هل علينا أن نقف عند حدود سيناريو واحد مارسته الولايات المتحدة في استراتيجيتها الجديدة بعد نهاية الحرب الباردة؟! مثل هذا السؤال ربما يدفعنا إلى التعامل مع الحرب الاستباقية خارج مفهومها كمادة أكاديمية يطرحها أصحاب مراكز البحث في الولايات المتحدة، فهي بعد تجربتين مباشرتين في أفغانستان والعراق تجاوزت وثيقة ((إرشاد التخطيط الدفاعي)) التي صدرت 1992 عبر بول ولفوتيز. ويمكن اعتبار حرب العراق وما سبقها من صراع داخل مجلس الأمن شكلا وسع مفهومها كما ظهر من خلال ما قدمه الرئيس الأمريكي جورج بوش رسميا في 17 تشرين الثاني عام 2002 وعرف بعقيدة بوش.
فالحرب الاستباقية ربما لا تحتاج إلى تعريف أو تداول حول مفهومها وقدرتها على صياغة عالم "أكثر أمنا". فالمسألة باتت تتعلق باستيعاب نتائجها. ففي الشرق الأوسط لا يمكن الدخول في جدل حول الاستراتيجية الدولية وسط سرعة التبدل والعنف الذي يعيد رسم الجغرافية – السياسية داخل المجتمعات، ويدفع نحو لون جديد من التطرف سيكون مادة أساسية في القراءة التي يمكن أن تقدمها "الحرب الاستباقية" لمجتمعات وصفها فوكو ياما في أوائل التسعينات بـ"المجتمعات التاريخية" معتبرا أن نهاية الحرب الباردة هي "نهاية التاريخ"... أو ربما بداية المرحلة التي تعيد تقسيم العالم خارج إطار الحداثة، ووفق رؤية "أخلاقية إطلاقية" عبر عنها لاحقا الرئيس جورج بوش من خلال جملة تصريحات أعقبت أحداث الحادي عشر من أيلول. أولا - الحرب الاستباقية خارج التعريفات:
محاولة تعريف الحرب الاستباقية في إطار عناصرها الأساسية يحيلنا مباشرة إلى خمس نقاط أساسية وردت في وثيقة "استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة":
في تعريف الخطر الذي حددته بتقاطع "الراديكالية مع التكنولوجية". فتحت أمام جغرافية ضائعة للعدو بعد سنوات من التحديد الذي قسم العالم وفرض استراتيجية الردع والاحتواء، فخلال الحرب الباردة كانت نقاط الصراع أكثر وضوحا، كما كانت "شخصية" العدو مختلفة نوعيا وخاضعة أيضا لنوع من التقيم المتنوع، بينما نجد أنفسنا اليوم أمام شكل من حرب "الأشباح" الذي يمكن أم يضح ضحيتها أي فئة أو شخص أو دولة، وبشكل يساعد على قوننة العالم ضمن مفاهيم ومرجعيات "استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة". ورغم أن الوثيقة تناولت الإرهاب والدول المارقة، لكن هذا التحديد لا يستند عمليا إلى قاعدة ثابتة ويمكن أن يتطور وفق الظروف السياسية.
"الاستباقية" وتعني نقل المعركة إلى أرض العدو "وتشويش خططه ومواجهة أسوء التهديدات قبل أن تظهر". وبهذا الشكل فإن "التهديدات الناشئة" حسب وثيقة استراتيجية الأمن القومي، هي أيضا تسبح في فضاء "إطلاقي" لأن مفهوم "التهديدات الناشئة" هو خلافي حتى داخل الولايات المتحدة نفسها. وهذا ما شهده العالم في الحرب على العراق المستند إلى تهديدات متعلقة بأسلحة الدمار الشامل والصلات مع القاعدة وهو أمر لم يثبت حتى الآن.
