رغم أن الإعلام الدولي قد ركز على إقليم شرق ليبيا بعنوان بنغازي أو كما أطلق عليه تاريخيًا طبرق، وإقليم غرب ليبيا بعنوان طرابلس أو كما أطلق عليه العثمانيون طرابلس الغرب، فإن إقليم الجنوب بعنوان فزان قد غاب عن عناوين الإعلام.
وللمفارقة فإن 70 % من ثروات ليبيا الطبيعية تقع في الجنوب، بما في ذلك ثروات النفط والغاز، عكس الترويج الإعلامي بأن الهلال النفطي شمال ليبيا هو الأهم؛ إذ يضم أقصى الجنوب الليبي جبالًا من الذهب وأحواضًا من الغاز الطبيعي. بالإضافة إلى أن مخزون ليبيا من النفط الصخري يقدر بـ 74 مليار برميل مما يجعلها الأولى عربيًا والخامسة عالميًا من حيث احتياطات النفط الصخري، فضلًا عما تتمتع به المنطقة من طاقة شمسية.
في الجنوب الغربي بمنطقة تاروت في مدينة براك الشاطئ شمال مدينة سبها توجد مناجم الحديد، وفي منطقة العوينات الغربية بالقرب من مدينة غات الحدودية مع الجزائر توجد مناجم اليورانيوم، ويوجد خام الذهب قرب المثلث الحدودي مع مصر والسودان بمنطقة العوينات وفي جبال تيبستي على الحدود مع تشاد.
تاريخ الجنوب الليبي
ويُعدُّ الجنوب الليبي هو موطن مملكة جرمة التي استقرت قبل مئة عام من ميلاد السيد المسيح واستمرت 500 عام ميلادي قبل أن يبسط الرومان سيطرتهم عليها، ومع وصول الإسلام إلى ليبيا راحت السلطة تتنقل من أسرة ووالٍ إلى آخر بشكل مستقل عن شمال ليبيا. ومع احتلال العثمانيين للأقاليم الليبية الثلاثة أطلقوا على ليبيا ولاية طرابلس الغرب، ولكن أتى الاحتلال الإيطالي عام 1911 وقسّم ليبيا إلى ثلاث ولايات هي طبرق وطرابلس وفزان.
وبحلول عام 1943 دخلت القوات الفرنسية فزان إبان الحرب العالمية الثانية، وانسحبت منها عام 1951 حينما انسحبت بريطانيا من شمال ليبيا، وأُعلن قيام المملكة الليبية.
الجنوب الليبي والربيع العربي
ورغم تركز الصراع في شمال ليبيا، إلا أن القوى الإقليمية والدولية التي خاضت حروب ليبيا بالوكالة قد سعت إلى مد نفوذها إلى الجنوب الليبي عبر تسليح القبائل والعشائر، خاصة وأن الجنوب ذو حدود مفتوحة مع وسط وغرب ليبيا، بالإضافة إلى الوجود الديموجرافي المركز للقبائل الأفريقية التي أطلقت فرنسا عليها مصطلح الأمازيغ، والمعروفة تاريخيًا باسم الطوارق، إذ يضم الجنوب الليبي “المجلس الأعلى لقبائل الطوارق في ليبيا”.
وعلى مدار عشر سنوات حاولت قطر وتركيا توطين الإسلاميين الهاربين من الشمال الليبي في الجنوب، بالإضافة إلى نشر الجماعات الإسلامية حول آبار النفط وحقول الغاز في الجنوب، وإغراق الجنوب بفوضى السلاح.
الصراعات القبلية خلقت قطر بعضها وأزكت البعض الآخر؛ فهناك صراعات بين التبو والزوية، وبين الطوارق والتبو، وبين أولاد سليمان والقذاذفة، وبين التبو وأولاد سليمان.
ودفعت الدوحة أموالًا لإتمام الصلح بين الطوارق والتبو عام 2015، وناصرت إعلاميًا تهديد القبيلتين عام 2017 بالانفصال احتجاجًا على مسودة الدستور. وقدمت الدعم العسكري لتحالف القذاذفة والتبو خلال صراعهم مع أولاد سليمان حتى تمكنوا من السيطرة على قاعدة تمنهنت الجوية العسكرية.
فضلًا عن دخول المرتزقة والمليشيات الوافدة من الجزائر ومالي ونيجيريا وتشاد والنيجر والسودان، إلى جانب التنظيمات الإرهابية. وهو صراع تؤججه وتدعمه دول ومنظمات بعينها.
وفي نوفمبر 2014، ساعدت ميليشيات مصراته “المدعومة من قطر” الطوارق لانتزاع السيطرة على حقل الشرارة النفطي من التبو الذين كانوا قد تحالفوا مع الزنتان. ورصدت تقارير استخباراتية استعانة قطر وتركيا بمجموعة الإرهابي الليبي إبراهيم الجضران الذي استولى في وقت سابق على الهلال النفطي بمحيط مدينتي السدرة ورأس لانوف.
