لاحظ "تشارلز بيلار" مراسل "لوس أنجلوس تايمز" أن هيئة مشاريع البحوث العسكرية المتقدمة "داربا" DARPA أنتجت بعض الأفكار الأكثر غباء في تاريخ الحكومات الأمريكية، ويؤكد مدير "داربا" السابق "تشارلز هيرزفيلد" هذه الملاحظة؛ حيث قال: "عندما نفشل فإننا نفشل فشلا ذريعا". وعلى ما يبدو فإن هذه المقولة لم تتغير حتى الآن. وطبقا لتصريحات الرئيس الحالي لـ"داربا" فإن قرابة 85-90% من مشاريع الهيئة فشلت في تحقيق أهدافها بالكامل.
وكان آخر فشل لهذه المشاريع في 13-3-2004، عندما فشلت سيارات المستقبل العسكرية الأمريكية ذاتية الحركة في سباق يبلغ طوله 224 كيلومترا عبر صحراء "موجافي" في كاليفورنيا، بهدف استخدامها في مهام خطيرة في مناطق الحرب بدون المخاطرة بحياة الجنود الأمريكيين. غير أن الحلم -على ما يبدو- قد تبخر سدى؛ لأن غالبية العربات تعطلت على مرمى البصر من نقطة بدء الرحلة قرب بارستو بكاليفورنيا، ولم يفز أحد بجائزة المسابقة التي تصل إلى مليون دولار.
وعلى الرغم من ذلك فإن "داربا" ما زالت تقود العالم في سباق التسلح بأنظمة عالية التقنية وشديدة الغرابة، كما تحاول تجنيد المملكة الحيوانية للخدمة الإلزامية في الجيش الأمريكي لتكون جاهزة لحروب المستقبل في الفترة ما بين 2025-2050م وما بعدها. وتبدو داربا حاليا كأنها في مرحلة الإحماء، ولم تدخل السباق بعد!
الفيل الميكانيكي.. وفأر الكمبيوتر
بدأ التفكير في إنشاء هذه الهيئة بعد أن فوجئت الولايات المتحدة الأمريكية بإطلاق الاتحاد السوفيتي للقمر الصناعي الأول "سبوتنيك" الذي لم يتعد حجمه حجم كرة السلة في أكتوبر عام 1957م. وكانت المفاجأة كبيرة.. ليس فقط لقيام السوفيت بتفجير أول قنبلة ذرية قبل الميعاد الذي توقعه العلماء الأمريكيون، ولكن لأنهم حققوا قصب السبق في ريادة الفضاء.
وللرد على هذه الصفعة القوية غير المتوقعة صدقت وزارة الدفاع الأمريكية في عام 1958م على تمويل مشروع قمر صناعي أمريكي، برئاسة الضابط النازي السابق "ويرنر فون براون"، وأسست هيئة مشاريع البحوث العسكرية المتقدمة (Defense Advanced Research Projects Agency) المعروفة اختصارًا باسم "داربا" (DARPA)؛ لتأكيد التفوق العسكري للولايات المتحدة الأمريكية إلى الأبد؛ عن طريق قيامها باستغلال التقنيات المتقدمة والحديثة جدًّا لتطوير القدرات العسكرية، ولمنع أي مفاجأة تقنية من خصومها.
وصادف "داربا" العديد من الإخفاقات، ويشمل ذلك مشروع "الفيل الميكانيكي" الذي لم يذهب قط إلى غابات فيتنام، وبحوث التخاطر التي لم تساعد الولايات المتحدة في مجال التجسس النفسي. وبالرغم من ذلك فقد كانت "داربا" وراء بعض أهم الاختراعات الأكثر ثورية في العالم؛ كالإنترنت ونظام تحديد المواقع العالمي، وفأرة الكمبيوتر.
