يعيش الجزائريون في الأشهر الأخيرة -خاصة منذ عيد الأضحى- على وقع ندرة كبيرة للسيولة النقدية بمراكز البريد، وهي المؤسسة العمومية التي تدفع في الغالب رواتبهم ومعاشات ومنح الموظفين والأجراء والمتقاعدين والطلبة وذوي الحقوق، حيث تُحصي 22 مليون حساب بريدي نشط بحسب الأرقام الرسمية.
وقد تضاربت تفسيرات الحكومة للأزمة، حيث اعتبرها الوزير الأول عبد العزيز جراد، في البداية، أنها "مؤامرة"، بينما قالت إدارة البريد إنها ناجمة عن تداعيات جائحة كورونا، لكن المراقبين يرونها أعمق من ذلك ويربطونها بعوامل أخرى.
وفي محاولة منها لاحتواء الموقف، بعدما صارت الزحام اليومي للزبائن في عز الوباء ظاهرة اعتيادية بمراكز البريد، خلفت مؤخرا ضحية من كبار السن، أعلنت وزارة البريد منع الأشخاص الاعتباريين من سحب أموالهم، وسقفت حجمه للأفراد دون 30 ألف دينار (أقل من 180 دولارا).
كما ألزمت وزارة التجارة متعامليها بتوفير خدمة الدفع الإلكتروني للمستهلكين، للتخلص من عبء السيولة الشحيحة، قبل قرار الحكومة بعزل كبار المسؤولين ببريد الجزائر، وفي مقدمتهم المدير العام، في وقت تتواصل مظاهر الأزمة عبر ربوع البلاد.
معاناة يومية
خلال جولة استطلاعية قادت مراسل الجزيرة نت إلى محافظة بومرداس (50 كلم شرق العاصمة)، أكد "محمد.ك"، وهو موظف بسلك التعليم، أنه يواجه صعوبة كبيرة في سحب مرتبه بسبب كثرة الزبائن بوكالة البريد المركزي للمدينة، فقد رجع ٣ مرات إلى عمله خاوي الوفاض، وهي المشكلة نفسها التي عبرت عنها السيدة ""كوثر.م"، ممرضة بقطاع الصحة، حيث اضطرت للغياب عن العمل حتى تتمكن من سحب جزء من راتبها لسد حاجات أساسية.
أما "الحاج بشير" المتقاعد قبل 16 عاما، فقد دفعه المرض المزمن إلى الاقتراض أكثر من مرة لزيارة طبيبه الخاص، بعدما تعذرت عليه مواكبة الازدحام والطوابير.
لكن بالمقابل، يؤكد مواطنون آخرون أنهم قد تمكنوا، بقليل من الصبر، من سحب جزئي لمستحقاتهم عبر الموزعات الآلية لدى وكالات البريد والبنوك.
ولقي تدبير الحكومة للشأن المالي انتقادات واسعة من الخبراء، معتبرين ما جرى نتيجة طبيعية لغياب نظام الإنذار المبكر وإدارة الأزمات، وسوء التنظيم والتسيير بين مؤسسة البريد وبنك الجزائر المركزي، خاصة في ظل شغور "محافظ بنك الجزائر" المعين قبل 70 يوما وزيرا للمالية، بل إن مختصين يرجحون فرضية التعطيل المتعمد من مسؤولين "مؤدلجين" من بقايا النظام السابق بالبنك، على خلفية اعتماد الحكومة مؤخرا لمعاملات الصيرفة الإسلامية.
تراكم الأسباب
وعن أسباب شح السيولة في الجزائر، يؤكد الخبير المالي عبد الرحمن عيّة أنها تعود أساسا إلى التعامل الكبير بالنقود المعدنية والورقية على حساب أدوات الدفع الأخرى، على غرار الصكوك وبطاقات الدفع الائتماني والدفع بالإنترنت، إضافة إلى التعاملات خارج الإطار الرسمي، إذ تمثل أكثر من 40% من حجم الاقتصاد الجزائري.
اعلان
كما أن حجم القروض غير المحصلة من رجال المال سابقا يقلل من قدرة البنك المركزي على توفير السيولة اللازمة لبريد الجزائر، دون إغفال العراقيل البيروقراطية وثقل العمليات المصرفية، وتخلف المنظومة الضريبية، وهي كلها، بحسب عيّة، عوامل محفزة للاكتناز على حساب الإيداع البنكي أو البريدي.
اختلال نقدي
أوضح عبد الرحمن عيّة في تصريح للجزيرة نت أن "بريد الجزائر" تحمل أكثر من طاقته، بينما يفترض أن تتركز معظم السيولة بالبنوك نظرا لدورها في تمويل الاقتصاد.
