المُبرقع اليمانيّ
ثورةٌ انطلقت من جبال الغور
فقدت بلاد الشّام، مُدلّلة الأمويّين، صدارتها في العصر العباسيّ. إذ نظر بنو العبّاس إليها وإلى أهلِها بعين الريبة والحذر، لولاء جلّ سكّانها للأمويّين، فاستعملوا معهم الشّدة، وزادوا في الضرائب المفروضة عليهم.
كانت سياسة الضرائب والجباية تلك إحدى الأسباب المُسرّعة لوقوع الثورات المتلاحقة ضدّ العباسيين، حيث كان يتم تقدير ما في البيادر بأكثر مما تحمل. وفي ذلك وُصِفَ جباةُ الخراج العباسيون بأنهم: "ليسوا بأبرار ولا صالحين، يستعينُ بهم العاملُ ويوجِهُهُم في أعماله... فلا يحفظون ما يوكلون بحفظه، ولا ينصفون من يعاملون، إنما مذهبهم أخذ شيء من الخراج أو من أموال الرعيّة، ثم إنّهم يأخذون ذلك بالعسف والظلم والتعدي"1.
بالتوازي مع ذلك، ازداد في عهد الخلافة العباسيّة نفوذ التُرك والعجم في أجهزة الدّولة والجيش على حساب نفوذ العرب. كان ذلك مؤشّراً آخر جعل أهل الشّام ينزعون إلى الماضي الأمويّ، لقيام دولتهم على العنصر العربيّ. وفي هذا جاءَ قولُ الجاحظ: "دولةُ بني العباس أعجميّة خرسانية، ودولة بني مروان أمويّة عربيّة"2.
في ظلّ هذا السّياق، وقعت ثوراتٌ عِدة على العباسيين، في مصر وأرض الشام، كان من أبرزها ثورة الفلاحين التي تزعّمها أبو حرب تميم اللخمي المعروف بـ المُبرقع اليماني، وامتّدت نحو عامين (226هـ-227هـ/ 840م-841م).
تحوّل الغضب إلى ثورة
كانت شرارة ثورة المُبرقع كما يُجمع المؤرخون، وكما عند الطبري بنصّه: "أنّ بعض الجند أراد النزول في داره وهو غائب عنها، وفيها إمّا زوجته وإمّا أخته، فمانعته ذلك، فَضَرَبَها بسوطٍ كان معه، فاتّقتْهُ بذراعها، فَأَصَابَ السّوطُ ذراعَها، فأَثَّرَ فيها، فلما رَجَعَ أبو حرب إلى منزله بَكَتْ وشَكَتْ إليه ما فعل بها، وأَرَتْهُ الأثرَ الذي بذراعها من ضَربه، فأَخَذَ أبو حرب سيفَه ومشى إلى الجنديّ، فضربه به حتى قَتَلَه، ثمّ هَرَبَ وأَلبَسَ وَجْهه برقعاً كي لا يُعرَف، فصَارَ إلى جبلٍ من جبال الأردن، فطلبه السّلطان فلم يُعرَف له خبرٌ...".
يُكمل الطبري: "كان أبو حرب يظهر بالنّهار فيقعد على الجبل الذي أوى إليه مُتبرقعاً، فيراه الرائي فيأتيه، فيُذَكِّره ويحرِّضَهُ على الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر، ويَذْكُر السّلطانَ وما يأتي إلى الناس ويعيبه، فما زال ذلك دأبُه حتى استجابَ له قومٌ من حرّاثي أهل تلك الناحية وأهل القرى، وكان يزعم أنّه أمويّ، فقال الذين استجابوا له: هذا هو السفياني، فلما كثرت غاشيته وتُبّاعُه من هذه الطبقة من الناس، دعا أهل البيوتات من أهل تلك الناحية، فاستجاب له منهم جماعة من رؤساء اليمانيّة، منهم رجل يقال له ابن بيهس، كان مُطاعاً في أهل اليمن ورجلان آخران من أهل دمشق"3.
يُكمل الطبري: "كان أبو حرب يظهر بالنّهار فيقعد على الجبل الذي أوى إليه مُتبرقعاً، فيراه الرائي فيأتيه، فيُذَكِّره ويحرِّضَهُ على الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر، ويَذْكُر السّلطانَ وما يأتي إلى الناس ويعيبه، فما زال ذلك دأبُه حتى استجابَ له قومٌ من حرّاثي أهل تلك الناحية وأهل القرى، وكان يزعم أنّه أمويّ، فقال الذين استجابوا له: هذا هو السفياني، فلما كثرت غاشيته وتُبّاعُه من هذه الطبقة من الناس، دعا أهل البيوتات من أهل تلك الناحية، فاستجاب له منهم جماعة من رؤساء اليمانيّة، منهم رجل يقال له ابن بيهس، كان مُطاعاً في أهل اليمن ورجلان آخران من أهل دمشق"3.
