مقدمة
1يقترح علينا أبوراس الناصري في تأليفه : "عجائب الأسفار ولطائف الأخبار" بحثًا حول تحرير مدينتي وهران والمرسى الكبير سنة 1792، يتناول فيه قضايا الحصار والمواجهات العسكرية والرباطات والمفاوضات ثم الجلاء، بطريقة مغايرة تركز على التمثلات الاجتماعية أكثر مما تهتم بالحدث السياسي.2لم يكن فتح وهران على يدّ الباي محمد الكبير حدثا عاديا، لأنه ترك صدى عميقا في المخيلة الاجتماعية لساكنة الغرب الجزائري وساكنة بلاد المغرب الكبير عامة. لقد كان حديث الناس في تونس والشرق الجزائري؛ يقول أبوراس في هذا الصدد :"لما خرجنا من البحر في شهر شعبان سنة خمس ومائتين وألف وجدنا خبر محاصرة المنصور بالله سيدي محمد بن عثمان لوهران بسوسة والمنستير وصفاقس. ووجدنا خبر الجهاد عند أهل جربة وأيضا أهل تونس سمعوا.." (محمد بن أحمد أبي راس الناصري، 2005، ص. 33). وحين انتهى به المطاف إلى ديار الوطن كان "خبر الجهاد قد انتشر في الإيالة القسنطينية : مدنها وأريافها" (محمد بن أحمد أبي راس الناصري، ص. 33).
3تؤكد شهادة أبي راس مدى اهتمام الساكنة المغاربية بكل حدث يثير شعورها الإسلامي الحاد ويبعث فيها روح الأمل في ظرف دولي يتزايد فيه الخطر الغربي على البلاد الإسلامية وبالمقابل يعكس مثل هذا الشعور نهاية معاناة ساكنة الغرب الجزائري من الوجود الإسباني.
4تحفل المصادر المحليّة بأخبار الأولياء الصالحين وكراماتهم وتكثر فيها الخرافات والأساطير عن الجن والإنس، لا لإثبات أحداث تاريخية بل لتجسيد هموم شرائح اجتماعية عريضة في المدن والأرياف، فهي تكشف عن المتخيّل الاجتماعي وعلاقته بالواقع الاجتماعي.
5إن مثل هذا البعد الرمزي لا يزال منقوصا في جزء كبير من البحث التاريخي في الجزائر، فإذا تمكنا من الوصول إلى فك روابطه المعقدة، عبر دراسات جديدة تؤرخ للذهنيات، لدخلنا في أعماق المجتمعات. ألا يهدف علم التاريخ إلى تصوير الأحداث كما عايشها الناس وشعروا بها ؟
من الحدث إلى الرمز : أهمية التأريخ للذهنيات
- 1 كان هذا عنوان محاضرة ألقيت في الملتقى الثالث حول النخب الدينية وتحرير الأوطان. جامعة وهران، يومي 5- (...)
- 2 أنظر على سبيل المثال، لا الحصر :
المدني، أحمد توفيق .(1976). حرب 300 سنة بين الجزائر وإسبانيا. الجزا (...)
7وتتوفر لدينا معارف شتى عن تركيبة الجيش والمتطوعين والطلبة المرابطين براس العين : عددهم وعدتهم وتنظيماتهم وقيادتهم ومواقعهم. يقول أحمد بن سحنون "فجاءهم في جند عظيم. شديد البأس يحتوي على خمسين ألفا. وقد قسّمه، فترك معظمه معه وأنزل الباقي مع ابنه الأنجب السيد عثمان، وبعضه الآخر مع صهره الأجل السيد محمد بن إبراهيم، كل منهما على جهة بمحلة عظيمة، مع الأول أهل تلمسان وأحوازها وقبائل من الأعراب كفليتة وغيرهم، ومع الثاني أهل مازونة ومستغانم وأعراب الشرق" (أحمد بن سحنون، ص. 220).
8وعن العتاد والسلاح يقول : "ولم يزل جادا في جمع الآلات والبارود والرصاص وكور المدافع، فوجه رسله إلى بلاد الإنجليز لشراء ذلك.. وبعث أيضا إلى ناحية زواوة من أتاه بكثير من البارود، وجمع أرباب الصنائع من النجارين والخراطين والحدادين وصُنّاع البارود من كل بلد، الجزائر وتلمسان ومستغانم، وبعث إلى ناحية فقيق من يأتيه بحفرة الألغام فقدم عليه بمائة منهم وألحقهم بالطلبة... " (أحمد بن سحنون، ص. 248).
