يتوالى صدور تقارير عن كبريات المؤسسات والمنظمات الدولية التي تهتم بالبحث والتدقيق في ملف المياه، ذلك العنصر الذي يشهد أزمة حقيقية في عالمنا المعاصر. وتعمد الصحف واحدة تلو أخرى إلى نشر مصطلح جديد "حرب المياه العالمية"، التي تُرشّح على ما يبدو منطقة الشرق الأوسط، مرة أخرى، لتكون عاصمتها. فهل ستطلق المنطقة جيوشها وأسلحتها عام 2030؟ ما الذي أوصل الشرق الأوسط إلى هذه الحال، وكيف نحمي ما تبقّى من مياهنا قبل أن يتشرّبها الإرهاب؟الخرائط الصادرة عن الأقمار الصناعية التابعة لـGRACE (gravity recovery and climate experiment) NASA، والتي راقبت اختلافات مجموع تخزين مياه الأرض بين يناير 2003 وديسمبر 2009، أوضحت في تقرير صدر العام الماضي أن أجزاء كبيرة من منطقة الشرق الأوسط القاحلة نسبياً فقدت احتياطات المياه العذبة بسرعة كبيرة. خلال 7 أعوام خسرت تركيا وسوريا والعراق وإيران، التي تتقاسم حوض نهري دجلة والفرات، 144 كلم مكعب من مجموع المياه العذبة المخزنة، 60% منها ناتجة عن ضخ المياه من الخزانات الجوفية. خسارة تساوي لوحدها كمية المياه في البحر الميت. المعلومات التي سجّلتها GRACE تضع دجلة والفرات في خانة ثاني أسرع معدل لفقدان مخزون المياه الجوفية على الأرض بعد الهند، حوالي 70% أسرع من التسعينات، في وقت يزداد طلب المياه العذبة بكثرة، وتفتقر دول المنطقة إلى التعاون في إدارة مياهها بسبب التفسيرات المختلفة للقوانين الدولية. كمية المياه التي تبخّرت في سنوات قليلة كانت كافية لتلبي حاجة أكثر من 100 مليون فرد كل عام، والشرق الأوسط لا يملك في الأصل كمية مياه كافية حتى يهمل قيمتها الحقيقية.
تقريرٌ سابق صدر عن الأمم المتحدة قبل 5 أعوام، يؤكد أن 47% من سكان العالم سيعيشون في مناطق خاضعة للإجهاد المائي عام 2030، وسيكون لندرة المياه في بعض المناطق القاحلة آثار كبيرة على الهجرة. ومن المتوقع أن ينزح ما بين 24 و 700 مليون نسمة بسبب ذلك. حالياً 80% من أمراض البلدان النامية تعود أسبابها إلى المياه، ونتيجتها 3 ملايين وفاة مبكرة. 5000 طفل يموت يومياً بسبب الإسهال، تخيلوا إذاً مستقبلاً متعطّشاً لقطرة ماء.
ستقطع بعض الدول الأنهر لتمنع دولاً أخرى من استخدام المياه في آخر مجرى النهر، الإرهابيون سيفجرون السدود، والأمم التي لن تتمكن من تزويد شعبها بالمياه ستسقط مهما كانت مكانتها الحالية. هذا هو المستقبل القريب كما حلّله مكتب الأمن القومي في الولايات المتحدة منذ حوالي عامين، تلبية لطلب الرئيس أوباما التدقيقَ بمدى تأثر الولايات المتحدة بأزمة الجفاف. دول كثيرة ستخسر قدرتها على تأمين الغذاء وإنتاج الطاقة، ما سيضربها في قلبها الاقتصادي، على رأسها دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وآسيا الجنوبية، والدول الفقيرة منها ستقع حتماً في دائرة الحروب الأهلية، كالسودان، العراق، وباكستان...
قد يصبح اللجوء إلى قطع المياه عن الشعب بهدف الضغط عليه وإفشال أي مخطط انقلابي استراتيجية ذكية، ما قد يوقظ مجدداً العقول الدكتاتورية. والأخطر من كل ذلك هي الحروب التي قد تندلع في البلاد غير المستقرة على الممرات المائية نفسها، مثل نهر النيل الذي يمرّ عبر أوغندا وإثيوبيا والسودان ومصر، ونهر الأردن الذي ينبع من لبنان وسوريا ويعبر إسرائيل، والفرات الذي ينبع من جبال تركيا ليعبر سوريا ويصب في العراق. شهد التاريخ معاهدات واتفاقيات لتقاسم المياه بين تلك الدول، ولكن من الصعب أن يصبح أمر كهذا واقعياً مع انخفاض نسبة المياه في تلك الأنهر. ستحتكر الدول الأقوى مجرى المياه. مياه اليوم هي بترول الغد، مع كل ما يرافقه من حروب وإرهاب وصعود في الأصولية.
