نشر (صندوق النقد الدولي) التقرير الخاص بطلب مصر للحصول على تمويل بقيمة 5.2 مليار دولار على مدار عام بتاريخ الثالث عشر من أغسطس ليحسن فيه نظرته المستقبلية تجاه الاقتصاد المصري ويرفع من توقعاته لمعدلات النمو خلال العام المالي المقبل مقارنة بتقديراته السابقة الصادرة في يونيو. وفيما يلي عرض لهذا التقرير.
نظرة عامة على الاقتصاد المصري قبل وباء (كوفيد -19):
قبل انتشار وباء كورونا، نظر العالم إلى مصر باعتبارها واحدة من أسرع الأسواق الناشئة نموًا حيث حققت استقرارًا في الاقتصاد الكلي بعد تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي عام 2016 والذي ساهم في معالجة الاختلالات الهيكلية على الصعيدين المالي والنقدي مما أسفر عن رفع معدلات النمو وخفض مستويات الدين العام بشكل ملحوظ, كما ظلت السلطات ملتزمة بدفع الإصلاحات الهيكلية لتوفير فرص عمل أكثر شمولاً بقيادة القطاع الخاص والسعي لتطبيق سياسات تهدف إلى الحد من الفقر وعدم المساواة. ويدلل على ذلك ما يلي:
- تحقيق الاقتصاد المصري معدل نمو بلغ 5.6% خلال النصف الأول من السنة المالية 2019-2020 على أساس سنوي.
- تسجيل فائض مالي أولي قدره 2٪ من الناتج المحلي.
- وصول الاحتياطي النقدي 45 مليار دولار بحلول نهاية فبراير الماضي.
- استقرار معدل التضخم الأساسي عند 1.9% على أساس سنوي.
الشكل (1): توزيع المساهمة في نمو الناتج المحلي الإجمالي
يتبين من الرسم السابق أنه في العام المالي 2004-2005 كان الاستهلاك الخاص أكبر عنصر مؤثر في نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي باعتباره الدافع الحقيقي للنمو الاقتصادي، ولكن سرعان ما تناقصت هذه النسبة على مدار السنين ليحل محلها الاستثمار الخاص كأكبر داعم للنمو في العام المالي 2018-2019، وهو ما يؤكد أن سياسات تشجيع القطاع الخاص قد أتت ثمارها مما أدى إلى ارتفاع نسبة مساهمة استثمارات القطاع الخاص في نمو الناتج المحلي الإجمالي.
وأما عن معدل التضخم، نجد أنه سجل تراجعًا ملحوظًا خلال السنوات القليلة الماضية لاسيما أسعار المواد الغذائية التي تشكل عنصرًا أساسيًا في مؤشر أسعار المستهلكين، وهو ما يتضح من الشكل التالي:
الشكل (2): مؤشر أسعار المستهلكين
يُمكن الاستدلال من الشكل السابق أن مؤشر أسعار المستهلكين شهد تراجعًا ملحوظًا خلال الأربع سنوات الماضية بعدما سجل أعلى مستوياته خلال الفترة التي تتراوح بين عامي 2017 و2018 بعدما قررت الحكومة المصرية تعويم الجنيه، ليعاود التراجع إلى مستويات أقل من التي سجلها قبل التعويم بفضل استقرار العملة المحلية والأوضاع الاقتصادية بشكل عام.
وعن مكونات المؤشر، يتضح من الرسم السابق تراجع أسعار المواد الغذائية منذ عام 2017 لتسجل مستوى سالبًا بحلول أوائل العام الحالي وهو ما يعني تخفيف الأعباء المفروضة على كاهل المصريين الذين ينفقون جزء لا يستهان به من دخولهم على الغذاء، كما انخفضت أسعار التجارة بالتجزئة خلال نفس الفترة وهو ما يؤكد على تقويض قدرة التجار على رفع الأسعار.
وبناء على قوة الاقتصاد المصري، وافق صندوق النقد الدولي على تمويل بقيمة 5.2 مليار دولار على مدار عام ضمن حزمة “الاستعداد الائتماني” بهدف دعم إدارة الأعمال الصغيرة والحفاظ على جهود السلطات فيما يتعلق بالإنجازات الاقتصادية الكلية التي تحقتت على مدار السنوات الأربع الماضية، مع تعزيز الحوكمة والشفافية ، وتقليل الحواجز أمام المنافسة.
الاقتصاد المصري يستطيع التغلب على تداعيات كورونا:
اتخذت مصر العديد من التدابير الاحترازية الهادفة إلى الحد من انتشار المرض في جميع أنحاء البلاد بالتوازي مع اتجاه معظم دول العالم لتنفيذ مثل هذه الإجراءات والتي تمثلت أهمها في فرض قيود على حركة السفر والطيران والتجارة الدولية.
