قصة تواجد القوات الجوية الليبية في السودان

Soldier LY

عضو
إنضم
9 أكتوبر 2020
المشاركات
818
التفاعل
1,370 12 0
الدولة
Libya
قصة تواجد القوات الجوية الليبية بالسودان
_______
#الحلقة(1)

سنة 1988 كنت أحد طياري سرب 1060 بقاعدة خليج البمبة ــ قاعدة الشهيد علي الرايس ــ ، كنت طيار مقاتل عمليات نهاري / ليلي على الطائرة ميغ 23 المقاتلة الروسية .
بعد هبوطي أنا و زميلي الطيار " موسى القذافي " من رحلة استطلاع مسلح بالقرب من حاملة الطائرات الأميركية و التي كانت تحط على مشارف القاعدة خارج المياه الإقليمية ، .
عدت الي غرفتي و قمت بتغيير ملابس الطيران و ذهبت إلى النادي والذي كان ملحق به المطعم ، لتناول وجبة الغذاء ، بعد وصولي إلى النادي وجدت زميلي " موسى " الذي أخبرني بهبوط طائرة خاصة بها مبعوث من القيادة و يريدون عدد اثنين من الطيارين للذهاب للسودان لقتال حركة التمرد بجنوب السودان بقيادة جون قرنق ، و أن أمر الذهاب بالرغبة ، وفي حال عدم إستجابة أحد . سيكون هناك اختيار بالأوامر العسكرية .
وطلب مني ألاّ أوافق خوفًا على حياتي ، و لأن الأمر هناك خطير ، و الحرب مشتعلة هناك ، فطمأنته بأنني لن اذهب للقتال .
جلست الى الطاولة وأحضُر طعام الغذاء الخاص بي ، و قبل أن أتناول اللقمة الأولى رنّ جرس الهاتف ، و بعد أن ردّ على الهاتف أحد العاملين بالمطعم نادوني :
ـــ افندي " سليمان " المكالمة لك ..
قمت للرد على الهاتف ، و كان على الخط آمر السرب المكلف رحمة الله عليه " محمد راغب " ، و قال لي :
ـــ افندي " سليمان " القيادة أرسلت مبعوثًا برسالة فحواها الرغبة بعدد اثنين من الطيارين للذهاب للسودان ، و أنا رشحت نفسي ، و أريدك أن تذهب معي .. ما رأيك ؟
فلم أجد بدٌ من الموافقة رغم عدم رغبتي ، أحسست أنني في وضع لا خيار لي فيه الا الموافقة ، فقلت له :
ـــ موافق .
نعم وافقت دون تفكير ..
فقال لي :
ـــ هيا ..
ـــ شنو هيا ؟
فقال :
ـــ سنذهب الآن .
ـــ ولكن جواز سفري ليس معي ، و أريد رؤية والدتي ..
كانت والدتي بمثابة الأم و الأب معًا ، حيث أن والدي توفى وأنا صغير السن .
فابلغني بأن طلبي مُجاب ، وسيتم نقلنا جوا بطائرة خاصة إلى مدينة بنغازي مقر إقامتي الأصلي . وفعلا خرجت دون أن أتناول الغذاء و حزمت ملابس الطيران و الخوذة و بدلة الضغط و طوق النجاة و جميع التجهيزات و ودعت أصدقائي و صعدنا طائرة الفالكون الخاصة و التي تتكون من غرفة جلوس لشخصين و غرفة نوم ، كانت طائرة مريحة وتختلف كثيرًا عن جميع الطائرات ، لحظات و حطت بنا الطائرة في مطار بنينا ، فتح الباب وجدنا في استقبلنا أحدهم وكان مكلفا من القيادة ، أعطانا مفاتيح سيارة هوندا و قال اذهبوا لإحضار جوازات السفر و رؤية أهلكم .
استلم زميلي الرائد " محمد راغب " و ركبت بجانبه و انطلقنا بالسيارة ، فأوصلني الى منزلي أولا وذهب لبيته ، في بيتي أخذت جواز السفر الخاص بي ، و حتى لا اشغل الوالدة اضطررت للكذب عليها ، فقد قلت لها اننا ذاهبون الى السودان لتدريب طيارين هناك .
بعد توديع الاسرة و اخذ احتياجاتي أتى زميلي " محمد " و ذهبنا الى المطار و كانت الطائرة في انتظارنا ، ركبنا و انطلقت بنا إلى مطار الخرطوم ، و كانت الأجواء في الطائرة رائعة جدًا حيث أنها كانت تخص أحد المسؤولين الكبار ، كان بها جهاز تلفاز و جميع ما لذا وطاب من الأكل والذي لم يكن متوفرًا في ليبيا تلك الفترة مثل المكسرات و الفواكه ... الخ . و حطت بنا الطائرة دون أن نشعر بالمسافة ، و هناك كان في انتظارنا شخصيات كبيرة من الخارجية و الاستخبارات السودانية ، وتم تسليمنا سيارة نوع مرسيدس مع سائق خاص ، و نقلنا إلى فندق الهلتون ، وجدنا هناك أيضا من استقبلنا و جهز لنا الإقامة مع توصيات خاصة لمدير الفندق ، كان الفندق جميل جدًا ، و استمتعنا بالإقامة و كان السائق يقوم بإيصالنا إلى حيث ما نريد .
ذهبنا الى قاعدة السيدي الجوية والتي لا تبعد كثير عن المطار ، بل تشارك المطار المدني نفس المهبط ، جلسنا مع طياري الميغ 23 هناك ، وكانوا من الذين سبق وأن تحصلوا على دورات تدريبيه بقاعدة بنينا ، ولكن اتضح لنا أن منهم من اسقطت طائرته و توفى والباقي منهم لم يكن لديهم رغبة في القتال و كل تحجج بحجة . كان علينا الذهاب لفحص الطائرات التي كانت قد منحتها ليبيا هدية الى السودان ، وكانت في احسن حال ، حيث انها عادت مؤخرا من الصيانة " العمرة " بالاتحاد السوفيتي ، ــ والعمرة مصطلح يعني صيانة معينه لكل عدد ساعات طيران ــ .
ونفذنا عدد من الطلعات القتالية على عدة مناطق ، وبعد كل طلعة نعود للفندق . حينها كان الملحق العسكري في السودان العقيد " جبريل الوداوي " ، الذي كان هو أيضا في استقبالنا في مطار الخرطوم..

يتبع في الحلقة 2 ..
______
نقلا عن الطيار :
Suliman Elshtiti
 
قصة تواجد القوات الجوية الليبية بالسودان
_______
#الحلقة 2

بتاريخ 10 ديسمبر 1988 ، تم إبلاغنا أن هناك مدينة تسمى مدينة نصر محاصرة ، وهي بالقرب من مدينة جوبا أقصى الجنوب ، و مدينة جوبا تعتبر عاصمة الجنوب ، وفي حال استيلاء جون قرنق على مدينة نصر ستسقط مدينة جوبا ، و بالتالي علينا تكثيف الجهود بتركيز الضربات على القوات التي تحاصر مدينة نصر .
وحيث أن مدينة نصر تبعد تقريبا أكثر من 1000 كيلومتر ، فإنه من الأفضل الذهاب و التمركز في مدينة جوبا لقرب المسافة . و تم الاتفاق على هذا ، و قررنا الذهاب الى مدينة جوبا في اليوم التالي 11 ديسمبر 1988 الذي كان يوافق يوم الأحد ..
بعد الانتهاء من الاجتماع ، جلسنا أنا و زميلي الرائد طيار " محمد راغب " بمكتب رائد ملاح سوداني لا أتذكر اسمه الآن ، وكان متخصص في الملاحة الجوية ، و قمنا بتجهيز الخطة Flight plan ليوم الغد ، وهو الموعد المتفق عليه ، ومن ثم اشرفنا على تجهيز الطائرات حيث كان لكل منا طائرته منفردًا ــ طيران تشكيل ــ . وبعدها عدنا الى الفندق لتناول طعام الغذاء ، وفي المساء كنّا بضيافة رجل الأعمال السعودي " حيدر وهبي " حيث انني تعرفت عليه هناك أثناء ممارسة لعبتي المفضلة البلياردو ، وكان يفاوض على شراء مطعم النيل الأزرق الذي يقع على ضفاف النيل ، و بعد وجبة دسمة و سهرة ممتعة ، كانت في انتظارنا رحلة الغد .
يوم الأحد نهضنا باكرًا ، أخذنا تجهيزات الطيران بعد تناول وجبة الإفطار ركبنا السيارة باتجاه قاعدة السيدي ، وبعد طلب تقرير الإرصاد الجوي لمعرفة حالة الطقس ، اتضح أن الطقس سيئ وأنه لا يمكن الطيران لوجود سحاب و ضباب كثيف ، و انتظرنا ، وكان طيلة فترة الانتظار اتصالات من القيادة السودانية بتسريع وصولنا إلى هناك بسبب زيادة الضغط على مدينة نصر و كذلك على مدينة جوبا التي بدأ يشتد عليها الحصار ، ولكننا رفضنا الإقلاع بسبب سوء الأحوال الجوية و شبه إنعدام للأجهزة الملاحية المتعارف عليها لطيران الملاحة الجوية مثل الــ V.O.R و الــ I.L.S و الــ R.S.P.N و الرادارات الارضية . كان الطيران بالطرق البدائية بعدادات الاتجاه و الوقت و السرعة و جهاز N.D.B .
انتظرنا ما يقارب الساعة و النصف ، و بعدها جيء إلينا برصدة جوية تشير إلى تحسّن الجو ، رغم أن تغير الجو بهذه السرعة أمر غريب !! إلا اننا لم نشك في ذلك و قررنا الإقلاع ، و كانت جميع الأمور تسير بشكل ممتاز ، اقلعنا بتشكيل جميل جدًا و زاوية اقلاع كبيرة بشكل جعل كل من هم في الأسفل يقفون لتحيتنا و الاستمتاع بالمنظر الرائع .
اتخذنا اتجاه الرحلة و تسارعنا الى 800 كيلومتر / في الساعة . و ارتفاع 27 ألف قدم ، كان الجو رائعًا و الطائرات في حالة ممتازة ، وكانت من اجمل الرحلات في حياتي ، قطعنا نصف المسافة وهي 600 كيلو متر وصلنا مدينة " ملاكال " بدأت تظهر سحب متقطعة ، و هذا يمثل تحدي لأننا كما قلت نطير دون وجود اجهزة ملاحية ، و كنا معتمدين على العلامات الأرضية Ground Orention وتوجس الرائد " محمد " خيفة ، حيث أنه كان هو قائد التشكيل و هو المسؤول عن اتخاذ القرارات ، فابلغني عن طريق الراديو بمخاوفه ، وأنه اذا ازداد السحاب و حجب الرؤية فإننا سنواجه مشكلة ، و سألني إذ كنت أفضل العودة ؟ فأخبرته بأن المسافة المتبقية 600 كيلومتر ، وأنه وفقا للرصدة الجوية فإن مدينة جوبا اجوائها جيدة .
وهكذا قررنا الاستمرار .
ولكن ازداد الأمر سوءًا ، وأصبحنا نحلق فوق فرشة بيضاء من السحاب ، على ارتفاع 11 ألف قدم تقريبًا . كان من المفترض أن يؤشر مؤشر جهاز الــ N.D.B . عند اقتربنا من المطار ، ولكنه لم يفعل ، و كنا نسمع أغاني و موسيقى إفريقية في الراديو ، ــ علمت بعد أسري أنه تشويش من قوات جون قرنق ــ .
أستمر طيراننا ، و قبل وصولنا بخمس دقائق قررنا النزول إلى ارتفاع تحت السحاب حتى نتمكن من رؤية المطار و العلامات الأرضية ، و فعلا اتخذنا الإجراءات المتمثلة في توحيد و تثبيت السرعة ، تثبيت سرعة النزول العمودية ، وأن اتخذ أنا فارق خمس درجات يمينا بما أنني قائد الطائرة الثانية حتى لا اصطدم بالطائرة الأولى فترة اختراق السحاب ، و الحمد لله لم تكن الطبقة كثيفة و اخترقنا السحاب بنجاح و التحمتُ في تشكيل قريب مع قائد التشكيل ، ولكن للأسف لم نرَ شيئًا فالضباب كان كثيفًا جدًا .
حاولنا الاتصال ببرج المراقبة ، و أستطعنا التواصل معه ، و أخبرونا انهم يستمعون لصوت الطائرات و لكنهم لا يستطيعون رؤيتنا بسبب الضباب الكثيف ، قررنا أن ننزل إلى ارتفاع أقل حتى تتضح الرؤيا ، وفجأة سحب قائد التشكيل طائرته للأعلى و تبعته أنا كذلك دون أن أعرف السبب ، وقبل أن أسأله عن السبب سمعته يبلغ البرج بأننا نواجه رماية أرضية ، وعندما وجهت نظري يمينا إذ بي أشاهد صاروخ ينفجر ، و لكن بحمد لله مداه أقل من ارتفاعنا .
.
يتبع في الحلقة 3 ..
______
نقلا عن الطيار :
Suliman Elshtiti
 
قصة تواجد القوات الجوية الليبية بالسودان
______
#الحلقة 3

طيلة الفترة السابقة لم أشعر بأي خوف ، ولكن من هذه اللحظة بدأت أشعر بالخطر ، بل و قرب الموت ، و من تلك اللحظة بدأت أقرأ آية الكرسي . وكررت قراءتها دون انقطاع . لقد كنّا نواجه مشكلة مركّبة ، المطار غير مُشاهد بسبب الضباب ، و إذا حاولنا النزول أكثر نكون في مجال رماية الصواريخ الأرضية ، والوقود لا يكفي للعودة ، وكان أقرب مطار يبعد 600 كيلومتر . وهو مطار مدينة " ملاكال " ، وقوات جون قرنق تحيط بالمكان !
لا يوجد وقت للتفكير ، فقط كان الوقت لاتخاذ القرار ، و فعلا اتخذنا القرار وهو العودة لأقصى مسافة باتجاه الشمال حتى نبتعد عن القوات المعادية و نقفز بالمظلات هناك ، كان قرارًا صعبًا ، ولكن لا يوجد أفضل منه .
قمنا بالإجراءات اللازمة لهذا الظرف وهي الطيران بسرعة اقتصادية ، وتقديم أجنحة الطائرة إلى أقصي وضعيه للأمام . اتفقنا عند نفاذ الوقود أن أقفز أنا أولا ، و من ثم يقفز بعدي زميلي حتى يساعد أحدنا الآخر .
و استمرينا في الطيران ، وخلال هذه الفترة كان يمرّ بذاكرتي جميع من تعرّفت عليهم ، وكذلك جميع الأفعال المشينة التي فعلتها ، و خطر ببالي كل من كنت مدينًا له ولو بدرهم واحد ، أمورًا أعتقدت أنني نسيتها ظهرت أمامي في شريط متسلسل ومتتالي ، ظننت للوهلة الأولى أنها مراجعة تحدث قبل لحظات الموت !
كانت الطائرة مزودة بعددٍ من خزانات الوقود ، و يوجد مؤشر ومصباح يضيء عند نفاد كل خزان ، وكانت المصابيح تضيء تباعًا بشكل مقلق جدًا ، والذي زاد الأمر سوءًا وجود لامبة اسمها اللمبة الرئيسية وهي في مكان مقابل الطيار مباشرة و على ارتفاع نظر العين و كانت تضيء مع جميع لمبات الطواري . و من شدة الانزعاج منها قمت بكسر الغطاء عنها و ازالة اللمبة حتى أخفف من التوتر الذي يكتنفني ، و كنت أتابع انتهاء الوقود في آخر خزان .
و لا أدري هل من سوء حظي أو العكس ، فقد كنت رقم 2 في التشكيل ، و الطائرة رقم 2 هي من تفقد أكثر نسبة من الوقود بسبب الحركة للأمام و الخلف للحفاظ على التشكيل ، و أثناء مراقبة مخزون آخر قطرات من الوقود و نحن نحلق فوق طبقة من السحاب ، فإذا بي ــ ومن خلال فتحه في السحاب ــ اشاهد طريق ترابي ، فأردت إبلاغ زميلي " محمد " عن إمكانية الهبوط ، في هذه الأثناء انطفأ محرك طائرتي ، فأبلغت زميلي بأن محرك طائرتي انطفأ و سأحاول الهبوط بالطائرة ، وحيث أنه لازال يملك القليل من الوقود ، قال لي :
ـــ حاول إن أستطعت .
ولم أكن أنتظر جوابه في الواقع .
وأخبرني بأنه سيستمر ولا يرغب في الهبوط ، وراودتني شكوك حينها ، ولكن لا مجال للتفكير فقد اتخذت القرار ولا يوجد لدي الكثير من الخيارات ، إمّا القفز بالكرسي ، أو الهبوط بالطائرة دون محرك ، وحيث أنني فوق منطقة عمليات ، و في حال الهبوط بالمضلة يكون احتمال إصابتها كبير جدًا ، و طريقة الموت في هذه الحالة ستكون أصعب .
نعم .. لقد كنت أفكر في الموت ، ولكن بطريقه أسهل !
الثواني تمرّ ولم تفارق لساني آية الكرسي أبدًا ، إلا حين التحدث مع زميلي . قمت بالتأكد من سرعة الطائرة المسموح بها لإنزال العجلات و سحبت مقبض العجلات للأسفل ، و سمعت صوت العجلات و هي تنزل و أنطفأت ثلاث لمبات حمراء ، و أضاءت بدلها ثلاث لمبات خضراء في إشارة ألى أن العجلات في وضعية نزول مؤمّنة ، وجهت الطائرة من خلال فتحت السحاب و اتخذت زاوية ميلان حادّة و زاوية إنحدار كبيرة جدًا ، و بدأت النزول ، كنت أعلم أن الطائرة ميغ 23 غير مصرح لها الهبوط بها بدون محرك يعمل ، و ذلك لثقل وزنها الذي يبلغ 18800 كيلو جرام . ولذلك حاولت الهبوط بسرعة كبيرة جدًا ثلاث أضعاف سرعة الهبوط الاعتيادية و قد كانت سرعة الطائرة على ارتفاع خمسون متر 600 كيلومتر في الساعة ، لم أكن أسمع شيئًا ولا أرى شيئًا سوى مكان الهبوط ، و كان يحاذيني من اليسار نهر النيل ، و يميني غابة كثيفة ، و شاهدت ناس تجري باتجاه الطائرة و لم أكن أعلم أهم من جيش السودان ؟ أم من حركة جون قرنق ؟ لا وقت للتفكير حاولت المناورة و الهبوط بالطائرة .
و الحمد لله هبطت الطائرة أخيرًا ، ولكن السرعة كانت كبيرة جدًا ، لا أدري كم كانت بالضبط ، ولكن عندما قمت بالضغط على زر مضلة فرملة الطائرة Drag shut انفصلت مباشرة ، حيث أنها كانت مبرمجة على الانفصال عندما تكون السرعة تزيد عن 330 كيلومتر في الساعة . و لكم أن تتخيلوا هذه السرعة على طريق ترابي !!
لم يكن بمقدوري إيقاف الطائرة بسبب السرعة الكبيرة رغم استخدام الفرملة اليدوية ، ولكن إذا بحفرة وقعت بها العجلة اليسرى أدّت إلى حدوث انكسار بالعجلة و انحرفت الطائرة يسارًا نحو النهر و لم تقف إلا بعد دخولها حوالي عشرة أمتار داخل مياه النهر .
عندها توقفت الطائرة بسبب الماء ، وبدأت أستمع إلى صوت الرائد " محمد " وهو يناديني :
ـــ " سليمان " أين أنت ؟
وظني إنه كان يناديني منذ فترة ، لكنني لم أكن أسمعه ، فقلت له :
ـــ أنا هبطت بسلام .
قلت بسلام ، وأنا غير مصدق ذلك ، تفقدت نفسي ألا توجد إصابات ، ولم أجد شيء ظاهر بحمد الله ، إلا جرح صغير جدًا أثناء محاولة الضغط على زر مضلة الفرملة و الذي كان محمي بغطاء حتى لا تخرج عند الضغط عليه بالخطأ . وأخبرته :
ـــ أنني بخير ، و ماذا عنك ؟
فقد كان يطير طيرانًا شراعيًا ، أي أن محرك طائرته توقف كذلك .
وهذه كانت آخر مكالمة معه ــ رحمة الله عليه ــ حيث عرفت فيما بعد أنه مرّ على آخر نقطة للعدو ، و هناك أصيبت طائرته بصاروخ أرض جو ، و قفز بالكرسي و بعد هبوطه بالمضلة حاول الاختباء في الغابة ، و وجدته فرق البحث التابعة لقوات جون قرنق ، وجدته للأسف و قد هاجمته كلاب بريّة و كان في الرمق الأخير ، و نقل إلى مستشفى هناك ، و توفى اليوم التالي إثر اصاباته البليغة ، اللهم أغفر له وأرحمه .
شاهدت أجزاء من الطائرة أتو بها ، و لم يسمح لي بالذهاب إليه حين كان يحتضر ، أو معرفة أين دُفن يومها ، وظني أن سبب المنع عدم وجود طريق آمن ، حيث كانت معظم الطرق في تلك السنة غارقة بمياه الفيضان .

