حملة شارلكان البائسة على الجزائر المحروسة بالله
معركة الجزائر (أكتوبر 1541)
إنما الحرب خُدعة.. ما قبل المعركة
رغم استمرار وجود خطر الغزو العثماني المباشر لوسط أوروبا من الجهة الشرقية، فإن شارل رأى أن الخطر الجنوبي لا يقل ضراوة، خاصة مع استفحال قوة خير الدين بربروس، لا سيما بعد انتصاره الكاسح قرب شواطئ اليونان على أسطولٍ إسباني بندقي ضخم في موقعة بريفيزا البحرية عام 1538م. لا غرو أن القيام بعملٍ عسكريٍ كاسح ضد الجزائر وخير الدين، أصبح واجبًا في نظر شارل.
تجهّزت جيوش شارل الألمانية والإيطالية والإسبانية، والمتطوعون الصليبيون من أنحاء أوروبا، على مدار شهور، تكامل فيها حشدها، ثم أبحرت بها أكثر من 500 سفينة متنوعة بين حربية ونقل، تحت قيادة شارل شخصيًا، وشاركه في تلك الحملة أسماء لامعة من القادة، مثل القرصان الجنوي أندريا دوريا، والذي كان يعتبر نظير خير الدين لدى المعسكر الآخر، وهرنان كورتيس، فاتح المكسيك الذي قهر سكانها الأصليين وأباد منهم عشرات الآلاف.
أبحر الأسطول الصليبي صوب الجزائر أواخر شهر سبتمبر (أيلول) 1541م، ليتجنب الصدام مع أسطول خير الدين القوي، والذي غالبًا ما يرسو طوال فصليْ الخريف والشتاء، بعيدًا عن مسرح العمليات، تجنبًا لتقلبات الجو في البحر. وبالفعل وصل الأسطول إلى ساحل الجزائر يوم 19 أكتوبر دون أية مقاومة بحرية تذكر، وبدأت عمليات الإنزال البري في الأيام التالية.
بمجرد بدء ظهور قوات شارل الخامس على البر، اندلعت أعمال المقاومة، وقام عشرات الفرسان الجزائريين بعمليات خاطفة من الكر والفر، لاستنزاف الخصم. لكن تعذّر القيام بهجوم مضاد كبير نتيجة سيطرة مدفعية السفن الصليبية على منطقة الإنزال نيرانيًا.
شارل الخامس ملك إسبانيا
معركة الجزائر.. أيام المجد والأقدار المؤاتية
في الفصل السابع من كتاب «حرب الثلاثمائة عام بين الجزائر واسبانيا»، يروي توفيق المدني تفاصيل مثيرة عن أحداث معركة الجزائر الحاسمة، في أكتوبر عام 1541م. في يوم 23 من الشهر نفسه، كان الآلاف من جنود الحملة الصليبية قد أتموا تطويق مدينة الجزائر بريًا، واحتلال بعض التلال الاستراتيجية خارجها، رغم استمرار أعمال المقاومة ضدهم، بينما رابطت الأساطيل المعادية قبالة ساحل المدينة لتتم الحصار. في المقابل تحصّنت القوة المدافعة خلف أسوار المدينة المنيعة، وقلاعها الدفاعية، والمزودة بأكثر من 50 مدفعًا من أعيرة مختلفة، تتوزع في كافة الجهات.
قدمت الأقدار هدية لا تقدر بثمن للجزائر، إذ في مساء يوم 24 أكتوبر، هبّت عواصف شديدة، مصحوبة بأمطارٍ شديدة الغزارة، مما تسبب في تدمير الكثير من سفن الأسطول، كما عانت القوات البرية الأمرين، إذ لم يتحسبوا لمثل ذلك الانقلاب المناخي المفاجئ، فلم يكن بحوزتهم خيام كافية، كما تحولت الكثير من الأراضي حول مدينة الجزائر إلى ما يشبه المستقعات، مما عطل حركة المدافع الثقيلة التي كانت مخصصة لقصف أسوار الجزائر.