إذا عدنا بالزمن للوقت الحاضر، نرى أن التوترات على الأرض، نتيجة تزعزع عنصر المياه، قد بدأت تتفشى حول الأنهر والأحواض منذ عقد من الزمن، لتتطور وتتفشّى على نطاق أوسع في العقد القادم. سببٌ دفع إيران لتضع منذ الآن خطط طوارئ لتقنين المياه في طهران التي تحتضن 22 مليون نسمة. منذ فترة ضئيلة قطع مسؤول إيراني بسيارته مسافة 15 دقيقة على قاع بحيرة أورميا الجافة التي كانت تعدّ من أكبر بحيرات إيران، والتي لم يتبقَّ من مياهها اليوم سوى 5%، ليصبح جفافها القاحل رمزاً لوضع المياه في إيران والمنطقة. مصر طالبت إثيوبيا بوقف بناء سدود ضخمة على النيل، متعهدة حماية حقوق النيل التاريخية بأي ثمن، ودعت السلطات لدراسة ما إذا كان المشروع يخفف من تدفق النهر. الأردن، ثالث أدنى احتياطي في المنطقة، تعاني من تدفق اللاجئين السوريين، ما أدى إلى انقطاع الكهرباء بسبب نقص المياه في أراضيها. منذ أسابيع حذر الأمير حسن، عمّ الملك عبدالله، أن حرباً على المياه ستكون أكثر دموية من الربيع العربي الحالي. الإمارات العربية المتحدة تستثمر اليوم في مشاريع كبيرة لمواجهة أزمة المياه، التي أصبحت تقيّمها على أنها أهم من البترول، كما طالبت البلاد العربية باستثمار ما لا يقل عن 200 مليار دولار لتجاوز تلك الأزمة، إذ أن حصة الفرد من المياه في 12 دولة عربية تقل عن مستوى الندرة الحادة الذي حددته منظمة الصحة العالمية.
سلاح المياه هو المصطلح الجديد الذي ستتبناه منطقة الشرق الأوسط، لتندلع الحروب بين المزارعين وسكان المدن، بين المجموعات العرقية، بين المستفيدين من منبع ومصب النهر نفسه. من الوقائع الملموسة اليوم حرب سوريا الأهلية. بعض العلماء يرون أن تغير المناخ الذي أدى إلى شحّ المياه أوقع السكان في حالة من الركود والفقر، وهي من أهم أسباب اندلاع ثورة سوريا. تحدّ كبير سيواجه المنطقة العربية واحتمال لحروب على المياه المتبقية مع ازدياد عدد السكان بشكل مخيف بين خمسينات القرن الماضي واليوم. سكان سوريا قفزوا من 3.5 مليون إلى 22 مليون وقد يتجاوزون 43 مليون في العام 2050، مصر من 20 مليون إلى حوالي 85 مليون و125 مليون في منتصف القرن الحالي، اليمن من 4.5 مليون إلى 25 مليون و52 مليون في الخمسينات من القرن الحالي، وكلها دول تستخدم حجم مياه أكثر من طاقتها.
نشرت صحيفة الـنويورك تايمز New York Times منذ بضعة أيام تقريراً يطرح فكرة أن مياه إسرائيل قد تجلب السلام إلى منطقة الشرق الأوسط، فهي تمكنت من مواجهة الأزمة على أكمل وجه عكس البلاد العربية المحيطة بها، وإدارتها المائية الممتازة قد تكون مثالاً، بل حتى حافزاً لتخفيف التوتر في المنطقة. قبل العام 1979 كانت إسرائيل وإيران حليفتين في تطوير موارد المياه، التي ما زالت على حالها في إيران، بينما طورتها إسرائيل حتى أصبحت تستهلك اليوم أكثر من 50% من مياه الشرب من البحر. يعطي التقرير أمثلة أخرى من واقع البلاد العربية مقارنة بوضع إسرائيل، كالمثل الذي يرجّح أن فلسطين محظوظة لكونها قريبة من إسرائيل وأنها هي الرابحة في الحرب المقبلة على المياه، وأن أي باب سيفتح لإسرائيل سيجنب المنطقة أزمة المياه. بالمختصر المفيد إسرائيل هي الحل الوحيد لجفاف الأرض العربية. أليست تلك الفلسفة من أولى بوادر الحرب الإقليمية على المياه؟