يتبع في الحلقة 04 ..
______
نقلا عن الطيار :
Suliman Elshtiti
 
قصة تواجد القوات الجوية الليبية بالسودان
_______
#الحلقة 4

بعد أن استقرت الطائرة في الماء ، لم يعد هناك وقت للتفكير ، كانت الأمور تتسارع ، و التأخير قد يؤدي إلى الهلاك .
على عجل قمت بإطفاء المفاتيح ، وفك الأحزمة التي تحيط بي من كل جانب ، و قمت بفتح غطاء الكابين و الذي يفتح عن طريق ضغط الهواء ، و الحمد لله فتح الغطاء و شعرت بأن الطائرة تغرق ، قفزت من الطائرة مع التمسك بجانب الطائرة ، ولم تكن المياه عميقة ، حيث كان منسوبها يصل إلى مستوى صدري ، خرجت مسرعًا باتجاه اليابسة ، لم يكن هناك أصوات إلا صوت المحرك الكهربائي الذي لم أطفئ مفتاحه من ضمن المفاتيح . وصلت إلى اليابسة أخذت غرفة ماء بيدي من النهر حيث كنت أشعر بعطش شديد .
كانت اللحظات تمرّ دون أن أتوقف عن قراءة آية الكرسي . وقفت لاتخاذ القرار وكيف أتصرف ؟
نظرت إلى الغابة و تخيلت الحيوانات المفترسة و المصير الذي ينتظرني في هذا الخيار . و نظرت يمينًا و شمالًا، رأيت أشخاص يهرولون باتجاهي من مسافة بعيدة ، فاخترتُ أن أموت على يد البشر ، وأحسست أن هذا أقل عنفًا .
قمت بردم الخريطة على حافة النهر ، و قمت بمسح جهاز flight computer و أتخذت قراري بأنني سأنتظر ولن أهرب إلى الغابة .
و فعلا وصل السكان المحليون ، ولم يكن بينهم عسكري . لقد كان منظر لا ينسى بالنسبة لي ، كان منظرًا مذهلًا لنساء و رجال منهم عُراة ، و منهم شبه عُراة يحملون سهام و يضعون على رؤوسهم ريش ، ووجوههم بها سمات ــ علامات كالخدوش ــ على الجباه ، يوجد بأذرعهم أساور من ناب الفيل ، و من النحاس ، و منهم من يضع قرون فوق رأسه !
وقفوا أمامي في شكل نصف دائرة و خلفي النهر ، و بدأوا يتحدثون معي بلغة لا أعرفها ، ولكنني فهمت انهم يريدون مني أن أرفع يدي إلى الأعلى فقمت برفع يدي ، و بدأوا الغناء و تحريك الأسهم في حركات شبه هجومية و أنا متسمّر في مكاني و يداي إلى الأعلى و أنتظر مصيري ، كنت أقراء آية الكرسي في سري ، و كنت أتخيل كيفية الموت في هذه الحرب .
كم هو مؤلم ألا تعرف كيف ستموت !
كنت أفكر أنه في حال رأيت أحدا لديه مسدس أو بندقية فسأقوم بمهاجمته حتى يتم قتلي سريعًا بسلاح غير الحراب .
الوقت يمرّ وهم يغنون وأنا مُرهق من الأحداث التي مرّت بي و كذلك من الإستمرار في رفع يدي إلى الأعلى .
و في كل مرة أحاول خفض يداي يقومون بزمجرة معينة و ينظرون إليّ بغضب ، فاضطر لرفها ولكني لم أستطع الصمود لوقت طويل ، فقررت إنزالهما ولم ألقي بالًا لتهديدهم ، بل قمت بخلع الخوذة و رميتها بعيدًا ، و خلعت بدلة الضغط ، و خلعت طوق النجاة life jacet و قمت بإفراغ محتويات جيوبي من علبة سجائر مالبورو و ولاعة و كتاب صغير لحالات الطوارئ ، و خلعت ساعتي و أشرت لهم بأنه لا يوجد لديّ شيء آخر .
عندما لاحظوا أنني فقدت أعصابي ولم أعد أهتم لتهديدهم ، و أنه أصابني الإعياء و التعب و ليس بحوزتي شيء قد يضرهم استسلموا للواقع .
مرّت لحظات .. و جاءت مجموعة تهرول و ترتدي قيافة عسكرية و معهم أجهزة اتصال ، قاموا بتفريق الأهالي و قاموا بتوجيه البنادق نحوي ، و أفسحوا لي الطريق ، وبالإشارة فهمت انهم يريدون أن أرفع يداي للأعلى و تقدم أحدهم بحذر كبير و قام بتفتيشي ، و من ثم أشاروا لي بالتقدم إلى الأمام و سرنا حتى وصلنا إلى فناء به كوخ " قطية " ــ هكذا يسمونه ــ ، وهو كوخ مصنوع من القش و الطين ، عندما نظرت داخل الفناء لاحظت وجود مكان إيقاد النار و بجانبه جذع شجرة ميتة ، فخطر ببالي فيلم أميركي سبق أن شاهدته لطيار أميركي تسقط به الطائرة في أدغال افريقيا ، وقاموا بربطه على جذع شجرة وأوقدوا نارًا .
تخيلت ذلك و توقعت نفس المصير .
تم توجيهي إلى ذلك الكوخ ، و عندما دخلت كانت الرائحة كريهة جدًا ، و كان هناك سرير بالي مرقع بجميع أنواع و ألوان الحبال ، و لا يوجد عليه أي نوع من المفروشات ، وأشاروا لي بالجلوس ، فجلست بدأت أتألم من قرص البق ، و البرغوث الذي كان مختبئ في السرير ، ولكن كانت ألم الأسر و المصير المنتظر أكبر من ألم البق و الحشرات ، كنت أشعر أن شعر رأسي اصبح ابيض ــ شيب ــ و أشعر بوجود طبقه من حجر الصوان فوق دماغي تمنعني من التفكير ، لم أعد استطيع التفكير ، ذهن مشوش بطريقه جعلتني قد أرتكب أخطاء أو أفعال كبيرة ، إلى درجة انه خطرت ببالي خطة غبية جدًا ، وهي أنه وأثناء وجودي في مدينة فرونزا / بشكيك بقرقيزيا في الاتحاد السوفيتي أثناء التدريب على قيادة طائرة الميغ ، كان معنا هناك طيار أثيوبي يدعى " توماس " ، وكان بيني و بينه شبه كبير إلى درجة أن أصدقائي كانوا يقولون لي أنه أخوك ــ من باب التسلية ــ . أردت إبلاغهم بأنني أثيوبي وأن اسمي " توماس " و دخلت السودان بالخطأ .
لهذا الحد توقف التفكير لدي !

يتبع في الحلقة 05 ..
______
نقلا عن الطيار :
Suliman Elshtiti
 
قصة تواجد القوات الجوية الليبية بالسودان
_______
#الحلقة 5

دخل ثلاث رجال يرتدون زيّا عسكريّا ، بدأ أحدهم بسؤالي باللغة الإنجليزية :
ـــ هل تتحدث الإنجليزية ؟
فأشرت له بالنفي ، رغبة مني في كسب الوقت كي أستطيع التفكير ، ولكنه قطع عليّ ذلك الرجل الآخر الذي بدأ يقرأ شعار السرب الذي كان يزين صدري الموضوع على بدلة الطيران ، و تلى الآتي وهو يشير الى الشعار :
ـــ الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية ، قاعدة بنينا الجوية ، سرب 1060 . أكيد تتحدث العربية ؟
قالها بلغة استهزاء . الحمد لله انني لم أبُح بما كان يجول في بالي من كذبه أنني اثيوبي .
وبعد أن استعدت أنفاسي قلت له :
ـــ نعم ، أنا أتكلم العربية .
فقال لي :
ـــ هل تعرف جون قرنق ؟
هنا تبدد أي أمل بأن أكون لدى الجيش السوداني ، و تأكدت أنني أسير لدى العدو الذي أتيت لقتاله .
وأستمر استجوابي ، وحيث أنهم عرفوا أنني من ليبيا و تحديدا اتبع سرب 1060 . فتذكرت ما قلته لوالدتي بأننا ذاهبون للسودان لتدريب طيارين . فأخبرتهم :
ـــ أننا من ليبيا و أتينا لتدريب طيارين ، و نتيجة لتعطل الأجهزة الملاحية فقدنا اتجاه المطار .
قاموا بتسجيل اسمي و اسم زميلي ، و نوع الطائرة و قاموا بإرسال هذه المعلومات الى قيادتهم و التي بدورها نقلتها بشكل ما إلى إذاعة BBC . أما إذاعة السودان / أم درمان فقد أعلنت بأن خبيرين ليبيين اختفت طائرتيهما جنوب السودان !
ابلغوني بأننا سنذهب الى معسكر قريب . تحركنا داخل الغابة في طريق هو اشبه بممر بين الاشجار ، و كان الوقت بعد المغرب و السماء بدأت تظلم المكان مخيف و الجو مشحون برائحة الموت و إعداد كبيرة جدًا من البعوض بشكل لا يمكن وصفه و لا يمكن التعايش معه الى درجة أنني حين كنت امسح على وجهي تتلطخ يدي بالدماء ، وأثناء مسيرنا في الغابة كانت هناك حشرات تضيء وعندما شاهدتها لأول مرة كنت اعتقد انهم مجموعات تدخن سجائر ! كنا نمر على عشش " قطيات " من حين لآخر ، و أخذ مني الأعياء و التعب مأخذًا ، و كذلك حلقي جف من العطش و الجوع ، طلبت منهم بعض الماء توقفوا أمام احدى العشش و أتوا لي بقِدر كبير جدًا به قليل من الماء شربت منه ، وصلنا المشي ما يقارب الخمس أو ست ساعات ، وبعد أن وصلنا الي المكان أمروني بالجلوس على عرف شجرة ساقط على الأرض وهنا بدأ البعوض بمهاجمتي بطريقة لا تحتمل ، و الحمد لله ان الأمر لم يطل كثيرا ، فما هي إلا لحظات و سمعت صوت مولد كهرباء يتم تدويره و يفشل و اشتغل بعد عدة محاولات ، إضاءة مجموعة من اللمبات .
تم نقلي الى عشة بها رائد و نقيب يجلسان على كراسي مصنوعة يدويًا من أغصان الشجر و امامهما طاولة هي أيضا مصنوعة من أغصان الشجر ، وفي المقابل كرسي آخر دعوني للجلوس عليه ، تم التحقيق و سؤالي عن كل شيء اسمي كاملًا . المدارس التي درست بها ، والدتي ، أخوتي . اعمامي ، أخوالي ، وخالاتي ، عماتي ، مقاسات ملابسي ، و حتى رقم الحذاء ومقاس القبعة ، كل شيء .. كل شيء . اجبتهم على جميع الأسئلة و لم أجب عن الأسئلة المتعلقة بأسرار عسكرية ، و تمسكت بأنني طيار مدرّب و نتيجة العطل في الأجهزة اتجهنا جنوبا و نفذ الوقود . رغم أنهم لم يقتنعوا وهم متأكدون بأننا مقاتلون ، إلا انهم لم يجبروني على أي شيء و لم اعامل بشكل غير انساني ، ولم توجه لي أية إهانة ، و علمت أخيرًا ــ فيما بعد ــ أن هناك أوامر من جون قرنق بألاّ يمسني أحد بسوء .
ومع استمرار التحقيق ، لاحظ أحدهم درجة الاعياء الظاهر علي ، فأعطاني سيجارة من التي كانت بحوزتي ، واشعلتها و كانت آخر سيجارة في جنوب السودان ، كان كلما ينتهي التحقيق يبدأ من جديد إعادة الأسئلة ، بعد أن اشتد بي التعب و الجوع و لم أعد استطيع التحكم في رأسي من شدة النعاس . أخذوني للنوم في احدى العشش ، دخلت بها و قاموا باقفال المدخل بالأخشاب رفعت الناموسية ــ مثل المظلة تحيط بالسرير حتى تمنع البعوض ــ و استلقيت على السرير كان الفراش عبارة عن اسفنج بدون غطاء و بدون فوطة ومتسخ بشكل مزري لا يمكن وصفه و كأنهم قد أتوا به من ورشة ميكانيكا ، اسدلت الناموسية ، و كان بداخلها العديد من البعوض و لكني لم أشعر به نتيجة التعب و الإرهاق و التفكير في المصير الذي ينتظرني . نمت و بعد قليل استيقظت على شيء كانه ماس كهربائي ، و سمعت صوت يقترب مني و شعرت بنفس الشعور مرة أخرى ، وكان هذا الشيء عبارة عن خفاش يطير و عندما يقترب من الناموسية يطلق ذبذبات ، لم استطيع النوم الا مع اقتراب الصباح و انا أكاد ابكي من التعب و الإرهاق .