عبر تعريف الخطر والتعامل معه بـ"استباقية" يظهر موضوع "الانفراد" بالقرار، لأن عدم وجود جغرافية محددة للعدو إضافة للطبيعة الخلافية لموضوع "التهديدات الناشئة" بين الدول، فمن الصعب التعامل مع الحرب ضمن مؤسسات دولية تحتاج لقرائن واضحة ومساحة حرب واضحة المعالم. بينما لا تبدو الحرب الاستباقية شأنا محصورا أو يمكن التعامل مع بديناميكية ودبلوماسية قادرة على حصر انتشار الحرب.
الحرب الاستباقية بأنها ميزة تستخدمها الولايات المتحدة وهو ما يستوجب قوة عسكرية مهيمنة.
الحرب الاستباقية تستند إلى أرضية "ليبرالية" تحمل في عمقها مبررات تغير النظم الحاكمة. وعلينا هنا أن نكون حذرين في فهم "الليبرالية" نتيجة ارتباطها بالنقاط السابقة، لأن الإطار الأوسع الذي يستطيع تحديد العدو دون حاجة إلى تعريفة بدقة أو تحديد الأخطار التي يحملها. فالتفكير أو حتى البحث العلمي أو حتى الحركات المدنية التي تتناول "الليبرالية" يمكن أن تصبح تهديدات ناشئة، كما يمكن خلط التعريفات وفق قياسها لـ"الليبرالية" كمقياس صارم وليس كمشروع حيوي متفاوت في مداه وفق تفاوت الثقافات الإنسانية.
إن التناقض الحاد ما بين الخلاف حول "مشروعية" الحرب الاستباقية كأداة ردع تتجاوز الإنجاز الحضاري لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، الذي يحاول قدر الإمكان الحد من النزاعات، ثم محاولة ربطها "بخلق عالم أكثر أمنا" أو بتحقيق "السلام والديمقراطية"؛ هذا التناقض حولها داخل الخطاب السياسي الأمريكي إلى حالة "تبشيرية" محتكرة للحق ولأساليب ممارسته، وأصبح العالم خاضع لخارطة جديد في التقييم ... وبالطبع فنحن لسنا أمام "محاكم تفتيش" لكننا نواجه "إيديولوجيا" بعد أن تباهي "المفكرون الليبراليون" بسقوط الإيديولوجية.
ثانيا – الحرب الاستباقية في أبعادها الشرق أوسطية: ما الذي تعنيه الحرب الاستباقية اليوم بعد تجربة عسكرية حادة في العراق؟ ربما علينا التحدث عن سوية جديدة في هذه المسألة، فنحن نحاول النظر إلى هذا المفهوم من خلال:
سعيه إلى خلق "مناخ ثقافي" إن صح التعبير قادر على النفاذ إلى العمق الاجتماعي. فالحرب الاستباقية ليست عملية عسكرية فقط بل مدعومة بفكر نظري للتدخل الديمقراطي تم التأسيس له في المراحل المبكرة لما بعد الحرب الباردة، وذلك عبر منظرين من أمثال "ناتان شارنسكي" أو حتى ريتشارد هاس، حتى ولو كان الأخير يطرح آليات "ديمقراطية" مختلفة.
أظهرت التجربة في العراق أن التعامل الليبرالي داخل "الحرب الاستباقية" يقتضي في كثير من الأحيان عدم الاكتفاء فقط بتبديل النظام السياسي بل أيضا إعادة هيكلة المجتمع والدولة. ففي العراق تم تصفية الدولة بشكل كامل ومن ثم تم البحث من مظهر حقوقي للمجتمع. وتم هذا على أساس إعادة الاعتبار للتشكيلات السابقة لمفهوم الدولة الحديث.
لم يكن من الصعب على الحرب الاستبقاية في العراق وأفغانستان إيجاد بدائل للدولة كما ظهرت في مراحل ما بعد الاستقلال (أي في أعقاب الحرب العالمية الثانية) نظرا للخلل الكبير في البنية الثقافية للمجتمع. ويبدو أن أخطر ما حدث ليس في تكريس هذه الصياغات الاجتماعية بل في إسقاطها على المفاهيم الليبرالية.
