اسرائيل ومصر والولايات المتحدة.

كانت حرب الاستنزاف حرباً حقيقية للجانبين المتحاربين وكانت الخسائر البشرية فيها تعادل خسائر حرب يونيو عام 1967.
 
أيلول الاسود:

أثناء وقف القتال تم تقديم صواريخ سام 3 فغطت كامل منطقة القناة ويقول المصريون بانها اقيمت في الساعات التي سبقت وقف القتال بينما يؤكد الاسرائيليون بانها وضعت بعد ذلك وان ذلك يشكل انتهاكاً صريحاً للالتزامات وبما ان الساعة التي اختيرت لبداية وقف القتال كانت منتصف الليل فلم تعط الطائرات ولا أقمار المراقبة الامريكية معلومات واضحة. ومن الممكن ان المصريون ـ كسباً للوقت ـ قاموا بوضع منصات وهمية استبدلوها بعد ذلك بعتاد حقيقي. وبما ان وقف القتال كانت مدته ثلاثة اشهر فان قيادة الاركان المصرية حددت يوم 7 نوفمبر 1970 موعداً لعملية (غرانيت) القاضية بعبور القناة وكان يفترض ان يصاحبها قتال مضلل كبير على الجبهة (الشرقية) حيث يتوجب على القوات الاردنية والفلسطينية والسورية والعراقية الدخول في حرب ضد اسرائيل. غير انه لم يتم تنظيم أي تنسيق جاد وكان المسئولون السياسيون العرب يتساءلون عن نوايا عبد الناصر الحقيقية.

واتهمت الحكومة الاسرائيلية المصريين بمواصلة نشر تشكيلهم الحربي منتهكين بذلك الاتفاق، ورفضت يوم 6 سبتمبر 1970 استئناف وساطة يارينغ مالم يعد المصريون الى خطوط انطلاقهم، وساند كيسنجر الموقف الاسرائيلي بينما يقدر روجرز ان الرغبة في المفاوضات لدى عبد الناصر حقيقية وانه ينبغي تشجيع محاولة التسوية هذه. وكانت حجة كيسنجر الرئيسية أن الاتحاد السوفييتي بمشاركته الفعالة في انتهاكات وقف اطلاق النار من طرف مصر ينتهك مبادئ الانفراج بين القوتين العظميين وأن التسامح مع ذلك غير وارد. (وكان الاتحاد السوفييتي يقدم الملاك المستعمل لبطاريات الصواريخ).

إن كل سر الاسابيع الاخيرة من حياة عبد الناصر يقوم على هذا الخيار بين خطة روجرز وبين خطة (غرانيت) أي بين الحرب والسلام. ولقد دافع خصوم السادات في السنوات التالية بان عبد الناصر كان ينوي عبور القناة وان قبوله وقف اطلاق النار لم يتقرر الا ليتمكن من نصب بطاريات الصواريخ وعلى العكس من ذلك أكد السادات ان عبد الناصر كان يدرك موازين القوى الحقيقية وان نيته في التفاوض كانت حقيقية. ومن الممكن ان عبد الناصر بصفته رجل دولة قد احتفظ حتى آخر لحظى بإمكانية اختيار بين الخيارين، فاحتساب الخسائر والمكاسب اساس كل شيء. فقد اشار عبد الناصر في مناسبات عديدة بانه مستعد للنقاش على اساس المقترحات الامريكية. فهل ان المكسب العسكري، الاساسي في الحقيقة والمتمثل في نشر منصات الصواريخ يبرر الكارثة السياسية الحقيقية الناتجة عن ذلك وهو ظهور التعارض بين مصالح الدول العربية وأهداف المقاوم الفلسطينية.

لقد كرر عبد الناصر باستمرار منذ نهاية 1967 بانه إذا ما كان للدول العربية الحق في قبول القرار 242 ـ والذي هو ضروري لمحو آثار العدوان ـ فإن للمقاومة الفلسطينية الحق في رفضه لانه ينكر وجود الفلسطينيين باعتبارهم شعباً ذا حقوق وطنية. وهذا التأكيد للمبادئ لا يخفى التناقض الذي يظل كامنا مالم يشرع في تطبيق القرار. وبما ان الملك حسين قد قبل خطة روجرز وان عبد الناصر لا يمكنه إدانته لاتباعه موقفه هو الرسمي، كان على الفلسطينيين ان يقاوموا والا هلكوا سياسياً. ورغم ان عمليات الفدائيين والارهاب الدولي كان لها تأثير ضعيف على الصعيد العسكري فان المقاومة الفلسطينية بدأت تفرض نفسها باعتبارها شريكا لازما لاي حل شامل لازمات الشرق الاوسط. ولقد اعترف كيسنجر ذاته في مذكرة بتاريخ مايو 1970 بهذا المد إذ قال: (كنا قد انطلقنا، في حالة تسوية، من مبدأ ان الفلسطينيين سيعتبرون مجرد لاجئين فحسب. غير انهم بدلاً من ذلك اصبحوا قوة شبه مستقلة تمتلك حق الرفض في السياسة الاردنية وربما اللبنانية كذلك(7)).

