ذكرى نصر اكتوبر ١٩٧٣ م:
قبل معركة التحرير بيوم واحد، صدرت الأوامر بإلحاق الفصيلة، التى يخدم بها الجندى محمد المصرى، والتابعة للواء 128 مظلات، المكلف بحماية السد العالى، بالفرقة الثانية مشاة. على الفور انتقلت الفصيلة إلى الجبهة، ليقضى أبطالها يوم الخامس وليلة السادس من أكتوبر متخفين فى «جناين السويس» على بعد 2 كيلومتر من القناة، ضمن عملية إخفاء وتمويه.
لم يكن الجندى محمد المصرى، البالغ من العمر فى ذلك التوقيت 24 عاما، والذى انتقل ضمن أفراد فصيلته، يتوقع وهو يقضى ليلته فى «الجناين»، أن هذه القوارب المطاطية، التى يحملونها ستستخدم فعليًا فى اليوم التالى للعبور إلى الضفة الشرقية، يقول: «اعتقدنا أنها تعبئة عامة عادية كالتى كانت تقوم بها القوات المسلحة كل فترة فى إطار الحرب الخداعية».
بدأ السادس من أكتوبر يوما طبيعيا جدا، فعلى طول القناة تنتشر «فرقة الكسالى»، جنود يلعبون الكرة و«صَلَّح» ويرتدون «كوتشى وبنطلونا» فقط، ويأكلون البرتقال والقصب ويرمون بها على شاطئ القناة. لم يكن فى الأمر ما يشير سواء للعدو أو لجنود الجيش المصرى، أن حربًا ستندلع بعد ساعات قليلة، فكيف لهذا الجندى «الكسول» أن يحارب، إلا أن الأمر تغير تمامًا عندما قطع هذا الهدوء أزيز 220 طائرة مصرية عبرت القناة ودكت حصون العدو فى سيناء.
وكانت هذه اللحظة هى التى انتظرها محمد المصرى، وكل مصرى. حمل الرجل قاربه المطاطى مع زملائه، بعد صدور الأوامر، وانطلقوا صوب القناة للعبور ضمن الموجات الأولى، فى تمام الساعة 2:20 وكان الجميع يحفظ المهمة المكلف بها، ومهمة «المصرى» كانت «صد هجوم العدو المفاجئ أثناء عملية العبور، وعمل كمين فى عمق قوات العدو».
ما إن وصل القارب المطاطى الذى يقل محمد المصرى وزملاءه إلى أرض الفيروز، حتى سجد قائده المقدم صلاح عبدالسلام حواش وقبل تراب سيناء، يقول «المصرى»: «رفعت رأسه وإذ به يبكى والرمل على وجهه، هذا الأمر كان له مفعول السحر علينا، عندما نرى قائدنا بهذه الوطنية، كنا على استعداد لفعل أى شىء فى المعركة». بهتاف الله أكبر، قاد حواش جنوده وتسلقوا الساتر الترابى لتنفيذ مهامهم داخل سيناء، وكانت المهمة المطلوبة التمركز فى منطقة وادى النخيل، والانطلاق منها لتنفيذ عمليات فى عمق قوات العدو والعودة.
فى 8 أكتوبر، صدرت الأوامر للواء 190 مدرع الإسرائيلى بالقيام بهجوم مضاد والاستيلاء على كوبرى الفردان، تحركت دبابات اللواء فى 2:30 ظهرًا، مثيرة سحب ضخمة من الغبار لحجب الرؤية عن القوات المصرية وإرباكها، ووفقًا لتقارير الاستطلاع الإسرائيلى، فإن الفرقة المصرية المواجهة للواء والمكونة من المشاة ستكون صيداً سهلاً.
فى هذه الأثناء وصلت الأوامر باستهداف دبابات (لواء 190 مدرع) فى طريقه للغرب، يقول المصرى: «على الفور درسنا الموقع على الخريطة، كانت المسافة بيننا وبينهم 8 كيلومترات». كان المطلوب الوصول إلى النقطة المحددة فى الساعة الثانية فجرًا، وبالفعل وصل المكان كل من المقدم صلاح حواش، والحكمدار محمد المصرى، والجنديان إبراهيم صبرى، وماهر صليب، وفور الوصول، بدأ كل فرد فى حفر حفرة برميلية للاختفاء فيها، وتجهيز صواريخ المالوتيكا (فهد)، الروسية الصنع، ودراسة طبيعة مسرح العمليات.
اخترق اللواء الإسرائيلى النطاق المحدد ووصلت الدبابات الأولى إلى مقربة من ضفة القناة، حتى انقلبت الدنيا رأسًا على عقب. يقول قائد اللواء: «أوقعنا المصريون فى كمين محكم.. كيف ضبطوا أعصابهم ونيرانهم طوال هذا الوقت؟».
بحسب القواعد التى تدرب عليها محمد المصرى، فإن المدى المؤثر للصاروخ هو 3 كيلومترات، إلا أن الرجل فضل الانتظار حتى اقتراب الدبابات لأقرب مسافة ممكنة. كل ما كان يفكر فيه «المصرى» فى ذلك الوقت، بحسب شهادته لـ«المصرى اليوم» هو أن يصل الصاروخ للهدف مهما كان الثمن: «ثمن الصاروخ قبل الحرب كان 500 دولار، ثم ارتفع إلى 1500 وهذه الأموال من دم الشعب المصرى، لذا كان لابد وحتمًا أن يصل الصاروخ للهدف، بعيدًا عن أى أخطاء قد تتسبب فيها ظاهرة السراب فى الصحراء مثلًا، وإلا انعدم ضميرى».
أثناء المعارك، توجه المقدم صلاح حواش لمحمد المصرى، وضع فى جيب سترته مصحفًا صغيرًا، ورددا سويًا الشهادة قبل أن يعطيه شربة ماء فى غطاء الزمزمية، ويتخذ وضع إخفاء وتمويه، يقول محمد المصرى: «طالت المدة وهو فى ذلك الوضع، زحفت حتى توجهت إليه، وجدت نصف جسده الأعلى منفصل، وقال لى كلمة واحدة ثم استشهد: مصر أمانة بين أيديكم يا مصرى».
بعد تنفيذ المهمة، وتدمير 27 دبابة إسرائيلية، محطمًا بذلك رقم قياسى عالمى، عاد محمد المصرى إلى وادى النخيل، وإذ به يتم استدعاؤه إلى قيادة الفرقة الثانية، هناك وجد نفسه أمام العميد حسن أبوسعدة، قائد الفرقة، وضابط إسرائيلى أسير، يجلس أمامه على كرسى، منحنى الرأس، توجه العميد أبوسعدة للمصرى قائلًا: «هو الذى يريدك، عندما وقع فى الأسر، طلب شرب الماء ورؤية الجندى الذى أصاب دبابته»، هنا انتصب الضابط الإسرائيلى أمام الجندى محمد المصرى، الذى حصل فيما بعد على وسام نجمة سيناء، وأدى له التحية العسكرية، لم يكن الضابط الأسير سوى العقيد عساف ياجورى، قائد اللواء 190 مدرع الإسرائيلى، والعضو بالكنيست فيما بعد.