بسم الله الرحمان الرحيم
في هذا الموضوع ساضع ترجمة وجدتها في احدى المدونات لفصل من كتاب القرصنة وجرائم البحر، دراسات تاريخية ومعاصرة
piracy and maritime crime historical and modern case studies
الفصل يتحدث عن اعمال القرصنة في الساحل الشمالي للمغرب(منطقة الريف) خلال القرن 19 م الفترة التي عرفت ضعف المغرب وهزيمته في معركة ايسلي امام الفرنسيين سنة 1844 م
السفينة التجارية "الأخوات الثلاث"، قراصنة الريف
والسفن الحربية البريطانية :
تأليف: أندرو لامبرت
ترجمة: فريد المساوي
تقديم المترجم:
هذا الموضوع في الأصل هو فصل من كتاب جماعي شارك فيه مجموعة من الباحثين والمؤرخين الأنكلوساكسونيين نشر تحت عنوان: "القرصنة وجرائم البحر، دراسات تاريخية ومعاصرة"، وقد تناول كل فصل من الكتاب منطقة معينة من المناطق التي عرفت خلال فترة من فترات التاريخ بظهور أعمال قرصنية، كجزر الكاريبي وإفريقيا وجنوب شرق آسيا وغيرها، وبالنسبة لهذا الفصل وهو الحادي عشر ضمن ترتيب الفصول في الكتاب، فهو يتناول إشكالية ظهور أعمال قرصنة في منطقة أيت بويفار بالريف في منتصف القرن التاسع عشر، في فترة جد حساسة، حيث كان التنافس التجاري بين القوى الأوربية حادا جدا حول الهيمنة في البحر المتوسط ومضيق جبل طارق، جاء الفصل تحت عنوان: "حدود القوة البحرية البريطانية، السفينة التجارية (الأخوات الثلاث)، قراصنة الريف والسفن الحربية البريطانية"، وهو من توقيع الأستاذ المحاضر أندرو لامبرت(1)، المعروف كواحد من كبار الباحثين في مجال تاريخ البحرية البريطانية، وقد تناول فيه بالدراسة والتحليل الخيارات التي كانت أمام بريطانيا لحل مشكل القرصنة الريفية بما يتناسب مع الحفاظ على مركز الهيمنة في مجال التجارة، واحتكار الامتيازات التجارية مع المغرب، ودفع القوى الأخرى التي كانت لها نفس الأطماع وخاصة فرنسا، هل الحل هو القوة أم الضغط على المغرب لدفع التعويضات وقمع القراصنة وثنيهم؟ وإذا كان الخيار الأنسب هو استخدام القوة مع الريفيين فكيف تستطيع بريطانيا أن تخصص جزءا من قواتها البحرية لهذه القضية التي تتطلب وقتا، وقضاياها عبر العالم كثيرة ومتعددة، مع العلم أن الحملات التأديبية التي توجهت إلى المنطقة تفاجأت بالصعوبات الكثيرة التي تحول دون توجيه ضربة إلى القراصنة من شأنها أن تثنيهم عن تماديهم في أعمالهم.
فريد المساوي
حدود القوة البحرية البريطانية،
السفينة التجارية "الأخوات الثلاث"، قراصنة الريف
والسفن الحربية البريطانية(2).
يعالج هذا الفصل رد الفعل البريطاني خلال القرن التاسع عشر على مشكل القرصنة على طريق تجاري متوسطي هام ورئيسي، ففي الوقت الذي كان فيه قراصنة الريف مجرد مجموعة صغيرة مزعجة، فإن بريطانيا لم يكن بمقدورها أن توقفهم دون نشر قوات بحرية مهمة على الساحل، وهذا الخيار كان من شأنه فتح مجموعة من القضايا الخطيرة والمركبة في العلاقات بين بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وكذا المغرب والجزائر وجبل طارق، قضايا تحب بريطانيا معالجتها منفصلة. وكان رد الفعل البحري الوحيد دون ذلك هو التصرف حين ضبط القراصنة متلبسين باعتراض إحدى السفن. وقد ثبت أن العقوبات المحلية من طرف الحكومة المغربية لم تكن حاسمة(3).
ما بين 1846 و1856 تم الاعتراض لثماني سفن على الساحل المتوسطي المغربي منها ستة بريطانية، واحدة فرنسية وأخرى بروسية: Ruth في 30 مارس 1846، طاقمها هرب، three sisters في 2 نونبر 1848 الطاقم هرب أيضا، violet 5/6 أكتوبر 1851، florat بروسية في دجنبر 1852، Cuthbert Young في 21 يونيو 1854 طاقمها هرب، jeune dieppoise فرنسية في 8 أبريل 1855، Livey في 2 ماي 1855 وطاقمها هرب أيضا، ثم hymen في 14 ماي 1856، إضافة إلى عدد كبير من الزوارق والخافرات الإسبانية التي احتجزت، وكانت موجة مماثلة من العمليات القرصنية حدثت سنتي 1834 و1835 أنهيت بتدخل عسكري من طرف سلطان المغرب.
حكومات بريطانيا وفرنسا وبروسيا تدارست خيارات ونطاقات استعمال القوات العسكرية البحرية، لكن المشكل في الأخير حل مرة أخرى من طرف القوات المغربية، وفي جانب آخر فالنتيجة قابلها صبر وتسامح من لندن وباريس، وفي ذلك خدمة للمغرب كعازل حيوي بين الجزائر كمستعمرة فرنسية والقاعدة الإستراتيجية البريطانية في جبل طارق، الدرس الذي نستخلصه من دراسة هذه القضية هو أن القراصنة كغيرهم من البشر يعيشون على البر، وعلى البر ينبغي زجرهم وثنيهم عن ممارساتهم، ولهذا فالقوات البحرية وحدها غير كافية لمحاربة القرصنة.