9وتتحدث المصادر المحلية عن الطريق الذي سلكه الباي محمد بن عثمان بجيشه من معسكر قاعدة البايلك إلى سيق، ومن سيق إلى وادي تليلات ومنها إلى أغبال ومسولان(الكرمة حاليا)، ثم تموقع الجيش والمتطوعون في المبرك (أو جرف المبرك) ومسرغين ووادي الهايج (يمتد على طول : حي أسامة وحي العثمانية ثم حي عبد المؤمن)، ونزل الطلبة برباط رأس العين بجبل المائدة، ثم تُسردُ أخبارٌ قيّمة عن المعارك حول الأبراج وعن المفاوضات ثم الجلاء ودخول محمد الكبير المدينة في موكب بهيج يتقدمه العلماء وهم يقرؤون البردة.
10غير أن المؤرخ اليوم مطالب بالانتقال من الحدث إلى أبعاده الرمزية، فلا يجوز له أن يكتب التاريخ بطريقة تجزيئية وجافة، بل يتناوله كما عايشه معاصروه في مستوى شعورهم وتصوراتهم. عليه أن يتساءل عن الذهنيات العامة التي رافقت الحدث، وعن التَّمثلات و المواقف التي ميّزت "الوعي الجمعي" وقتذاك.
11يعتبر المؤرخ البولوني يوهان هوزنكا "حقل المتخيل والعاطفة بقيمة الاقتصاد نفسها" (لوڤوف، ص. 284)، ويؤكد المؤرخ الألماني نوربير الياس "أن النفسيات العامة لها قيمة أية حقيقة تاريخية أخرى" (لوڤوف، ص. 279-280)، فالذهنيات العامة لا تقل أهمية، في منظور المؤرخ الجديد، عن الأحداث السياسية والظواهر الاقتصادية والثقافية.
12نجحت مدرسة الحوليات في إدخال الذهنيات إلى مجال التاريخ، فالمؤرخ -اليوم- مطالب بإعادة قراءة المصادر من زاوية مغايرة وبمنظور جديد، فيسعى إلى إعادة بناء "المواقف الذهنية والتمثلات الاجتماعية التي تجسد تصورات العالم والإنسان والطبيعة. لأن الناس كانوا يربطون ما يُرى بما لا يرى في حياتهم اليومية وفي معتقداتهم. إن هذه الظواهر النفسية هي التي أدخلها تاريخ الذهنيات في إشكالياته العامة ومباحثه المتنوعة" (لوڤوف، ص. 305-306).
13تتكون البنية الذهنية من جملة التمثلات الناتجة عن التجارب الإنسانية والجماعية. فلكل ثقافة أو مستوى ثقافي ذهنيته : اليأس والخوف من المجاهل المقلقة للحاضر والمستقبل، الأمل وعودة الحياة ومقاومة المخاوف من الفواجع الطبيعية والحروب والأهوال والأمراض، كلها عناصر نفسية تشكل المخيال الجمعي في لحظة زمنية معينة ... (لوڤوف، ص. 305-306).
14يسعى تاريخ الذهنيات إلى الغوص في اللاوعي الاجتماعي عبر تطور التصورات وإلى البحث عن المعنى من خلال منظومة التمثلات والمكانة التي تحتلها داخل البنى الاجتماعية وفي الواقع، فالغرض هو التمييز بين حتميات الواقع وتصورات العالم. فالمقاربة التاريخية الموضوعية لا تكتفي بوصف الظواهر النفسية والطريقة التي يرى بها الناس عصرهم، بل تهتم بالدرجة الأولى، بالعلاقة بين الظواهر النفسية وما أحدثها في الواقع. إن جدلية الذهني والاجتماعي هي الإشكالية التي يعتمدها المؤرخ المختص في الذهنيات )برودال، 1958). لقد كسب تاريخ الذهنيات شرعيته وأثبت مصداقيته العلمية منذ خمسينات القرن العشرين، لأنه تاريخ يُعنَى بالكتل الاجتماعية وبالشعوب لا بالأفراد والبطولات.