وهاجمت إذاعة فلسطين التي تبث من القاهرة الخونة العرب الذين أجرموا بقبولهم خطة روجرز. فأمر عبد الناصر بغلقها مظهراً بذلك علناً اختلافه مع المقاومة الفلسطينية (29 يوليو 1970) وبحث عرفات عن ضمانات لدى العراق ثم حصل على لقاء مع عبد الناصر يوم 25 أغسطس وكانت اللهجة فاترة فالزعيم المصري شرح الاسباب العسكرية لوقف اطلاق النار والهدف من عملية (غرانيت) وحذر رئيس جبهة التحرير الفلسطيني بان المقاومة إن تمكنت من تفادي المواجهة حتى الآن مع الجيش الاردني فذلك بفضل التدخلات المصرية وان ذهبت المقاومة الى أبعد مما يجب ـ مثلما يبدي بعضهم عزمهم على فعل ذلك ـ فإن الملك حسين يواصل الانصات لدعوات عبد الناصر، والملك يعلم ـ بفضل التنصت ـ بان العديد من قادة المقاومة ينوون خلعه او اغتياله وليس بامكان المقاومة الصمود طويلاً امام الجيش الاردني. فينبغي تجنب كل استفزاز يؤدي الى كارثة حقيقية بالنسبة للفلسطينيين، وفي الوقت ذاته توسل عبد الناصر لملك حسين بأن يتحلى بالصبر ما وسعه ذلك وبأن يتوصل الى اتفاق مع المقاومة. وقال له أنه سيساعده في هذه المهمة غير أنه سيعترض على كل تصفية للمقاومة بالقوة.

كانت المقاومة منقسمة بين معتدلي فتح ومتطرفي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة جورج حبش. وكانت كل سياسة عرفات منذ 1969 تتمثل دمج منظمات المقاومة في منظمة التحرير الفلسطينية بتمثيلها في المؤسسات وباستحداث اجهزة تعاون عسكري، واضطر الى قبول تجذير للخطاب الفلسطيني في اتجاه قريب من اتجاه الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في الوقت الذي كان يحاول فيه منع العمليات الارهابية الدولية، غير ان هذه العمليات قد اصبحت بفضل خطب حبش الثورية شعبية منذ أن لم تعج جبهة النضال ضد اسرائيل في وادي الاردن ولكن على قناة السويس حيث لا وجود للفلسطينيين، وامام خطة روجرز اكثر حبش من التصريحات المتطرفة متوعداً بأن يحول الشرق الاوسط الى (جحيم) للقوى الرجعية. ووجد عرفات نفسه عاجزاً عن منعه من استفزاز الاردنيين بالرغم من الحاج عبد الناصر. ومنذ بداية 1970 تضاعفت المصادمات بين انصار الهاشميين المطالبين بسياسة حازمة تجاه المقاومة وبين المنظمات الفلسطينية بقيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ولم يتمكن عرفات من نزع فتيل الازمات المتتالية بالرغم من اقامة اجهزة تنسيق بين المقاومة وبين السلطات الاردنية.

وبدا عجز عرفات مأساوياً في نهاية اغسطس 1970 عندما بدأت المعارك الأولى بين الجيش الاردني وبين المقاومة. وبدا ان العراق كان يدعم الحركيين الفلسطينيين في اعمالهم ضد الملك. ومن يوم 6 الى 9 سبتمبر تم اختطاف طائرات خطوط سويسرية وانجليزية وامريكية أنزلتها الجبهة الشعبية في مطار اردني مرتجل، واخذ الركاب رهائن، نقلوا بعدها الى عمان. وحولت طائرة امريكية أخرى الى مطار القاهرة حيث حطمت بعد اطلاق سراح ركابها بينما فشلت محاولة اختطاف طائرة اسرائيلية.