الهوامش:
1 ـ ولد أندرو لامبرت في نورفولك، بإنجلترا، حصل على درجة البكالوريا في القانون، ثم حصل على الماجستير والدكتوراه في تاريخ البحرية في قسم الدراسات الحربية، بالكلية الملكية بلندن، بعد الانتهاء من بحث الدكتوراه، اشتغل محاضرا في التاريخ الدولي الحديث من عام 1983 حتى عام 1987، و كذلك مستشار في قسم التاريخ والشؤون الدولية في الكلية الملكية البحرية، في الفترة من 1987 حتى 1989، اشتغل محاضرا في الدراسات الحربية في أكاديمية ساندهيرست العسكرية الملكية، ومن عام 1989 حتى عام 1991، اشتغل في قسم دراسات الحربية في الكلية الملكية في لندن، ثم أستاذ في تاريخ البحرية، في الفترة من 1999 حتى 2001، وشغل مناصب أخرى كثيرة في نفس المجال، و منح له لقب الأمين الفخري لجمعية السجلات البحرية البريطانية من عام 1996 حتى عام 2005، وصديق الجمعية التاريخية الملكية. ويركز لامبرت في دراساته على التاريخ البحري والاستراتيجي للإمبراطورية البريطانية مند الحروب النابليونية إلى الحرب العالمية الأولى، والتطوير في وقت مبكر في مجال الكتابة التاريخية البحرية، وقد تناول في بحوثه مجموعة من القضايا، بما في ذلك التكنولوجيا و تأثيرها في التحولات التاريخية، التطورات السياسية، والأمن الدولي، إدارة الأزمات والصراعات و غير ذلك، كما كتب وقدم لهيئة الإذاعة البريطانية السلسلة التلفزيونية "الحرب في البحر" في عام 2004، في فاتح ماي 2014 حصل على وسام أندرسون من قبل جمعية الأبحاث البحرية على كتابه "بريطانيا ضد أمريكا في الحرب البحرية عام 1812".
2 ـ مما تجدر الإشارة إليه هو أنني ترجمت من النص الأصلي المتن فقط ولم أعد تثبيت الحواشي والإحالات الواردة فيه، و من أراد العودة إليها أو التحقق منها عليه مراجعتها في النص الأصلي.
3 ـ هذا ما كان يبدو للبريطانيين في البداية، و لكن الحقيقة أن المخزن كان يتهرب من قمع القراصنة، وربما كان هناك تواطؤ معهم، كما أن كل الحملات التأديبية الأجنبية سواء كانت بريطانية أو بروسية لم تستطع إيقاف الأعمال القرصنية، أما المخزن فإنه في الأخير هو الذي تمكن من ذلك بإرسال "حركاته" التي أبانت عن فعاليتها.
قراصنة الريف:
حملة نابيير وقراصنة الريف:
بعد حل المشكلة الأساسية، أي التنافس التجاري، رأى السيد نابيير أنه، رغم أن عودته إلى البورتسموث Portsmouth أصبحت وشيكة، فإن بإمكانه التركيز على المشكلة الثانية، أي قرصنة الريفيين، و قد كانت مشكلة معقدة، حيث أن قراصنة الريف كثيرون، و مسلحون تسليحا جيدا، ويتميزون بالدهاء. حتى مع خبرته الواسعة في الحروب الشاطئية و العمليات البحرية، فإنه رأى أن حظه في النجاح كان ضئيلا. و اتفق مع السيد باركر على أن العملية تتطلب قوة كبيرة من البواخر والعسكر، وتمنى لو يمده الحاكم الجديد السيد روبرت غاردنر بمجموعة إضافية من المحاربين. إضافة إلى ذلك فقد كان الطقس سيئا جدا ومتقلبا، ولا يساعده على القيام بعمليات ساحلية فعالة، حتى المراسلات الأخيرة من الأميرالية لم يجد فيها ما يشجعه و يرفع من معنوياته، "إنهم يترقبون أن أذهب إلى ماديرا، والسيد دونداس قال: إننا سنكون في إنجلترا في أبريل"، ولم يشيروا و لو بكلمة إلى السيد ريدمان أو إلى الريفيين، و لهذا فقد أولى الاهتمام لمسألة الحصول على تأييد من وزارة الخارجية، وإن السيد بالمرستون كان سعيدا بأن يؤكد له: "لقد اتخذت في هذه المسألة القرار الجيد و المناسب".
