عندما ننظر الى السماء في الليل ونشاهد مجرّتنا, نهراً من الأضواء ينساب في عتم الفضاء الشاسع, تنبعث فينا مشاعر السلام والطمأنينة. ولكن في هذه اللوحة الشاعرية الهادئة, وفي قلب “درب التبّانة” ذاتها, يختبئ غول يترصّد, كما العنكبوت من وسط شباكه, إقتراب نجمة أو سحابة غاز, لينقض عليها ويدخلها في دوّامة جهنمية من المكان والزمان, تبقى أسيرة فيها إلى ما لا نهاية.
إنه غول الفضاء الذي يطلق عليه العلماء, إسم الثقب الأسود الهائل. والجدير بالذكر إن المقصود هنا ليست الثقوب السوداء الصغيرة, وهي بقايا نجوم انطفأت, توجد منها أعداد بالملايين في مجرّتنا. بل ما نعنيه, هو الثقب الأسود الهائل في الحجم والوزن والذي يفوق بكتلته, مليوني مرّة كتلة الشمس, بينما يصل قياسه أو “أفقه”(1) بتعبير أصحّ, إلى ثلاثة ملايين كيلومتر, أي ما يعادل مرتين قياس قطر الشمس. وهذا ليس كل شيء!
“هناك في قلب مجرّات أخرى غير مجرّتنا, ثقوب سوداء تساوي كتلتها, مليار مرّة كتلة الشمس”, هذا ما يؤكده أحد المراقبين الفلكيين.
قوة هائلة لا يمكن لأي نجم أن يفلت من براثنها
كيف يمكن للعلماء أن يتثبتوا من وجود هذه الوحوش الفضائية, بما إنه تستحيل رؤيتها علمياً؟ تمهيداً لفهم ما يلي لا بد من تعريف الثقوب السوداء: إنها أجسام غازيّة تصل كثافتها المادية إلى درجة, أنها تشوّه المكان * الزمان من حولها, وتُحدث نوعاً من الدوّامة تجذب إليها كل ما يقترب من أفقها, فيستحيل بالتالي على أي نجم أو حتى شعاع ضوئي, متى تخطى هذا الأفق, أن يعود ويخرج منه!
وبمعنى آخر, فالثقوب السوداء هي في ظلام دامس. والسبيل الوحيد لتحديد مكانها بطريقة غير مباشرة, هو دراسة المؤشرات التي تثبّت وجودها فعلاً. والمؤشر الأول القادر على الكشف عن هذه الثقوب, هو التسارع في حركة الأجسام التي تصطادها: فالنجوم وسحب الغاز التي تبتلعها الدوامة بفعل جاذبية الثقب الهائلة, تدور بشكل متسارع في مدارها وهي تسقط على الثقب. ويقول أحد علماء الفلك: “منذ عشرين عاماً, ونحن نعيش التغيّرات في سرعة النجوم والغاز, بالقرب من مراكز المجرّات, الأمر الذي سمح لنا, بتقدير كتلة الثقب الأسود الهائل الموجود في الوسط, والمسؤول عن هذه الحركة. انها دراسة تحتاج لنفَس طويل جداً. والنتائج الأوليّة فيها, تعود لبضع سنوات قليلة فقط. وهذه الطريقة التي تمكّن بواسطتها فريق العمل في معهد Max Planck)) في ألمانيا في العام 1996, من تحديد وزن الثقب الأسود الهائل الموجود في قلب مجرّة “درب التبّانة”, والذي يساوي مليونين ونصف المرّة وزن الشمس, هي أيضاً أول برهان ملموس على وجود الثقب الأسود في مجرّتنا, كما ان هذه الطريقة هي مصدرٌ لعددٍ وافر من المعلومات والنتائج: “لقد تمكّنا اليوم, من تحديد وزن نحو أربعين مركزاً للمجرّات, تحوي كلها ثقباً أسود”.
هذا ما تؤكده إحدى عالمات الفيزياء الفضائية. والملاحظ أنه كلما كان لبّ المجرّة (القسم الأوسط الأكثر لمعاناً), كبيراً, كلما ازداد ثقبها الأسود حجماً.
المادّة تطلق وميضاً هائلاً عند سقوطها على الثقب الأسود
مؤشّر آخر على وجود الثقوب السوداء, هو الضوء الذي يصدر عن المادّة وهي تتوجّه نحو الثقب الأسود. فالغاز أو النجم المندفع في مساره المجنون حول الثقب, يسخن, لتصل حرارته إلى ملايين الدرجات, فتصدر عنه أشعة سينية Rayon X)) قويّة يمكن رصدها بواسطة تلسكوب فضائي خاص. وفي شهر أيلول من العام 1999, تمكّن التلسكوب الأميركي “شاندرا”, من تحديد مصدر إشعاع سينيّ قوي ينبع من الجزء الأوسط لمجرّتنا, وهو مؤشّر محتمل لوجود ثقب أسود هائل, في قلب المجرّة. وفي السادس والعشرين من شهر تشرين الأول سنة 2000, ازدادت قوة هذا الإشعاع فجأة, بنسبة خمس وأربعين مرة, قبل أن تعود الى طبيعتها بعد ساعات قليلة. ويقول العلماء عن هذه الظاهرة, إنها “وليمة” قد يكون الثقب الأسود إبتلع فيها مذنّباً أو نجماً أو سحابة غاز. وهكذا, ضُبط غول الفضاء بالجرم المشهود!