لم يضع الجزائريون وقتًا، فخرجوا بعد صلاة الفجر من بوابات المدينة في هجومٍ مباغت ضد القوات الإيطالية المرابطة بالقرب، والتي روّعتها المفاجأة، فانسحبت بشكل مضطرب، بينما بنادق المهاجمين تحصدها حصدًا. لم يوقف الهجوم الجزائري إلا تدخل العشرات من قوات فرسان مالطة المشهورين بالحماسة والقوة، وبدء استنفار باقي القوات بعد أن ترامت إلى أسماعهم أصوات المعارك.
أمر القائد الجزائري قواته بالانسحاب إلى وراء الأسوار، وهو ما تمّ بسرعة ونظام غير متوقعيْن في ذلك الوقت العصيب. اندفعت قوات فرسان مالطة، والمئات من الفرق الأخري وراء القوات المنسحبة، مما جرّهم إلى كمينٍ قاتل.
بينما أصبح المُطارِدون في مدى المدفعية الجزائرية، اشتد المطر، وساءت حالة الأرض، وأصبحت تلك القوات عاجزة عن التقدم نحو الأسوار، أو الانسحاب إلى مواقعها. وزاد الطين بلة، أن الأمطار أتلفت البارود، فأصبحت البنادق مواسير حديدية تنتظر الصدأ. هنا جاء دور الرماة الأندلسيين على الأسوار، والذين قنصوا المئات من الصليبيين بسهامهم بعيدة المدى التي لم تتأثر بالمطر. كذلك كانت حالة البارود في الجزائر أفضل كثيرًا، إذ حمته الأسوار والتحصينات من التلف، فشاركت البنادق والمدافع بفعالية. وكذلك لم تنقطع هجمات فرسان البدو من خارج الأسوار ضد الصليبيين.
في الأيام التالية، زادت العواصف عنفوانًا، فدمرت أكثر من 100 سفينة نقل، وحملت الأمواج الكثير من المؤن والعتاد من السفن إلى السواحل حول الجزائر، فغنم الجزائريون كمياتٍ كبيرة منها، رغم محاولة السفن الحربية الإسبانية والقوات البرية الحيلولة دون ذلك. وهكذا أصبح الآلاف من قوات شارل على بر الجزائر محصورين – لا مُحاصِرين – وسط الأراضي الموحلة، دون إمداداتٍ كافية، فريسة للجوع وللهجمات التي لم تنقطع من المقاومين خارج الأسوار.
لا بد أيضًا أن نشير إلى عمل فدائي بارز، كان أبطاله الآلاف من أسرى المسلمين العاملين جدّافين كُرهًا في السفن الحربية الصليبية. استغل هؤلاء حالة الفوضى والاضطراب التي سببتها العاصفة، وبدأوا في التمرد، وتوقفوا عن التجديف، فجرفت الأمواج العاتية 16 سفينة حربية إلى الساحل الجزائري، حيث أُنقِذ أكثر من 1400 من هؤلاء الأسرى المسلمين.