كل شيء يتوقف على الطقس، وما دام كان في انتظار رياح غربية خفيفة لتنفيذ عملياته على ساحل القراصنة، فقد ركب مساء السابع عشر من فبراير عام 1849 هو وخمسمائة جندي من الفوج 34 في صيدون، الفرقاطة ذات العجلة المجدفة المصممة خصيصا للحروب الساحلية، وجعل مشاة البحرية الملكية من البارجة سان فنسنت saint venecent في الطليعة، وجهز تجهيزا جيدا البخاريات سترومبولي Stromboli، غلادياتور gladiator، وبوليفيموسpolyphemus ، إضافة إلى البخاريتان الحديديتان رينارد renard وبلومبرplomber ، وبتجهيز لوائه في صيدونSidon ، قاد نابيير سربه على الساعة الثامنة من ذاك المساء و انطلق قاصدا رأس المذاري الثلاث. ذهب السيد نابيير يحدوه الأمل و ليست لديه أية توقعات، و لكنه على استعداد للتصرف في حالة ما إذا تبينت له أية فرصة لمهاجمة القراصنة، وصل السرب إلى رأس المذاري الثلاث على الساعة الثانية بعد زوال اليوم التالي، ولكنه لم يجد أي شيء ليهاجمه: "إن الطريقة الوحيدة التي أراها مناسبة لمعاقبة هؤلاء الناس، هي النزول إلى البر في مواسم جني محاصيل الذرة وإشعال النيران فيها والاستيلاء على الماشية إن تم العثور عليها (حتى أكواخهم البسيطة لا تستحق أن تقصف)، ثم إعلامهم بسبب فعل ذلك بهم ... عندما ذهبت إلى بلاد الريف توقعت أن أجد شيئا ملموسا لأهاجمه، أ يعقل أن يكونوا قد علموا أننا قادمون من جبل طارق فأبعدوا قواربهم إلى البر؟ أنا لا أعرف بالضبط، وأين توجد مدنهم، أو حتى قراهم الكبيرة؟ هذا ما لا أعرفه أيضا، ولكننا نفترض أنها توجد أبعد قليلا داخل اليابسة".
في الواقع، لقد نصحه أحدهم بالنزول إلى البر و إقامة معسكر هناك، و لكن نابيير كان خبيرا بعادات سكان الجبال من خلال تجربته في لبنان، ولم يكن ليتقبل أية مجازفة من هذا النوع، لقد كان واعيا جدا بمسؤوليته عن سلامة رجاله، و السفن التي تحت قيادته، وكذا سمعة بلاده، كانت للسيد نابيير الشجاعة الأخلاقية لمقاومة الإغراءات التي قد تسبب له المخاطر، رغم التجهيز الجيد للقوات البريطانية فإنها لم تقف على فرصة للسيطرة على الريفيين في هذه التضاريس الوعرة، كان من الأفضل أن لا يعرض نفسه لخطر الهزيمة، فالعواقب السياسية والأخلاقية لذلك ستكون لها نتائج محرجة للغاية.
خياري كل من نابيير وجون دراموند هاي:
كانت الأميرالية متفائلة: "أنت اتخذت القرار السليم في الامتناع عن القيام بأي عمل عدواني على الساحل الريفي"، كما وافق على ذلك السيد بالمرستون: "لقد تصرفت في هذه المسألة وفق قراراتك الجيدة المعتادة". ولكن في اليوم التالي انتقد مجلس الأميرالية قراره انتظار الريح الشرقية بدلا من استخدام السفن البخارية وسحب الأسطول في اتجاه المحيط الأطلسي، كما عبروا عن قلقهم ورغبتهم في عودة الأسطول إلى حال سبيله، كما اعترف دونداس: "ومن المطلوب جدا أنه ينبغي لنا إعادة جميع السفن قبل 31 مارس وإلا فإننا سوف نكون مزعجين كثيرا بقراراتنا المكلفة، وكذلك سيكون علينا الاقتصار على أربعين ألفا من الرجال ابتداء من ذلك اليوم". وبعد تقييم الاحتمالات، أعاد نابيير السرب رغم أن استعماله له وافق مقتضيات مفاوضات ريدمان، كانت الأميرالية يائسة من التمكن من إعادة البوارج قبل نهاية مارس وإرسال السفن الصغيرة لتعويضها مؤقتا في المحطات الخارجية. قبيل مغادرته ناقش نابيير العمليات المستقبلية مع السيد جون دراموند هاي، مع التوصية على أن تكثر بوليفيموس من زياراتها التفقدية للساحل الريفي ويمكن استبدالها بأية باخرة حديدية قوية أخرى.
كان لا يزال ينتظر رياحا شرقية ليغادر جبل طارق عندما أرسل حاكم مليلية برقية في وقت متأخر يوم 26 فبراير جاء فيها أن قبائل الريف قبلت أن تدفع تعويضا عن سفينة "الأخوات الثلاث". مرة أخرى تبين أن حضور قوة كبيرة سرع العملية الدبلوماسية، نابيير لا يثق كثيرا في مثل هذه العروض، لكن بدا واضحا أن الريفيين جد قلقين، ولهذا قرر مناقشة المسألة مع السيد هاي في طنجة. لقد عرض الريفيون دفع تعويض قدره عشرون ألف دولار أمريكي عن طريق حاكم مليلية، إذا وافق السلطان، ولهذا طلب نابيير من جون دراموند هاي الحصول على موافقة السلطان، لكنه رفض بدعوى أنه ليست له صلاحية ذلك، كما أضاف أن اشتراطهم موافقة السلطان لم تكن سوى مسألة يهدفون منها إلى ربح الوقت، كان لنابيير رأي آخر لكنه اضطر لمغادرة البحر المتوسط تاركا مسألة الريف لجون دراموند هاي.