ويمكننا هنا الإشارة إلى:
1. إذا كانت الأنظمة السياسية الاستبدادية مسؤولة بشكل مباشر عن تكسير البنية الحديثة للدولة، وعن مزج مفهوم الدولة بالنظام السياسي، فإن الحرب الاستباقية تعمدت في خلق الفوضى وتكريس عمليات الانقسام الداخلي ومن ثم إعطاءه شرعية.
2. الحرب الاستباقية في نموذجها العراقي أو الأفغاني كانت في دوافعها تفكيك بنية الإرهاب، أو تخفيف الخطر. وفي المقابل فإنها قدمت نموذجها الثقافي بشكل مباشر مع أحداث الحرب. هذا النموذج كان عليه مواجهة "ثقافة" الإرهاب التي تنشرها "الحركات" أو "الدولة". وهو ليس معنيا بحجم التناقض الذي تنتجه المزاوجة بين "الحرب" و "العمل الإنساني" ... وهذه المزاوجة مسؤولة بالدرجة الأولى عن عمليات الارتداد داخل المجتمع باتجاه عمليات العنف، أو في التحول إلى النماذج التراثية حتى في تأسيس الأحزاب.
3. "الليبرالية" التي تواجه ثقافة الإرهاب تعاملت مع التنوع في الشرق الأوسط على أساس أنه عامل فاصل وحاد في تكوين الديمقراطية. ولا شك أن حجم التنوع في العراق أو سورية أو لبنان، أو حتى تركية، كون بشكل دائم أزمة سياسية على مستوى المواطنة في كل دولة، لكنه أيضا هو عامل تاريخ لم يفترض افتراقا رغم كل ما شهدته المنطقة من نزاعات وصلت إلى حد الحرب الأهلية. وهنا فإن "الليبرالية" في مخرج نظري أوجدت أشكال المحاصصة داخل تكوين الدولة. وهذا الشكل وسط ثقافة اجتماعية يتكرسها انقسامها من خلال الحدث السياسي اليومي ستكون مهددة في أي لحظة.
ربما علينا النظر اليوم إلى باقي الحلقات المفقودة في الرسم الافتراضي للشرق الأوسط الكبير، وذلك مع التأكيد أن الشرق الأوسط بحاجة للتغيير، وهو أيضا بكافة دولة ومجتمعاته يعاني من فقدان النموذج الذي يمكنه من إعادة التوازن الداخلي، لكن هذا التغير لا يمكن أن يتم على أساس "الحروب" التي أثبتت أنها تعمق الافتراق والتطرف بدلا من أن تجعل العالم أكثر أمنا.
ومن ناحية ثانية لا يمكن لليبرالية أن تكون قاعدة نظرية قابل للتطويع على نموذج التنوع داخل بلدان الشرق الأوسط، سواء عبر الحروب أو التغييب القسري للمزيج الاجتماعي والتنوع الثقافي الموجود.
ونستطيع هنا أن نطرح هذا التنوع على أنه عامل المخاطرة الاجتماعي كما أنه في نفس الوقت عامل الأمان الذي يوفر للمجتمعات استقرارها، وطبيعة التعامل مع هذا التنوع هي التي تفتح مساحات من المخاطرة والمجازفة في اعتبار "الليبرالية" حق افتراق بين عناصر المجتمع تشكل المقدمة الأساسية لظهور "التطرف" الذي يعتبر أرضا خصبة لـ"التهديدات الناشئة" ومبررا للحروب الاستباقية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن ما بين التطرف وعوامل الحرب الاستباقية علاقة جدلية كما أثبتت الحرب في العراق.
ثالثا – سورية داخل مقولة الحرب الاستباقية:
بات واضحا بعد تقرير ميلس أن "المسألة السورية" دخلت مرحلتها الحاسمة، والخطر الذي نشهده اليوم يستند أساسا إلى مساحة الزيف التي انطلقت مع انقلاب المعادلة الإقليمية، فلم يعد بالضرورة إيضاح الحقائق أو استعمال البراهين والأدلة، بل الاعتراف بأن الضغوط هي بهدف "الضغط" وهو ما يلخص الأزمة. وسواء تم التعبير عن هذا الأمر بـ"تغيير السلوك" أو غيرها من المصطلحات لكنه يوضح أن التعامل الدولي لا يريد عمليات تستند إلى التوازن الدولي القديم، بل إلى الصيغ الذي ابتدعتها الولايات المتحدة بعد نهاية الحرب الباردة، مستبدلة "استراتيجية الاحتواء" بـ"الحرب الاستباقية".