يتبع في الحلقة 6 ..
______
نقلا عن الطيار :
Suliman Elshtiti
 
قصة تواجد القوات الجوية الليبية بالسودان
________
#الحلقة 6

ومع طلوع الضوء رحل الخفاش و كذلك البعوض و استطعت أن أنام و لكنهم حاولوا إيقاضي فرفضت و بعد عدت محاولات أجبروني علي الاستيقاظ ، نهضت و سرت حيث مكان التحقيق منحني الظهر متظاهر بأنني مصاب ، لا أدري لماذا ولكن اعتقد انه محاولة مني حتي استدر عطفهم ولا يتم تعذيبي ، و صلت الى مكان التحقيق و ابتدأ من جديد نفس الروتين و ابلغهم الرائد المسؤول على التحقيق بنقلي الي المستشفى للعلاج ، بعد أن مشينا سيرا علي الأقدام و انا امثل دور المصاب و جدت أمامي ما جعلني أندم على ادعاء المرض ، فقد مررنا على الطابور متجاوزين المرضى الذين كانت حالاتهم خيالية !! منهم من ارجله متورمة بشكل غير طبيعي و جرحى و مصابين إصابات بليغه طابور من العشرات و بأمراض و إصابات غريبه ، وصلنا باب المستشفى الذي كان مقام على أحد المباني الملحقة بكنيسة ، دخلنا المنظر مريع ، رائحة كريهة ، دكتور يرتدي معطف ابيض ، تحول لونه الى الرمادي من الاوساخ ، طاولة و كرسي دولاب ادويه يكاد يكون فارغ ، بابور ــ موقد صغير ــ يعمل بالجاز كنا نستخدمه في ليبيا للطهي و يوجد على البابور اناء به حقنة يتم تطهيرها، كل ذلك جعلني الغي فكرة المرض بتاتا، عندما سالني الطبيب عن شكواي اخبرته بسبب الحبوب التي سببها البعوض. و الحمد لله لم يدخل معي الحرس لكانت مجازفة كبيرة ان أسلم له ظهري ، المهم لم يكن لديه أي شيء يصرفه لي فأخذ قطعة من الورق ولفها و سكب فيها قليل من بودرة الجروح، و أخبرني أن امسح بها ، و خرجت مسرعا و احمد الله على أنني لم أكن مصاب حقيقه
علمت أخيرا ان هذه المدينة اسمها بور ، و المكان الذي هبطت فيه يسمي ( مراح كلمرق ) ويا للمصادفة بور هذه مدينة قبيلة الدينقا التي ينتمى إليها جون قرنق ، و مراح كلمرق هو مسقط رأس جون قرنق . في مثل هذا الظرف يقول الليبيون ، ( خشيت على الضبع في قطرته ) .
استمر التحقيق أيام و كان هناك ملازم أول يتبع جهاز الاستخبارات يدعى شاتيلا، ، لن انسى اسم هذا الضابط رغم انه لم يؤذني ولكنه كان ينقلني الى أماكن يتم فيها تعذيب بعض الأسرى من جيش السودان. ارى ملابسهم العسكرية ملطخة بالدماء اسمع أصوات صياحهم و شاهدة عيون أحدهم من تحت الباب الذي يرتفع عن الأرض حوالى 15cm. بعد ما يقارب من أربعة أيام تم نقلي الى عشه أخرى، و علمت أن العشة التي كنت بها تخص امر المنطقة و يدعى ،( كوال مانيا ) . أتى الآمر، و دبت حركة من التنظيف و التنظيم التي كانت تنم على قدوم شخصية كبيرة ، بعد أن اطلع على التحقيق استدعاني الي مكتبه و كان معي الملازم شاتيلا و الحرس المناوب . دخل شاتيلا اولا ثم سمح لي بالدخول ، رجل طويل جدا ، شديد السواد ، يكاد يختفى بياض عيناه و يتحول الى الاحمر ، دعاني للجلوس جلست طرح على بعض الأسئلة و لم تقنعه اجاباتي ، كان ينظر الي بشكل مخيف خلافا عن كل من لاقيتهم ، كان يتحدث عربي و لكن لم أفهم منه كلمة فكان شاتيلا يترجم بيننا من العربي الى العربي ، ابلغنا بانتهاء الاستجواب و علينا المغادرة ، عند خروجي لا حظت نظرات غريبة بين الحرس و الملازم شاتيلا و بعد أن ابتعدنا قليلا حدثني قائلا :
ـــ انت لن تموت ابدا يا زول .
فقلت :
ـــ لماذا ؟
قال لي :
ـــ أنت أول شخص مذنب يخرج من مكتب القائد " كول منيا دون عقاب ، أقل شخص دخل يصفعه ، ومنهم من يُقتل فورا ، قائد كعب ( صعب ) .
وقصّ علي بعض الحكايات عنه وأنه قائد جبار يعتمد عليه " جون قرنق " كثيرا ، و لم يخسر اي منطقة اطلاقا و لم يخسر اي حرب دخلها ، و قال انه خسر مرة واحدة حيث هجم الجيش السوداني على موقعه و كان الهجوم بالطائرات جوا و أرضا و جنوده لم يستطيعوا الصمود أمام قوة النيران فهربوا و انتشروا في الغابة و كان هو ومعه نفر قليل و بعد شدة القتال انسحب ، و حاول جمع جنوده من الغابة و قال لهم لن أعود و انا منهزم ، سنعود و نسترجع الموقع و لكن الغالبية رفض العودة معه بعد أن انهكهم التعب ، فقال لهم انا ذاهب وحدي ومن يريد أن يذهب يتبعني و تبعه مجموعة قليلة جدا ، وهم في طريقهم فإذا بطائرة تلاحقهم فقاموا بالرماية عليها و سقطت فهنا جميع جنوده ارتفعت معنوياتهم و عادوا اليه و فعلا تم تحويل الخسارة الي نصر .
______
نقلا عن : Suliman Elshtiti
 
قصة تواجد القوات الجوية الليبية بالسودان
________
#الحلقة 7

طيلة مدة إقامتي هناك كان الناس يأتون باستمرار و يرغبون في رؤيتي و كان شخص نزل من كوكب آخر، أما بالنسبة للأكل فلا يملكون شيء يؤكل كل ما لديهم مجموعة من الأبقار فقط ولا شيء آخر لا خضر ولا بهارات ولا ملح ولا اي شيء على الإطلاق فقط بقر يذبحون بقرة و يطبخون لحمها في ماء و توزع ، لا أحد يشبع، يأكلون وجبتان في اليوم إفطار عند الساعة الحادية عشر ، و عشاء عند السادسة مساء تقريبا ، مجاعة حقيقية .
و امراض الملاريا منتشرة بسبب كثرة البعوض الذي يكثر مع الغروب ، لا أحد يستطيع البقاء خارج الناموسية ، جثث منتشرة غير بعيدة وبعد ان تتحلل ويخرج منها الزيوت يطلقون عليها رصاص حارق خارق لتضيء المكان و تبعد البعوض ،
أغلبهم ينام في العراء ، حياة لا يمكن وصفها ولا يمكن توقعها . بعد أيام قدم مجموعة مشيا على الأقدام ، منهم طبيب يدعى " د شاو " و السيد " ياسر عرمان " الذي ترشح لرئاسة السودان كما شاهدته من سنوات مضت ، و كذلك شخص يدعى ادوارد لينوا كان سجين سياسي عدد من المرات فترة حكم النميري و الصادق المهدي ، و هو من أعضاء الحزب الشيوعي ، و معهم إعلاميون و اجهزة تصوير ، ابلغوني اننا سنذهب الى حيث الطائرة للتصوير هناك ، و فعلا ذهبنا و عندما دخلوا الماء و قاموا بتنظيف الطائرة بالماء و مسحها بالقش ، وفجاءة أثناء مسح مكان العلم زال الطلاء المكون للعلم السوداني ، فأمرهم بالتوقف عن المسح و قام بتصوير المشهد بالفيديو و قام بسؤالي :
ـــ ما هذا ؟
قلت له :
علم السودان ..
فقال لي
ـــ و ماذا ظهر تحت علم السودان ؟
فقلت له :
ـــ طلاء اخضر .
ـــ وما لون علم ليبيا ؟
ـــ أخضر .
فأخذ مكبر الصوت و قال : هذا علم ليبيا و تم طلائه يعلم السودان !
هذه المجموعة التي أتت تم إرسالها من قبل جون قرنق شخصيا ، و ذلك لتصوير فيديو يودون نشره لدى سفارات الدول الإفريقية ، لإثبات أن الدول العربية تدعم عرب السودان في الشمال ، ضدهم في الجنوب وهم من أصول افريقيا ..
نعم تحدث أحد الإعلاميين في المايك و قال :
" ما تشاهدون هو طائرة ليبية تحمل علم ليبيا وتم طلائها بالوان علم السودان ، ثم قام بتصوير أحدهم هو يقوم بالرماية في الهواء في محاولة منهم لإثبات انهم هم من أسقط الطائرة ، بعدها طلب مني التقدم و الصعود الى الطائرة ، و بعد أن تقدمت وجدت أن كرسي الطائرة تم سرقة محتوياته من مضلة و أحزمة و كل المحتويات و ابقوا فقط على هيكل حديدي ، و حيث أن الكرسي مجهز بعدد اثنان صاروخ إطلاق ، عند الضغط على مقابض القفز تنفجر و تقذف الكرسي الي ارتفاع حوالي 86m من ارتفاع الطائرة وهو الارتفاع الآمن الذي يسمح بفتح المضلة ، و هذه الصواريخ يجب أن تكون مؤمنة بواسطة مسامير تسمى سيفتي بنز .(safety pins) .ولا تنزع الا بعد صعود الطيار و ربط الاحزمة ، و يتم إعادتها في أماكنها قبل نزول الطيار و قبل نزع الاحزمة .
امروني بالصعود الي الطائرة و الجلوس على الكرسي لتصويري و كأنهم يقبضون علي ، رفضت الصعود بسبب خطورة الأمر و الصواريخ بدون تأمين و عدم وجود مضلة ولا أحزمة ، إلا أنهم لم يفهموا كلامي و اعتقدوا أنني لا ارغب في التصوير فقاموا بإجباري عن طريق سحب الأقسام و اشهار السلاح .
توكلت على الله و صعدت بحذر كبير جدا و انا أتلو اية الكرسي ، تم تصويري وانا انزل من الطائرة و سمعت المعلق يتحدث بأنهم أسقطوا الطائرة ، نزلت وانا احمد الله أن الكرسي لم يخرج والا لكنت سقطت من ارتفاع 86m دون مضلة .
أثناء خروجي من مياه النهر التصق بساقي حشرات غريبة تمتص الدماء شكلها دائري و لها ارجل حادة صفراء غرست أرجلها بساقي ولم أتمكن من نزعها الا مع الجلد ، حياه صعبة جدا كل شيء فيها ينال منك !
ـــــــــــــــــ
نقلا عن : Suliman Elshtiti
 
قصة تواجد القوات الجوية الليبية بالسودان
_______
الحلقة 8 ، 9

الحلقة 8
انتهى تصوير الفيلم و عدنا سيرًا على الأقدام ، كانت المجموعة التي أرسلها جون قرنق " ياسر عرمان ، و ادوارد لينو ، دكتور شاو " لطفاء جدًا ربما لأنهم كانوا متعلمين ، ومقربين من قيادة الحركة ، كنا نجلس نتحدث بود ، لم يتعاملوا معي كأسير ، ولما كنت لا أتناول الأكل إلا القليل جدًا بسبب طريقة إعداده السيئة ، حيث كان يعد في برميل ، و أحيانًا يكون اللحم به رائحة نتنة ، مما يجعلني أتوقف عن التنفس أثناء تناوله حتى لا أشم رائحته ، و نتيجة لذلك بدأ يظهر عليّ الوهن . نصحوني انه يجب أن أكل جيدًا لأننا سنذهب إلى منطقة أخرى بعيدة نسبيًا سيرًا على الأقدام لمدة تقارب أربعة أيام ، و هذه الرحلة تتطلب أن أكون قويًا ، حاولت الأكل و قد جاءوا إليّ بسمكة ، و كذلك بحليب أبقار . و استعدينا الرحلة . .
حاولت الأكل قدر المستطاع ، رغم خوفي من التعب نتيجة المشي المستمر لأربعة أيام ، ولكنني في المقابل كنت فرحًا بمغادرة هذا المكان الذي يحيط به الموت من كل جانب . أخبروني أننا سنمر في بداية الرحلة بمنطقة غارقة في مياه الفيضان ، وأنه علينا أن نمشي إلى ذلك المكان و نبيت هناك و نبدأ الرحلة مع ظهور أول الضوء في اليوم التالي ، حتى نستطيع أن نكون خارج الماء قبل أن يحل الظلام ، المدة كانت حوالي 12 ساعة مشي سريع كي نتجاوز الماء قبل الظلام . قضينا تلك الليلة في العراء ، ثم استأنفنا المسير داخل الماء ، و كان الأمر صعب بالنسبة لي ، فالسير في الماء يتطلب مهارات خاصة و أنا لم أجربه من قبل ، و كذلك كنت أرتدي حذاءًا عسكريًا و نتيجة لبقاء رجلي في الماء فترة طويلة بدأت أصابع قدماي بالتسلخ ، و طلبوا مني خلع الحذاء ، و فعلا خلعت الحذاء و حملته على رقبتي بعد أن ربطته ببعضه ، وكانت المياه ترتفع حتى تصل إلى مستوى الصدر ، و أحيانًا ينخفض المنسوب لتصل إلى الركبة ، ــ ربما بفعل المد والجزر ، أو تغير تضاريس الأرض تحت الماء ــ ، وعندما يقل منسوب المياه تظهر تحت أقدامنا الأسماك التي تتسبب جروحًا في الأقدام ، و لم يكن هذا أسوأ شيء في الواقع ، بل كان الأسوأ عندما نمرّ بمنطقة جافة فكأننا نسير فوق سكاكين مدببة ، خاصة أن الأقدام رطبة من طول البقاء في الماء .
وررغم الحرص ، فشلنا أن نخرج من الماء في الوقت المحدد قبل حلول الظلام ، و اضطررنا للصعود فوق الأشجار .
وأستمر المسير و الألم لمدة ثلاثة أيام ، لا نستريح إلا عشرة دقائق تقريبًا ثم نستأنف المسير ، وجباتنا كانت بليلة ــ وهي ذرة مطبوخة ــ و نشرب الماء و ندخن سيجارة محلية يطلقون عليها اسم" كودكود " ، كان المسير بخطوات مفتوحة و السير في خط مستقيم واحد خلف الآخر في طابور ، كان الطابور طويل لأن هناك الكثير من الأهالي يستغلون ذهاب الجماعات المسلحة لمرافقتهم بغرض النزوح بعيدًا عن مناطق العمليات ، كنت كلما اكتنفني القلق من المصير المجهول الذي ينتظرني ، أنظر إلى تلك المرأة التي رافقتنا في تلك المسيرة الطويلة و هي تحمل فوق رأسها قفّة مليئة بأواني و حصير و معدات ، فترتفع معنوياتي نسبيًا .
كانوا خلال مسيرتهم يستخدمون قانون النمل ، نعم المتوقف يموت ، لا مجال للتعب و لا للمرض ، وحين تصاب تترك لمصيرك ، لا يستطيع أحد أن يحملك أو يقدم لك المساعدة ، بالكاد يستطيع أن يساعد نفسه .
في اليوم الثالث قاموا باصطياد طائر حبارة و غزال و كذلك زرافة ، تم تقطيعها إلى أجزاء و حُمّل كل جزء على كتف أحدهم ، و كذلك الكرش حمله شخص آخر فوق كتفه .
كانت أصعب اللحظات في تلك المسيرة لحظة الشروع في السير بعد التوقف للاستراحة ، كانت الشمس حارقة ، والأقدام مرتعشة من التعب والجوع ، فكانت لا تكاد تحمل الأجساد المنهكة ! كان الوضع مأساويًا لي ولرفاق الرحلة أيضًا ، لأنه لا خيار لهم ، إما الإستمرار ، أو الموت .
و وصلنا إلى منطقة تدعى " جوك مير " ،
وصلنا هذه المنطقة منتصف النهار ، فبمجرد وصولنا أخذت حمام لإزالة العرق وأثار الغبار ، و دخلت المكان المحدد لي و هو عشة بها سرير ، كانت تلك العشة بمثابة قصر ، استلقيت على السرير وكانت من أجمل اللحظات .
لا أدري كم استغرقت في النوم ، لكنني استيقظت على رائحة شواء ، و تمنيت أن يكون لي نصيب منه ، فمنذ هبوطي بالطائرة لم أتناول شيئاً شهيًا ولم أشبع بتاتًا ، ما هي إلا لحظات ، حتى دخل أحدهم بصحن مليء بلحم محمّر بسمن و فطائر و لبن .
الله .. الله ..
لم أنتظر أحد ولم اسأل أحد ، أكلت و لأول مرة أشبع و أكل دون أن أكتم نفسي ! كانت أفضل وجبة اكلتها طيلة مدة الأسر .
نعم شبعت نوم ، ثم شبعت أكل .
و لكن كان الأسوأ بعد ذلك !
فقد أن أعطُيَ الأمر بمتابعة المسير ، كان ذلك صعب جدًا ، الجو حار و الجسم منهك و مثقل .
بدأنا المسير بصعوبة أكبر من قبل .
و في اليوم التالي صباحًا بدأ أحدهم يستنشق الهواء ويكرر هذا الفعل بطريق ملحوظة ، ثم يعلن :
ـــ لقد أقتربنا من الوصول !!
وعلمت فيما بعد انهم يعرفون المنطقة برائحة الأبقار في المراح !
بدأت تظهر أمامنا منطقة صغيرة بها عشش .
الحمد لله أخيرا وصلنا ، لمنطقة " بيبور " ، و هناك يوجد مهبط طائرات عمودية ، و لن نسير على الأقدام بل ستنقلنا طائرة .
تم توجيهي إلى إحدى العشش التي خصصت لي . دخلت استلقيت على سرير مصنوع من أغصان الشجر ولكنه كان وثيرًا بالنسبة لي تلك اللحظة ، نمت ولم أشعر بشيء ، و بعد أن استيقظت حاولت النهوض فلم أستطع ، لقد أصيب نصفي السفلي بالشلل ، لم أعد أحسّ به اطلاقا ولا استطيع التحكم به !!
ـــ يا إلهي .. ما الذي أصابني ؟
هكذا حدّثت نفسي ..
كانت لدي رغبه بالبكاء ، حاولت ولم أستطع النهوض مرة أخرى ، سحبت رجلي اليمنى قليلا ثم الرجل اليسرى و هكذا إلى ان وصلت الرجل اليمنى حافة السرير فسقطت على الأرض دون أن استطيع التحكم بها ، وكأنها خالية من أية أعصاب . سحبت الرجل الاخرى كذلك و جلست ، طلبت أحدهم ، وأخبرته بالأمر ، فطمأنني بأن الأمر طبيعي و سيزول بعد قليل ، .
وانتظرت بفارغ الصبر ، و فعلا بدأت أحسّ بالحياة تدبّ برجلي الاثنتين تدريجيًا ، حاولت الوقوف و كأنني طفل يتعلم المشي ، الحمد لله عادت الحياة إلى رجلي التي تورمت ، لكن الأمر لم يكن مقلقًا مثل اللحظات الأولى من استيقاظي ..
المشكلة الاخرى التي واجهتنا ، أنه لا يوجد لديهم أي شيء يؤكل .
في الصباح ابلغوني أن الطائرة آتيه ، وهي التي ستنقلنا ، سعدت كثيرا عندما سمعت صوت الطائرة .
ولكنها للأسف لم تستطيع الهبوط بسبب الضباب الكثيف ، عادت من حيث أتت ، و تركتنا لمعاناة الجوع .
كان الأكل عبارة عن عظام أبقار مطبوخة في ماء ، نقوم بشرب الماء ، ثلاثة أيام قضيتها هناك على هذا النسق ، لم استطيع دخول الحمام ، اكرمكم الله ..
.
الحلقة 9 ..
سمعت صوت الطائرة ، و الحمد لله أنها استطاعت الهبوط في اليوم الثالث ، قاموا بعصب عيني و ربط يدي إلى الخلف و قادوني إلى الطائرة ، من خلال عملي في السلاح الجوي و خبرتي . خمّنت أن الطائرة من نوع Mi8 و كذلك سمعت الطيارين يتحدثون الروسية بطلاقة و بلكنة روسية ، اعتقد انهم من روسيا و تأكدت من خلال الصوت الذي صدر عن الأحذية التي كان يستخدمها الطيارين الروس والتي كنت أنا شخصيا أستخدمها أثناء تدريبي في روسيا . يبدو أنها طائرة روسية مستأجرة بطاقم قيادتها .
وأقلعت الطائرة متجهة إلى مدينة " قمبيلة " في أثيوبيا ، الحمد لله على كل حال ، فقد ابتعدت عن مناطق القتال و الجثث و البعوض و اتمني أن تكون الأوضاع أفضل هناك .
بعد أن هبطت الطائرة في مطار " قمبيلة " ، قادوني إلى غرفة ، وعندما ازالوا الرباط عن عيني وجدت نفسي في غرفة عمليات أو ما يشبه بدالة كبيرة ، فرحت كثيرا لأنه لأول مرة أجد نفسي في غرفة من أول يوم في الأسر، و فرحت أيضا عندما أعطى أحدهم الأمر لإحضار وجبة إفطار لي ، و بعد فترة قصيرة جيء بالإفطار و هو عبارة فول مدمس و رغيف خبز و شاهي .
و لكن للأسف لم يكد يضع الصحون حتى تم إبلاغهم بالمغادرة فورا !
كانت فرحة ما تمت كما ترون !! .
عصبوا عيني مرة أخرى ، و قيدوا يدي ، و خرجنا و ركبنا السيارة ، التي انطلقت بنا و كانت الطريق جبلية وعرة ، وبعد فترة من السير تعطلت السيارة و توقفت عن المسير . كنا نتجه إلى جبال بونقو ــ سميت كذلك بسبب نبات حشيش البانقو الذي ينبت بكثرة في هذه الجبال ــ . و كانت وجهتنا مركز قيادة حركة تحرير السودان بقيادة جون قرنق في أثيوبيا .
بعد تعطل السيارة . تم نقلنا إلى سيارة اخرى ، سيارة نقل مفتوحة من الخلف قاموا بمساعدتي للركوب و أجلسوني وكان ظهري للكابينة ، و يجلس أحدهم فوق سقف الكابينة و يدلي برجليه من فوق رأسي ، و عن يساري أحد الحراس الآخرين ، أما عن يميني فيوجد نمر ! نعم كان هناك نمر يقوم جون قرنق بتربيته و كان ملاصقا لكتفي الأيمن ، طبعا لم أكن أعلم بذلك كنت أشعر ببطنه عندما تتحرك السيارة أو تنعطف و كنت أشعر بأنفاسه ، و كنت خائفًا جدًا لاعتقادي أنه كلب كبير !
لا أدري ماذا كنت سأفعل لو أنني علمت أنه نمر !
كان معي أسيران آخران من السودان . أحدهما من الشمال من منطقة " عطبرة " و الآخر من جنوب السودان يدعى " مودي " سلطان إحدى القبائل ، و حيث أن " مودي " لم يكن معصوب العينين فقد خاف من النمر و رفض الصعود ولكنهم حملوه و قذفوه في السيارة و سقط على رأسه .
كل هذا كنت أستمع اليه ولم ارَ شيئًا ، لأنني كنت معصوب العينين ، و لكني علمته فيما بعد .
سارت السيارة بين الجبال إلى أن وصلنا ، ولم تكن المسافة بعيده . بعد أن وصلنا إلى معسكر الرئاسة نزلنا في إحدى العشش . بعد أن فك رباطي و فتحت عيناي ، هنا وجدت " محمد " و " مودي " و تبادلت الحديث مع " محمد " حيث انه كان من الشمال و يتكلم العربية بطلاقة ، و هناك تناولنا وجبة الإفطار ، و بعدها تم نقلي إلى المكان الذي يتواجد به جون قرنق .
.
نزلت من السيارة معصوب العينين ، كنت أسمع هتافات كثيرة جدًا و غناء ، قادوني إلى مكان مرتفع قليلا ، صعدت و هناك تم ازالة الرباط عن عيني ،
ويا لهذا المشهد .
خلفي كان يجلس جون قرنق و علي جانبيه المجلس العسكري و السياسي ، أما امامي مباشرة قرابة مئة ضابط ، علمت انه حفل تخريجهم ، و خلفهم عدة كتائب مسلحة ، مسماة بأسماء قادة أفارقة " نيلسون مانديلا ، سامورا ميشيل ، نيكروما ، جمال عبد الناصر " و يحيط بنا من كل جانب الحرس الخاص مدججين بأنواع الأسلحة .
كان يومًا أشبه بيوم القيامة ــ استغفر الله ــ ، منظر رهيب جدًا ، كان هناك صحافة محلية تصور ، و ملفي أمام جون قرنق ، كنت أشاهد كل هذا بأم عيني ، أما عقلي و لساني كان يتلو آية الكرسي باستمرار ، كنت أظن أنه يوم الإعدام .
كنت أستشعر الموت أو أكاد أراه .
.
يتبع الحلقة 10 ..
_______
نقلا عن: Suliman Elshtiti
 