وتأتى نسبة فشل "داربا" المذهلة ونجاحاتها البارزة من مغامرات عالية الخطورة في البحوث العلمية والبحوث الطليعية في كل مجالات العلم والتقنية. وربما قد تكون هذه الهيئة المكان الأكثر إبداعا في العالم. ولتحقيق ذلك التميز تقوم الهيئة بتمويل الكثير من البحوث التي يظنها البعض مضحكة وسخيفة بل ومستحيلة. ويجمع كلَّ هذه المشاريع هدفٌ واحد يجب تحقيقه بشكل مباشر أو غير مباشر في النهاية، وهذا الهدف هو التخلص من جميع أعداء أمريكا المستقبليين!
وبالفعل تمخضت مشاريع بحوث "داربا" عن العديد من الأسلحة الأكثر تدميرًا وقتلا على مدار التاريخ؛ مثل طائرات الشبح المقاتلة وقاذفات القنابل بي-52، وأنظمة صواريخ كروز، وتوماهوك، وغيرها الكثير.
والآن وبعد نصف قرن تقريبا من إنشاء "داربا" تحول الاتحاد السوفيتي إلى مجموعة منهارة من الدول، بينما تبوأت الولايات المتحدة مركز الصدارة، وتقف وحيدة كأعظم قوة عسكرية وعلمية وتقنية في تاريخ الكرة الأرضية.
"داربا" ومملكة الحيوان
من اللافت للنظر أن عناوين مشاريع "داربا" تتخذ أسماءً لحيوانات؛ ففضلا عن مشروع "الفيل الميكانيكي" الآنف ذكره فهي تمول حاليا مشروع "الكلب الكبير"، وهو مشروع لإنتاج "ناب آلي" للجيش الأمريكي، كما تمول مشروعًا لإنتاج مجموعة من أجهزة الاستشعار الأرضية المصغرة التي تعمل على اكتشاف وتمييز وتشويش اتصالات العدو، وتسمي هذا المشروع "علبة الذئب".
و"الطائر الطنَّان المحارب" هو برنامج لإنتاج طائرات عمودية مروحية بدون طيار، تجوب المدن والغابات والصحراء للبحث عن الأعداء. أما مشروع السمكة القاتلة "بيرانا" فيهدف إلى تمكين الغواصات من المناورة والمراوغة لتحقيق أهداف عسكرية في البحار.
وقد شجعت مشاريع "داربا" الجيش الأمريكي على تجنيد جميع أنواع المخلوقات؛ من الكلاب التي تحرس الجنود إلى الدلافين الزرقاء الداكنة التي تستعمل لتحديد مكان ألغام البحر. كما تستغل "داربا" ثورة التكنولوجيا الحيوية والهندسة الوراثية لتطوير أداء جنود الجيش الأمريكي وتطوير أسلحة بيولوجية ثورية.
وبعد أن دأبت الحكومات الأمريكية في إطلاق تحذيرات سنوية من هجوم النحل القاتل الأفريقي الشرير الذي يتوجه بعناد إلى الولايات المتحدة لم تهتم "داربا" بالتحذيرات، وقررت تجنيد النحل إجباريا في الخدمة العسكرية. ونجحت في 2002م في تدريب "النحل القاتل الأفريقي" لاكتشاف المتفجرات.
ومنذ ذلك الحين قامت "داربا" بإعداد قواعد بيانات للحشرات. وتهدف مشاريعها الحالية إلى فهم كيفية استعمال الحشرات لجمع المعلومات البيئية. وتمول "داربا" مشاريع للبحوث في جامعة فلوريدا، تهدف إلى استلهام أجهزة حيوية تشبه عين الذبابة؛ لجعل الأسلحة الذكية أكثر ذكاء، ولاستخدام الحشرات كسلاح أيضا.
