حرب أضنة.. عندما انتصر المصريون على مطامع ابن عثمان

إنضم
7 يونيو 2019
المشاركات
6,721
التفاعل
15,329 40 0
الدولة
Egypt
أطماع العثمانيين في مصر قديمة، تعود إلى خواتيم القرن الـ14 الميلادي، وبداية القرن الذي يليه. ولولا هزيمة السلطان بيازيد الأول في معركة أنقرة المصيرية (1402) أمام القائد المغولي الرهيب تيمورلنك، والانهيار المؤقت في الدولة العثمانية بعدها، لبدأ الكفاح العثماني - المملوكي على ملكية مصر والشام قبل مائة عام كاملة من التاريخ المعروف لحدوثه (1516 - 1517).


على أية حال، بنهاية القرن الـ15، واعتلاء بيازيد الثاني عرش الدولة العثمانية (1481)، تٌستعاد من جديد طموحات الأخيرة تجاه مصر. وقد اجتمعت عدة أسباب اتخذها بيازيد ذرائع للهجوم على المماليك، منها استقبال السلطان المملوكي الأشرف قايتباي - حاكم مصر والشام في ذلك الوقت - للأمير العثماني "جم"، والذي كان قد تقاتل مع أخيه بايزيد على العرش العثماني، ثم فر بعد هزيمته إلى مصر. ومنها كذلك استيلاء قايتباي على هدية ثمينة كان بعض ملوك الهند قد أهداها إلى بيازيد الثاني.


وفي السبب الأخير يقول ابن إياس: «والذي استفاض بين الناس أن سبب هذه الفتنة الواقعة بين السلطان وابن عثمان أن بعض ملوك الهند أرسل إلى ابن عثمان هدية حافلة على يد بعض تجار الهند، فلما وصل إلى جدة احتاط عليها نائب جدة واحضرها صحبته إلى السلطان، وكان من جملة تلك الهدية خنجر قبضته مرصعة بفصوص مثمنة، فطمع السلطان في تلك الهدية وأخذ الخنجر، فلما بلغ ابن عثمان ذلك حنق، وجاء في عقيب ذلك أن علي دولات (أمير تركماني من إمارة «ذو لقادر» على الحدود العثمانية المملوكية) ترامى على ابن عثمان وشكا له من أفعال السلطان وما يصدر منه، فتعصب لـ علي دولات وأمده بالعساكر، واستمرت الفتنة تتسع، وقد طمع غالب ملوك الشرق، ثم إن السلطان أرسل إلى ابن عثمان ذلك الخنجر والهدية التي بعث بها ملك الهند، وأرسل يعتذر لابن عثمان عن ذلك بعدما صار ما صار».


رغم تراجع قايتباي ورد الهدية التي غصبها، ورغم أن القاهرة لم تقبل ضيافة الأمير «جم» لفترة طويلة، حتى أجبر على الخروج إلى أوروبا والعيش فيها حتى مات أخيرًا بالسم في روما، ربما بإيعاز من أخيه بيازيد الثاني، فإن العثمانيين وجدوا في الأمرين فرصتهم الممتازة لإشعال الحرب مع المماليك، وانتزاع الشام ومصر من أيديهم.



أول الحرب
يقول ابن إياس: «وفي رمضان 889 هـ (1484)، جاءت الأخبار من حلب بأن وردبش نائب حلب خرج في جمع من العساكر واتفق (تحارب) مع علي دولات أخي سوار وقد أمده ابن عثمان (بيازيد الثاني) بجمع كبير من عساكره، فلما التقى العسكران وقع بينهما وقعة مهولة فانكسر العسكر الحلبي وقتل وردبش نائب حلب وجماعة كثيرة من العسكر الحلبي والمصري، وكان وردبش شجاعًا بطلًا».