قصة تواجد القوات الجوية الليبية بالسودان
_______
الحلقة 10 ، 11

الحلقة 10
توقف الجميع عن الهتاف ، و بدأ جون قرنق الحديث بلغة الدينقا المحلية ، لم أكن أنصت لأنني لا أفهم ما يقول ، ثم أن عقلي و قلبي و لساني مع آية الكرسي ، بعد مرور وقت قصير ، سمعت " جون قرنق " يذكر اسمي بالعربي ، و كرر الاسم ، وهنا ألتفت إليه و بدأ يسالني :
ـــ لماذا بعثك القذافي ؟
لم أجب عليه بل فضلت السكوت ، قال لي :
ـــ أنت محظوظ .. القذافي صديقي .
وأشار إلى الكرسي الذي يجلس عليه و قال :
ـــ على هذا الكرسي ، وفي هذا المكان سنة 1983 كان يجلس الرائد عبدالسلام جلود .
و قال أيضًا بعد أن أشار إلى الأسلحة :
ـــ كل هذه الأسلحة من ليبيا ، لولا ليبيا و دعمها ما كانت للحركة أن تقف على رجليها .
لم أرغب في الحديث ، حيث أنني سأكون في مأزق في الحالتين ، فواصل حديثه قائلًا :
ـــ نحن نتعامل مع العدو كعدو حتى يفقد سلاحه ، فإذا فقد سلاحه نتعامل معه كإنسان ، ستبقى معنا ، وستعاني من الجوع و الأمراض مثلما نعاني نحن ، و لن يصيبك مكروه ، إلا إذا حاولت الهرب .
لم أرد عليه ، وبقيت صامتًا .
قال لهم :
ـــ خذوه إلى السجن .
وتم نقلي . وفي طريقنا شاهدت النمر الذي يخص جون قرنق و كذلك قرد صغير كان يربيهما ، لم يتم عصب عيني هذه المرة و لا تقييد يديّ ، كنا نسير و سط غابة جميلة جدًا و كثيفة و بمحاذات نهر النيل الأزرق ، وكانت الحراسة مشددة جدًا .
كان التاريخ إذ ذاك يوافق 03 يناير 1989 ، علمت أن السجن الذي قادوني إليه يسمى سجن " كوبر " قطعنا النهر ووصلنا إلى السجن ، الذي تم اختياره بعناية ، حيث يقع في وسط جبال تحيط به ، وكأن هذا السجن جزيرة ، وقد تم اختيار الموقع في منطقة يتفرع فيها النهر إلى قسمين ، ثم يلتقي من جديد مشكلًا جزيرة كبيرة نسبيًا ، وتم بناء أبراج مراقبة على حوافها و تطويقها بأشجار الشوك ، و في داخلها مجموعه من العشش " القطيات . "
دخلنا إلى السجن ..
و أدخلوني في إحدى القطيات ، و اقفلوا المدخل بالألواح ، كان الوقت غروب الشمس مما يجعل المكان موحشًا ، والمكان مليء ببيوت العناكب ، و الفئران و الحشرات ، تفقدت المكان لا يوجد شيء على الإطلاق ، لا سرير و لا فراش و لا كرسي ، لا شيء اطلاقا ، خلعت حذائي و وضعته تحت رأسي كوسادة و استلقيت على الأرض ، و عرفت أنني سأعاني كثيرًا ، و لكنني أدركت بحس إيماني أن الإنسان لا يستطيع أن يغيّر ما قدره الله .
.
مكثت في هذا السجن سنتين تقريبًا ، في بداية الأمر بدا الأمر سيئًا جدًا ، عانيت من الأمراض الملاريا ، الدسنتاريا وعانيت من الجوع ، كان الأكل عبارة عن عصيدة يتم تحضيرها من الذرة " سبول مُر " يتم طحنه ثم غربلته و من ثم طبخه في الماء ، و يقدم مع عدس أو فاصوليا في حال توفرهما أو مع أوراق أشجار بعد أن تطبخ ، لم يكن هناك أي عنصر آخر ، لا ملح ، ولا فلفل ، ولا طماطم أو بهارات أو بصل . لا يوجد شيء من هذا على الإطلاق . كانوا يصنعون بعض الملح و ذلك عن طريق جمع الرماد في علبة يتم ثقبها من الأسفل عدة ثقوب ، و يتم رش الرماد بالماء و تترك العلبة فوق صحن كبير ، و بعد أن يتجمع شيء من الماء من خلال الثقوب ، يتم وضع الصحن فوق النار حتى يتبخر الماء و يبقى ملح بطعم لاذع ، يتم خرط الملح و خلطه مع شطة ــ والشطة نوع من الفلفل الأخضر الصغير تنبت في الجبال ــ و بالتالي يحصلون على نوع من البهارات مثل الهريسة ، لتعطي بعض النكهة للأكل .
الأكل مرتان وجبة إفطار عند الساعة الحادية عشر صباحًا . و الأخرى عند الساعة السادسة مساءًا و هي وجبة عشاء ، ورغم رداءتها ورائحتها الكريهة ، لم تكن الوجبة كافية ، كنا نشرب الماء قبل الوجبة و بعدها حتى نشعر بالشبع الجزئي ، كان اليوم يمرّ بصعوبة بالغة ، أقوم باكرًا بسبب كفايتي من النوم ، و مع طلوع الشمس يتم فتح المدخل الذي كان يغلق بالأخشاب ، و أقوم بمراقبتهم وهم يعملون مثل خلية نحل ، البعض يذهب ليأتي بالحطب ، و بعضهم لإحضار الماء بواسطة نصف برميل يحمله اثنان منهم إلى النهر ، و بعضهم يقوم بإشعال النار ، و بعد أن يتم احضار الذرة يقوم بطحنها اثنان حيث توجد شجرة ميته تم قصها ، وحُفِرَ تجويف بداخلها ، يتم وضع الذرة فيها و طحنها بواسطة عرف شجرة آخر تم تجهيزه لهذا الغرض ، بعد أن تطحن الذرة و تنقّى من القشور يتم وضعها في برميل الماء و يعمل منها العصيدة ، أما القشور فتنقع و يعمل منها " مريسة " ــ وهو نوع من الخمور ــ ، هناك كل شيء يستفاد منه لا توجد قمامة ــ اكرمكم الله ــ .
وقت طويل يمرّ و أنا انتظر ما أسد به جوعي ، عند الحادية عشر تقريبًا يكون الإفطار جاهز ، طبعا عندما يحضره أحدهم استعد للتوقف عن التنفس حتى لا أشم الرائحة الكريهة ، لم تكن هناك مواد تنظيف ، والذين يشرفون على إعداد الطعام ، يعملون من الصباح في وهج الشمس الحارقة ، ويتعرضون للدخان المنبعث من النار لساعات طويلة ، ولكم أن تتصوروا ما ينبعث من أجسادهم من روائح نتيجة العرق والغبار وقلة مواد التنظيف !
كنت قد استأذنتهم الذهاب للاستحمام يوميًا في النهر عند الساعة الثالثة ، و كان طلبي في هذا التوقيت حتى أكسر الوقت من جهة ، و من جهة أخرى لأن هذا الوقت شديد الحرارة ، أخترته لأشعر بشيء من الانتعاش ولو لوقت قصير ، و بعد العودة استمر في الجلوس حتى و قت العشاء ، و بعدها يتم إغلاق المدخل ، و أبقي في الداخل مع نفسي ..
وأبأ رحلة أخرى مع الظنون في المصير الذي ينتظرني ، وفي أهلي ، وكيف يتعاملون مع غيابي !
أستمر هذا الوضع بشكل يومي ، بل وروتيني ، و أحسست بأنني سأدخل في اكتئاب إذا لم أغير نمط برنامجي هنا ، فقررت التغيير ، وقررت أن أتعايش مع الوضع القائم كيفما كان .
.
الحلقة 11
نعم فكرت أن الاستمرار بهذا الروتين في الأسر سيتسبب لي بمشاكل صحية و نفسية كبيرة ، فقررت أن أغير من نمط حياة الأسر . وأول شيء قمت له هو إصلاح أرضية العشة . حيث قمت بنزع الحجارة و تسوية الأرضية و قمت بعجن الطين و عمل لياسة الأرض . و ذلك حتي ضمنت عدم تواجد الحشرات التي كانت متوفرة بأنواع عجيبة وخطيرة أذكر منها نوع يسمى " توكتك " هذه الحشرة لا يحلو لها وضع بيضها إلا في أصابع اليد أو الرجل ، ولن تكتشف ذلك إلا بعد أن يفقس البيض و ترى الحشرات تكبر داخل الأصابع ، و كذلك يوجد نوع من الديدان تدخل الأرجل و تكبر ، و يتم اخراجها عن طريق وضع الأرجل في مياه النهر الباردة صباحًا أو مساءًا و بعد أن تخرج رأسها يتم لفها على عود برفق حتى لا تنقطع ، و يتم الاستمرار في اخراجها أيام ، و إذا قطعت تنمو في الداخل من جديد !
لقد حرصت أن تبقى الأرضية مستوية منعًا لتواجد أي نوع من الحشرات .
و تعلمت منهم صناعة الزير ــ الذي يوضع فيه الماء ــ ، و طريقة الصنع : أن يُجمع الطين بغربال حتى يكون ناعمًا جدًا ، ويعجن بالماء كثيرًا و يقطع قطع صغيرة و يبرم مثل عمل الكعك ، و يتم تشكيله حتى يعطي الشكل المطلوب ، ثم يتم مسحه بخرقه مبللة حتى يستوي شكله ، و يترك حتى يجف ثم يوضع داخل النار كي يفرّغ من الهواء تمام ..
حاولت صناعة زير خاص بي ، و نجحت في ذلك ووضعت على أعلى الزير خرقة لتصفية الماء و بدأت أشرب منه مياه نقية بعد أن كنت أشرب من جالون .
لفت انتباهي أثناء إشعال النار ، أن هناك عود من الحطب يخرج منه رائحة طيبة حين يلامس النار ، أخذت منه قطعة و قمت بكسرها إلى أجزاء صغيرة جدًا ، و استخدمتها كنوع من العطور ــ بخور ــ بعد أن صنعت إناء أضع به بعض الجمرات و أرش عليه من أعواد البخور .
و صنعت طاولة من الخشب ، و كنت كلما اذهب إلى النهر أعود معي باقة من الزهور التي لم أشاهد مثلها اطلاقا و هي متوفرة هناك بكثرة ، وكنت أضعها في إناء به ماء و كان لها دور كبير في تغيير الجو داخل العشة .
حاولت و نجحت في تحديد الوقت ، كنت مع دخول أشعة الشمس أسأل أحدهم عن الوقت و أضع علامة عند السادسة ، والسابعة ، والثامنة ، وهكذا . حتى أنني لم أعد بحاجة للسؤال عن الوقت . صنعت مسبحة من نوى الثمرات ، قمت بثقبها و هي خضراء و بعد أن جفت نظمتها في خيط ، وأصبحت أملك مسبحة ، صنعت بعض الأدوات الرياضية من الأخشاب و مارست الرياضة ، وتعلمت النحت على الخشب ، و الآن طورت هذه الهواية ، تعلمت الرسم ، ولما كانوا قد أحضروا لي " منفيستو " الحركة ، وهو الميثاق الخاص بالحركة الشعبية لتحرير السودان التي يقودها جون قرنق مطبوعًا ، فاستغليت الوجه الثاني للأوراق في الرسم بعد أن تحصلت على قلم رصاص ، و الآن طورت هذه الموهبة أيضًا .
حاولت كتابة الشعر و لكني للأسف فشلت !
حاولت قدر المستطاع أن أشغل وقتي و أن أحافظ على صحتي ولياقتي ، كنت أحاول أن أمتع نفسي بمشاهدة أنواع الطيور الغريبة و الجميلة جدًا و التي لم يسبق لي أن شاهدت مثلها بألوانها الرائعة الزاهية ، و كذلك أنواع الحشرات الغريبة و التي منها ما يضيء بألوان مختلفة ، الأحمر ، الأصفر، الأزرق و الأخضر ، كذلك كنت أستمتع بأنواع النباتات و الاشجار الضخمة و الحيوانات التي كنا نشاهدها تمر من خلف سور الأشواك و نسمع أصواتها ، وكنت أستغرق في تأملها بلا ملل كأنني استلهم من النظر إليها الشعر الذي فشلتُ في نظمه ..