15في الواقع يجب أن نكف عن التأريخ للأبطال والأفراد، بل نكتب تاريخ الناس الذين اختبروا الحياة، فعاشوا وفرحوا وتألموا. إنها دعوة إلى أنسنة التاريخ. يؤكد المؤرخ الفرنسي الشهير فرناند برودال : "إن البنى الذهبية تتغير بتغير الأطر الاجتماعية والثقافية، غير أن تطورها يتم بإيقاع أبطأ من إيقاع الأحداث السياسية السريع. إن زمنها هو المدى الطويل.." (برودال، 1958).
المخيال الجمعي في الغرب الجزائري
16منذ أن احتل الإسبان مدينتي وهران والمرسى الكبير في مطلع القرن السادس عشر، مرّ المخيال الجمعي لساكنة بايلك الغرب بمرحلتين متميزتين :الزمن الكارثي : إخفاقات، يأس وخوف
17تمكن الأتراك منذ قدومهم إلى الجزائر من تحرير المدن الساحلية التي احتلها الإسبان بين 1505 و1512، عدا مدينتي وهران والمرسى الكبير، ورغم المحاولات المتكررة خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، و الخسائر البشرية الكبيرة التي تكبدوها فإنهم لم ينجحوا. فتارة يصل الجيش والمتطوعون إلى أسوار المدينة، فيدكونها بالمدافع ويحدثون ثغرات فيها أو يستولون على أحد الأبراج فيها لكنهم يفشلون في الأخير. وتارة أخرى، يفرضون حصارا شديدا عليها بحرا وبرا، ويمنعون الأهالي من تموينها ويطول الحصار، لكن شدّة مقاومة الحامية الإسبانية و مناعة أسوار المدينة تحولان دون تحريرها.18هكذا كان الحال خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر وذلك رغم دعوات العلماء المتكررة لتجديد الجهاد وتفعيله مهما كانت الظروف. فالعالم أبو محلى، نزيل واحة بني عباس في الصحراء يؤكد بوضوح أن شرعية النفوذ العثماني متوقفة على تحرير السواحل المغربية كاملة :
- 4 محمد بن عبد المؤمن، قاضي الحنفية بالجزائر على عهد الداي محمد بكداش وصاحب كتاب التحفة المرضية في أخب (...)
وقد سبقه الشيخ محمد القوجبلي من علماء القرن 17 سنة 1656 م حين خاطب الباشا أحمد خوجة قائلا (أبوراس الناصر، ص. 46).نادتك وهران فلب نداها وانزل بها لا تقصدن سواها
هكذا تكررت دعوات النخبة الدينية، لا لأن الجهاد واجب ديني فقط بل لأن البلاد – والعباد- صارت مهددة في وجودها.وبغربنا وهران ضرس مؤلم سهل اقتناع في اعتناء سرور
فانهض بعزمك نحوها مستندا بالله في جد و في تشمير
خسائر بشرية هامة، انهيار النشاطات الاقتصادية وأزمة اجتماعية - نفسية
19تسبب الوجود الإسباني في وهران بأضرار وخيمة منذ القرن السادس عشر إلى مطلع القرن الثامن عشر. و لم تتوقف الغارات العسكرية على الأهالي وامتدت إلى محيط وهران والأقاليم البعيدة مثل غريس ومستغانم وتلمسان إلى جبال ندرومة. فقد دأب الجيش الإسباني على شن الهجمات العسكرية تلو الأخرى. و كان غرضه نهب الأموال وسبي النساء و الأطفال وقتل الرجال إلى درجة إبادة قبائل بكاملها، فقد كان يباغت الأهالي في قراهم ليلا ونهارا بفضل جواسيس كانوا يراقبون حركات تنقل التجمعات السكانية ويرصدون مواقعها، ويتم له ذلك دون أن يجد مقاومة تمنعه من الفساد. إلى ذلك يشير أبوراس قائلا : "وكان طاغية النصارى يشن الغارات على المسلمين إلى أن دخل في طاعته فرق من بني عامر وغمرة. وتعددت غزواته على الأقربين والأبعدين" (أبوراس الناصر، ص. 71).- 5 تقع عين الترك على بعد 16 كيلومترا غربي وهران.
- 6 تبعد هبرة عن وهران ب 72 كلم . وتقع غريس بإقليم معسكر، أما وادي التاغية فتقع قريته على مسافة 50 كم ج (...)
21ومن الأقاليم التي عانت من ويلات الغزوات الإسبانية "بنو شقران" برمال عين الفرس الشرقية، فأثخن فيهم إثخانا عظيما وسبيا." و"امتدت غاراته على غريس ووادي التاغية، فقتل الرجال وسبى النساء والأطفال واستولى على الزرع والماشية." (أبوراس الناصر، ص. 45).