ذلك إلى جانب تحالف التبو المدعوم من قطر، والعصابات التشادية التي يقودها المتمرد التشادي تيمان ارديمي، المقيم في قطر. ولكن كافة تلك التحركات التركية والقطرية لم تنجح في الهيمنة على الجنوب الليبي.
أوباما والجنوب الليبي
إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في ولايته الثانية كانت تخطط لتحويل الجنوب الليبي إلى مركز إقليمي للإرهاب، أو أفغانستان وسط افريقيا. فكان يُفترض أن يكون الجنوب الليبي هو نقطة احتضان وتوطين والتقاء حركة بوكو حرام من غرب أفريقيا وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي من شمال افريقيا وحركة الشباب الصومالي والمحاكم الإسلامية من القرن الأفريقي وشرق أفريقيا والإسلاميين الذين شيدوا دولة مؤقتة في شمال مالي، بالإضافة إلى قيام تركيا بتوطين الهاربين من تنظيم داعش في سوريا والعراق في جنوب ليبيا.
ولكن فرنسا في عهد الرئيس الاشتراكي فرنسوا اولاند قامت بعملية عسكرية في جمهورية أفريقيا الوسطى وفي مالي، ثم قامت بعمل عسكري مشترك مع دول غرب افريقيا لكسر حركة بوكو حرام، ما ضرب المخطط الأمريكي. بالإضافة إلى الجهود المصرية لدعم المؤسسات العسكرية في وسط وغرب أفريقيا، واستبسال المؤسسة العسكرية المغربية والجزائرية في ضرب خلايا القاعدة بالمناطق الصحراوية في كلا البلدين.
مصر والجنوب الليبي
في منتصف ديسمبر 2020 فاجأت مصر مراقبي الملف الليبي بزيارة تاريخية لوفد يضم 75 شخصية عامة من جنوب ليبيا إلى القاهرة. ضم الوفد الجنوبي شيوخًا وأعيانًا وساسة ونخبًا وكتابًا ومفكرين وناشطات على حد سواء.
يمثل الجنوب الليبي أهمية استراتيجية لمصر، بعيدًا عن الثروات والعمق الجيوسياسي حيال وسط وغرب أفريقيا وحتى دول المغرب العربي، ولكن الجنوب الليبي يضم منطقة الجفرة التي اعتبرها الرئيس عبد الفتاح السيسي هي القاسم المشترك في الخط الأحمر المصري في وسط ليبيا، من سرت شمالًا إليها جنوبًا.
ويضم الجنوب مدينة سبها، وهي ثالث أهم مدن ليبيا وعاصمة الجنوب، فلا عجب أن طالب الوفد الجنوبي بفتح خط طيران مباشر بين مطار القاهرة الدولي ومطار سبها، وهو اقتراح لاقى موافقة مبدئية من الجانب المصري.
وإلى جانب تأمين الجبهة الجنوبية للخط الأحمر المصري في ليبيا، فإن تركيا وقطر تحشدان المرتزقة التشاديين أو ما يطلق عليهم إعلاميًا “المعارضة التشادية” الهاربة للحدود الليبية التشادية، وذلك من أجل خلق اضطرابات في الجنوب الليبي يسهل معها إحياء مخطط أوباما لتوطين الإرهاب الأفريقي في الجنوب الليبي.
وتسعى الدوحة وأنقرة من أجل إحياء مشروع “دولة الإسلام في الجنوب الليبي” عبر إدخال عناصر من بوكو حرام والمحاكم الإسلامية والشباب الصومالي والقاعدة المغربية وبقايا داعش في إدلب السورية إلى الجنوب الليبي، ومن ثم تبدأ تلك العناصر في بث الفوضى ضد المصالح المصرية والروسية وحتى الفرنسية في شمال ليبيا. مع التركيز على الحدود المصرية الليبية من أجل إعادة التوتر على الجبهة الغربية للدولة المصرية.
وعلى ضوء تلك المساعي القطرية والتركية، تحركت الدولة المصرية في التوقيت الصحيح على الجبهات الليبية الثلاث، ففي شرق ليبيا وصل وفد مصري برئاسة الوزير عباس كامل مدير المخابرات العامة المصرية. وأتى وفد الجنوب الليبي إلى القاهرة، بينما كان هناك وفد مصري ثالث برئاسة اللواء أيمن بديع وكيل المخابرات العامة في طرابلس حيث الغرب الليبي للمرة الأولي منذ عام 2014 من أجل بدء خطوات جادة في فتح السفارة المصرية هناك، في أكبر تحدٍ للسيطرة التركية على محور طرابلس – مصراته.
marsad.ecsstudies.com