يتبع في الحلقة 12 ..
______
نقلا عن : Suliman Elshtiti
 
قصة تواجد القوات الجوية الليبية بالسودان
_________
الحلقة 12 ، 13
.
الحلقة 12
في إحدى الليالي سمعت صوتًا يقترب في الخارج ، ثم فُتح مدخل العشة الخاص بي ، حينها رأيت السيد ياسر عرمان ومعه آخرين ، وقد أخبرني أننا سنذهب إلى مكان ما !!
خرجت معهم و كنت أعتقد أنهم يقودونني لمكان إعدامي !
ذهبنا إلى معسكر ، عرفت أنه مقر الرئاسة ، وهو المكان الذي يتواجد فيه جون قرنق ، ومن هناك ركبنا سيارة و انطلقت بنا ، بعدها وصلنا إلى منطقة أخرى وكانت منطقة عمليات ، وتناهى إلى سمعي صوت المدفعية و القذائف ، و علمت أننا على مشارف مدينة نصر التي كانت محاصرة ، و المدفعية لم تتوقف و أصوات القذائف كذلك ، ثم قاموا باقتحام المنطقة ، و شاهدتهم يخرجون ضابطًا سودانيًا كبير في السن ، كان برتبة عقيد و كانت ثيابه رثة و في حالة سيئة جدًا ، كان الوحيد الذي وُجد داخل الموقع ، وجدوه جالسًا على حقيبته ــ فاليدجا ــ و يمسك بيده مصحفًا و بيلة ــ مصباح يدوي يعمل بالبطارية ــ و يقرأ القرآن ، علمت أن اسمه " محجوب " و هو آمر المنطقة و يتبع الجيش السوداني في الشمال .
وقامت الاحتفالات .
خمّنت أنهم نقلوني إلى هذه المنطقة لأكون شاهداً على سقوط مدينة " نصر " في أيدي جماعة قرنق .
ثم عدنا الى السجن من جديد ، ولكن مع ضيوف جدد فقد كان العقيد " محجوب "، و كذلك نقيب يدعى " روبرت " و ملازم أول يدعى " طاهر " . " .
العقيد " محجوب " تم وضعه في العشة يساري ، أما " روبرت " و " طاهر " فكانا في عشة معًا إلى يمين عشتي ، كنت أتبادل الحديث معهم من خلال الشقوق بين الأخشاب ، و علمت أنهم كانوا محاصرين في منطقة العمليات و نفذت ذخيرتهم و طعامهم ، و أمرهم العقيد " محجوب " برفض الانسحاب ، ولكن البقية لم يستطيعوا الاحتمال وكان يوجد معهم رائد أشهر سلاحه على العقيد " المحجوب " و أمر البقية بالانسحاب ، و بقى العقيد " محجوب " وحيدا يقرأ القرآن إلى أن قبض عليه ، أما البقية بعد هروبهم ، منهم من قتل و لم يبقَ منهم الا " طاهر " و " روبرت " حيث قبض عليهما الأهالي في المنطقة و سلموهما لقوات جون قرنق بعد أن جردوهم من كل شيء ، حتى ملابسهم الداخلية ــ اكرمكم الله ــ و سلموهم عراة . .
كنت ممنوعًا من الاختلاط بهم أو بغيرهم في الواقع ، لكن الوِحدة صعبة جدًا ، فلم نكن نلتزم بالتعليمات ، كنت أتبادل الحديث معهم .
" روبرت " شاب مثقف جدًا جدًا وهو خريج كلية سان هرست في بريطانيا . و كذلك العقيد " محجوب " كان رجلًا متدينًا و يتلو القرآن كثيرًا ، طلبت منه المصحف ، لكنه رفض .
و بعد فترة أخبرني أن لديه نسخة مكتوبه بالخط الكوفي ، فطلبتها منه ، و بعد أن أرسلها لي وجدت مكتوب عليها الفرآن الكريم ! لم أكن على دراية بالخط الكوفي ، و لكن عرفت فيما بعد أن القاف عليه نقطة واحدة من أعلى والفاء نقطة واحدة من أسفل ، و بدأت ألاحظ الفوارق ، إلى أن أجدت القراءة بالخط الكوفي .
في أحد الأيام ناداني العقيد " محجوب " و قال لي :
ـــ و الله اني احببتك في الله ، وأريد ان أعطيك هدية ..
فقلت له :
ـــ بارك الله فيك .
فقال :
ـــ هديتي ، آية من كتاب الله ، إذا قرأتها في يومك لم تمت في ذلك اليوم !
فضحكت ، لكنني قلت له :
ـــ أخبرني بسرعة ..
فقال لي :
ـــ كان أحد التابعين يصلي بها يوميًا فحلم بالرسول صلى الله عليه وسلم ، يقول له : أراك تكره لقائنا !! فقال : لماذا يا رسول الله قال له : أنت تردد هذه الآية و تلى قوله تعالى :
{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ، فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ . }
و هذه الآية من يقرأها في يومه لم يمت ذلك اليوم .
طبعا حفظتها عن ظهر قلب ، و استمريت أصلي بها صلاة المغرب .
إلى أن جاءني ما ظننته رسالة من الله فتركتها ، ولم أعد اصلي بها .
فقد أتى في أحد الأيام الجنود و حاصروا عشة " محجوب " و عشة " طاهر " و " روبرت " ، و قاموا بعصب أعينهم و أيديهم و تم اقتيادهم إلى جهة ما ، كنت أعتقد أنه سيتم إعدامهم ، استلقيت أفكر في مصيرهم و أتألم لفراقهم . و ما هي إلا لحظات و سمعت من يسحب الاقسام للبندقية و يحاصرون العشة التي أتواجد بها حاولت أن أتذكر الآية ، ولكن لم استطيع ، أخرجت المصحف بسرعة لأبحث عن الآية التي تحفظ من الموت ، ولكن للأسف دخلوا العشة قبل أن أجدها ، تأكدت حينها أنني سأموت ، فقد نسيت الآية ، و لم أجدها في المصحف ، قاموا بتقييدي و عصبوا عيني وأخرجوني .
كنت أتشهّد و أقرأ آية الكرسي و احاول ان أتذكر هدية " المحجوب " ، دون جدوى ، إلى أن وصلنا الي معسكر الرئاسة و تم فتح الرباط وإذا به إحتفال بذكرى تأسيس الحركة ، و الحمد لله لم يكن هناك سوء كما توقعت ، و بعد أن جلست بجانب العقيد " محجوب " أخبرته بما حصل و من ذلك الوقت اعتبرتها بمثابة رسالة من الله . { وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ۚ } .
.
الحلقة 13
بقيت في هذا السجن كما أخبرتكم ، حاولت أن لا أترك وقت فراغ . رتبت وقتي بين الرياضة و الرسم و النحت و صناعة الأشياء التي تعلمتها منهم ، و كذلك كنت أستمتع المناظر الساحرة للغابة و بها من طيور و نباتات و أزهار و حيوانات ، و لكن كانت الأمراض و الجوع و الوِحدة و تقييد الحرية أقوى .
خلال هذه الفترة ليبيا قُدمت دعوة لحركة جون قرنق لزيارة ليبيا للتفاوض بشأن إطلاق سراحي مقابل مبلغ مالي ، ولكن أعضاء الحركة طلبوا من ليبيا تزويدهم بالسلاح ، الأمر الذي أفسد المفاوضات وعقّدها ، ومن ثم فشلت ، وعاد الوفد المفاوض ، و كذلك كانت هناك فرصة أخرى و هي محادثات سلام بين حركة جون قرنق و حكومة الصادق المهدي ، كانت المفاوضات تجري في كينيا و برعاية الرئيس الأميركي السابق كارتر ، الذي لم يكن يشغل المنصب ذلك الوقت ، و لكن المحادثات كانت برعايته ، و تم الإعلان عن توصل الطرفان إلى اتفاق ، و كان من بنود هذا الاتفاق تبادل الأسرى ، و كنا نتابع ذلك ، و لكن للأسف قبل موعد توقيع الاتفاق بأيام ، وقع إنقلاب عمر حسن البشير على السلطة في السودان و اصبح رئيسا له ، و تم احتجاز رئيس الوزراء المنتخب الصادق المهدي .
بدأت أفقد الروح المعنوية العالية نسبياً التي كنت أشعربها ، و بدأ اليأس يدبّ في نفسي ، و كنت أعاني من مرض البواسير ، بسبب الشطة التي كنت أضيفها إلى الأكل بكثرة ، و بعد أن فحصني الطبيب " شاو جوك " قام بإعطائي علاج ، لكنني سمعته يخبرهم بأنني أحتاج إلى عملية ، وكنت قد فرحت كثيرًا وذلك لأنني سأغادر المكان ولو بصورة مؤقته .
في نهاية عام 1990 ، وتحديدا في شهر نوفمبر ، ابلغوني انه سيتم نقلي إلى مكان آخر ، و بنفس اليوم الذي كنت أنتظر وجبة بيض الذي قمنا بسرقته !
نعم سرقناه .
كان هناك أحد الحرس لديه دجاجة يقوم بتربيتها ، فأخبرني العقيد " المحجوب " بأن الدجاجة وضعت بيضه داخل عشته تحت السرير ، وبعد أن علم " روبرت " و " طاهر " بذلك أتفقنا أن نسرق البيض ، فقلنا له لا تطردها ، اتركها تبيض حتى تصل أربع بيضات ، ثم أمنعها من الدخول حتى تجبر على البيض في مكان آخر ، و فعلا هذا ما حدث ، رغم تخوف العقيد " محجوب " من اكتشاف أمره إلا اننا كنا نشجعه .
و بعد أن تأكدوا أن الدجاجة قد وضعت بيضها في مكان آخر ، تركنا البيضات الأربعة حتى تأكدنا بأن صاحبها لن يبحث عنها .
أخيرا قررنا طبخها و أكلها ، فأحضرنا علبة صفيح ووضعنا بها ماء ، ووضعناها جانب النار ، و جلسنا ننتظر بفارغ الصبر أن تنضج و نتناولها .
أذكر أن " روبرت " كان فرحًا و يقول :
ـــ أخيرا سنأكل زلال !
تصوروا مجرد أكل بيض كان من الأماني المترفة حينها !
و بنفس الوقت كنا نخاف أن يكتشف أمرنا ، الشهية الشرهة و الجوع كانا أكبر من كل شيء . و بينما نحن في الانتظار اذا بمجموعة مسلحة تطوق عشتي و أخبروني أنه سيتم نقلي إلى مكان آخر . و ذهبت معهم دون أن أتناول البيض .
و كانت آخر مرة أقابل فيها " محجوب " و " روبرت " و " طاهر " .

كانت وجهتنا معسكر الرئاسة الذي لا يبعد كثيرًا عن مكاننا ، وصلنا هناك و تم وضعي في عشة " قطية " لم تكن منظمة و جميلة كعشتي السابقة ، و لكني كنت سعيدًا لأنه بعد سنتين تغيرت الوجوه و الأماكن و هذا في حد ذاته رفع من الروح المعنوية التي قاربت أن تنعدم ، بل وصل بي الأمر كنت حينما أدعو الله أثناء السجود ، أستمع إلى صوت داخلي يقول :
( كيف سيخرجك الله من هنا ؟ ) .
وكنت استغفر الله على الفور . ولكن رحمة الله واسعة ، و سرعان ما أتت قبل أن يدب اليأس إلى قلبي .
اخبروني انه سيتم نقلي إلى مستشفى للعلاج ، وأذكر حادثة حدثت أثناء و جود أحدهم داخل العشة التي وضعوني بها و أثناء حديثي معه عن نقلي إلى المستشفى ، و كنت أود استدراجه في الكلام حتي أعرف المكان الذي سأذهب إليه ، و لكنه توقف عن الكلام فجاءة و أدار وجهه للأعلى و أخذ ينصت ، و أشار لي بالصمت ، وفجأة طعن سقف العشة بالرمح الذي كان بيده ، و عندما سحب الرمح إذ بصوت يتدحرج من على العشة من الخارج ، و خرج لالتقاطه ، و إذ هو فأر كبير ..
تركني و ذهب إلى حيث كانت نار موقدة و أزاح بعض الجمر و قام بوضع الفار ، و بعد أن أستوى أخرجه ، و قام بتنظيفه من الرماد ، و بدأ بأكله بعد أن دعاني لمشاركته وجبته ، ولكني رفضت بشده ، بالرغم من رائحته الشهية و كذلك شكله المشوي على النار ، ولكن نفسي أبت ، وصار يأكله مثل الساندويتش .

يتبع في الحلقة 14 ..
_______
نقلا عن : Suliman Elshtiti
 
قصة تواجد القوات الجوية الليبية بالسودان
______
الحلقة 14 ، 15 ..
.
الحلقة 14
في إحدى الليالي احضروا سيارة و انتقلنا إلى مكان علمت بعدها انها مدينة " قمبيلة " . أقمنا تلك الليلة في غرفة مبنيه من الطوب و السقف من الزنك ــ الزينقو ــ و في الصباح تم نقلي الي مستشفى " قمبيلة " و قابلت دكتور " سلمون " وهو مدير المستشفى ، و بعد ان تحدث معي ابلغني أنني احتاج عملية جراحية ، فاستغليت فرصة أننا بمفردنا و أخبرته بأنني أسير وإذا أمكن مساعدتي ، فأبدى تعاطفه معي ، لكنه لم يرد عليّ بالموافقة على المساعدة من عدمها . و علمت انه أخبرهم بضرورة إجراء عملية وان المستشفى غير مجهز ، و تقرر دخولي الى المستشفى . و قسم الايواء كان عبارة عن عشة كبيرة جدا ، حوالي 50 متر × 10 متر تقريبًا ، وكانت الارضية خرسانية و السقف من القش و مزودة بالكهرباء و العديد من الاسرّة التي كانت مليئة بالمرضى الذين يتألمون ، كان سريري بجانب أحد المرضى الذي يدعى "دميرا " و هو شاب متزوج وكان أحد العاملين بالمستشفى كممرض ، و كان يعامل معاملة خاصة ، و كانت أسرته تأتي لزيارته و لاحظت استغرابهم لوجودي . حيث كنت محاط بحرس في الخارج و آخر بجانبي ، و لا يمكنني الذهاب حتى إلى دورة المياه ــ اكرمكم الله ــ الا مع الحراسة ، و كان الجميع لديه الفضول ليعرف قصتي ومن أنا ! ولكن كنت ممنوعًا من التواصل أو التحدث مع الآخرين .
عند زيارة الطبيب كنت أبالغ في أعراض المرض حتى يتم نقلي إلى مكان آخر ، أو على الأقل البقاء في المستشفى .
طبعًا الأكل كان أفضل بكثير ، و كذلك الفراش اسفنج ، كل شيء كان أفضل ، و بعد زيارة من الدكتور " سلمون " أخبرني أنني أحتاج لإجراء عملية و هناك دكتورة من هولندا ضمن فريق أطباء بلا حدود M.S.F وهي التي ستجري العملية .
في صباح اليوم التالي تم نقلي إلى غرفة العمليات و هي عبارة عن غرفة داخل سور المستشفى ، تم إعطائي بالطو طبي خاص بالعمليات قمت بخلع ملابسي و ارتدائه . و تم و ادخالي إلى غرفة العمليات سيرًا على الأقدام ، وأستلقيت على سرير العمليات ، و كنت أشاهد الطاقم الطبي وهم يجهزون المعدات و المشارط و غيره و سط دهشة مني و خوف ، كان يجب أن أدخل على نقالة " باريلا " ، و أن أكون تحت التخدير ، كنت خائفًا من إجراء العملية دون مخدر !! خاصة عندما طلب مني أحد الممرضين مد يدي اليسرى و قام بربطها و تركيب التغذية بها .
و بعد أن ظهر على وجهي الشعور بالاستغراب و الخوف معًا ، تدخلت الدكتورة و كان وجهها مطمئنًا ، و قالت لي بالإنجليزية :
ـــ لا تخف ، لن تشعر بشيء .
و قام أحدهم بحقن ابرة بالتغذية ، و أمرتني الدكتورة أن أعد من الواحد إلى العشرة ..
و لا أعتقد أنني وصلت في العد إلى الأربعة . نمت و أعتقد أن نوعية البنج كانت قديمة جدًا ، حيث أنني لم أشعر بالعملية و لكني كنت أتألم ألم كبير جدًا ، كنت أشعر و كأنني في صندوق و لا أستطيع التنفس أحيانًا ، و احيانًا أخرى كأنه يتم تقطيعي أجزاء ، ألم لم أستطيع وصفه ، و لم ينقذني من الألم إلا نسمة الهواء الذي لفح وجهي أثناء نقلي بواسطة بطانية في الطريق إلى قسم الإيواء ،
وحين تم وضعي على السرير شعرت بالراحة ، فتحت عيني و لم أجد أحد بجانبي حتى الحرس شاهدتهم في الخارج ، فاستغليت الفرصة للحديث مع " دميرا " الذى شعرت بالارتياح تجاهه ، ففكرت أن أبلغه بقصتي وما إذا كان يرغب في مساعدتي ، و في حال أن أخبرهم وأوشى بما قلته له ، سأتظاهر بأنني أهذي بسبب المخدر ! و اتخذت القرار و قمت بإبلاغه ، و كان عند حسن ظني و تعاطف معي بقوة و ابلغني انه سيقف معي وسيساعدني كيفما أشاء ، و هنا طلبت منه قلم و ورقة ، و كدليل على صدقي ، اخرجت بدلة الطيران من الكيس و أريتها له ، و أخبرته بأنني سأكتب رسالة ، و اتركها في دورة المياه و عليه أن يضع عليها العنوان الذي سأكتبه و يرسلها له عن طريق البريد ، و بعد أن سمح لي بالذهاب إلى دورة المياه ، قمت بكتابة الرسالة الآتية :
ـــ انا بخير و موجود في الأسر لدى قوات جون قرنق ، و سأعود في اقرب فرصة أن شاء الله ، سلامي إلى الجميع ..
و في الخلف كتبت العنوان الاتي ، شركة البريقة لتسويق النفط ، الى غيث القزيري ( الآن يعاني من مرض الم به ، نتمنى منكم الدعاء له بالشفاء ) ، وكتبت الاسم ثلاثيا .
اخترت هذا العنوان كان بسبب عدم وجود تصنيف للشوارع و المباني ومن السهل أن تضيع المراسلات . ولكن شركة البريقة عنوان واضح ، الأمر الآخر ، أن " غيث القزيري " وهو خالي شقيق أمي و كان عضو مجلس إدارة الشركة و المفوض العام بها ، وبهذا فإن الرسالة لن تضيع ، و ستصل بكل تأكيد . تركت الرسالة و القلم بدورة المياه ، و أنا أشعر بخوف كبير لو فيما لو أكتشف الأمر ، و أنا في طريقي إلى قسم الإيواء شاهدت " دميرا " يدخل الى دورة المياه .
و في اليوم التالي أخبرني بأنه تم ارسال الرسالة ، و تطورت العلاقة بيننا ، و كنت أتبادل معه أطراف الحديث ، عندما يخرج الحرس الشخصي للاستراحة أو التدخين .
.
الحلقة 15
كنت اتبادل مع " دميرا " الحديث أثناء اي فرصة و كان متعاطف معي جدا هو و أسرته الذين كان لهم كل التقدير و الاحترام ، وكانت العلاقة طيبة الى درجة انه عرض علي تجهيز سيارة خارج سور المستشفى لنقلي بعد الهروب و مساعدتي للعودة إلي ليبيا .
في الجانب الآخر في ليبيا ، اخبرني خالي انه أثناء و جوده في مكتبه في شركة البريقة ، ادخل إليه البريد الصادر ، و قد لفت انتباهه مغلف غريب ، و عليه طوابع بريد غير مألوفة ، مزق المغلف و رماه في سلة المهملات بعد أن اخذ الرسالة ، فأخبرني أنه قرأ الرسالة و عرف أنني اعاني من خلال الخط المرتعش . فأخذ الظرف من السلة و وضع به الرسالة و قام بإيصالها القيادة .
طيلة مدة أسري كان بالتخطيط مع اخي الذي يصغرني مباشرة ، يقوم بكتابة رسائل وهمية باسمي و قراءتها للوالدة ، و لكنها كانت تقول لهم بأنها لا تصدق ذلك ، بل إن قلبها يحدثها بأنني اما أن اكون ميتا أو اسيرا .
انه قلب الام . والدتي ، رغم أنها لم تدرس في المدرسة على الإطلاق لكنها مرأة عظيمة ، فقد تعلمت القراءة و الكتابة و حفظت القرءان الكريم كاملا ، و هي الآن تقوم بكتابته بخط يدها . بعد أن زوجت جميع أبنائها السبع .
أما أنا فقد كنت أبالغ في وصف حالتي بعد أن يأتي الطبيب لزيارتي وخاصة وأنني فقدت الكثير من وزني قبل إجراء العملية عندما صعدت على الميزان لم أصدق نفسي فقد و صل وزني 56 كيلو ! و قد كان قبل الأسر 82 كيلو !
علمت أن الطبيب قرر نقلي الي مستشفى آخر ، لا أدرى هل هو تعاطف معي ام هو قرار طبي ، زارني ملازم استخبارات يدعى " اقوك " وأخبرني انه سيتم نقلي الي مكان آخر لم يبلغني به ، و ان هناك مفاوضات مع ليبيا بشأني ، وانهم يودون معالجتي و تسليمي الي ليبيا مقابل مبلغ مالي تدفعه ليبيا ، و انه علي الانصياع للأوامر اذا اردت العودة إلي ليبيا ، و كانت الأوامر تقضي ( الادعاء أن اسمي ابراهيم علي ، وجنسيتي سوداني ، انا أحد أعضاء الحركة و مسجون بسبب أخطاء ارتكبتها ) . فوافقت على ذلك ، ابلغني انه في حال أن خالفت ذلك ستدخل اطلاقة في رأسي ، حسب تعبيره .
فعلا ، تم نقلي الي مدينة " جمعة " وبعد أن وصلنا الى هناك و أقمنا بها عشرون يوما ، وهناك ابلغوني انه سيتم نقلي الى مكان آخر بسبب عدم وجود أطباء في مستشفى " جمعه " بسبب مغادرة الطاقم الكوبي الذي كان يعمل هناك ، أخيرا . اتجهنا الي أديس أبابا .
بعد أن أقمنا في فندق صغير بمدينة " جمعه " ، خرجنا من الفندق و ذهبنا الي السوق ، سوق شعبي ، اشتروا لي قميص و بنطلون ، مستعملة و لكنها بحالة جيدة ، و كنت اتنقل معهم كأنني فرد منهم و لكنهم كانوا يحيطون بي و هم مسلحين، راودتني فكرة الهرب ، خاصة أن المدينة بها كثير من المسلمين . و لكني لم احصل على فرصة و كذلك كنت امل أن تكون باديس أبابا الفرصة أكبر ، اذا لم يكن خبر تسليمي صحيح .
بتاريخ 01 أبريل 1991 ، انتقلنا الي العاصمة أديس أبابا بواسطة السيارة وصلنا صباحا الي مكتب الحركة الشعبية بأديس أبابا ، التقينا هناك أحدهم يدعى " المرحوم " اعتقد انه هو المسؤول الأول في المكتب ، بعد التنسيق وإجراء الاتصالات ، تم نقلي الى مستشفى يدعى police force hospital مستشفى الشرطة .
تم وضعي بقسم خاص بكبار الضباط بقسم الجراحة غرفة رقم 18 . كانت عبارة عن غرفة تطل على حديقة جميلة جدا ، وبها سرير و طاولة و دولاب من نفس الطقم بالون الأزرق الفاتح ، و يوجد دورة مياه داخل الغرفة ، كان كل شيء نظيف جدا ، جلبوا سرير إضافي للحرس ، نعم كان يرافقني حرس يتناوبون على حراستي .
______
نقلا عن : Suliman Elshtiti
 