من جبال الغور إلى الرملة
نجحت دعوةُ المُبرقع اليماني والتفّ حولها الفلاحون والحرّاثون والزُرّاع وعامّةُ الناس، حتى بلغ مجموعُ أنصاره حسب الطبري وغيره 100 ألف ثائر. انتقلت ثورتُه من جبال الغور إلى مدينة الرملة معقل اليمانيين، وعاصمة جُند فلسطين في العهد الأمويّ، ولعل ذلك نابعٌ من حنينهم إلى الدولة الأموية التي بسطت لهم العطاء وأَولتهم الاهتمام.
كما أنّ الرملة ظلّت تعيشُ حالةً ثوريّةً دائمةً رفضاً للحكم العباسيّ، عَزَّزَها ضجرُ الناس من مجزرة العباسين عام 132هـ بقتل الأمويين وذبحهم، بالقرب من الرملة عند نهر أبي فطرس (العوجا) قرب يافا 4، وما تلا ذلك من ثورات ضدّ العباسيين في المدينة.ساهم في انتشار الثورة، علاقتُها بالمجتمع وعدم التعرّضِ للنّاس في معيشتهم وقوتهم وإسقاط الضرائب عنهم، وأنّ جنودها هم عامّةُ النّاس وسوادُها الأعظم من الفلاحين والكادحين، ثمّ العُصبة اليمانية ذلك أن غالبية سكان فلسطين في ذلك الوقت، كانوا من القبائل العربيّة اليمانية (لخم وجذام).
لم يغب البُعد الديني عن هذه الثورة، فكان المُبرقع يُحرّضُ من يأتيه: "على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويَذكُرُ لهم معايب الخليفة"، كما كان موقفُ الخليفة المعتصم وتعرّضه للعلماء وتعذيبهم في مسألة خلق القرآن حافزاً على الثورة، فسحب المبرقع ذريعةً كان يمكن أن يستخدمها العباسيون ضدّه باعتباره خارجاً عن الإسلام أو مبتدعاً.
كما أنّ الرملة ظلّت تعيشُ حالةً ثوريّةً دائمةً رفضاً للحكم العباسيّ، عَزَّزَها ضجرُ الناس من مجزرة العباسين عام 132هـ بقتل الأمويين وذبحهم، بالقرب من الرملة عند نهر أبي فطرس (العوجا) قرب يافا 4، وما تلا ذلك من ثورات ضدّ العباسيين في المدينة.ساهم في انتشار الثورة، علاقتُها بالمجتمع وعدم التعرّضِ للنّاس في معيشتهم وقوتهم وإسقاط الضرائب عنهم، وأنّ جنودها هم عامّةُ النّاس وسوادُها الأعظم من الفلاحين والكادحين، ثمّ العُصبة اليمانية ذلك أن غالبية سكان فلسطين في ذلك الوقت، كانوا من القبائل العربيّة اليمانية (لخم وجذام).
لم يغب البُعد الديني عن هذه الثورة، فكان المُبرقع يُحرّضُ من يأتيه: "على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويَذكُرُ لهم معايب الخليفة"، كما كان موقفُ الخليفة المعتصم وتعرّضه للعلماء وتعذيبهم في مسألة خلق القرآن حافزاً على الثورة، فسحب المبرقع ذريعةً كان يمكن أن يستخدمها العباسيون ضدّه باعتباره خارجاً عن الإسلام أو مبتدعاً.
الفلّاحون: نقطة القوة والضعف
بما أنّ قوام الثورة كان من الفلاحين، وهؤلاء لا مصادرَ كافيّة لديهم لتوفير قوت وأرزاق الجند، كان عليهم أن يقوموا بما يُشبِهُ حربَ العصابات: القتال ثمّ العودة لأراضيهم للفلاحة. في ظلّ هذه الظروف، لم يكن بمقدورِ المبرقع اليماني، بتركيبة ثورته وطبيعة مقاتليها، أن يُجَابِهَ جيشاً نظاميّاً لوقتٍ طويل. وهو الأمر ذاته الذي عانت منه ثورة فلسطين الكبرى 1936-1939 التي اعتبرت أيضاً ثورة الفلاحين ضدّ جيش الاستعمار البريطاني.
حَرّكَ الخليفة المعتصم جيشاً بقيادة رجاء بن أيوب الحضاري للقضاء عليها، ولكن الأخير امتنع عن مُنازلة المُبرقع لمّا رأى حشد أصحابه وجيشه الذي بلغ زُهاء 100 ألف رجل.