وقررت الحكومة مارس الماضي تخصيص 100 مليار جنيه (حوالي 1.8% من الناتج المحلي الإجمالي) لدعم القطاع الصحي وتعزيز الوضع المالي والنقدي، كما خفض البنك المركزي المصري سعر الفائدة بمقدار 300 نقطة أساس إلى 9.25 % لدعم النشاط الاقتصادي مع اتخاذ العديد من المبادرات لدعم المقترضين، وعلاوة على ذلك عززت السلطات أيضًا قدرات الفحص الطبي وخصصت 8 مليارات جنيه لدعم الرعاية الصحية ، بما في ذلك توفير المستلزمات الطبية وصرف المكافآت للعاملين في مستشفيات ومعامل الحجر الصحي.
وبالإضافة إلى ذلك، طبقت الحكومة المصرية عدة تدابير احتوائية لتسهيل التباعد الاجتماعي وإبطاء انتشار الفيروس عن طريق فرض حظر التجوال وتعليق السفر الجوي وإغلاق المدارس ودور العبادة، وتخفيض ساعات عمل البنوك والبورصات، مع تشجيع موظفي القطاعين العام والخاص على العمل من المنزل، كما أنشأت مستشفيات للحجر الصحي، وعلقت تصدير معدات الحماية الشخصية من أجل ضمان توافرها للمواطنين، وانطلاقًا من إدراك الحكومة لمدى تأثير الوباء على العمالة غير المنتظمة (العمالة اليومية)، تم تخصيص 500 جنيه شهريًا لمدة ثلاث أشهر لعمال هذا القطاع من أجل تخفيف حدة تداعيات الوباء على مستوى معيشتهم.
وظهر التأثير الاقتصادي لهذه الإجراءات مباشرة عبر التوقف المفاجئ في إيرادات السياحة، التي تمثل 12% من الناتج المحلي الإجمالي وتستحوذ على 10% من العمالة، كما تراجعت تحويلات العاملين بالخارج، والتي تمثل 8.2% من الناتج المحلي الإجمالي، كما يُمكن أن تنخفض الإيرادات من قناة السويس مع استمرار القيود والقيود المفروضة على التجارة والسفر، وعلاوة على ذلك، شهدت مصر تخارج أكثر من 15 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية في أدوات الدين المحلي خلال مارس وأبريل انعكاسًا لتراجع شهية المخاطر لدى المستثمرين.
وعلى الرغم من ذلك، أكدت جميع المؤسسات الدولية مثل “فيتش” و”ستاندرد آند بورز” التصنيف الائتماني السيادي لمصر مع تثبيت النظرة المستقبلية للاقتصاد المصري عند “مستقرة” وذلك بدعم من استقرار الأوضاع وإعادة افتتاح القطاعات الاقتصادية تدريجيًا. وفي الحادي والعشرين من مايو، قررت مصر العودة إلى سوق السندات الدولية لتكون بذلك من أوائل الدول التي اتخذت هذه الخطوة حيث جمعت 5 مليارات دولار على شرائح 4 و 12 و 30 عامًا مما يعكس ثقة المستثمرين في الآفاق الاقتصادية المصرية.
وانطلاقًا مما سبق، يتوقع صندوق النقد أن يصل معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في مصر إلى 2% خلال العام المالي الحالي 2020-2021 ليعاود الارتفاع بحلول العام المقبل 2021-2022 عند 6.5% -مقارنة بتوقعاته الصادرة في يونيو والتي أشارت إلى تسجيل معدل نمو يبلغ 2% فقط خلال نفس الفترة- وذلك بدعم من بدء استعادة العالم لتوازنه بعد الصدمة القوية التي تلقاها خلال العام الجاري جراء التداعيات الاقتصادية لجائحة فيروس “كورونا” المستجد، كما توقع الصندوق تراجع مستوى الدين الخارجي إلى 21.8% من الناتج المحلي الإجمالي خلال السنة المالية المقبلة.
مقارنة بين توقعات صندوق النقد الدولي قبل وبعد أزمة كورونا:
يتضح من الجدول السابق أن فيروس كورونا ألقى بظلاله على عدد من المؤشرات الاقتصادية –حتى إن كانت الصورة ليست بالقاتمة كحال بعض الدول الأخرى- فعلى سبيل المثال، توقع صندوق النقد الدولي ارتفاع عجز الحساب الجاري خلال العام المالي الحالي إلى 16.2 مليار دولار مقارنة مع 10.6 مليار دولار في توقعات الصندوق قبل انتشار الفيروس، فيما تنبأ الصندوق تراجع الإيرادات السياحية بشكل قوي إلى 2.7 مليار دولار مقابل 17.8 مليار دولار في التقديرات السابقة، فضلًا عن تراجع صافي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر بمقدار النصف تقريبًا إلى 5.5 مليار دولار خلال 2020-2021.
وفي الختام، يُمكن القول أن الإجراءات المصرية الهادفة للحد من انتشار فيروس كورونا حازت على إشادات جميع المنظمات الدولية وهو ما تبين في التقارير الأخيرة الصادرة عن الاقتصاد المصري والتي أكدت قدرته على تجاوز تداعيات الوباء وتحقيق نسب نمو مرتفعة خلال السنوات المقبلة.