قصة تواجد القوات الجوية الليبية بالسودان
________
الحلقة 16 ، 17 ..
.
الحلقة 16
في الصباح الباكر يأتي عمال النظافة و بعد الانتهاء من التنظيف يأتون بكأس حليب وآخر ماء و يتم تغيير الوسادة و الفوط و الشراشف ، كان الأمر رائع و بدأت أشعر بالراحة . أطقم طبية أثيوبية ممتازة الأكل يقدم ثلاث مرات إفطار و غذاء و عشاء ، و كان طعامًا شهيًا . .
بعد أيام من إقامتي ، صرت أعرف روتين العمل بالمصحة ، و مواعيد فصل الأطقم المناوبة ، و أوقات خروج الأطباء .
وبدأت أفكر بطريقة ما للهروب .
خمّنت بأنني استطيع الهروب ، خاصة أن نافذة الغرفة منخفضة ، و كانت مقابلة المدخل الرئيسي ، و كنت أشاهد حالات الدخول و الخروج و مواعيد الزيارة والحركة في المدخل كانت على مرمى بصري .
. وحين عرفت كل شيء . قررت الهروب
كانت هناك طبيبة شابة و كنت ارتاح لها واعتقد انها كانت تشفق علي ، فطلبت منها اقراصًا منومه بحجّة أنني أتألم و لا استطيع النوم ، فوافقت ، أخذتها منها و لم أقم بتناولها ، بل تظاهرت أنني شربتها مع الماء ، طبعًا الحرس المرافق لم يكن يعرف شيء عن هذه الأقراص ، لأنه لم يكن يتحدث الإنجليزية ، و كررت طلب الأقراص عدة مرات ، وصار عندي ثلاثة أقراص ، و عندما حان الموعد دخلت الى دورة المياه و قمت بغسل الأقراص حتى أزلت المادة المحلّاة التي تحيط بالقرص و أصبحت ذات لون ابيض ، و ضعت الأقراص بورقة و طحنتها حتى أصبحت مثل البودرة ، ومن ثم اخفيتها .
و في صباح اليوم التالي بعد أن تم تغيير الحرس و بعد مرور الأطباء ، وضعت البودرة في أحد الأكواب ، سكبت الحليب فوقه وسكبت الحليب في الكوب الآخر كذلك ، و قدمت الكوب الذي يحتوي المنوّم للحارس ، و لكنه بعد أن أخذ رشفة ، سألني :
ـــ ما الذي وضعته بالكوب ؟ فقد كان طعمه مر !
قلت له :
ـــ حليب ..
أخذ الكوب الآخر و تذوقه و طلب مني شرب الكوب الذي به المنوم ، شربت منه قليلًا و قلت له :
ـــ نعم .. إنه مرّ ..
و قمت بسرعة إلى الحمام و غسلت الكوب ، وقلت له :
ـــ ربما المرارة من بقايا أو أثار داخل الكوب !
ظني أنه لم يشك في الأمر ، و لكن المفاجأة أنه سرعان ما أستسلم للنوم ، و لم أعرف هل نام بسبب المنوّم أو أنه يتظاهر بذلك !!
و قررت أن أبقى في السرير حتى أتأكد من أنه نام ، و استلقيت ، و لم أدرِ ما الذي حدث بعد ذلك !
يبدو أنني نمت أنا أيضًا . و لا أدري كم مرّ من الوقت ، اعتقد انه اليوم التالي ، لقد كانت الجرعة كبيرة .
لكن عندما فتحت عيني ، وجدت أمامي الدكتور مدير المستشفى وهو برتبة عميد ، و ضابط أمن اثيوبي يدعى " أبرها " و الدكتور " شاو " .
كنت خائفًا جدًا ، فقد خالفت الأوامر ..
تحدث الضابط الأثيوبي و سألهم :
ـــ هل يعرف الإنجليزية ؟
فاخبروه بالإيجاب ، ولكنه فضل الحديث معي بالعربية و قال لي :
ـــ هل ترغب في العودة إلي ليبيا ؟
لم أرد عليه و فضلت السكوت ، فقال لي :
ـــ سيتم نقلك إلى مكان آمن .
وما هي إلا دقائق ، حتى أمروا بنقلي إلى فندق صغير اسمه " زمن هوتيل " قضينا ليلة مع حراسة مشددة .
.
الحلقة 17
و في اليوم التالي نقلت إلى سجن التحقيق المركزي . central Investigation prison
طبعا تم نقلي و لم أكن مقيد اليدين ، و كنت أشاهد الطريق و كل ما يجري في وسط أديس أبابا ، وقفت السيارة أمام مبني جميل في قلب أديس أبابا ، نزلنا و دخلنا ، كان المبني كأنه وزارة ، جميل حتى من الداخل ، الفرش الأحمر يغطي الممرات و السلالم ، صعدنا إلى الطابق الثاني ، دخلنا مكتب شخصية كبيرة ، جلسنا في المكتب ، تبادلوا التحية فيما بينهم ، و من ثم تبادلوا الحديث بعيدًا عني ، لم أستمع إلى حديثهم ، رغم محاولتي استراق السمع ، خرجنا من المكتب و مشينا إلى نهاية الممر ، فتح باب من الخشب الجميل .
و بعد أن دخلنا ، كانت المنظر مرعبًا !
باب حديد يشبه أبواب السجون مطلي باللون الرصاصي ، تم الطرق على الباب ، فإذا بصوت عمود حديدي يسحب و صوت الاقفال تفتح ، و فتح الباب عسكري أثيوبي ، تحدث مع " أبرها " و أعطاه كتاب مطوي ، لم يفتحه و سمح لنا بالنزول من السلم الحديدي الذي كان بشكل دائري ينتهي بباب آخر من الحديد تم فتحه بواسطة العسكري الذي كان في المقدمة ، كانت هناك غرفة دخلناها ، بها مكتب قديم و كراسي شبه متهالكة ، وجلسنا ..
غادر الجميع ما عدا أنا و الدكتور " شاو " .
والدكتور " شاو " هو طالب طب في السنة الأخيرة ، ألتحق بحركة تحرير السودان و تم الاستفادة منه كطبيب عسكري وتم ارساله معي ، وبعد أن تقرر ادخالي السجن ، تم تكليفه بمرافقتي كحارس ، ولا أظن أن من في السجن وادارته لهم علم بذلك ، هم يعرفون فقط اننا نتبع جون قرنق و أن سبب وجودنا بالسجن مخالفة ارتكبناها .
تم تفتيشي و أخذوا مني الأدوية و خيوط الحذاء الذي كنت أرتديه ، ولم يبقوا على شيء لدي إلا الملابس ، ثم تم اقتيادنا عبر ممر الى ساحة بها مبني كبير و محاط بسياج مرتفع و اسلاك شائكة و أبراج مراقبه بها جنود يصوبون بنادقهم نحونا ، سرنا يمينا حتى أصبح المبنى يسارنا و في المقابل دورة مياه ــ اكرمكم الله ــ و في الجانب الأيمن فناء كبير ، كان المكان به العديد من النساء السجينات ، و قفنا في بداية المبنى ، أعطى الأمر للنساء بدخول الغرف ، حيث كانت حوالي خمس غرف بالمبنى أبوابها في اتجاه الفناء .
بعد دخول النساء ، تم نقلنا الي الغرفة الأخيرة التي تقع بجوار دورة المياه ، تم فتح قفل الغرفة و استدعاء اثنان من السجينات لإحضار فراشان ، دخلنا إلى الغرفة ، كانت تقريبا مساحتها 4 متر × 5 ، كانت مبنية من الحجارة و حجم الجدار 40 سم ، لا يوجد بها نوافذ ، بها فقط باب حديد به شباك صغير مرتفع نسبيا ، يوجد مصباح خارج الشباك الذي عبره يدخل الضوء و الهواء ، كما يوجد مكبر صوت خارج الباب متصل براديو في الخارج .
قفل الباب بعد دخولي أنا و الدكتور " شاو " . لقد أصبح سجينًا معي في السجن المخصص للنساء كي لا نختلط بأحد .
كان الأكل عبارة عن ثلاث أرغفة من الحجم الصغير مع ترمس به ثلاث أكواب شاهي لكل شخص ، ويسمح لنا بزيارة الحمام ثلاث مرات في اليوم ، في الصباح الباكر و منتصف النهار و آخر النهار ، أما في غير هذه الأوقات يتم الطرق على الباب و تتم الموافقة بعد دخول النساء إلى غرفهن ، حيث أن الحمام مشترك بيننا على يسار غرفتنا و هو عبارة عن غرفة مستطيلة بها عدد من دورات المياه و مجموعة من احواض الغسيل .
______
نقلا عن :
Suliman Elshtiti
 
قصة تواجد القوات الجوية الليبية بالسودان
________
الحلقة 18 ، 19 ..
.
الحلقة 18
كانت تلك الليلة من أصعب الليالي التي مررت بها ، ربما لأنني قد تعوّدت في الأيام الأخيرة على إقامة مرفهة في المستشفى ، و لكن الأمر تغير بعد أن كنت قريبًا من الحرية أجد نفسي قد عُدت و بقوة لقيود الأسر ، و في سجن مشدد الحراسة .
فلم أنم من آلام السجن و الجوع كذلك .
وبعد أيام قضيناها ، لم يستطع الدكتور " شاو " الاحتمال ، قمنا باستدعاء الحرس عن طريق الطرق على الباب ، و بعد أن أتى حاولنا الحديث معه فلم تكن بيننا لغة مشتركة ، حيث أنه لا يتكلم إلا " الامهرية " ، فقام باستدعاء إحدى الفتيات السجينات وتدعى " سهلو " وكانت فتاة ذات بشرة حنطية جميلة ، و مثقفة و كذلك ذكية . كانت تترجم له ما نريد ، و تترجم لنا ما يجيب به هو ، وكانت خلال الترجمة تحاول أن تسألنا عن سبب وجودنا و من أين نحن و العديد من الأسئلة الشخصية ، وكنا نجيبها أثناء الحديث ، كذلك أخبرناها إننا نحتاج الى الأكل و العلاج و الهواء والشمس قبل كل شيء ، و بعد أن وصلت رسالتنا إلى إدارة السجن ، تمت الموافقة على ترك باب الغرفة مفتوحًا على أن لا نغادر الغرفة الا بإذن الحرس في البرج المقابل للغرفة . فلم أغادر المدخل ، كان الهواء نقي و نستمتع بضوء الشمس ، وبمنظر الزرع الجميل في الفناء ، و كذلك كنا نتابع السجينات أثناء ذهابهن للحمام و العودة منه ، و أثناء تجولهن في الفناء ، حيث كان مسموحًا لهن ذلك .
أما فيما يخص طلبنا بتحسين الأكل فلم يستجيبوا لهذا الطلب ، لسبب عرفته فيما بعد ، انه لا يوجد لديهم مطبخ أساسًا ، فقد كان أهالي السجناء هم من يأتي لهم بالأكل و ما يحتاجون من صابون و معجون حلاقة و أسنان وغيرها من المستلزمات اليومية .
وافقوا للدكتور " شاو " بأن يكتب رسالة لمكتب الحركة التابع لجون قرنق ، وأوعزوا للسجينة " سهلو " أن تزودنا بورقة و قلم .
و بعد أن وصلت الرسالة ، أرسلوا لنا بعض الاحتياجات و بعض الأكل مرة واحدة ، و عادت المعاناة من جديد ، وحيث أن الجوع لا يمكن تحمله ، فقد كررنا الشكوى حول موضوع الأكل ، و للأسف لم تكن هناك استجابة .
لكن السجينة " سهلو " أخبرت " باقي السجينات عن معاناتنا ، فكنّ يتعاطفن معنا إلى أبعد حد ، و كنا يبعثن لنا بالأكل من حين لآخر ، في البداية كان الأمر صعب ولم نقبل به ، و لكن مع اصرارهن وتحت وطأة الجوع تنازلنا عن بعض الكبرياء !!
كانت إحدى السجينات وتدعى " ازب " ، وسجينة أخرى قد لفتتا انتباهي ، كانت السجينة الأخرى امرأة في الأربعينات من العمر تدعى " قنة مبرات " فقد كانت سجينة مميزة ذات شخصية قوية كانت ترتدي ملابس سوداء و تضع على رأسها وشاحًا أسودًا ، و يظهر عليها الحزن الشديد في معظم الأوقات ، كانت تبدي اهتمامها بنا ، و كنا نتبادل التحية عند مرورها أمام غرفتنا أثناء ذهابها أو عودتها .
.
نعم كان يظهر عليها انها شخصية ذات شأن ، و علمت فيما بعد أنها زوجة جنرال حاول الانقلاب على الرئيس الأثيوبي منغستو هيلامريم ، و بعد أن اكتشف أمره تم إعدامه عن طريق ربطه بسيارة و جرّه بمدينته اسمرا حتى أصبح أشلاء على طرق المدينة ، و نُكّل بأسرته ، و وُضعت زوجته بالسجن ، و هي منذ تلك الحادثة لم تنزع الثياب السوداء ..
فقد كانت تحاول أن تعرف أي شيء عنا وعن سبب وجودنا ، وفي أحد الأيام أتت للغرفة لتقدم لنا بعض الأكل ، بعد أن أخذت الإذن كالعادة ، و كان حينها الدكتور " شاو " نائمًا ، فانتهزت الفرصة و قلت لها :
ـــ أحتاج إلى مساعدتك ، هل توافقين ؟
فرحّبت دون تردد ، وقلت لها :
ـــ سأترك لك رسالة في الصحون بعد أن نتناول الأكل ..
و كانت من عادتنا أن نقوم بغسل الصحون وتركها على حوض الغسيل في الحمام . بعد أن سلمتني الأكل و غادرت ، قمت بوضع الأكل في الغرفة ، و أخذت القلم الذي كان بحوزة الدكتور " شاو " النائم ، و قمت بكتابة رسالة على ورقة علبة سجائر و هذا نصها على ما أذكر :
( بعد التحية . أنا طيار ليبي ، و أنا حاليًا أسير حرب لدى قوات جون قرنق ، و الدكتور " شاو " هو حرس شخصي تابع لجون قرنق ، اسمي " سليمان خليفة الشطيطي " ، اذا استطعتِ إبلاغ السفارة الليبية بمكاننا أكون شاكرًا ، و أن لم تستطيعي الرجاء حرق الرسالة و نسيان الأمر . ) .
.
الحلقة 19
قمت بإعادة القلم في مكانه و اخفيت الرسالة في ملابسي ، و بعد أن أيقظت، الدكتور " شاو " و تناولنا الأكل ، حاولت أن أنتهي من الأكل بعده ، وأخذت الصحون و ذهبت بها إلى الحمام ، بعد أن أخذت الإذن بذلك ، و وضعت الرسالة بين الصحون بعد تجفيفها ، وكنت خائفًا جدًا من أن يُكتشف أمري ، ورجعت إلى الغرفة و أنا أدعو الله ..
و اطمأننت بعض الشيء عندما شاهدتها تذهب إلى الحمام فور وصولي للغرفة ، كنت متوترًا جدًا ، ورأيتها تعود و معها الصحون ، لم أغادر مدخل الغرفة حتى حصلت على إشارة منها ، وهي تقوم بنشر ملابسها على الحبال .
و سمعتها تقول :
ـــ لا تخف لقد أحرقت الرسالة ! و أريد رقم جواز السفر .
دخلت إلى الغرفة دون أن أجيبها ، وقد شعرت ملاحظة الحرس لما يجري بيننا من حديث .
و في اليوم التالي ، و كان أول أيام شهر رمضان المبارك ، إذ بمجموعة من العساكر قادمون و تم فتح الغرفة ، و تم نقلنا إلى سجن الرجال ، الذي كان يقع خلف هذا السجن مباشرة ، خرجنا من الغرفة و سرنا يمينًا ، وكنا كلما مررنا على غرف السجينات يقمن بتحيتنا ، ثم انعطفنا يمينًا ، كان هناك ثمة حارس ممسك بين يديه بسجل ، و يجلس على كرسي أمام باب كبير جدًا ، و أمامه طاولة ، و ضع السجل عليها و قام بكتابة اسمائنا و دوّن بعض المعلومات ، ثم أمر بفتح الباب ، وما أن فُتح الباب ، ولاح لي الداخل ،حتى أيقنت أني سأواجه أيامًا عصيبة قادمة !
فقد كان الداخل عبارة عن ممر طويل ، يأخذ شكل كأنه أنبوب ، وكان السقف مقوس ، و الأرضية شبه مقوسة أيضا لوجود غرف صغيرة لتصريف الماء في المنتصف ، بالممر غرف على اليمين تحمل الأرقام الفردية 1,3,5,7,9,و بعدها دورة المياه . و إلى اليسار غرف زوجية تحمل الأرقام، 0,2,4,6,8 ، و علمت فيما بعد أن أنظمة السجن تقضي بوضع السجين أول يوم بالغرفة رقم 0 والتي يتم ضربه فيها ضربًا مبرحًا ، و ينام بها دون أي خدمات ، و دون أي فرش يقيه من الأرض ، و في اليوم التالي ينقل إلى الغرفة رقم 7. و التي كانت مقسمة من الداخل اإلى أربع زنزانات صغيرة ، و يبقى بها السجين مدة أسبوع كسجن انفرادي دون مخالطة أحد ، و بعدها يتم نقله إلى إحدى الغرفة الأخرى التي تحوي ما بين سبع مساجين إلى خمسة عشر سجينًا . و يكون مسموحًا لهم بالخروج في الرابعة مساء إلى فناء السجن ، وبممارسة هواياتهم ، النحت ، الرسم ، الرياضة ، كما يسمح لهم بمشاهدة التلفاز من الساعة 8 مساءًا إلى العاشرة .
أمّا نحن ، فالحمد لله أننا لم ندخل الغرفة 0 ، تم ادخالنا مباشرة الغرفة رقم 7 و التي هي عبارة عن ممر و به أربع زنزانات اثنتان على اليسار و اثنتان على اليمين ، كان من نصيبنا الزنزانة الأولى على اليسار ، كانت صغيرة إلى درجة انها أقل طولًا من طول الفراش ، ظني أن مساحتها لا تتجاوز 1.5 متر × 1.5 تقريبًا ، لعلها كانت مصممة كسجن انفرادي لشخص واحد ، وإذ بهم يضعوننا بها أنا وحارسي " دكتور شاو " ! ، وضعنا الفراش ، لا شيء في الغرفة غير الحوائط من جميع الاتجاهات ، وباب حديد به نافذة صغيرة جدًا ، لا يزيد مقاسها 30×30 سم . يدخل من خلالها الضوء و الهواء ، كان الأمر صعبًا جدًا ، مع عدم السماح لنا بالاختلاط !
وبرزت من جديد مشكلة الأكل خاصة في شهر الصوم ، كانت الوجبة عبارة ثلاث أرغفة صغيرة مع ترمس به ثلاث أكواب شاي ، تسلم صباحًا الى اخر النهار ، حيث نقوم بتسليم الترمس فارغًا ، فكرت في التوقف عن الصيام ، و لكنني كنت في أمسّ الحاجة للتقرب إلى الله ، وأعرف أن العبد أقرب إلى ربه في سجوده ، وأظن أنه يقترب منه أيضًا في صومه ، فقررت مواصلة الصيام ، الا اذا شعرت بضعف .
وكثيرًا ما يحمل العُسر في طيّاته اليُسر .
وما كاد يمضي يومان أو ثلاث ، حتى جيء
لنا بأكل دسم ، قال الحارس الذي أتانا به ، انه من طرف السجينة " سهلو " ، بعد أن علمت اننا لم نغادر السجن بل نقلنا إلى سجن الرجال . وبعد أن علم السجناء أننا غرباء ولا أحد يأتي إلينا باحتياجاتنا ، وأن السجن لا يقدم لنا شيئًا ، صاروا يتسابقون على مساعدتنا ، خاصة بعد أن علموا أنني أصوم و كان منهم مسلمين ، و قد كان منهم وزراء سابقين و رجال أعمال و طيارون و رجال دين ، الحمد لله أنه لا ينسى أحد .
.
يتبع في الحلقة 20 ..
_______
نقلا عن : Suliman Elshtiti
 