علّق رجاء بن أيوب للخليفه مُبرراً تأخّره في القضاء على الثورة بالقول: "فتمهّلتُ حتى خفَّ من معه، ووجدت فرصة ورأيت لحربه وجهاً وقياماً فناهظته، وهو في ضعف ونحن في قوة…"5.
كانت خطّة رجاء أن ينتظر حتى بداية موسم الحراثة، فينصرف الحراثون إلى أراضيهم، ولا يبقى مع المبرقع سوى حشدٌ قليلٌ، وهذا ما حصل. "بقي أبو حرب في نفر زهاء ألف أو ألفين، ناجزه رجاء الحرب، فالتقى العسكران"6.
ينفرد البطريرك التلمحري في رحلاته بذكر حادثة مهمّة سبقت المعركة، وتُظهر الخديعة التي وقع ضحيتها المُبرقع اليماني، وكيف تمكن جيش دولة بني العبّاس من القضاء على الثورة. ذكر التلمحري بأن رجاء بن أيوب أمسك بأحد الفلاحين وعلم منه ما يريد عن المبرقع، ثم بعث به مع الهدايا والأعطيات إلى المبرقع طالباً الصلح والسلام، ومؤكِداً أنه لن يباشر الحرب حتى يأتيه رد المُبرقع في الصلح. غير أن رجاء زحف بجيشه مساء ذلك اليوم، وفي الصباح هاجَمَ جيشَ المُبرقع على حين غرّة7.
انتهت ثورة الفلاحين بعد معركة الرملة التي أُسدل الستار عنها بمقتل 20 ألف من أنصار المبرقع كما تقول المصادر التاريخية10، واقتياده أسيراً مثخن الجراح إلى سجن "المطبق" مع صاحبه ابن بهيس الثائر في دمشق، ليلقى حتفه مخنوقاً في السجن.
وعلى الرغم من فشل الثورة في تحقيق أهدافها وانتهائها بقتل داعيها، إلا أنّها كانت حلقةً في سعي الفلاحين للتحرّر من ظلم الدولة وارتفاع الضرائب، الأمر الذي بدا واضحاً في سلسلة الثورات التي تبعت هذه الثورة في بلاد الشام ومصر.
المصدر
حَرّكَ الخليفة المعتصم جيشاً بقيادة رجاء بن أيوب الحضاري للقضاء عليها، ولكن الأخير امتنع عن مُنازلة المُبرقع لمّا رأى حشد أصحابه وجيشه الذي بلغ زُهاء 100 ألف رجل.
علّق رجاء بن أيوب للخليفه مُبرراً تأخّره في القضاء على الثورة بالقول: "فتمهّلتُ حتى خفَّ من معه، ووجدت فرصة ورأيت لحربه وجهاً وقياماً فناهظته، وهو في ضعف ونحن في قوة…"5.
كانت خطّة رجاء أن ينتظر حتى بداية موسم الحراثة، فينصرف الحراثون إلى أراضيهم، ولا يبقى مع المبرقع سوى حشدٌ قليلٌ، وهذا ما حصل. "بقي أبو حرب في نفر زهاء ألف أو ألفين، ناجزه رجاء الحرب، فالتقى العسكران"6.
ينفرد البطريرك التلمحري في رحلاته بذكر حادثة مهمّة سبقت المعركة، وتُظهر الخديعة التي وقع ضحيتها المُبرقع اليماني، وكيف تمكن جيش دولة بني العبّاس من القضاء على الثورة. ذكر التلمحري بأن رجاء بن أيوب أمسك بأحد الفلاحين وعلم منه ما يريد عن المبرقع، ثم بعث به مع الهدايا والأعطيات إلى المبرقع طالباً الصلح والسلام، ومؤكِداً أنه لن يباشر الحرب حتى يأتيه رد المُبرقع في الصلح. غير أن رجاء زحف بجيشه مساء ذلك اليوم، وفي الصباح هاجَمَ جيشَ المُبرقع على حين غرّة7.
انتهت ثورة الفلاحين بعد معركة الرملة التي أُسدل الستار عنها بمقتل 20 ألف من أنصار المبرقع كما تقول المصادر التاريخية10، واقتياده أسيراً مثخن الجراح إلى سجن "المطبق" مع صاحبه ابن بهيس الثائر في دمشق، ليلقى حتفه مخنوقاً في السجن.
وعلى الرغم من فشل الثورة في تحقيق أهدافها وانتهائها بقتل داعيها، إلا أنّها كانت حلقةً في سعي الفلاحين للتحرّر من ظلم الدولة وارتفاع الضرائب، الأمر الذي بدا واضحاً في سلسلة الثورات التي تبعت هذه الثورة في بلاد الشام ومصر.
المصدر