والواضح أن الولايات المتحدة تطلب من سورية أكثر من مجرد "انكفاء ذاتي"، فهي تريد أيضا حذف المرحلة الماضية برمتها، والمقصود ليس مرحلة سياسية بل مساحة زمنية من الحراك السياسي. لذلك فإن التعامل القادم ربما لا ينحصر كما تقول التحليلات بين "المواجهة" أو "الانصياع" إنما مع رؤية التغير المفترض في المواجهة السياسية لاستحقاقات سورية في المرحلة الحالية.
ربما يرى البعض أن الخيارات محدودة، بينما تظهر نظرة سوداوية عند آخرين على الأخص بعد تجربة العراق، لكن الموضوع في سورية أعقد بكثير وهو لا يحتاج إلى تحليلات سياسية على سياق ما تقدمه الصحف من سيناريوهات، فالقادم هو في النهاية حلول تقنية سريعة لتجاوز الأزمة، والأهم أنها حلول تنبع من النظر إلى سورية داخل عالم متغير، وليس الانتظار مادمنا مستهدفين في ذاتنا.
والسيناريو اليوم يذكرنا إلى حد بعيد بعمليات الاستباق السياسي (على سياق الحرب الاستباقية) الذي سبقت احتلال العراق، لكن ما يتم اليوم هو التعامل مع نتائج الفوضى في العراق وجعل قضية الاحتلال مادة تترسخ في الذاكرة السياسية، حيث يمكن اعتبارها مرجعا لدى المحللين عند الحديث عن نتائج التقرير على الصعيد السوري. وما يحدث اليوم لا يستدعي من سورية تقديم صك البراءة إنما إعادة الحسابات مع إدارة أمريكية تتعامل في الشرق الأوسط على أنه "جغرافية" حيوية لها، ومسألة الحرب والسلام بالنسبة لها خاضعة لمعايير جديدة متجذرة بعمليات تصدير العنف، تحت غطاء سياسي من "محاربة التطرف" أو جعل "العالم أكثر أمنا".
ويبدو أن نتائج تقرير ميلس لم تعد حاسمة بالنسبة للسياسة الأمريكية، لأنها وعلى لسان وزيرة خارجيتها أكدت أن هناك تحركا باتجاه الضغط على سورية، ولكن رايس ركزت على أن هذا الضغط يخص العراق. والمؤشر الأول أن تقرير لجنة التحقيق أصبح أمرا واقعا وليست الولايات المتحدة مضطرة لانتظاره فالموضوع الرئيس بالنسبة لها هو الترتيبات التي أوجدتها وعليها أن تتكرس وتستمر من العراق نحو "شرق أوسطي كبير".
المقلق اليوم على الصعيد الداخلي السوري أن الولايات المتحدة أنشأت هوامش خطرة داخل كافة المفاهيم المتعلقة بالسيادة الوطنية. فهي مصرة على تطبيق الديمقراطية ومحاكمة صدام، في وقت تحدث مجزرة حقيقة في العراق، وتهدد الديمقراطية عبر الدستور والأحزاب المتصارعة وحدة العراق ومفاهيم الدولة الحديثة ... فهل بالفعل يمكن أن تقود الديمقراطية إلى حرب أهلية؟!!