وقال إن بريد الجزائر يحتاج عمليا إلى مستوى سيولة مرتفع على حساب المؤسسات المصرفية، وذلك بالنظر لعدد زبائنه الذي يتجاوز 22 مليونا، أي ما يمثل %80 من إجمالي زبائن النظام البنكي الجزائري، وهو ما يتسبب في التوزيع غير العقلاني للنقود.
وأضاف المتحدث أن نسبة السيولة إلى إجمالي الكتلة النقدية في الجزائر يمثل حوالي 35%، وهو معدل مرتفع مقارنة بالمعدل الطبيعي في حدود 10%، لذا تبرز المؤشرات الأولى للهلع المالي بمؤسسة بريد الجزائر، مما يدفع بأصحاب الحسابات الجارية إلى سحب أرصدتهم كاملة يوم صبّها، وهذا ما يقلل من حصة النقود الائتمانية التي تمثل في الاقتصاديات المتقدمة 95% من مجموع أدوات الدفع، على حدّ تعبيره.
يحدث كل ذلك في ظل عجز بنك الجزائر عن الإصدار النقدي نتيجة غياب أدوات التغطية، والكلام للخبير عيّة، خاصة بعد انهيار احتياطي الصرف الأجنبي من 200 مليار دولار إلى 55 مليار دولار خلال الفترة بين 2014 و2020 وتسجيل معدلات نمو منخفضة لم تتجاوز 1% سنة 2019، دون إغفال الرفض المتكرر للرئيس عبد المجيد تبّون للجوء إلى الاستدانة الخارجية.
وبذلك يتوقع عبد الرحمن عيّة أن تتوسع الأزمة الحالية إلى البنوك قريبا، بسبب تحويل سيولتها إلى مراكز البريد لدفع مستحقات المواطنين، وهو ما يؤثر في النهاية على تمويل العمليات الاقتصادية وخطة الإنعاش المعلنة، ويضع البلد في مواجهة أزمة تتجاوز الظرفية، وفق توصيفه.
عبد الرحمن عيّة توقع أن تتوسع الأزمة الحالية إلى البنوك قريبا بسبب تحويل سيولتها إلى مراكز البريد لدفع مستحقات المواطنين (الجزيرة)
وقد تضاربت تفسيرات الحكومة للأزمة، حيث اعتبرها الوزير الأول عبد العزيز جراد، في البداية، أنها "مؤامرة"، بينما قالت إدارة البريد إنها ناجمة عن تداعيات جائحة كورونا، لكن المراقبين يرونها أعمق من ذلك ويربطونها بعوامل أخرى.
وفي محاولة منها لاحتواء الموقف، بعدما صارت الزحام اليومي للزبائن في عز الوباء ظاهرة اعتيادية بمراكز البريد، خلفت مؤخرا ضحية من كبار السن، أعلنت وزارة البريد منع الأشخاص الاعتباريين من سحب أموالهم، وسقفت حجمه للأفراد دون 30 ألف دينار (أقل من 180 دولارا).
كما ألزمت وزارة التجارة متعامليها بتوفير خدمة الدفع الإلكتروني للمستهلكين، للتخلص من عبء السيولة الشحيحة، قبل قرار الحكومة بعزل كبار المسؤولين ببريد الجزائر، وفي مقدمتهم المدير العام، في وقت تتواصل مظاهر الأزمة عبر ربوع البلاد.
معاناة يومية
خلال جولة استطلاعية قادت مراسل الجزيرة نت إلى محافظة بومرداس (50 كلم شرق العاصمة)، أكد "محمد.ك"، وهو موظف بسلك التعليم، أنه يواجه صعوبة كبيرة في سحب مرتبه بسبب كثرة الزبائن بوكالة البريد المركزي للمدينة، فقد رجع ٣ مرات إلى عمله خاوي الوفاض، وهي المشكلة نفسها التي عبرت عنها السيدة ""كوثر.م"، ممرضة بقطاع الصحة، حيث اضطرت للغياب عن العمل حتى تتمكن من سحب جزء من راتبها لسد حاجات أساسية.
أما "الحاج بشير" المتقاعد قبل 16 عاما، فقد دفعه المرض المزمن إلى الاقتراض أكثر من مرة لزيارة طبيبه الخاص، بعدما تعذرت عليه مواكبة الازدحام والطوابير.
لكن بالمقابل، يؤكد مواطنون آخرون أنهم قد تمكنوا، بقليل من الصبر، من سحب جزئي لمستحقاتهم عبر الموزعات الآلية لدى وكالات البريد والبنوك.