وضع المجلس الامني القومي الامريكي في حالة ازمة ووضعت القوات الامريكية المرابطة بأوروبا في حالة تأهب واتخذ الاسطول السادس موقعاً في شرقي البحر المتوسط. وكان نيكسون يؤدي تدخلاً عسكرياً امريكياً مباشراً بينما نصح كيسنجر باستعمال الجيش الاسرائيلي على ان يكتفي الامريكان بثني السوفييت عن التدخل ميدانياً. وكان كيسنجر لا يريد تحاشي عمل مباشر فحسب بل كان يسعى الى ان يبين أن بإمكان اسرائيل ان تتخذ للدفاع عن المصالح الامريكية بالشرق الاوسط وذلك ما يبرر على المدى البعيد المساعدة الضخمة التي تقدمها لها الولايات المتحدة.

وبعد ان ضمن الملك حسين المساعدة الامريكية وربما الاسرائيلية كذلك صار بامكانه الدخول في صراع ضد المقاومة. وبدءاً من 15 سبتمبر اندلعت معارك عنيفة جداً بعمان ثم امتدت الى بقية البلاد.. كان جزء كبير من الجيش الاردني مكوناً م فلسطينيين غير ان حس التضامن مع الفريق مدعوماً بالاهانات المستمرة التي الحقها الفدائيون بالعسكريين في الاشهر السابقة كان اقوى من الانتماء العرقي. وما فاجأ الجميع هو ان القوات العراقية المرابطة بالاردن لم تتحرك وتركت للأردنيين حرية العمل. وعلى العكس من ذلك دخلت دبابات سورية الاردن يوم 20 سبتمبر. وسمحت الولايات المتحدة للطيران الاسرائيلي بمهاجمتها غير ان الاسرائيليين رأوا ان ذلك لن يكون كافيا. وفي يوم 22 سبتمبر انطلق الجيش الاردني في المعركة ضد السوريين ورفض وزير الدفاع السوري حافظ الاسد تدخل الطيران وامر بانسحاب القوات السورية لتحاشي تدخل الاسرائيليين والامريكان المباشر. وكان في ذلك يتصرف ضد رأي الحكومة السورية. وهكذا نجح التهديد الذي اوصى به كيسنجر نجاحا تاما بينما انهارت الجبهة (الشرقية) (الاردن وسوريا والعراق والمقاومة الفلسطينية) كلية. ولم يكن بوسع الفدائيين ـ الاقل عدداً وعتاداً وتدريباً ـ ان يصمدوا طويلاً امام تصميم رجال الجيش الاردني. وتم قصف المخيمات الفلسطينية التي كانت قواعد المقاومة الاساسية قصفاً عنيفاً كانت له خسائر مدنية ضخمة.

حاول عبد الناصر الحد من الكارثة بفرض وساطته. واجتمع مؤتمر قمة ضيق بالقاهرة منذ يوم 23 سبتمبر. وفي يوم 26 قبل الملك حضوره كما قبل عرفات وفي يوم 27 سبتمبر أفلح عبد الناصر يسانده الملك فيصل ـ وبعد مفاوضات مضنية ـ في فرض حل وسط بين الاخوة الاعداء. تم في الحال وقف القتال وعلى القوات المسلحة من الجانبين الانسحاب خارج التجمعات السكانية وتم تكليف لجنة عليا باعداد (اتفاق يربط الطرفين لضمان مواصلة عمل الفدائيين واحترام سيادة البلد في الحدود التي يفرضها القانون باستثناء ما هو ضروري للعمل الفدائي.)

ورغم المظاهر ربح الملك حسين بعد (ايلول الاسود) هذا الذي ربما خلف 3500 قتيل منهم كثير من المدنيين) و10.0000 جريح. وفي يوم 28 سبتمبر توفي جمال عبد الناصر بعد توديعه ضيوفه في مطار القاهرة فلم تصمد حالته الصحية المتدهورة جداً أمام تعب الايام الاخيرة وتوتراتها.

كان (ايلول الاسود) كذلك منعرجاً في السياسة الامريكية تجاه اسرائيل اذا اصبحت الدولة اليهودية عمود السياسة الامريكية وارقام المساعدة العسكرية التي قدمتها القوة العظمى لعميلها الشرقي تقوم دليلاً على هذا التحول: سنة 1968، 25 مليون دولار و1969، 85 مليون دولار وسنة 1970، 30 مليون دولار وسنة 1971، 545 مليون دولار وسنة 1972، 300 مليون دولار وسنة 1973، 5، 307 مليون دولار.

http://aslimnet.free.fr/ress/laurence/l6.htm
 
التعديل الأخير:
هذا موضوع مرجع تاريخي لقد شرحت حقبة من الايام العربية الحزينة بالتفصيل الممل والمفصل مشكوووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووور جدا ربما اكتب بحوث الجامعة من هذا الموضوع ههههههههه
 
عودة
أعلى