ربما لا يتعلق الحدث اليوم بالديمقراطية، بل بالسيل الجارف الذي هدد كل القيم التي نتعامل معها، وجعلنا أمام ساحة سياسية واجتماعية قادرة على الانجراف وسط ضغط أمريكي فاضح. كما تكسرت معظم النماذج التي يمكن الاستناد إليها لخلق وعي مقارن بمسألة المفاهيم السياسية ... لكن الولايات المتحدة على ما يبدو مستمرة بـ"الاستباق السياسي". وهذا التكتيك لا تجدي معه المناورة .. إنه يحتاج اجتماعيا بالدرجة الأولى لتحقيق التوازن من جديد وعدم الاكتفاء بطرح الشعارات بعد أن التبست مفاهيمها نتيجة "الفوضى البناءة".
بقلم مازن بلال
فالحرب الاستباقية ربما لا تحتاج إلى تعريف أو تداول حول مفهومها وقدرتها على صياغة عالم "أكثر أمنا". فالمسألة باتت تتعلق باستيعاب نتائجها. ففي الشرق الأوسط لا يمكن الدخول في جدل حول الاستراتيجية الدولية وسط سرعة التبدل والعنف الذي يعيد رسم الجغرافية – السياسية داخل المجتمعات، ويدفع نحو لون جديد من التطرف سيكون مادة أساسية في القراءة التي يمكن أن تقدمها "الحرب الاستباقية" لمجتمعات وصفها فوكو ياما في أوائل التسعينات بـ"المجتمعات التاريخية" معتبرا أن نهاية الحرب الباردة هي "نهاية التاريخ"... أو ربما بداية المرحلة التي تعيد تقسيم العالم خارج إطار الحداثة، ووفق رؤية "أخلاقية إطلاقية" عبر عنها لاحقا الرئيس جورج بوش من خلال جملة تصريحات أعقبت أحداث الحادي عشر من أيلول. أولا - الحرب الاستباقية خارج التعريفات:
محاولة تعريف الحرب الاستباقية في إطار عناصرها الأساسية يحيلنا مباشرة إلى خمس نقاط أساسية وردت في وثيقة "استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة":
في تعريف الخطر الذي حددته بتقاطع "الراديكالية مع التكنولوجية". فتحت أمام جغرافية ضائعة للعدو بعد سنوات من التحديد الذي قسم العالم وفرض استراتيجية الردع والاحتواء، فخلال الحرب الباردة كانت نقاط الصراع أكثر وضوحا، كما كانت "شخصية" العدو مختلفة نوعيا وخاضعة أيضا لنوع من التقيم المتنوع، بينما نجد أنفسنا اليوم أمام شكل من حرب "الأشباح" الذي يمكن أم يضح ضحيتها أي فئة أو شخص أو دولة، وبشكل يساعد على قوننة العالم ضمن مفاهيم ومرجعيات "استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة". ورغم أن الوثيقة تناولت الإرهاب والدول المارقة، لكن هذا التحديد لا يستند عمليا إلى قاعدة ثابتة ويمكن أن يتطور وفق الظروف السياسية.
"الاستباقية" وتعني نقل المعركة إلى أرض العدو "وتشويش خططه ومواجهة أسوء التهديدات قبل أن تظهر". وبهذا الشكل فإن "التهديدات الناشئة" حسب وثيقة استراتيجية الأمن القومي، هي أيضا تسبح في فضاء "إطلاقي" لأن مفهوم "التهديدات الناشئة" هو خلافي حتى داخل الولايات المتحدة نفسها. وهذا ما شهده العالم في الحرب على العراق المستند إلى تهديدات متعلقة بأسلحة الدمار الشامل والصلات مع القاعدة وهو أمر لم يثبت حتى الآن.
عبر تعريف الخطر والتعامل معه بـ"استباقية" يظهر موضوع "الانفراد" بالقرار، لأن عدم وجود جغرافية محددة للعدو إضافة للطبيعة الخلافية لموضوع "التهديدات الناشئة" بين الدول، فمن الصعب التعامل مع الحرب ضمن مؤسسات دولية تحتاج لقرائن واضحة ومساحة حرب واضحة المعالم. بينما لا تبدو الحرب الاستباقية شأنا محصورا أو يمكن التعامل مع بديناميكية ودبلوماسية قادرة على حصر انتشار الحرب.