لم يكن هذا ما يريد هاي سماعه، إنه كان يريد بقاء أسطول نابيير في جبل طارق ليوفر له النفوذ والهيمنة على السلطة المغربية، وفجأة أشاع معلومات جديدة عن القراصنة مفادها أن محافظ المنطقة أخبره بتفاصيل عن أسطول القوارب المحلية، وعن مكان إخفاء الريفيين لآلياتهم، هذه المرة كان دور نابيير للاختبار، فقد خشي أن يكون هذا التواصل قد صمم لاستدراجه إلى فخ، لا يمكنه البقاء دون التفكير في الأمر بذكاء وواقعية، كان رد جون دراموند هاي هو الاحتجاج بالاشتباك الذي وقع بين باخرة اسبانية وبعض القوارب الريفية قرب الجزر الجعفرية، حيث قتل إحدى عشر من القراصنة الريفيين، وأضاف أن الريفيين كانوا دائما يبدون الرغبة في حفظ السلام، ولكنهم لم يوفوا أبدا بوعودهم، بويفار هم المسؤولون عن هذه الأعمال، وهم يملكون ما بين خمسة عشر إلى عشرين قاربا في وادي كرت (رأس بركات)(1)، والساحل كله يملك ما بين ثمانين و مائة قارب، أنهى هاي كلامه بإيجاز و عن طريق إبداء هذه الملاحظة: "لقد قلت المحاصيل هذه السنة بسبب قلة الماء" (2).
أكد نابيير في تقريره الرسمي أنه كانت له الثقة أكثر من جون دراموند هاي بأن الريفيين يريدون دفع التعويض حقا، وكان يقصد أن القنصل، يهدف إلى التحكم في المفاوضات وتحسين العمل الدبلوماسي أكثر من العمل من أجل الدفع بالتجارة البريطانية، النقطة التي اشتغل عليها السيد روبرت ويلسون(3) خلال الشهر السابق. إذا كان السيد جون دراموند هاي يثق في سلطان المغرب، فإن نابيير لا يثق فيه، كان يعلم أن الحاكم والقنصل المغربي في جبل طارق متفقين على صفقة شراء كمية كبيرة من بارود البنادق مؤخرا، و"ربما يريدون أن يزجوا بي في فخ"، لقد استندت وجهة نظره على مصدر استخباراتي جديد، مهرب من جبل طارق كان معتقلا لدى القراصنة. أنهى نابيير علاقات العمل المرتبطة بهذه القضية التي تزداد توترا، بإعلانه لجون دراموند هاي أنه لن يقدم أية إشارة حول أية خيارات مستقبلية بشأن مسألة الريف، قائلا له: "كما كنت أنت ترفض التدخل". في اليوم التالي أي 16 مارس 1849 غادر نابيير جبل طارق متوجا إلى بريطانيا، لأن "السيد هاي لا يرى أنه من المناسب فتح اتصال مع السلطان، ولذلك فبقائي أكثر لن يكون مجديا، ولن أستمر أكثر في لعب دور سفير"، ولكن لم يكن هذا تهديد بالتجميد، فنابيير سبق أن وقف على مشكل دبلوماسي أكثر أهمية، الأزمة السورية في عام 1840 بما يرضي صديقه بالمرستون، لقد فهم نابيير الربط بين القوة والإكراه والدبلوماسية بالنسبة لأي كان، وأنه مع المزيد من الوقت والطقس المناسب سيستطيع إحداث تغيير في هذه القضية، بالنسبة للأحوال آنذاك فقد كانت هناك ضغوط اقتصادية، وكانت الظروف المناخية سيئة، وقد أقنع تقرير نابيير السيد بالمرستون أنه "إذا كانت المفاوضات ستفشل المناورات فسيكون من الأحسن تأجيلها إلى حين تمكننا من القيام بكل ما هو مفيد وضروري"، في اليوم نفسه حولت الأميرالية تلك الأفكار إلى أوامر: "أنا أطلعك على أن سادة بلدي يوافقون على الخطوات التي قررت، لكن هذا حتى تمر بضعة أشهر قبل أن يتم اتخاذ أية إجراءات انتقامية، إنهم يريدونك ألا تتأخر عودتك إلى إنجلترا، وإلى أن تكون هناك ضرورة لإيقاف فوري للمفاوضات".
بعد التفكير، دعم بالمرستون قرار جون دراموند هاي بعدم السعي إلى قبول الحكومة وتأييدها عرض الريفيين دفع التعويضات، كان يرى هناك خيارين، إما تحميل السلطان المسؤولية وإلزامه بدفع التعويضات، أو معاقبة الريفيين دون الالتفات إلى السلطان، وفي ظل الظروف الراهنة فإن الخيار الأول لا يبدو أنه المناسب.
الهوامش:
1 ـ هكذا جاءت في النص الأصلي وربما يقصد رأس هرك.
2 ـ إما كان يقصد بهذا الكلام أن الريفيين لن يستطيعوا الصمود والمواجهة في حالة مهاجمتهم، أو أن الجفاف سيحفز الريفيين على المزيد من الأعمال القرصنية، وفي كلتا الحالتين فإن قصده هو أنه ينبغي للقوات البريطانية البقاء أكثر بالقرب من المغرب (المترجم).
3 ـ روبرت توماس ويلسون سياسي بريطاني عاش ما بين 1777 و1842، اشتغل بالكثير من البلدان المنضوية تحت نفوذ الإمبراطورية البريطانية، كما دخل البرلمان كعضو لبرالي عن مقاطعة سوثورك من 1818 إلى 1831، وشغل منصب حاكم جبل طارق من 1842 حتى وفاته سنة 1849.