بعد أن تفاقم التدهور، تشاور الملك شارل الخامس مع قادته حول الانسحاب، وإلى أين. أيَّد معظمهم الانسحاب فورًا. فلما استشارهم شارل في انسحاب تكتيكي إلى أقرب معقل إسباني في المنطقة لإصلاح السفن، والتزود، ثم مواصلة الهجوم، رفض الكثيرون، وفي مقدمتهم أندريا دوريا، ورأوا أن في هذا مخاطرة كبيرة، بالبقاء شهورًا في بيئةٍ معادية، وأن الأولى الانسحاب إلى أوروبا. اقتنع شارل برأي دوريا، رغم معارضة قائد بارز كهرنان كورتيز قاهر المكسيك، والذي أصر على استكمال الحرب .. دوريا لم يعلمْ في حينه أن رأيه أنقذ شارل، ومن بقي من قواته من كارثة عسكرية أفدح مما حدث قبالة الجزائر، حيث كان الأسطول العثماني بزعامة خير الدين بربروس ينهب مياه المتوسط نهبًا متجهًا إلى منطقة العمليات، لنجدة الجزائر، ولو اصطدم بالأساطيل الصليبية وهي في حالتها المزرية تلك، لحدثت مذبحة مروعة لا مثيل لها, بدأ انسحاب قوات شارل يوم 29 أكتوبر، بينما لم ينسحب شارل سوى في الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني)، وتولى بنفسه قيادة صفوة فرسان مالطة والقوات الإسبانية لحماية مؤخرة الجيش المنسحب من الهجمات الجزائرية التي لم تنقطعْ ليلًا أو نهارًا.
خسائر تاريخية.. الجيوش الصليبية فقدت الغالي والنفيس
«في عام 1541م، بيعَ بعض العبيد المسيحيين في أسواق الجزائر بسعرٍ أقل من سعر ثمرة من الثوم» *روجر كراولي، كتاب إمبراطوريات البحر
بينما لم تفقد الجزائر سوى بضع مئاتٍ من مقاتليها وأهاليها، فإن خسائر قوات شارل الخامس كانت كابوسية، عددًا وعدة، ولم تكن الأثمان المعنوية أقل فداحة. فقدت الجيوش الصليبية حوالي 12 ألف من زهرة جنودها وملّاحيها، بين قتيلٍ وأسير، فتكدَّس الأسرى الصليبيون في أسواق الجزائر. وبلغت الخسائر في السفن بين 150 و200 سفينة، منها حوالي 30 سفينة حربية، كما دُمِّر أو أصبح غنيمة، أكثر من 200 مدفع، وآلاف البنادق والأدوات.
أنعم السلطان العثماني سليمان القانوني على حاكم الجزائر حسن أغا برتبة «باشا» تقديرًا لقيادته الناجحة لمعركة الجزائر. ثم شن خير الدين بربروس حملة بحرية انتقامية قاسية استهدفت سواحل إسبانيا وإيطاليا، ونشرت الخراب في الكثير من الثغور والموانيء في تلك المناطق، دون مقاومة تذكر، حيث كانت الأساطيل الإسبانية ما تزال في مرحلة إعادة البناء بعد الخسائر المروعة أمام شواطيء الجزائر.
بهذا النصر الساحق على قوات شارل، تعزّزت سطوة الجزائر في الحوض الغربي للبحر المتوسط، وأصبحت أساطيلُها صداعًا لإسبانيا ولحلفائها، ولخصوم الدولة العثمانية. وخرجت منها حملات عسكرية عديدة لتحرير باقي ثغور المغرب الإسلامي الخاضعة للإسبان، خاصة في المغرب الأوسط، مثل بجاية وتلمسان، ووهران التي تأخر تحريرها إلى أواخر القرن الثامن عشر الميلادي.
من اللافت أن محاولات إسبانيا لكسر أنف الجزائر لم تنقطعْ خلال القرون الثلاثة التالية لحملة شارل الكبرى، وكان من أبرزها غزوة عام 1775 الكبرى، والتي كانت هذه المرة في أتون الصيف الحار، لكن لم يغنِ عنها هذا التغيير في الموسم شيئًا، فكانت هزيمةً منكرة للقوات الإسبانية.
المصادر
حرب الثلاثمائة عام بين الجزائر وإسبانيا .. أحمد توفيق المدني
الفتح العثماني الأقطار العربية .. نيقولاي إيفانوف.
الدولة العثمانية العلية .. محمد فريد بك.
This 16th-century corsair was the most feared pirate of the Mediterranean
Charles V
Doomed Expedition to Algiers
Süleyman the Magnificent
From Pirate to Admiral: The Tale of Barbarossa
Algiers expedition (1541)