ولقي تدبير الحكومة للشأن المالي انتقادات واسعة من الخبراء، معتبرين ما جرى نتيجة طبيعية لغياب نظام الإنذار المبكر وإدارة الأزمات، وسوء التنظيم والتسيير بين مؤسسة البريد وبنك الجزائر المركزي، خاصة في ظل شغور "محافظ بنك الجزائر" المعين قبل 70 يوما وزيرا للمالية، بل إن مختصين يرجحون فرضية التعطيل المتعمد من مسؤولين "مؤدلجين" من بقايا النظام السابق بالبنك، على خلفية اعتماد الحكومة مؤخرا لمعاملات الصيرفة الإسلامية.
تراكم الأسباب
وعن أسباب شح السيولة في الجزائر، يؤكد الخبير المالي عبد الرحمن عيّة أنها تعود أساسا إلى التعامل الكبير بالنقود المعدنية والورقية على حساب أدوات الدفع الأخرى، على غرار الصكوك وبطاقات الدفع الائتماني والدفع بالإنترنت، إضافة إلى التعاملات خارج الإطار الرسمي، إذ تمثل أكثر من 40% من حجم الاقتصاد الجزائري.
اعلان
كما أن حجم القروض غير المحصلة من رجال المال سابقا يقلل من قدرة البنك المركزي على توفير السيولة اللازمة لبريد الجزائر، دون إغفال العراقيل البيروقراطية وثقل العمليات المصرفية، وتخلف المنظومة الضريبية، وهي كلها، بحسب عيّة، عوامل محفزة للاكتناز على حساب الإيداع البنكي أو البريدي.
اختلال نقدي
أوضح عبد الرحمن عيّة في تصريح للجزيرة نت أن "بريد الجزائر" تحمل أكثر من طاقته، بينما يفترض أن تتركز معظم السيولة بالبنوك نظرا لدورها في تمويل الاقتصاد.
وقال إن بريد الجزائر يحتاج عمليا إلى مستوى سيولة مرتفع على حساب المؤسسات المصرفية، وذلك بالنظر لعدد زبائنه الذي يتجاوز 22 مليونا، أي ما يمثل %80 من إجمالي زبائن النظام البنكي الجزائري، وهو ما يتسبب في التوزيع غير العقلاني للنقود.
وأضاف المتحدث أن نسبة السيولة إلى إجمالي الكتلة النقدية في الجزائر يمثل حوالي 35%، وهو معدل مرتفع مقارنة بالمعدل الطبيعي في حدود 10%، لذا تبرز المؤشرات الأولى للهلع المالي بمؤسسة بريد الجزائر، مما يدفع بأصحاب الحسابات الجارية إلى سحب أرصدتهم كاملة يوم صبّها، وهذا ما يقلل من حصة النقود الائتمانية التي تمثل في الاقتصاديات المتقدمة 95% من مجموع أدوات الدفع، على حدّ تعبيره.
يحدث كل ذلك في ظل عجز بنك الجزائر عن الإصدار النقدي نتيجة غياب أدوات التغطية، والكلام للخبير عيّة، خاصة بعد انهيار احتياطي الصرف الأجنبي من 200 مليار دولار إلى 55 مليار دولار خلال الفترة بين 2014 و2020 وتسجيل معدلات نمو منخفضة لم تتجاوز 1% سنة 2019، دون إغفال الرفض المتكرر للرئيس عبد المجيد تبّون للجوء إلى الاستدانة الخارجية.
وبذلك يتوقع عبد الرحمن عيّة أن تتوسع الأزمة الحالية إلى البنوك قريبا، بسبب تحويل سيولتها إلى مراكز البريد لدفع مستحقات المواطنين، وهو ما يؤثر في النهاية على تمويل العمليات الاقتصادية وخطة الإنعاش المعلنة، ويضع البلد في مواجهة أزمة تتجاوز الظرفية، وفق توصيفه.
عبد الرحمن عيّة توقع أن تتوسع الأزمة الحالية إلى البنوك قريبا بسبب تحويل سيولتها إلى مراكز البريد لدفع مستحقات المواطنين (الجزيرة)
ندرة السيولة في الجزائر.. هل تتحول إلى أزمة هيكلية؟
يعيش الجزائريون في الأشهر الأخيرة على وقع ندرة كبيرة للسيولة النقدية بمراكز البريد التي تدفع رواتبهم ومعاشات ومنح الموظفين والأجراء والمتقاعدين والطلبة وذوي الحقوق.
www.aljazeera.net