قصة تواجد القوات الجوية الليبية بالسودان
________
الحلقة 20 ، 21 ..
.
الحلقة 20
كانت أيام صعبة جدًا ، كان المكان مليء بالحشرات كالقمل والبق ، لم يكن مسموحًا بالاستحمام إلا في الصباح الباكر ، و كانت المياه باردة جدًا ، فلم تكن هناك سخانة مياه ، و لكننا كنا مجبرين أن نستحم يوميًا حتى لا تهاجمنا الحشرات ، حاولنا المحافظة على نظافة المكان قدر المستطاع ، لم يسمح لنا بمغادرة الشيلة إلا ثلاث مرات يوميًا لغرض قضاء الحاجة أو في الحالات الطارئة ، قضينا شهر رمضان بهذه الحالة و كان الجميع يستغرب أمرنا ، حيث انه يفترض أن نخرج من الزنزانة بعد أسبوع ، فلا يوجد أكسجين كافٍ ولا شمس ، ولا يمكنك التحرك في مثل هذه المساحة الضيقة جدًا ، الجميع تعاطف معنا ، لم يكن أمامنا إلا تعويد أنفسنا على هذا الوضع ، وأن نحتمل ، وأنا أعرف صعوبة احتمال هذا الوضع المزري ، كنت استمع مرات عديدة لبعض المساجين يتحدثون بشأننا مع الحراس . الدكتور " شاو " هو الآخر لم يعد يحتمل المزيد من المعاناة ، و كتبنا عدة رسائل دون أن نلقى إجابة ، كنا نعاني الظلمة ، لم نرَ الشمس في النهار ولا كنا نرى السماء ، كنا بالكاد نرى الضوء الصناعي من خلال نافذة الباب الرئيسي للغرفة رقم 7 التي لا يزيد مقاسها عن مقاس بلاطة 30 × 30 ، هذه الفجوة في أعلى الباب كانت المعبر الوحيد للضوء ، كنت خائفًا من تأثير ذلك على نظري وجسمي وقواي العقلية أيضًا .
وفي نهاية شهر رمضان و تحديدًا يوم كبيرة العيد ، أخبرنا الحارس الذي أصبح متعاطفًا معنا بدرجة كبيرة ، أن مدير السجن عادة ما يقوم بزيارة السجناء يوم العيد ، و انه سيترك لنا الأبواب مشرّعة مفتوحة ، وعلينا أن نخبره بعد أن يدخل علينا للمعايدة بأننا لن نستطيع الاحتمال في ظل هذه الظروف السيئة .
وبالفعل ، أتى مدير السجن ، وهو رجل أربعيني يرتدي بدلة جميلة رصاصية اللون و ربطة عنق ، و قام بزيارة الغرف واحدة تلو الأخرى ، و كنا نقف خلف باب الغرفة خارج الزنزانة و نراقبه ، كان يدخل الغرف و بعد المعايدة كان يستمع إلى شكاوى السجناء ، وعندما مرّ من أمام غرفتنا ألقى علينا التحية ، لكنه لم يتوقف و أكمل طريقه ، ودون تفكير فتحت الباب وخرجت وأمسكته من يده ، حاول الحرس منعي ، و لكنه طلب منهم أن يتركوني . و قال لي :
ـــ ما عندك ؟
فقلت له :
ـــ يا سيد الفاضل ، كل عام وأنت بخير ، أنت تعلم جيدًا أننا لم ترتكب جُرم في حقكم حتى نعاقب عليه بهذه القسوة ، وأنت تعلم أيضًا أن من أبسط حقوق الإنسان ، الهواء ، و العلاج ، الحركة . و الأكل . لقد مرّ علينا أكثر من شهر في هذه الزنزانة الصغيرة ، و إننا لن نستطيع الاحتمال أكثر . نأمل منكم إيجاد حل عاجل .
ابتسم لي ، و تحدث مع أحد مرافقيه ثم قال لي :
ـــ سيتحسن وضعكم .
في نفس اليوم سُمح لنا بترك الغرف مفتوحة ، و كذلك الخروج عند الساعة الرابعة إلى الممر لشرب الشاهي و القهوة و كذلك الخروج للفناء مع باقي السجناء ، و كذلك مشاهدة التلفاز معهم .
لقد كانت نقلة كبيرة جدًا كما ترون ..
.
الحلقة 21
نعم إن مع العسر يسر .. الحمد لله بعد شهر كامل شاهدنا السماء ، و استمتعنا بأشعة الشمس ، و استنشقنا الهواء النقي ، الذي كان لا يصل إلينا ، ومما زاد الأمر سوءًا كان عندما يؤتى ببعض المساجين يضعونهم في الزنزانات الاخرى بالغرفة رقم 7 ، كان الكثير منهم لا يستطيع الذهاب الى الحمام لقضاء الحاجة من أثار الضرب المبرح الذي يتعرضون له في الغرفة رقم 0 قبل نقلهم للغرفة رقم 7 ، و كانوا يقضون حجاتهم بالزنزانات ! لا أحد يأتي لتنظيفها ، وتستمر الروائح الكريهة تنبعث منها لعدة أيام ، إلى أن يتعافى السجين المصاب و ينظفها بنفسه ، و أحيانًا يخرج منها و لا يتم تنظيفها .
نعم بعد أن خرجنا ، أستشعرنا نِعم الله الكثيرة التي تعوّدنا عليها ولم نعد نعرف قيمتها !
في هذا الوقت الذي كنا نقضيه خارج الزنزانة ، التقيت العديد من الشخصيات التي كانت تحاول أن تتجاذب الحديث معي ، كانوا ينظرون إليّ على أنني شخصية كبيرة ، وكنت أحاول عدم الاقتراب من الجميع ، كنت أعلم أن بعض منهم رجال أمن زُرعوا بيننا للتجسس علينا ولتقفي الأخبار .
لكنني كنت استمع إلى قصصهم كنوع من التسلية وتمضية الوقت .
منهم طيار مسجون منذ 24 سنة من حرب اثيوبيا و الصومال ، و منهم رجل دين مسلم مسجون بسبب أفكاره و توجهاته ، ومنهم وزير داخلية سابق ، معظمهم سجناء رأي .
الطريف أنه كان من بينهم منتخب اثيوبيا لسنة 1991 ، كان في مصر لإجراء مباراة هناك ، ولكنهم قاموا بالاتصال بالسفارة الاميركية لطلب اللجوء السياسي . و لكن الأمن المصري وشى بهم للحكومة الأثيوبية ، فأرسلت لهم فريق أمني اثيوبي ، قام بحقنهم بنوع من المخدر غيبهم عن الوعي ، لم يستيقظوا الا بعد هبوط الطائرة في اثيوبيا ، وزُفّوا جميعًا من المطار إلى السجن مباشرة !
اثناء فترات خروجي من الزنزانة ، لفت انتباهي أحدهم ويدعى " اماها " من مدينة أسمرة ــ العاصمة الأريتيرية الآن ومنذ الإنفصال عن أثيوبيا في مايو 1993 ــ ، كان يتم اخراجه صباحًا بعض الأحيان و يعود بعد ذلك ، قيل انه يذهب إلى المحكمة ، و لأنني شعرت بارتياح لهذا الشخص ، قررت التقرب منه و جمع المعلومات عليه ، فقد علمت أنه تاجر كبير ، وان لديه أخ ينتمي لحركة المعارضة الأريتيرية ضد الحكومة الاثيوبية ، و تهمته كانت تقديم الدعم المالي للثوار ، حيث أن تجارته كانت مع ميناء عصب و السعودية ، وكان الثوار يتخذون من السعودية مقرًا لهم ، و يحصلون على دعمها .
تبادلنا الحديث ، كان في الثلاثين من العمر ، وكنت حينها أصغره بسنتين على وجه التقريب ، كان انسانًا مثقفًا . وبعد أن استفتيت قلبي ، قررت أن أخبر الرجل بحقيقة أمري ، واستطعت ذلك رغم محاولات الدكتور " شاو " أن لا يتركني منفردا مع أي سجين ، ولكن الأمر خرج عن سيطرته ، فقد تحصلت على فرصة و أخبرته بحقيقة أمري وإن كان يمكنه مساعدتي .
و تفاجأت بردة فعله ..
.
يتبع في الحلقة 22 ..
______
نقلا عن : Suliman Elshtiti
 
قصة تواجد القوات الجوية الليبية بالسودان
______
الحلقة 22 ، 23 ..

.

الحلقة 22

كاد " أماها " أن يفضح أمري من شدة فرحه ، فقد اخبرني انه أحبني في الله ، أخبرني بأمره كذلك ، فهو أحد الثوار ، و فوق ذلك أن ليبيا تقدم لهم دعمًا كبيرًا جدًا ، وقال لي :

ـــ من هذه اللحظة أنت في معية الثوار ، و جميع طلباتك مُجابة .

فقلت له :

ـــ أنني أرغب أن تصل أخبار أسري إلى السفارة الليبية ، هذا كل ما أريد .

قال :

ـــ أنا كثيرا ما أذهب إلى المحكمة ، و هناك ألتقي بأسرتي ، سأخبرهم بالذهاب إلى السفارة ، وإبلاغها بمكان وجودك .

وكان " أماها " منذ ذلك الحين أصبح يبالغ في إكرامي أنا و الدكتور " شاو " إلى درجة أن كرمه صار مصدر حرج لي . لم يبخل عنا بشيء ، كان يحضر لنا الفاكهة ، والسجائر ، والأكل . و لم يقف الأمر عند هذا الحد .

ذات مرة أتى و جلس جانبي وقال لي :

ـــ هل ترغب في العودة إلى ليبيا ؟

لم أفهم ماذا يقصد !!

فواصل الحديث معي :

ـــ هنا في السجن مجموعة من الثوار . و هناك تنسيق مع القيادة لتهريبنا ، وإذا كنت موافق ستكون معنا ، ولن يصيبك إلا ما يصيبنا .

الأمر كان مفاجئًا لي ..

ولم أكن أتوقع ذلك ، قال لي :

ـــ لا تعطيني إجابة الآن ، فكّر في الأمر ثم أخبرني .. ولم أترك لنفسي فرصة التراجع فقلت له :

ـــ أنا موافق !

بعد عودتي إلى الزنزانة ندمت على تسرعي ، و راودتني الكثير من الأفكار السيئة . ماذا لو كشف أمرنا . ماذا لو لم تنجح خطة الهرب ، فقد استبعدت حينها فكرة إنه غير صادق ، فقد كان قلبي يحدثني بصدقه .

وقررت أن أسلم أمري إلى الله ..

لقد وافقت وانتهى الأمر ، و ما يريده الله سيحدث قطعًا .

نعم .. لقد وافقت على الهرب مع مجموعة لا أعرف منهم أحد إلا " أماها " ، و شخص آخر عرفته عن طريق " أماها " و يدعى " لاقازا " هو أيضا له قصة أخرى عليّ أن أرويها لكم ..

كان " لاقازا " يعيش مع والديه و إخوته . و عندما قرر الانضمام إلى الحركة الثورية التي تقاتل ضد منغستوا هيلامريم ، و قبل ذهابه ، وأثناء توديعه ، وشعور والده بأنه قد لا يلقاه مجددًا ، أبلغه والده بسرّ كان يخفيه عنه طيلة حياته ، وهو أن السيدة التي تولت تربيته ليست والدته في الواقع ، و أن والدته الحقيقية ليبية الجنسية و اسمها " مبروكة " من بنغازي و تحديدًا من منطقة الصابري ، تزوجها والده أثناء عمله في ليبيا ، و بعد أن عاد إلى أثيوبيا عادت معه ، لكنها لم تتأقلم الحياة في أثيوبيا ، و حاولت إقناعه بالعودة إلى ليبيا للعيش هناك مع ولدهما الصغير ، لكن الزوج رفض ، كان يرغب في البقاء بأثيوبيا ، وذات مرة ، بعد أن نسي زوجها أمر إلحاحها للعودة إلى ليبيا ، اقنعت زوجها برغبتها في زيارة أهلها في ليبيا ، فسمح لها بشرط أن تترك ابنها الوحيد " لاقازا " حتى يضمن عودتها ..

و ذهبت ولم تعد ، هذا كل ما عرف " لاقازا " عن أمه " مبروكة " الليبية !

السجن به العديد من القصص التي تُستحق أن تروى ، سواء من المشاهد التي رأيتها ، أو من الحكايات التي سمعتها و كان يرويها لي الآخرين لقتل الوقت أو للترفيه .

كنت أحاول ان لا أجلس كثيرًا مع " أماها " حتى لا أثير الشكوك ، وفي حديثي مع الكثيرين . كنت أحاول فهم نشرات الأخبار ، و السؤال عن أخبار الثوار ، و علمت أنهم وصلوا الى منطقة تدعى " دبرزيد " وهي منطقة قريبة من أديس أبابا ، و كل يوم يزداد تقدم الثوار إلى أن أصبحت العاصمة في مرمى نيرانهم ، كنا نسمع القذائف بوضوح و كثيرًا ما نسمع إطلاق نار ، و كثرت الأحاديث الجانبية بين المساجين ، بين مؤيد للثوار وهم أغلبية ، و معارض للثوار وهم أقلية .

وفي هذه الفترة أشتد بي المرض .