الحرب الاستباقية بأنها ميزة تستخدمها الولايات المتحدة وهو ما يستوجب قوة عسكرية مهيمنة.
الحرب الاستباقية تستند إلى أرضية "ليبرالية" تحمل في عمقها مبررات تغير النظم الحاكمة. وعلينا هنا أن نكون حذرين في فهم "الليبرالية" نتيجة ارتباطها بالنقاط السابقة، لأن الإطار الأوسع الذي يستطيع تحديد العدو دون حاجة إلى تعريفة بدقة أو تحديد الأخطار التي يحملها. فالتفكير أو حتى البحث العلمي أو حتى الحركات المدنية التي تتناول "الليبرالية" يمكن أن تصبح تهديدات ناشئة، كما يمكن خلط التعريفات وفق قياسها لـ"الليبرالية" كمقياس صارم وليس كمشروع حيوي متفاوت في مداه وفق تفاوت الثقافات الإنسانية.
إن التناقض الحاد ما بين الخلاف حول "مشروعية" الحرب الاستباقية كأداة ردع تتجاوز الإنجاز الحضاري لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، الذي يحاول قدر الإمكان الحد من النزاعات، ثم محاولة ربطها "بخلق عالم أكثر أمنا" أو بتحقيق "السلام والديمقراطية"؛ هذا التناقض حولها داخل الخطاب السياسي الأمريكي إلى حالة "تبشيرية" محتكرة للحق ولأساليب ممارسته، وأصبح العالم خاضع لخارطة جديد في التقييم ... وبالطبع فنحن لسنا أمام "محاكم تفتيش" لكننا نواجه "إيديولوجيا" بعد أن تباهي "المفكرون الليبراليون" بسقوط الإيديولوجية.
ثانيا – الحرب الاستباقية في أبعادها الشرق أوسطية: ما الذي تعنيه الحرب الاستباقية اليوم بعد تجربة عسكرية حادة في العراق؟ ربما علينا التحدث عن سوية جديدة في هذه المسألة، فنحن نحاول النظر إلى هذا المفهوم من خلال:
سعيه إلى خلق "مناخ ثقافي" إن صح التعبير قادر على النفاذ إلى العمق الاجتماعي. فالحرب الاستباقية ليست عملية عسكرية فقط بل مدعومة بفكر نظري للتدخل الديمقراطي تم التأسيس له في المراحل المبكرة لما بعد الحرب الباردة، وذلك عبر منظرين من أمثال "ناتان شارنسكي" أو حتى ريتشارد هاس، حتى ولو كان الأخير يطرح آليات "ديمقراطية" مختلفة.
أظهرت التجربة في العراق أن التعامل الليبرالي داخل "الحرب الاستباقية" يقتضي في كثير من الأحيان عدم الاكتفاء فقط بتبديل النظام السياسي بل أيضا إعادة هيكلة المجتمع والدولة. ففي العراق تم تصفية الدولة بشكل كامل ومن ثم تم البحث من مظهر حقوقي للمجتمع. وتم هذا على أساس إعادة الاعتبار للتشكيلات السابقة لمفهوم الدولة الحديث.
لم يكن من الصعب على الحرب الاستبقاية في العراق وأفغانستان إيجاد بدائل للدولة كما ظهرت في مراحل ما بعد الاستقلال (أي في أعقاب الحرب العالمية الثانية) نظرا للخلل الكبير في البنية الثقافية للمجتمع. ويبدو أن أخطر ما حدث ليس في تكريس هذه الصياغات الاجتماعية بل في إسقاطها على المفاهيم الليبرالية.
ويمكننا هنا الإشارة إلى:
1. إذا كانت الأنظمة السياسية الاستبدادية مسؤولة بشكل مباشر عن تكسير البنية الحديثة للدولة، وعن مزج مفهوم الدولة بالنظام السياسي، فإن الحرب الاستباقية تعمدت في خلق الفوضى وتكريس عمليات الانقسام الداخلي ومن ثم إعطاءه شرعية.