وبعد تلك الهزيمة «جاءت الأخبار بأن الأمير (المملوكي) تمراز لما حصلت هذه العسكرة لعسكر حلب، ركب هو وأزدمر أمير مجلس والعسكر المصري وتوجه إلى نحو علي دولات، فانكسر علي دولات هو وعسكر ابن عثمان، ونهب جميع بركهم، وأخذوا سناجق (ألوية) ابن عثمان ودخلوا بها إلى حلب وهي منكسة، وكانت هذه الحركة أول فتن ابن عثمان، واستمرت من يومئذ عمالة بينه وبين سلطان مصر.. وكان أصل هذه الفتنة تعصب ابن عثمان لعلي دولات، وكان ابن عثمان متحملًا على سلطان مصر في الباطن بسبب أشياء لم تظهر للناس».
ولم يكن هذا التحامل من بيازيد على قايتباي، والذي يشير إليه ابن إياس إشارة غامضة، سوى قناعة السلطان العثماني بأن الوقت قد حان للانقضاض على دولة المماليك الشائخة. وبالتالي، فإنه لم يعر كل محاولات قايتباي للتهدئة وعقد الصلح اهتمامًا، بل زادته حدة في التربص بالمماليك، وسعيًا للدخول ضدهم في حرب مفتوحة.


وقد جاءت محاولة قايتباي للتهدئة عقب الانتصار الذي حققه جيشه في حلب على العثمانيين. يقول ابن إياس:
«وفي صفر 890 هـ (1485/1484)، توجه جاني بك حبيب (سفير الأشرف قايتباي) إلى ابن عثمان، فتوجه إليه من البحر الملح من الإسكندرية، وأرسل السلطان صحبته هدية حافلة بنحو 10 آلاف دينار وتقليدًا من الخليفة إلى ابن عثمان، بأن يكون مقام السلطان على بلاد الروم وما سيفتحه الله على يديه من البلاد الكفرية، وأرسل إليه الخليفة أيضا مطالعة تتضمن تخميد هذه الفتنة التي قد انتشت بينه وبين السلطان، وفي المطالعة بعض ترقق له».


وقد جاء رد بيازيد الثاني على سلام قايتباي بالحرب. ففي أخبار شهر شعبان للعام 890 هـ (1485)، يقول ابن إياس: «جاءت الأخبار بأن عساكر ابن عثمان قد استولت على أطراف بلاد السلطان وأرسل أزدمر نائب حلب يستحث السلطان بخروج تجريدة ثقيلة أو يخرج السلطان بنفسه، فانزعج السلطان لهذا الخبر، ونادى للعسكر بالعرض». وقد خرج الجيش المصري من القاهرة جهة شمال الشام في شهر شوال من نفس العام، وكان قائده هو الأتابكي أزبك. وفي فبراير 1486، اصطدم الجيشان العثماني والمملوكي خارج مدينة أضنة، وهُزم العثمانيون الذين كانوا تحت قيادة قره كوز محمد باشا في الجولة الأولى من المعركة. ثم تلقوا هزيمة ثانية على يد المماليك في مارس 1486، رغم الإمدادات التي أرسلها إليهم بيازيد الثاني مع صهره هرسك زاده أحمد، بل ووقع الأخير نفسه في أسر الجيش المصري.



الهجوم الثاني
رغم الهزيمة، واصل بيازيد الثاني حشد قواته على الحدود شمال الشام. وفي العام 1487، أرسل العثمانيون مرة أخرى جيشًا يتكون من عدد كبير من الوحدات العسكرية النظامية والانكشارية، يدعمها أسطول بحري بقيادة الصدر الأعظم جوقة داود باشا. وقد رد قايتباي على ذلك -كما أشار ابن إياس- بإرسال مدد عسكري إلى المماليك في حلب، تحت قيادة الأمير يشبك الجمالي. ولم يُفضِ الأمر هذه المرة إلى مواجهة عسكرية جديدة بين العثمانيين والمماليك، بل اكتفى داود باشا بشن هجمات منظمة ضد القبائل التركمانية متقلبة الولاء على الحدود، كي يضمن عدم استغلال المماليك لتلك القبائل وقت تجدد الحرب.