إنها الملاريا اللعينة ، أعراضها مثل أعراض نزلة البرد ولكنها أضعاف مضاعفة .. إنها قاتله إن لم تعالج ، و للأسف لم يهتم أحدًا من المسؤولين بحالتي ، ورغم المطالبات العديدة ، فلم أحصل على الدواء ، وحتى بعد أن حاول " أماها " جلبه من خارج السجن عن طريق الأسرة ، لم يفلح في إدخاله السجن ، فقد كان ممنوعًا إدخال الأدوية ، و العلاج يتم عن طريق طبيب السجن ، الذي لم أره طيلة مدة إقامتي و لم يزر أحدًا !

وأزداد الأمر تعقيدًا ، كتبت عدة رسائل إلى آمر السجن عن طريق الحرس ، ولكن دون جدوى ، لم يعد باستطاعتي الخروج ، ولا الأكل ، كنت أخرج فقط لقضاء الحاجة ، وبدأت و لأول مرة تغزو جسمي الحشرات ، لم أعد استطيع السيطرة على جسدي المنهك ولا مقاومتها .

كان الدكتور" شاو " ، قد حاول مساعدتي ، ولكن حتى مكتب حركة جون قرنق التي يتبعها " شاو " انقطع عن الاتصال به ، والمؤسف أن الدكتور " شاو " صار يُعامل كسجين ، لا يكترث أحد لكلامه ، حينها ظننت أنها النهاية ..

كنت أتشهد و أتجهز للموت بعيدًا عن الأهل و الوطن ، و كان القصف يشتد ، مما زاد في الرعب ، واختلطت أوراق الخوف من المجهول !

.

الحلقة 23

و بينما أنا ملقى في الزنزانة ، و كان الدكتور " شاو " يشاهد التلفاز ، أتى " أماها " لزيارتي ومعه بعض الفواكه و قال لي :

ـــ يجب أن تأكل جيدًا و تقاوم المرض اليوم فجرًا موعدنا ، سيتم الهجوم على قصر مانغستوا هيلامريم ، والذي لا يبعد كثيرًا عن السجن ، و في نفس الوقت سيتم مهاجمة السجن و لدينا خطة للهرب .

جال في خاطري عدة لاءات :

لا أصدق ، لا استطيع ، لا يمكن .

المهم حاولت أن أتناول الفواكه ، و خاصة الأناناس الحامض ، و نفسي تحدثني أن الفرصة أتت متأخرة ، فأنا لا أستطيع النهوض ، كيف سأهرب ؟ " أجري ، أقفز ، قد أواجه مقاومة و صراع " وأنا لا أقوى أن أنهض من مكاني ؟

بعد منتصف الليل . أصبح القصف يقترب ، إلى أن أصبح صداه فوق رؤوسنا ، السقف يتحرك ، ينهال بعض الغبار ، ننتظر أن يسقط علينا في أي لحظة .

استمر ذلك ساعات من الترقب و الرعب ، لا أحد يستطيع النوم في مثل هذه الظروف ، سمعت طرق على باب الزنزانة و سمعت " اماها " يناديني و يدفع الباب ، حينها نسيت أنني مريض و سبحان الله ! كأن المرض زال ، و عادة لي قوتي ، اندفعت نحو الدكتور " شاو " و أخبرته أننا سنهرب ك

ـــ أما أن تأتي معنا أو تموت هنا ؟

لقد كان خائفًا جدًا ، وقال لي :

ـــ أنني لم أؤذيك ، أليس كذلك ؟

وتوسل إلي أن يكون معنا ، وألا نتركه هنا .

أخذت كيس به بعض حاجياتي و بدلة الطيران التي لا ازال احتفظ بها إلى الآن ، خرجنا صفًا واحد في الظلام أنا خلف " اماها " و خلفي دكتور " شاو " .

شخص ما فتح لنا الباب الكبير الذي يفصلنا عن الفناء ، و أخذنا نجري بوضع منحني تفاديًا للرماية ، تمت رماية باتجاهنا سقط أحدهم ، لا وقت للتوقف ، ولا حتى للنظر لنرى من هو ، خرجنا خارج السجن ، لم يكن من نفس المكان الذي دخلنا منه ، لم نصعد السلالم ، كان الوقت يقارب الفجر ، خارج السجن ، كان الرصاص في كل مكان ، و الفوضى تعم المكان ، الدبابات تشتبك في وسط الشوارع ، أمر مرعب .

انتشرنا ، لم يبقَ معي إلا دكتور " شاو " و " اماها " في آخر الشارع دبابة ، اختبأنا خلف حائط ، و عندما مرّت قريبًا منا ، خرج " أماها " فقد تعرّف عليهم من خلال الشعار الذي يحمله الثوار ، تحدث معهم ، ثم أشار لنا بالخروج ، و أصبحنا نسير خلف الدبابة و في حمايتها إلى أن أوصلتنا إلى منطقة آمنة ، و رفعنا أيدينا لتحيتهم ، وتمت تحيّتنا من قبلهم أيضًا عن طريق عدة اطلاقات في الهواء .

ما أجمل أن تكون حرًا ..

تذهب حيث أردت ..

تأكل ما شئت و متى شئت ..

تتحدث مع من تحب ..

كنت أكاد أطير من الفرح ، فرحة لا توصف ..

كنا نسير إلى منزل أخت " اماها " الذي لم يكن يبعد كثيرًا ، كان يظهر على الدكتور " شاو " القلق ، صحيح إنه نجى من الموت تحت داخل السجن ، و لكنه سيواجه قيادة الحركة حال عودته بدوني .

لم يطل بنا الوقت في المسير ،

سرعان ما وصلنا إلى المنزل ، استقبلونا بحفاوة قدموا لنا طعام الافطار ، ــ قراص مع طبيخة عدس بالقديد ــ القراص هي الفطائر ــ .

وبعد الهرب من السجن كنت أكثر قلقًا ، وكنت أفكر في كيفية العودة للوطن ، فأنا بدون جواز سفر أو اي اثبات هوية ، كنت خائفًا أن يبحث عني مكتب حركة جون قرنق هنا في أديس أبابا ، فطلبت من " اماها " أن نخرج و نبحث عن السفارة الليبية قبل أن تستجد أمورًا أخرى .

و بالفعل خرجنا ، رغم المخاطر ، وبعد البحث وجدنا السفارة المصرية ، كان يحيط بها سور مرتفع جدًا و باب حديد ، حاولنا الاتصال عبر الإنتركام ولم يكن هناك رد ، ويبدو أن المكان خالي حتى من الحرس ، كررنا البحث حتى تعبنا ، توجهنا إلى مطعم لتناول العشاء ، كان المطعم يُدار من شخص من مدينة اسمرة ، و أثناء تجاذب أطراف الحديث مع " اماها "، رفض صاحب قبض قيمة الوجبة بعد أن عرف أنني من ليبيا ، من الواضح أن مدينة اسمرة كانت تعاني من نظام منغستو ، عدنا ادراجنا إلى المنزل بعد رحلة بحث شاقة ، في منزل شقيقة " أماها " تم تخصيص غرفة بها سريران ، أحدهما لي ، والآخر للدكتور " شاو " .

وبعد أن استلقيت على السرير ، شعرت أن أعراض الملاريا عادت من جديد ، لم أستطع النوم حتى الصباح .

.

يتبع في الحلقة 24 ..
______
نقلا عن :
Suliman Elshtiti
 
قصة تواجد القوات الجوية الليبية بالسودان
_______
الحلقة 24 ، 25 ..
.
الحلقة 24
بعد أن أستيقظ الجميع عزمت على الذهاب و البحث من جديد عن مكان السفارة ، لم أنتظر الإفطار فقد كنت أعاني من المرض ، و التأخير ليس في صالحي من جميع النواحي ، حاولوا اقناعي بأن اذهب الى الطبيب ، ولكنني قررت الذهاب إلى حيث أجد سفارة بلدي ، أخبرنا صهر " أماها " إنه يعرف رجل صاحب أحد المقاهي سبق وأن تعامل مع السفارة الليبية و يعرف مكانها بالتحديد .
وبعد إصرار مني خرج معنا و ذهبنا إلى المقهى الذي لم يكن بعيدًا ، أخترنا طاولة جلسنا عليها ، طلبوا قهوة ، أما أنا فقد طلبت عصير برتقال طبيعي شاهدته يعصره ، كنت بحاجة إلى شيء حامض ، طلبت كأسًا آخر ، لقد كانوا كرماء جدًا معي ، تحدثوا مع الرجل ، وحين سألوه عن مكان السفارة ، قال :
ـــ نعم أنني أعرف مكان السفارة جيدًا ..
خرج معنا و كنا نسير خلفه و بعد مسافة أشار على مبنى جميل ، وقال لنا :
ـــ هذه هي السفارة الليبية ..
ولكن للأسف ما أن وصلنا المبني حتى وجدناها سفارة دولة أخرى أجنبية ، أعتذر الرجل كثيرا ، و استدار الرجل ، ونحن وراءه إلى الجهة الأخرى ، وأشار إلى مبني آخر في نهاية الشارع وكان شبيهًا بالمبنى الأول و قال :
ـــ هذه هي السفارة ..
كنت أسير معهم و أتضرع الى الله أن يكون الرجل صائبًا ، و أن نجد أحدهم في السفارة حيث أن في مثل هذه الأحداث يغادر الجميع ، كان قلبي يخفق بقوة في انتظار النتيجة .
و كانت الفرحة كبيرة جدًا عندما شاهدت جزءًا من العلم الليبي ، و الفرحة أكبر عندما قرأت على اللوحة النحاسية على يمين الباب ( الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى / المكتب الشعبي ) . فرحة لا توصف ، وجدنا الحراس يحيطون بالسفارة من كل جانب ، ولم يُسمح لنا حتى بالوقوف فما بالك بالدخول ، رغم محاولات عدة من " أماها " باءت كلها بالفشل ، فتدخلت و طلبت من " أماها " أن يسأل هل يوجد أحد بالداخل فكانت الإجابة بنعم ، فقلت له :
ـــ أعطني ورقة و قلم ، سأكتب لهم رسالة ، و أن لم يسمح لنا سأغادر .
وكتبت الآتي على ما أذكر :
( السلام عليكم سيادة السفير .. أنا سليمان خليفة الشطيطي ، ضابط طيار ليبي ، كنت أسيرًا لدى قوات جون قرنق ، و أستطعت الهرب من السجن ، أمل السماح لي بالدخول .. ) .
وأعطيت الورقة للحارس .
وبعد أن دخل الحارس ، عاد مرة أخرى ، وقال :
ـــ لقد سُمح لك أنت فقط بالدخول ..
فوافقت و طلبت منهم الانتظار ، و عندما دخلت وجدتهم في حالة استعداد متخوفين ، وكانوا ثلاثة ، السفير الصيد الترهوني من طرابلس / سوق الجمعة ، و القنصل محمد ساسي من مدينة درنة ، و إداري ابراهيم الزنتاني من الزنتان بمجرد أن شاهدوني ، سألني محمد ساسي :
ـــ هل انت سليمان الشطيطي ؟
أجبت :
ـــ نعم ..
احتضنني بقوة وهو يجهش بالبكاء ، ثم احتضنني السفير الصيد ، ثم إبراهيم ، و انهالت الأسئلة عن حالي ؟ فقد كان يبدو عليّ التعب و المرض و مع الشعر الطويل و الأظافر الغير مقلمة و الملابس الرثة ، فأخبرتهم بشكل سريع :
ـــ أن معي من ساعدني ، و اتمنى ان يسمح لهم بالدخول .
و فعلا أعطيت الأوامر بدخولهم ، انتقلنا إلى قاعة كبيرة و جميلة جدًا بها مجموعة من صالونات الجلد البيضاء ، تم شكر رفاقي كثيرًا على المساعدات التي قدموها لي ، وتم صرف مبالغ مالية مجزية لهم ، و تم إعطائهم أرقام هواتف السفارة ، و غادروا بعد الوداع .
أما أنا فقد أبلغوني بأنه كانت هناك صفقة مع حركة جون قرنق لتسليمي مقابل مبلغ ثلاثة مليون دولار .
وبعد تبادل بعض الأسئلة ، اخبرتهم أنني مريض ملاريا واحتاج ، كلاورفين فقالوا لي :
ـــ لا تقلق .. كل شيء سيكون كما تريد .
بعد قليل اخبروني أن الحمام جاهز ، وجدت به كل شيء ملابس داخلية بدلة عربية مناشف فرشة اسنان مع معجون ، معدات حلاقة ، لا أدري كم استغرقت من الوقت ، ولكن بعد خروجي و ضعت الملابس القديمة في كيس للتخلص منها ، وجدتهم قد جهزوا لي غرفة بها سرير و جهاز تلفاز و فيديو و كذلك مسجل به شريط الاغاني المطرب الليبي محمد حسن ، رغم أنني لم أكن من محبي أغانيه ، الا أنني كنت أشعر بسعادة كبيرة ، بعد أن استلقيت على السرير مباشرة ذهبت في نوم عميق ، لم أشعر بشيء إلا بعد أن فتحت عيناي و جدتهم قد اتصلوا بطبيبة و قد كانت في انتظار أن أستيقظ ، و كان معها اجهزة و أدوية ، قامت بإجراء التحاليل و الكشف الكامل ، و استمر العلاج حتى انتهاء الكورس ، و أخبرتني بأنه و الحمد لله أن الملاريا لم تصل إلى الكبد ، و إلا لكان الوضع أكثر تعقيدًا .
.
الحلقة 25 والأخيرة
الحمد لله ، لو وصلت الملاريا إلى الكبد لتحولت إلى chronic malaria . هذا ما قالته لي الطبيبة ، تذكرت حينها كلام جماعة جون قرنق :
( انت ما تموت تاني يا زول ) !!
هههههه الظاهر أنهم كانوا صادقين ، أستغفر الله ..
قضيت شهرًا كاملًا تقريبًا في مبنى السفارة ، قام الرجل الفاضل القنصل بالسفارة الليبية محمد ساسي ، باستخراج جواز سفر لي ، و قال لي :
ـــ والله أنت تستحق جواز سفر دبلوماسي . و لكن للأسف لا يوجد لدينا الآن ..
كنا جميعًا نقيم في مبنى السفارة بسبب الوضع الأمني في العاصمة الأثيوبية ، و كنا نتناول الطعام معا فقد كانت توجد طباخة اثيوبية كانت قبل عملها بالسفارة تعمل في ليبيا لدى شخصيات كبيرة نافذة في حقبة القذافي ، لذلك كانت تجيد الأكل الليبي ، و أحيانا كنا نخرج نتنزه بالسيارة و كانت أديس أبابا جميلة جدًا ، ذهبنا إلى السوق الدبلوماسي و اشترينا جميع احتياجاتي .
طبعًا تواصلت بالأسرة و وعدتهم أنني سأكون بينهم قبل عيد الأضحى المبارك أن شاء الله .
ثمة مشكلة إجرائية كانت تواجهنا ، تتمثل في ختم الدخول إلى اثيوبيا !! إذ من الصعب السماح لي بمغادرة المنافذ الرسمية الأثيوبية دون وجود ختم على جواز سفري يبين تاريخ دخولي ، والجهة الرسمية التي عبرت منها .
و أثناء اجتماع السيد السفير الصيد الترهوني ، مع أعضاء قيادة الثورة الجدد ، طالبوا السفير خلال هذا الإجتماع تزويدهم بوقود ، و بعد موافقة الجهات الرسمية في ليبيا على هذا الطلب ، استغل السيد السفير الفرصة و عرض عليهم أمر ختم الجواز الخاص بي ، بعد أن شرح لهم تفاصيل الموضوع ، وفعلا تحصلت على إجراءات سليمة ، جواز سفر و ختم دخول ، و كنت متلهفًا للعودة ..
استطعنا الحصول على حجز تذكرة سفر و العودة إلى ليبيا عن طريق القاهرة ، و رافقني هذه الرحلة السيد ابراهيم الزنتاني ، بعد وصولنا إلى القاهرة ، كان أعضاء من السفارة الليبية هناك في انتظارنا في المطار ، و تم نقلنا إلى الفندق بسيارة مراسم ، وقد رفع هذا الاستقبال من معنوياتي كثيرًا ، و في اليوم التالي أنتقلنا إلى المطار بسيارة مراسم وعُوملنا كدبلوماسيين ، كان ذلك اليوم يصادف يوم كبيرة عيد الأضحى .
و بعد أن هبطت بنا الطائرة في مطار طرابلس العالمي ، وجدنا في استقبالنا وفد مكلف من القيادة العامة ، أذكر منهم السيد خيري خالد و العميد فرج بو غالية و العميد غيث ابراهيم غيث الذي كان يشغل وظيفة مدير إدارة الشهداء و الأسرى والمفقودين و جرحى الحرب ، و السيد مدير مطار طرابلس العالمي . وابلغوني أنهم مكلفين من قبل القائد الأعلى باستقبالي ، و حمّدوا لي على سلامتي ، و ابلغوني أنني على رأس قائمة المكرمين .
كما قالوا لي أن طائرة طرابلس / بنغازي تنتظرني و أنه تم تأخيرها بسببي ، و الركاب بداخلها ، وأخذني السيد فرج بو غالية جانبًا و أخذ مني بعض الافادات عن زميلي المرحوم الرائد محمد راغب ، و عني كذلك ، و قام بتسليمي مبلغ مالي و إجازة مفتوحة . و أخبرني أنه علي الالتحاق بإدارة شؤن الشهداء و الأسرى و المفقودين و جرحى الحرب ،
و أخبرنا مدير المطار بأننا تأخرنا كثيرًا على الطائرة ، وبعد توديعي ابلغوني بأنه يوجد وفد في استقبالي في مطار بنينا ، وأخذني مدير مطار طرابلس من يدي الى الطائرة من مدخل غير المدخل المعتاد حيث نزلنا إلى الأسفل و دخلنا الطائرة من الباب الخلفي .
كنت أحتسب الوقت دقيقة بدقيقة ، و لحظة بلحظة ، و ما أن هبطت الطائرة في بنغازي حتى خرجت وسط الركاب و لم أنتظر أحد من كبار المستقبلين ، وهم لم يتعرفوا عليّ في زحمة ركاب الطائرة ، توجهت إلى محطة سيارات الأجرة ، ركبت السيارة و أبلغته بالانطلاق ، توقفت أمام منزلي .. وقمت بالضغط علي زر الجرس .. و فتح الباب .. و كانت لحظات اللقاء التي لا تنسى أبدًا .
انطلقت الزغاريد ، و اجتمع الأهل و الأصدقاء و الأقارب ، و الحمد لله رب العالمين .
.
إلى هنا تنتهي القصة . وتبداء معناة ما بعد العودة ..
_______
نقلا عن :
Suliman Elshtiti
 
عودة
أعلى