2. الحرب الاستباقية في نموذجها العراقي أو الأفغاني كانت في دوافعها تفكيك بنية الإرهاب، أو تخفيف الخطر. وفي المقابل فإنها قدمت نموذجها الثقافي بشكل مباشر مع أحداث الحرب. هذا النموذج كان عليه مواجهة "ثقافة" الإرهاب التي تنشرها "الحركات" أو "الدولة". وهو ليس معنيا بحجم التناقض الذي تنتجه المزاوجة بين "الحرب" و "العمل الإنساني" ... وهذه المزاوجة مسؤولة بالدرجة الأولى عن عمليات الارتداد داخل المجتمع باتجاه عمليات العنف، أو في التحول إلى النماذج التراثية حتى في تأسيس الأحزاب.
3. "الليبرالية" التي تواجه ثقافة الإرهاب تعاملت مع التنوع في الشرق الأوسط على أساس أنه عامل فاصل وحاد في تكوين الديمقراطية. ولا شك أن حجم التنوع في العراق أو سورية أو لبنان، أو حتى تركية، كون بشكل دائم أزمة سياسية على مستوى المواطنة في كل دولة، لكنه أيضا هو عامل تاريخ لم يفترض افتراقا رغم كل ما شهدته المنطقة من نزاعات وصلت إلى حد الحرب الأهلية. وهنا فإن "الليبرالية" في مخرج نظري أوجدت أشكال المحاصصة داخل تكوين الدولة. وهذا الشكل وسط ثقافة اجتماعية يتكرسها انقسامها من خلال الحدث السياسي اليومي ستكون مهددة في أي لحظة.
ربما علينا النظر اليوم إلى باقي الحلقات المفقودة في الرسم الافتراضي للشرق الأوسط الكبير، وذلك مع التأكيد أن الشرق الأوسط بحاجة للتغيير، وهو أيضا بكافة دولة ومجتمعاته يعاني من فقدان النموذج الذي يمكنه من إعادة التوازن الداخلي، لكن هذا التغير لا يمكن أن يتم على أساس "الحروب" التي أثبتت أنها تعمق الافتراق والتطرف بدلا من أن تجعل العالم أكثر أمنا.
ومن ناحية ثانية لا يمكن لليبرالية أن تكون قاعدة نظرية قابل للتطويع على نموذج التنوع داخل بلدان الشرق الأوسط، سواء عبر الحروب أو التغييب القسري للمزيج الاجتماعي والتنوع الثقافي الموجود.
ونستطيع هنا أن نطرح هذا التنوع على أنه عامل المخاطرة الاجتماعي كما أنه في نفس الوقت عامل الأمان الذي يوفر للمجتمعات استقرارها، وطبيعة التعامل مع هذا التنوع هي التي تفتح مساحات من المخاطرة والمجازفة في اعتبار "الليبرالية" حق افتراق بين عناصر المجتمع تشكل المقدمة الأساسية لظهور "التطرف" الذي يعتبر أرضا خصبة لـ"التهديدات الناشئة" ومبررا للحروب الاستباقية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن ما بين التطرف وعوامل الحرب الاستباقية علاقة جدلية كما أثبتت الحرب في العراق.
ثالثا – سورية داخل مقولة الحرب الاستباقية:
بات واضحا بعد تقرير ميلس أن "المسألة السورية" دخلت مرحلتها الحاسمة، والخطر الذي نشهده اليوم يستند أساسا إلى مساحة الزيف التي انطلقت مع انقلاب المعادلة الإقليمية، فلم يعد بالضرورة إيضاح الحقائق أو استعمال البراهين والأدلة، بل الاعتراف بأن الضغوط هي بهدف "الضغط" وهو ما يلخص الأزمة. وسواء تم التعبير عن هذا الأمر بـ"تغيير السلوك" أو غيرها من المصطلحات لكنه يوضح أن التعامل الدولي لا يريد عمليات تستند إلى التوازن الدولي القديم، بل إلى الصيغ الذي ابتدعتها الولايات المتحدة بعد نهاية الحرب الباردة، مستبدلة "استراتيجية الاحتواء" بـ"الحرب الاستباقية".