22يؤكد الباحث تركي حساين الذي درس الوثائق الرسمية الإسبانية بمدريد على النتائج الوخيمة التي ترتبت عن احتلال وهران :"أفضى العدوان الإسباني على المرسى الكبير ووهران إلى خسائر بشرية فادحة وتهجير واسع لساكنتها نحو المدن الأخرى والأرياف وإلى زوال أنشطتها الحرفية والتجارية"، ثم يوضح : " لقد جهَّز حكام وهران الأوائل جيشا ضخما كان يشن الغارات على الإقليم لتوسيع مناطق نفوذهم في البلاد وللنهب والسلب، وخلال القرن السابع عشر وصلت هذه الهجمات العسكرية إلى ذروتها، إلى درجة أن المدينة كانت تعيش حصرا على تجارة الأسرى والغنائم، فقد بالغ الجيش الإسباني في استعمال القوة المفرطة ضد السكان العزّل .. وقد قارن حاكم وهران العسكري : فاليخو (1734-1738) هذه الغارات بغارات التتار على أوربا" (تركي حساين، 2004).
23تقلصت الساكنة بفعل الحروب والغارات، فهجوم الإسبان على وهران سنة 1509 أودى بحياة 4000 نسمة، وأسر أعدادِ كبيرة من الأهالي : 8000 حسب المصادر(المدني، ص. 111-112 و Julien p. 252و De Grammont p. 13) ، وأبيدت قبائل بكاملها، وتحولت الأراضي الزراعية الشاسعة إلى أراضِ بور ترعى فيها الماشية، وتدهورت المبادلات التجارية، وانهارت الحرف والصنائع. فأصبحت مجرد قلعة تحيط بها أسوار وتعاني من الجوع قبل العدو. أما المرسى الكبير فقد كان قبل احتلاله سنة 1505 - حسب الرحالة مارمول- أحسن مرفأ في شمال إفريقيا غير أن تجارته مع المدن الإيطالية توقفت بفعل الاحتلال الإسبانيّ، كما انقطعت مبادلاته مع الأرياف المجاورة. ويشير الرحالة نفسه إلى سهل البطحاء الخصب الذي هجره سكانه ورفضوا غراسته خوفا من اعتداءات الإسبان المتكررة.
24كانت إرادة الأوروبيين ثابثة تسعى إلى احتكار التجارة البحرية، وهذا ما تم للإسبان في النهاية بعدما خربوا موانئ المغرب. إنها فترة بئيسة من الانحطاط والتفكك والتقهقر، انهارت فيها مدينتا مستغانم ومزغران، "لأن صنّاعها مياسير، لكن سقوط وهران في يد الإسبان قد أثر على صناعتها إذ كان أهلها يبيعون ما ينتجون في أسواقها، كذلك كان حال مستغانم القريبة منها التي اشتهرت بالمنسوجات، فقد اختلت صناعتها عند احتلال وهران" (ليون الإفريقي، ص. 88).
25تضررت الحياة الاقتصادية بإقليم تسالة وحصنه، فانتقل السكان إلى الجبال المجاورة له، مما جعل الرحالة الإسباني مارمول كرفخال يعلق على هذا الأمر قائلا" : "المسلمون لا يجراون على تعمير هذا الحصن خوفا من المسيحيين"(حساني، ص. 155). وتعرض إقليم ندرومة إلى التخريب بسبب هجمات الأسطول الإسباني على سواحله. يستعرض صاحب كتاب وصف إفريقيا الحالة البائسة التي وصلت إليها هنين-ميناء تلمسان- حين زارها، فيقول : "تألمت كثيرا للحالة التي صارت عليها المدينة بعد أن خربها أسطول شارل الخامس سنة 1531، وحتّى الفواكه التي كانت ببساتينها تسقط في الأرض ولم تجد من يقطفها"، لأن ساكنتها غادرتها إلى جبال ترارة المجاورة. أما قرية الكرط القريبة من معسكر فغادرتها ساكنتها الفلاحية والتجأت إلى جبال كسانة شرقي غريس وحلّ قسم منها بمضارب مغراوة ووادي فروحة" (حساني، ص. 16).
- 7 الجامعي، عبد الرحمان. فتح وهران ورقة 45 : مخطوط رقم 2521 م.و.ج.