مؤشّرات أخرى عن اختراق الثقوب السوداء لفضائنا الشاسع, لقد رصد التلسكوب هابل الفضائي, حركة لولبية, لكميّة ضخمة من الغاز والغبار, حول مركز عدد من المجرّات, وتُظهر أجهزة التلسكوب * الراديوية, صوراً رائعة عن ألسنة نارية تخرج من وسط المجرّات. ويقول المراقبون إن هذه الألسنة, التي تقارب سرعتها سرعة الضوء, تصدر عن الثقوب السوداء الهائلة الحجم التي تحرّر بذلك جزءاً من طاقتها. ويقول أحد علماء معهد الفيزياء الفضائية في باريس عن هذه الظاهرة: “نحن لا نزال نجهل أشياء كثيرة عن هذا القذف الماديّ الذي يعمل بعكس قوانين الجاذبية. إنها واحدة من الأسئلة النظرية التي تبقى من دون جواب”.
أصل الثقوب السوداء
يبقى سؤال رئيسي: كيف تشكّلت الثقوب السوداء الهائلة؟ هل تضخّمت تدريجياً بابتلاعها المتواصل للمادة؟ أم هي ثمرة انهيار(2) كومة من النجوم؟
يعتقد العلماء بصحّة النظريتين. لكن أحدهم يقول: “لا يمكن ان تكون الثقوب السوداء قد تشكّلت كلّها بالتضخّم التدريجي. انها عملية طويلة للغاية. نحن نكتشف مع الوقت, المزيد من هذه الثقوب الهائلة, في قلب مجرّات متناهية في البعد, وبالتالي موجودة منذ زمن بعيد جداً. وهذا مؤشّر لوجود الثقوب السوداء منذ بداية المجرّات”. وتقول نظرية أخرى عن إحتمال وجود ثقوب سوداء قبل نشوء المجرّات التي تشكّلت في ما بعد حول هذه الثقوب التي أصبحت نواة لها. لكن الأمـر الأكيد هو الإرتباط الوثيق بين تاريـخ الثقوب الهائلة وبـين تاريخ المجرّات. وهذا ما يجعل الأمل كبيراً باكتشاف المزيد عن هذه الاجسام الغامضة.
وإذا تمّ بالفعل إحداث ثقوب سوداء على الأرض؟
مع الإعلان عن تحقيق جهاز تصادم الجزئيات LHC)) المستقبلي, الذي سيبدأ العمل في العام 2005, يبرز سؤال مقلق في هذا المجال: هل سيتسبّب هذا الجهاز الذي يُحدث طاقة هائلة تؤدّي الى تلاحم جسيمات مثل التي تتألف منها نواة الذرّة مثلاً, بتشكيل كومة واحدة تصل كثافتها المادية الى درجة تتحوّل معها الى ثقب أسود, صغير من دون شك, لكنه مثير للقلق؟ وهل سيتسبّب هذا الثقب بابتلاع جهاز تسريع الجسيمات أولاً, ويستتبعه بالمدينة الأقرب, ثم يعود ليتحلّى أخيراً بابتلاع كوكب الأرض بكامله؟
في “طريقة صنع” الثقب الأسود, وحدها قوة الجاذبية هي الأهم. فمن الناحية النظرية يمكن أن يؤدّي تلاحم جُسيمَين لمداه الأقصى, إلى تشكيل ثقب أسود. لكن ذلك يبقى نظرياً, لأن حدوثه ليس ممكناً, إلاّ عند تعريض الجسيمات لطاقة هائلة شبيهة بالتي كانت تسود في اللحظات الأولى لنشوء الكون, وهي طاقة أكبر بكثير من التي يمكن ان يُُحدثها جهاز LHC)) . فهل يتوصّل العلماء يوماً, إلى إحداث مثل هذه الطاقة وبالتالي إعطاء الفرصة لأحد الثقوب السوداء لابتلاعنا؟
وبانتظار ذلك اليوم, يراودني سؤال أودّ أن أشارك القارئ في طرحه. لماذا أصبح الإنسان يبتعد عن النور, ويسعى الى الدخول في ظلام لا متناهي, لا يتمكّن من الخروج منه حتى ولو أراد ذلك؟
عن مجلة:
Science & Vie
Novembre 2002.
(1) أفق الثقب الأسود: هو الحدود الهندسية للثقب. في كل مرّة تجتاج فيها نجمةٌ, هذه البقعة من المكان * الزمان, تسقط حكماً في الثقب الأسود, ولا يعود بالإمكان الحصول على أية معلومة من داخل هذا الأفق. إنها منطقة معزولة تماماً عن باقي الكون.
(2) انهيار النجم: انطفاؤه وبرودته بعد قوة اشتعال وسخونة, وانكماشه بعد تمدّد هائل ليصبح كتلة مظلمة وباردة, تتميّز بكثافة ماديّة عالية وبالتالي بقوة جاذبية كبيرة جداً خالية من كل طاقة. لذلك يصبح النجم المنهار ثقباً أسود مترصداً لاصطياد كل شكل من أشكال الطاقة التي تقترب من أفقه.