نهاية بعثة نابيير:
أعطى نابيير الإشارة في تاسع أبريل بعد وصوله إلى سبيتهيد spithead، أن سربه كان قد تفكك، متطلبات الاقتصاد وما يمليه المنطق السليم أغلقا فصلا من تاريخ القرصنة الريفية، الفرصة الوحيدة التي كانت فيها للقوات البحرية الملكية البريطانية في المنطقة قوة قادرة على معاقبة القراصنة، حرموا خلالها من الحصول على فرصة للتصرف، لقد أصبحت بريطانيا تفضل إيجاد حل دبلوماسي أو تجاري لمشكل القرصنة، وكانت نتائج ومخاطر اللجوء إلى هذه البدائل وخيمة جدا. مبررات هذه السياسة الجبانة ا تكمن في الساحل الريفي وليس حتى في الحكومة المغربية، كما أكد ذلك نابيير وباركر، إن معاقبة الريفيين تتطلب قوة برمائية كبيرة، على الأقل ألف جندي وستة أو ثمانية من السفن البخارية الحربية الكبيرة، كما أن العملية كانت تتطلب وقتا، وفي الظروف الراهنة فإن بريطانيا ببساطة لم يكن لديها الوقت أو السفن للقيام بالمهمة. المشهد الدولي أصبح معقدا وغير مستقر، لم يكن أحد يعلم كيف تصبح فرنسا في مرحلة ما بعد أورليان، أو إيطاليا ما بعد الثورة، في حين أن الضغط الروسي المتزايد على تركيا وجه التركيز إلى الشرق أكثر من أي وقت مضى، هذه العوامل أوضحت لماذا أرسل نابيير لمعالجة قضية أخرى في محطة السيد باركر، فبعيدا عن البحر الأبيض المتوسط واجهت بريطانيا العديد من المشاكل، هدد صراع شليسفيغ هولشتاين سنة 1848-1850 مصلحة حيوية أخرى لبريطانيا ألا و هي الحصول على البلطيق، بالمرستون هدد بإرسال سرب نابيير لرفع الحصار الدنماركي على الساحل الألماني. إضافة إلى ذلك فإن الوضع الاقتصادي المتردي لبريطانيا أجبر الوزراء على خفض عدد رجال القوات البحرية إلى ثلاثة آلاف رجل وتعطيل سفن سرب نابيير بتخصيصها لمباشرة مثل هذه المشاكل، وعلى هذا النطاق الصغير. وكانت القرصنة تعتبر حقا أولوية، خاصة وأن المغرب قد سبق أن فسح الطريق في قضية التجارة، وتراجع التهديد الفرنسي مع سقوط أسرة أورليان.
كانت سياسة بالمرستون على المدى الطويل ترمي إلى تعزيز سلطة الحكومة المغربية، وجعل السلطان يفرض النظام في الريف، والحفاظ على استقلالية بلده، ثم أخيرا الدخول الرسمي لبريطانيا معه في علاقات في المجال التجاري والمالي.
حين كانت الإمبراطورية(1) عنصرا مهما في الاقتصاد البريطاني خلال القرن التاسع عشر، لم تستطع هذه الأخيرة الهيمنة أبدا، فقد استأثرت الإمبراطورية بما يقارب 25 في المائة من احتياجات السوق البريطانية في مختلف القطاعات. لقد كان القطاع الأكثر دينامكية في الاقتصاد البريطاني هو تصدير الأموال، بحلول عام 1890 تم تصدير ما يقارب مائة مليون جنيه إسترليني، أكثر هذا المبلغ تم استثماره خارج الإمبراطورية، وقد ارتبط هذا القطاع ارتباطا وثيقا بالخدمات المالية، ونظام الدعم التجاري لمدينة لندن. لقد أدى تفوق مدينة لندن في مجال التمويل العالمي إلى هيمنة بريطانيا في مجال الملاحة والشحن وما يرتبط بهما من خدمات، وقد انضم المغرب إلى هذا النظام في خمسينيات القرن التاسع عشر، لقد عرفنا الدليل على قيمة المغرب التجارية من خلال عرض قدم له بأن يخصص له فضاء في المعرض الكبير لسنة 1851، وقد رفض السلطان العرض آنذاك بأدب ولباقة، ومع ذلك، ففي غضون ثلاث سنوات، ومع التغييرات التي أحدثها المغرب في مجال الرسوم الجمركية، ومع محاولات السلطان التغلب على التعويضات المفروضة من طرف فرنسا سنة 1844، وكذا طموحات وزراءه ووكلائه إلى الثراء الشخصي، كل هذا أدى إلى المزيد من الشكاوي الواردة من التجار البريطانيين في جبل طارق، إن الواردات البريطانية انخفضت إلى النصف بسبب التغييرات الجمركية المغربية، من 300,000 جنيه عام 1848 إلى 145,000 عام 1850. ورغم الصلح المنعقد سنة 1850 فقد ظل المغرب على خرق المعاهدة بين الطرفين، في غشت 1853 رفض وزير الخارجية السيد جون راسل(2) قبول السفارة المغربية إلى أن يتم حل المشكلة، كان تهديد راسل الضمني هو الانسحاب وترك المغرب عرضة للأطماع الاستعمارية الفرنسية والإسبانية.
موازاة مع الخلفية الداعمة ـ قوة بحرية هائلة كامنة في الأفق القريب ـ وضع جون دراموند هاي مشروعا لمعاهدة تجارية، في عام 1854، تم إدخال تعديلات جديدة على الرسوم الجمركية بما يرضي بريطانيا وفي المقابل حصل المغرب على اطمئنان إلى حد بعيد لحسن نوايا بريطانيا.