والواضح أن الولايات المتحدة تطلب من سورية أكثر من مجرد "انكفاء ذاتي"، فهي تريد أيضا حذف المرحلة الماضية برمتها، والمقصود ليس مرحلة سياسية بل مساحة زمنية من الحراك السياسي. لذلك فإن التعامل القادم ربما لا ينحصر كما تقول التحليلات بين "المواجهة" أو "الانصياع" إنما مع رؤية التغير المفترض في المواجهة السياسية لاستحقاقات سورية في المرحلة الحالية.
ربما يرى البعض أن الخيارات محدودة، بينما تظهر نظرة سوداوية عند آخرين على الأخص بعد تجربة العراق، لكن الموضوع في سورية أعقد بكثير وهو لا يحتاج إلى تحليلات سياسية على سياق ما تقدمه الصحف من سيناريوهات، فالقادم هو في النهاية حلول تقنية سريعة لتجاوز الأزمة، والأهم أنها حلول تنبع من النظر إلى سورية داخل عالم متغير، وليس الانتظار مادمنا مستهدفين في ذاتنا.
والسيناريو اليوم يذكرنا إلى حد بعيد بعمليات الاستباق السياسي (على سياق الحرب الاستباقية) الذي سبقت احتلال العراق، لكن ما يتم اليوم هو التعامل مع نتائج الفوضى في العراق وجعل قضية الاحتلال مادة تترسخ في الذاكرة السياسية، حيث يمكن اعتبارها مرجعا لدى المحللين عند الحديث عن نتائج التقرير على الصعيد السوري. وما يحدث اليوم لا يستدعي من سورية تقديم صك البراءة إنما إعادة الحسابات مع إدارة أمريكية تتعامل في الشرق الأوسط على أنه "جغرافية" حيوية لها، ومسألة الحرب والسلام بالنسبة لها خاضعة لمعايير جديدة متجذرة بعمليات تصدير العنف، تحت غطاء سياسي من "محاربة التطرف" أو جعل "العالم أكثر أمنا".
ويبدو أن نتائج تقرير ميلس لم تعد حاسمة بالنسبة للسياسة الأمريكية، لأنها وعلى لسان وزيرة خارجيتها أكدت أن هناك تحركا باتجاه الضغط على سورية، ولكن رايس ركزت على أن هذا الضغط يخص العراق. والمؤشر الأول أن تقرير لجنة التحقيق أصبح أمرا واقعا وليست الولايات المتحدة مضطرة لانتظاره فالموضوع الرئيس بالنسبة لها هو الترتيبات التي أوجدتها وعليها أن تتكرس وتستمر من العراق نحو "شرق أوسطي كبير".
المقلق اليوم على الصعيد الداخلي السوري أن الولايات المتحدة أنشأت هوامش خطرة داخل كافة المفاهيم المتعلقة بالسيادة الوطنية. فهي مصرة على تطبيق الديمقراطية ومحاكمة صدام، في وقت تحدث مجزرة حقيقة في العراق، وتهدد الديمقراطية عبر الدستور والأحزاب المتصارعة وحدة العراق ومفاهيم الدولة الحديثة ... فهل بالفعل يمكن أن تقود الديمقراطية إلى حرب أهلية؟!!
ربما لا يتعلق الحدث اليوم بالديمقراطية، بل بالسيل الجارف الذي هدد كل القيم التي نتعامل معها، وجعلنا أمام ساحة سياسية واجتماعية قادرة على الانجراف وسط ضغط أمريكي فاضح. كما تكسرت معظم النماذج التي يمكن الاستناد إليها لخلق وعي مقارن بمسألة المفاهيم السياسية ... لكن الولايات المتحدة على ما يبدو مستمرة بـ"الاستباق السياسي". وهذا التكتيك لا تجدي معه المناورة .. إنه يحتاج اجتماعيا بالدرجة الأولى لتحقيق التوازن من جديد وعدم الاكتفاء بطرح الشعارات بعد أن التبست مفاهيمها نتيجة "الفوضى البناءة".
بقلم مازن بلال