فَـغَـفَـرَ لـَهُ / د. عثمان قدري مكانسي

Nabil

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
19 أبريل 2008
المشاركات
22,779
التفاعل
17,897 114 0
{ فَـغَـفَـرَ لـَهُ }

الدكتور عثمان قدري مكانسي


رأى موسى عليه السلام قبطياً وإسرائيلياً يقتتلان حين دخل المدينة على حين غفلة من أهلها، فاستغاثه الإسرائيلي – وكان أقباط مصر إذ ذاك يستذلـّون اليهود - فما كان من موسى عليه السلام – وهو شاب قويّ - إلا أن وكز القبطي فمات على فوره ، ولم يكن موسى عليه السلام يريد قتله ، لكنّ وكزته القوية كانت السبب في انتهاء أجله ،
شعر موسى الكريمُ بالحزن والأسى لأمر لم يكن يقصده ، إنه أراد أن يمنع أذى القبطي المعتدي عن الإسرائيلي ليس غير، فوجد نفسه يقتله ، فأقر أن هذا التسرع من عمل الشيطان عدوّ البشرية ، فهو يهيّج في الإنسان غضبه فيفقده السيطرة على نفسه فيرتكب أخطاءه ، قال تعالى :
{ ... قَالَ هَـٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ (15)} [القصص]
فاستغفر ربـّه نادماً من فعلته العفوية هذه :
{ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ... (16)}
قالها مخلصاً في دعائه وأسفه ، وتوجه إليه سبحانه أن يقيل عثرته ويغفر ذنبه فجاءه الفضل من ربه سريعاً فقال في نفس الآية
{ ... فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)} [القصص] .

إن صاحب القلب المتصل بالله إن يخطئ فيتـُبْ يَقبَلِ الله توبته ويُقـِلْ عثرته ، ويستشعر موسى فضلَ الله عليه فيعاهده تعالى أن لا يكون ظهيراً للمجرمين ، وأن يكون معيناً للمظلومين ، قال عز وجلّ
{ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ (17)} [القصص].

عدت إلى التفاسير أستجلي الطريقة التي علم فيها موسى عليه السلام أن الله تعالى قد غفر له ، فوجدتُها في أكثر من جواب:

أولها :
أن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن في الأمم قبلنا رجالاً صالحين كانت الملائكة تحدثهم وتسدد خطاهم وتؤانسهم أما في أمتنا فليس فيها هذا الصنف . والسبب في ذلك أن الإسلام دين كامل أتمه الله علينا
{ ... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ... (3)} [المائدة]
فلا مجال مطلقاً لزيادة المتخرّصين ، وكذب المدّعين ،

يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما ترويه السيدة عائشة رضي الله عنها:
قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم أناس محدَّثون فإن يكُ في أمتي أحد منهم فهو عمر بن الخطاب
صحيح الجامع للألباني الصفحة أو الرقم: 4377
وعلى هذا فلا نقبل دجّالين يقولون : حدثني قلبي عن ربي ، ويعتبر نفسه موصولاً بالله يتلقى الوحي عنه بقلبه الطاهر !!! ويتقول على الله الأقاويل ، فيفتن الناس ويدلّس عليهم دينهم .

ومن الأحاديث التي رأينا الرجل ممن قبلنا يسمع الملائكة تتحدثُ ما جاء في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
بينما رجل بفلاة من الأرض ، فسمع صوتاً في سحابة : اسق حديقة فلان . فتنحى ذلك السحاب . فأفرغ ماءه في حَرَّة . فإذا شرجةٌ من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله . فتتبع الماء . فإذا رجل قائم في حديقته يُحَوِّل الماء بمِسحاته . فقال له : يا عبدالله ! ما اسمك ؟ قال : فلان . كالاسم الذي سمع في السحابة . فقال له : يا عبدالله ! لِمَ تسألني عن اسمي ؟ فقال : إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول : اسق حديقة فلان . لاسمك . فما تصنع فيها ؟ قال : أما إذ قلتَ هذا ، فإني أنظر إلى ما يخرج منها ، فأتصدق بثلثه ، وآكل أنا وعيالي ثلثا ، وأرد فيها ثلثه . رواه مسلم .
فعرف الرجل سبب إكرام الله تعالى لهذا المزارع المؤمن الذي يتصدق بثلث ماله على الفقراء ،

ومن الأحاديث التي تظهر الملائكة تكلم المسلم فيما قبْلَنا ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
زار رجل أخا له في قرية ، فأرصد الله له ملكاً على مدرجته ، قال : أين تريد ؟ قال : أخا لي في هذه القرية ، فقال : هل له عليك من نعمة تربها ؟ قال : لا ، إني أحبه في الله قال : فإني رسول الله إليك ؛ إن الله أحبك كما أحببته

أما موسى عليه السلام فقد يكون أفضل المحدّثين الذين كانت الملائكة تكلمهم وتسدد خطاهم ، سيّما أن الله تعالى هيّأه ليكون من الرسل أولي العزم . فعلم أن الله تعالى غفر له لحديث الملائكة إياه صلى الله وسلم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام .

ثانيها :
أنه صار نبياً – لا رسولاً- وهو شابٌّ قبل هروبه إلى مدينَ، فقد قال الله تعالى في سورة القصص:
{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)}

وقد قال سبحانه في حق يوسف عليه السلام :
{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)} [يوسف]
فيوسف عليه السلام صار نبياً حين بلغ مبلغ الرجال – صار أهلاً للزواج في سن الثالثة عشرة إلى الخامسة عشرة ، أما موسى فازاد كلمة { وَاسْتَوَىٰ } ،
فنقول : لعله صار نبياً في العشرين أو أكثر بقليل .وهذا ما أراه مناسباً واقرب إلى الصواب ،إن لم يكن الصوابَ عينَه.

لقد كان موسى وهو فتى ثم شابٌّ ثم رجل يعلم أنه سيكون نبياً رسولاً وأن الله تعالى رباه على عينه ، واصطفاه لنفسه :
{... وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي (39)} [طه]
{ ... وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)} [طه] .

وقد يتساءل أحدهم كيف يعلم سيدُنا موسى بنبوّتِهِ ولم يصِرْ نبياً بعدُ ؟ فالجواب أن أمه كانت تعلم منذ ولادته أنه سيكون رسولاً وقبل أن ترضعه الرضعة الأولى إذ أوحى الله إليها ذلك الأمر فيما نقرؤه في بداية سورة القصص :
{ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)}
فقد وعدها سبحانه أن يعيد رضيعها إليها وأخبرها أن ابنها سيكون ذا شأن في المستقبل ، إنه سوف يكون رسولاً .ولا شكّ أنها أخبرته أنه سيكون نبياً ورسولاً ، وربّته على الإيمان وهيأته ليكون ذاك النبي العظيم.

وأعتقد أنه كان نبياً وهو في مصر ثمَّ صار رسولاً في عودته إلى أهله بعد غياب عشر سنوات أمضاها في الغربة يعمل راعياً عند الرجل الصالح في مدين ، وبعد أن صار حراً لغيابه أكثر من ثماني سنوات أمضاها بعيداً عن سجن فرعون أو النجاة من القتل . وكلمه الله تعالى في سيناء قرب الشجرة وتوجَّه رسولاً إلى بني إسرائيل وإلى فرعون نفسه .

والرسالة درجة أعلى من النبوّة ففيها بالإضافة إلى الدعوة رسالة جديدة وكتاب منَزّل يخص الرسول نفسه والله اعلم.​
 
عودة
أعلى