عندما اندلعت حرب القرم سنة 1854، منع السلطان اقتراب السفن الحربية الروسية، بتحريض القراصنة عليها، وإعلان مكافئات لمن يظفر بها في الموانئ المغربية، ووافق على توريد ألف ثور إضافية برسوم تصدير منخفضة لتموين القوات البريطانية التي تمر من جبل طارق، ولم يجدد هذا الامتياز للجزائر الفرنسية. كان المغرب أيضا حلقة وصل مهمة في التجارة البريطانية مع إفريقيا جنوب الصحراء، رغم أن ذلك الدور كان في تراجع. على أي، فقد أعاق التجارة البريطانية علو قيمة الرسوم المفروضة محليا على البضائع الأساسية التي كانت تخرج من المغرب كالشمع مثلا، كما تم التغلب على العقبات بفضل الاعتماد على الوسطاء اليهود منذ أن عرفت وضعية اليهود المغاربة تحسنا مهما. وبعد تأخيرات طويلة، فإن اتفاقية جون دراموند هاي، وبعد تعديلات إيجابية، وقعت في 9 دجنبر 1856. تخلى المغرب عن الاحتكار والحواجز على الواردات، وشرع نسبة ثابتة وكحد أقصى على الصادرات هي 10 في المائة، هذه الشروط وفرت الكثير من الاستقرار والأمن للتجار والرأسماليين البريطانيين، بهذه الطريقة انضم المغرب بشكل غير رسمي إلى الإمبراطورية التجارية البريطانية، وبعد أشهر فقط صادر قراصنة الريف آخر سفينة بريطانية تم استهدافها.
الهوامش:
1 ـ يقصد هنا الإمبراطورية التجارية و ليس السياسية أي كل المناطق التي احتكرت بريطانيا الاتجار معها عن طريق المعاهدات أو غيرها.
2 ـ اللورد جون راسل سياسي بريطاني ولد سنة 1792، شغل منصب رئيس الوزراء مرتين، و يقال أن إنجازاته كانت محدودة وأنه تميز بضعف القيادة، و لكنه ساهم في العديد من الإصلاحات التشريعية الإيجابية، كما شغل منصب رئيس مجلس العموم، و فيما بعد وزير الداخلية ووزير الخارجية.
قرار 1856:
رغم أن الريفيون تمكنوا من تجنب العقاب في 1849، فإن آفاق التطور الاقتصادي على المدى الطويل ونمو الرقابة البريطانية غير الرسمية كانت تعني أن أيامهم باتت معدودة، ومع ذلك لم يختاروا التراجع بهدوء عن أعمالهم. في 1850 عاد بالمرستون إلى التعبئة، وشجع الأميرالية على إرسال حملة تأديبية، ولكن كانت هناك الكثير من القضايا الضاغطة ولم تكن لدينا سفن احتياطية. في 5 أكتوبر 1851 اعترض الريفيون السفينة violet ذات الصاريتين قرب نقطة بطوية على خليج إعزانن، لقد نهبوا الحمولة المتكونة من الذرة وقتلوا بعض أفراد الطاقم، وافتدينا الآخرون. أرسل الجنرال غاردنر سفينة صاحبة الجلالة جانوس Janus، وهي سفينة مجدافية صغيرة، تحت قيادة الملازم ريتشارد باول، خرج باول من جبل طارق يوم 17 أكتوبر 1849، ووصل أمام ساحل الريف في اليوم التالي. خلال الساعة الثانية بعد زوال ذالك اليوم، وجد السفينة الإسبانية joven emelia قد استحوذوا عليها وجردوها من كل شيء وجروها إلى خندق عميق على بعد أربعة أميال غرب رأس المذاري الثلاث، من المرجح أنها كالا ترامونتانا.
جدف باول مقتربا من الشاطئ وهو يطلق بعض الطلقات النارية الثقيلة لتشتيت السكان المحليين وتدمير بعض قواربهم، حيث بدا أن نيران مدافعه كانت فعالة بشكل جيد، وعاد في اليوم التالي لإتمام مهمته، في يوم 20 أكتوبر اكتشف باول هيكل السفينة violet المتفحم على الشاطئ على بعد ثلاثة أميال جهة الغرب، وهنا بادره الريفيون بإطلاق النار. رسا باول للمرة الثانية، رغبة منه في تدمير قواربهم، فقط لإثبات تفوقه عنهم بشكل كبير، لكن الفرقة التي نزلت أرغمت على العودة إلى القارب بثمانية جرحى من بينهم باول نفسه، ورغم تمكنه من تدمير مركبين للقراصنة إلا أنه رأى بنفسه الكثير منها مخبأة في الرمال أو موضوعة في الكهوف.
رغم قلق السيد بالمرستون ورغبته في إرسال حملة تأديب واسعة، إلا أن السيد فرانسيس بارينغ لم يكن يضن أن باستطاعتهم فعل أي شيء، لقد كانت البحرية الملكية مجزأة أكثر من أي وقت مضى إلى مجموعات صغيرة جدا، وكانت هناك قضايا أكثر إلحاحا من الانتقام من العمليات القرصنية، خاصة بعد أن قصف الفرنسيين طنجة، مما يهدد باختلال توازن القوى في المضيق، فعندما أتى الأميرال باركر ببخارية قوية، فعل ذلك لدعم المصالح البريطانية مع محاولات فرنسا التوسع في الأقاليم المغربية.