وفي العام التالي 1488، وجد العثمانيون أن الوقت مناسب للهجوم على المماليك. والجيوش العثمانية قادها برًا حامد علي باشا، بينما تولى هرسك أحمد باشا -المحرر حديثا من الأسر- الأسطول العثماني. ومرة أخرى، اختار الطرفان الساحة المفتوحة خارج أضنة للنضال. وفي 26 أغسطس 1488 أحرزت القوات العثمانية تفوقًا أوليًا على الجناح الأيسر، ثم سرعان ما صعقتها حقيقة انسحاب التركمان من بني قرمان إلى صفوف المماليك، ما فرض عليها الهزيمة والانسحاب سريعًا من ميدان المعركة، وترك الفوز مرة أخرى من نصيب الجيش المصري.
عمت الأفراح القاهرة بعد الانتصار الجديد على العثمانيين، ووفقًا لابن إياس فقد أمر قايتباي فور علمه بنتيجة المعركة في 8 رمضان 893 هـ بأن تدق «البشائر بالقلعة فدقت سبعة أيام».


لكن الاحتفالات في مصر لم تكن تعني نهاية الأمر. فقد تواصل الصراع العثماني المملوكي بعد معركة أضنة، وهذه المرة حول مدينة أضنة نفسها، والتي كان العثمانيون قد استولوا عليها. ففي شوال 893 هـ، أنهى المماليك حصارًا مريرًا للمدينة بدخولها بعد عقد أمان مع القوات العثمانية.
وقد أعقب ذلك محاولات جديدة للصلح، ولكن هذه المرة من الطرف العثماني المنهزم في ميدان الحرب. يقول ابن إياس في حوادث شهر جمادى الآخرة لسنة 894 هـ:
«قدم قاصدًا من عند داود باشا وزير ابن عثمان يشير على السلطان بأن يبعث قاصدًا إلى ابن عثمان لعل يكون الصلح فأعيد إليه الجواب: إذا أطلق تجار المماليك الذين عنده، وبعث مفاتيح القلاع التي أخذها كاتبناه في أمر الصلح».
ولما لم يكن بيازيد الثاني على استعداد لفعل أي من الشرطين، وكان طلبه للسلام ليس أكثر من مراوغة للتجهز لحرب جديدة، فقد انتهت البعثة العثمانية في القاهرة إلى لا شيء. وفي العام التالي على الفور (1490)، أخذ المماليك هذه المرة زمام المبادرة، وهاجموا قيصرية، ثم خرج جيش من مصر بقيادة الأتابكي أزبك مرة أخرى واشتبك مع العثمانيين في معركة جديدة انتهت بانتصار الجيش المصري. ويبدو أن السلطان الأشرف قايتباى كان قد قنع في ذلك الوقت بأن هذه الحرب بلا طائل، على الأقل بالنسبة للمماليك الذين كانوا يردون العادية العثمانية عليهم ولا يضمون في المقابل كتلة ترابية جديدة إلى دولتهم، تبدو بغير نهاية طالما أن العثمانيين مصممون على هزيمة المماليك واجتياح الشام ومصر. وقد باح بذلك عندما اجتمع بالفقهاء الأربعة في القاهرة في ربيع الأول 896 هـ وقال لهم: «إن ابن عثمان ليس براجع عن محاربة عسكر مصر»، وكان يرغب في إقناعهم بجمع مبلغ كبير من المال لدعم الجهد الحربي الموجه ضد العثمانيين.



السلام
على أي حال، فإن مخاوف بيازيد الثاني في ذلك الوقت من احتمال شن حملة صليبية ضد الوجود العثماني في شرق أوروبا، أجبره على طلب السلام الحقيقي والدائم مع المماليك، خاصة وأن الخسائر المادية التي لحقت به جراء الحملات العسكرية الفاشلة ضد الحدود المملوكية كانت كبيرة. وهكذا، فوفقًا لابن إياس «حضر إلى الأبواب الشريفة قاصد من عند ابن عثمان (جمادى الآخرة 896 هـ) صحبة ماماي الخاصكي الذي توجه قبل تاريخه إلى عند ابن عثمان، وكان هذا القاصد الي حضر من أجل قضاة ابن عثمان، وكان متولي قضاء بورصة، وهو شخص من أهل العلم، يقال له شيخ علي جلبي، فلما صعد إلى القلعة أكرمه السلطان وبالغ في تعظيمه جدا، فأحضر على يده مفاتيح القلاع التي كان ابن عثمان قد استولى عليها، فسلمها إلى السلطان وأشيع أمر الصلح بين ابن عثمان والسلطان».