وطبقا لخطة الوكالة الإستراتيجية في 2003 قامت "داربا" بتنظيم ورشة عمل لفرق علمية مهتمة بدراسة "النباتات آكلة الحشرات" لاستلهام آليات التخفي والتحور في هذه النباتات لتصميم أنظمة تشغيل عسكرية مستقبلية. وتدرس مشاريع البحوث آلية تسلق البرص للحيطان، وكيفية تخفي الإخطبوط ليتحين الفرصة للهجوم، وآليته في التحرك والتمويه، وطريقة تكيفه مع البيئة. وسيحاول الباحثون المشتركون في مشاريع "داربا" عسكرة وتجنيد عالم الحيوان بكامله لخدمة الولايات المتحدة الأمريكية.
المحارب السوبر يقتل زوجته
امتدت بحوث "داربا" لتحسين الأداء البشري للجندي الأمريكي عن طريق استغلال "الثورة الحيوية"؛ حتى لا يكون العنصر البشري هو الحلقة الأضعف في الجيش الأمريكي. واستغلت البحوث العلمية لصناعة "المحارب السوبر" الأكثر قوة والأكثر تنبها وقدرة على التحمل. وكانت نتيجة هذه البحوث مخيبة للآمال؛ فعندما تناول الطيارون حبوب السرعة في أفغانستان والعراق كانت العواقب كوارثية، وبدأت بقتل الحلفاء بالنيران الصديقة، وانتهت بقتلهم لزوجاتهم بعد عودتهم من أرض المعركة.
وتستكشف "داربا" حاليا طرقا لتحويل الأفكار إلى أفعال، وتمول مشروع "وصل الآلة بالدماغ"؛ للسيطرة على الآلات عن طريق قوة الفكر. ويقتحم هذا المشروع مجالا بحثيا جديدا يسمى "neuromics"، وفيه نجح باحثو "داربا" في السيطرة والتحكم في حركة فأر عن بعد، عن طريق زراعة أقطاب كهربائية في دماغه، واستخدام حاسوب محمول لتحريكه. كما نجح علماء "داربا" في تدريب القرد لتحريك فأرة حاسوب عن طريق التفكير فقط، ولم يكتفوا بذلك ولكن قاموا بتجارب أرسلوا فيها إشارات من دماغ القرد تسمح بالتحكم في ذراع آلي على بعد 600 ميل عن طريق الإنترنت. ويتمنى العلماء تطوير هذه التقنية للاستعمال البشري في المستقبل.
علوم الحياة مدرسة للقتل
تقول "جان ووكر" الناطقة بلسان "داربا": "نحن مهتمون بالبحوث في مجال الكائنات الحية؛ لأنها تطورت على مدار العديد من السنوات الطويلة لتكون قادرة على البقاء على قيد الحياة في البيئة. ونحن نتمنى أن نتعلَّم من بعض تلك الإستراتيجيات التي طورتها الطبيعة".
وما أتعس "الطبيعة الأم" -أو "ماذر نيتشر" كما يسميها الأمريكان- في هذا الصدد؛ فلم تنل تلك الأم الفقيرة إلا الفتات من ميزانية الحكومة الأمريكية التي وصلت إلى 466 مليار دولار فيما يتعلق بالإنفاق العسكري طبقا لـ "GlobalSecurity.org". وكان نصيب "داربا" منها حوالي 3 مليارات دولار أمريكي عام 2003، وتم صرفها على حوالي 200 مشروع، تراوحت ما بين تطوير أسلحة الفضاء إلى تطوير الطائرات بدون طيَّار. وفى المقابل لم تمول الحكومة الأمريكية مشاريع العلماء المتلهفة لحل مشاكل البيئة التي ساهمت أمريكا في إفسادها بشكل كبير.
وما زالت "داربا" تواصل المسيرة، وتحمل الشعلة عن طريق تمويل برامج بحثية تستهدف إلحاق الدمار الشامل بأعداء أمريكا المحتملين. ولقد أصبحت علوم الحياة تحت مظلة "داربا" من أكثر العلوم إثارة لاستلهام الأفكار المبدعة؛ لإحداث أكبر قدر من الموت والدمار والخراب؛ ليظل شن الحروب وإبادة العدو هو أعظم اختراع أمريكي على مر العصور