تمكن القبطان هنري جيفارد (1) Henry Giffard بقيادته باخرة البحرية الملكية dragon من استرجاع أربعة ناجين من طاقم السفينة violet بينما كان باول يتعافى من جروحه، بعد ذلك عادت dragon و Janus لمسح ساحل القراصنة، وكما كان متوقعا فقد أطلقت عليهما النيران.
في عام 1852، تأمل الأميرال باركر مشكلة الريف حين غادر المحطة للمرة الأخيرة: "أفترض أنه سيكون من الصعب هدم القرى، أو إحراق المحاصيل، دون الحاجة إلى وقت أطول من مدة حملة ليوم واحد على الساحل، كل محاولة قمنا بها ينبغي أن تكون بطريقة فعالة، وتنفيذها بكيفية أفضل قليلا قد يأتي بنتائج أفضل من شن هجوم على نطاق واسع، حيث أننا قد نتعرض لخسائر كبيرة في الأرواح، ولكنني أضن حقا أنهم يستحقون عقابا بطريقة ما"، وهذا من شأنه أن يمثل عملية كبرى بالنسبة لأي أسطول. في الحقيقة، وكما اعترف مؤرخ للبحرية الملكية متأخر عن العصر الفيكتوري: "لا يبدو أنه تم القيام بأية أعمال انتقامية هامة ضد المخالفين"، وبدلا من ذلك فضل وزير الخارجية اللورد ملمسبوري Lord Malmesbury(2) إجبار المغاربة على حل المشكلة، متبعا في ذلك الخط الذي وضعه صديقه بالمرستون، والمتمثل في التهديد بالتعامل مع المنطقة على اعتبار أنها مستقلة.
لم تستعمل بريطانيا قوة كبرى ضد الريفيين، لأن ذلك كان من شأنه أن يفتح الباب أمام قوى أخرى، كما لم يكن البريطانيون وحدهم المعنيون بهذه المشكلة. ففي سنة 1852، نهب الريفيون السفينة التجارية florat حين اضطرت للتقرب من الشاطئ، ولم تكن البحرية الألمانية قادرة على الرد آنذاك، ولاحقا في 7 غشت 1856، ظهر الأمير أدالبرت(3) بالباخرة الكبيرة ذات العجلة المجدفة Dantzig قرب رأس المذاري الثلاث وهو يقود حملة تأديبية تتكون من ستين رجلا، وفي اشتباك لمدة أربع ساعات ونصف تعلم درسا مؤلما، أحد أصدقاءه البريطانيين أدرك ذلك جيدا، كان أدالبرت واحدا من سبعة عشر جريحا، كما قتل سبعة آخرين. السفن الحربية لا تستطيع فرض الانضباط والاحترام على السكان المحليين، لأنها تفتقر إلى القوة البشرية والمعدات اللازمتين للتحكم في الشاطئ. قبل محاولة الأمير المتهورة، اتخذت الحكومة المغربية إجراءات حاسمة، فقد أرسل السلطان جيشا من ثمانية آلاف جندي بقيادة عبد الملك، الحاكم المحلي الصارم، إلى أراضي بويفار فأحرق قواربهم وقراهم، وفرض غرامات، وصادر الماشية، وأخذ رهائن لضمان حسن سيرتهم في المستقبل. كانت العملية، كدليل على سلطة الحكومة على المنطقة، تعني أنه على السلطان تحمل مسؤولية القرصنة الريفية. فطالبه الفرنسيون بسبعة آلاف دولار كتعويض على سفينتهم jeune dieppoise التي تعرضت للنهب هناك.
في أبريل 1856، وفي مبادرة محلية، التقى القنصل جون دراموند هاي بشيوخ الريف على حدود مليلية، وأجرى معهم اجتماعا باللغة العربية، اللغة الثانية لكلا الطرفين (الريفيون يتكلمون إحدى اللهجات الأمازيغية)، رغم تبادل المصافحات، فإن جون دراموند هاي لم يحلم بأية أوهام، وكان ذلك حكمة، فقد استولوا على سفينة بريطانية أخرى hymen في 14 مايو من نفس السنة، وهذا ما جعل هاي يطالب بالتحرك، وعاد الجيش المغربي لإنزال المزيد من العقاب ببويفار، كما قدم السلطان التعويض عن السفينة hymen. وكانت تلك هي نهاية القرصنة الريفية الكبرى إلى وقت متأخر من القرن، حيث انهارت السلطة المركزية مرة أخرى وعاد الريفيون إلى تجارتهم القديمة (4). وحسب إقرار لمؤرخ بريطاني للإمبراطورية الشريفة من أواخر القرن التاسع عشر، فالريفيون كانوا سعداء باعتراض أي سفينة ضعيفة اضطرت للاقتراب بما فيه الكفاية، طالما أن الحكومات الأجنبية وكذا المغرب، يفضلون دفع الفديات ويقبلون بالتسويات النقدية فإنهم سيستمرون في عملهم. كل الذرائع في العالم حول الحفاظ على توازن القوى، وكذا تجنب تورط الأوربيين في الحرب، لن تفسرـ في نظر المغاربةـ سياسة الاستلقاء التي اتبعت مع هذا الرجل المريض في الغرب.