هكذا باءت محاولة بيازيد الثاني غزو المماليك بالفشل، وحقق الأخيرون نصرا أجبر المعتدين على طلب الصلح. والمدقق في أمر تلك الحرب من أولها إلى آخرها، مع ربطها بالأحداث التي كانت تدور في العالم الإسلامي خلال ذلك الوقت، سوف يخرج بنتيجة مفادها أن الخاسر الأكبر من اندلاع الصراع العسكري بين القوتين الإسلاميتين الأكبر حينذاك، العثمانيون والمماليك، لم يكن أيا منهما، وإنما المسلمون في الأندلس البعيدة جدا عن ساحات الحرب في أضنة. ففي نفس الوقت الذي كانت القاهرة وإسطنبول تخوضان معركة بلا معنى، كانت غرناطة، آخر معقل للمسلمين في إسبانيا، تعاني حصارًا خانقًا من ملكي قشتالة الشهيرين، فرناندو وإيزابيلا. وقد انتهت كل محاولات الأندلسيين لحشد الدعم العثماني أو المملوكي بالإخفاق، لما كان كل من بيازيد الثاني، والأشرف قايتباي يتقاتلان مع بعضهما. وفي النهاية، بعد عام واحد تقريبًا من السلام بين المماليك والعثمانيين، أعلن عن سقوط غرناطة رسميًا في يد القشتاليين، وإنهاء الوجود الإسلامي من شبه الجزيرة الأيبيرية (1492).
ولكن هل انتهت حكاية «حرب أضنة» بتلك الصورة المحزنة فحسب، أم أن الأطماع العثمانية فيما بين يدي المماليك استمرت؟!..


الحقيقة، واصل العثمانيون رغبتهم المحمومة للاستيلاء على قلب العالم الإسلامي في مصر والشام. وفي العام 1512، فاز أمير من السلالة العثمانية، يدعى «سليمًا»، لم يكن يضارعه أحد من آل بيته صرامة عسكرية أو قسوة إلى حد التوحش، بعرش العثمانيين في إسطنبول بعد الإطاحة بأبيه بيازيد الثاني. وبعد 4 سنوات فقط من تلك الحادثة، انتصر خلالها على القوة الصاعدة للصفويين في إيران، بدأ سليم الأول حملة شاملة قادها بنفسه لغزو مصر والشام، انتهت باستيلائه عليهما بين عامي 1516 و 1517. وقد تخطى فشل الوالد السابق في أضنة زمن الأشرف قايتباى، عندما عمد إلى شق الصف المملوكي الموحد بشراء ذمم كبار البكوات المماليك بلامع الذهب. وكان ميل اثنين من هؤلاء، وهما نائب حلب خاير بك، ونائب حماة جان بردي الغزالي، كفيلًا بسقوط المماليك في مرج دابق شمال حلب، ثم في الريدانية شمال القاهرة، وخضوع رقابهم أخيرًا في مشهد حلم به العثمانيون طيلة مائة عام.
 
الآن صار صاحبنا، وعندما مات أستاذنا الملك الظاهر برقوق مشى على بلادنا، وأخذ ملطية من عملنا، فليس هو لنا بصاحب، يقاتل هو عن بلاده، ونحن نقاتل عن بلادنا ورعيتنا.
كان هذا ما رد به أمراء مصر المماليك، على رسالة السلطان العثماني بايزيد التي كان يدعوهم فيها إلى التحالف ضد تيمور لنك،
 
عودة
أعلى