خلاصة:
في الوقت الذي كانت فيه القرصنة الريفية مصدر إزعاج، كانت أية محاولة جادة من قبل البريطانيين لقمع القراصنة تهدد بجعل الفرنسيين يقومون بتحركات أكبر، التحركات التي كان من شأنها أن تعرض للخطر المصالح الإستراتيجية البريطانية في مضيق جبل طارق، وهيمنتها التجارية والسياسية التي كان من المنتظر أن تؤكدها المعاهدة المغربية البريطانية لعام 1856. الإمبراطورية البريطانية لا يمكن أن تحقق التحسن والهيمنة التجارية دون وجود حكومة مغربية مركزية قوية نسبيا تفرض النظام على المقاطعات، وتضمن إخراج معاهدة "الباب المفتوح" التجارية إلى حيز التنفيذ. قبل كل شيء، كانت تكلفة التعامل مع القراصنة بطريقة مباشرة جد باهظة، لفرض النظام على مجموعة، خطيرة ومسلحة جيدا، وتعاني من الفقر، ويزداد عنفها ضد المسيحيين نتيجة عقود من الحروب الاستعمارية ضد الإسبان، وليس من النادر أن تم تفقيرها وتجويعها... كان ذلك يتطلب حملة عسكرية كبيرة، مدعومة بسرب كبير من القوات البحرية. كانت لا بد أن تكون هناك تكلفة بشرية كبيرة، ومشاكل دبلوماسية خطيرة، ومن شأن مثل هذه العملية في الحقيقة، أن تكون غزوا واحتلالا، وإن كانت لها بعض المشروعية على المدى القصير. كان يمكن لبريطانيا أن تحظى ببعض التأييد من فرنسا لاحتلال ساحل الريف، مع تقديم وعد بالانسحاب لاحقا، وبعد كل شيء فقد كان ذلك بالضبط ما وعد به الفرنسيون بريطانيا حين اجتاحوا الجزائر سنة 1830. كان الرد المناسب هو إقامة دوريات منتظمة، وكان يمكن أن تكون غير مكلفة. لكن بدلا من ذلك كان رد بريطانيا على الهجمات هو إرسال سفن حربية لاستعادة البواخر المحتجزة ومعاقبة القراصنة على حوادث معينة بالذات. كان يتناسب مع المصالح البريطانية دعم وتشجيع الحكومة المغربية على التعامل مع القضية عن طريق استعادة السيطرة على سكان المناطق المضطربة، ذلك أن بعض تلك الهجمات القرصنية قد تكون تتم بتواطؤ مع شبكة تهريب تنشط بين إسبانيا والجزائر وجبل طارق والمغرب، وقد تقوم بأي تصرف غير لائق. ومن شأن وجود نظام جمركي مغربي فعال، مع تعميم رسوم منخفضة، ووجود شرطة كافية، أن تكون في نهاية المطاف أفضل حل لقرصنة الريف.
الهوامش:
1 ـ هنري جيفارد هو ابن الأميرال جون جيفارد، دخل القوات البحرية كضابط صف عام 1824، في 1831 ترقى إلى رتبة ملازم أول، شارك في عدة حملات وحروب بريطانية، شغل منصب قبطان في الكثير من سفن البحرية الملكية.
2 ـ اللورد ملمسبوري سياسي بريطاني من أسرة نبيلة شارك الكثير من أفرادها في الحكومة، شغل عدة مناصب وزارية، وعضوا في البرلمان، وفي الأميرالية، وفي الأخير قضى بقية حياه أسقفا.
3 ـ الأمير أدالبرت هو ابن عم الإمبراطور وليام حاكم بروسيا في أواسط القرن 19، حصل على رتبة عسكرية عالية، وتولى قيادة القوات البحرية الألمانية، هجم على الريف انتقاما لطاقم سفينة بلده florat التي اعترض طريقها الريفيون في إعزانن سنة 1852 وصادروا حمولتها وألحقوا بها خسائر فادحة حسب الصحافة الأوربية، وقد قتل أحد أفراد طاقمها وأصيب قبطانها، ولكن حملته على الريف كانت فاشلة، حيث عاد بعدد من القتلى والجرحى كما أصيب هو نفسه.
4 ـ يقصد هنا ظهور القرصنة من جديد في الريف في أواخر القرن التاسع عشر ولكن هذه المرة فقد ارتبطت بقبيلة بقوية وليس بويفار.
انتهى الفصل
تنويه الفصل اعلاه هو من وجهة النظر البريطانية لذلك بطبيعة الحال فهو منحاز لجانبهم اضافة الى انهم ايضا كانوا يمارسون القرصنة بسرقة المستعمرات مثل ما يصفون اعمال الهجوم على سفنهم بالقرصنة
كل حقوق الترجمة للمترجم فريد المساوي
في هذا الموضوع ساضع ترجمة وجدتها في احدى المدونات لفصل من كتاب القرصنة وجرائم البحر، دراسات تاريخية ومعاصرة
piracy and maritime crime historical and modern case studies
الفصل يتحدث عن اعمال القرصنة في الساحل الشمالي للمغرب(منطقة الريف) خلال القرن 19 م الفترة التي عرفت ضعف المغرب وهزيمته في معركة ايسلي امام الفرنسيين سنة 1844 م
السفينة التجارية "الأخوات الثلاث"، قراصنة الريف
والسفن الحربية البريطانية :
تأليف: أندرو لامبرت
ترجمة: فريد المساوي
تقديم المترجم:
هذا الموضوع في الأصل هو فصل من كتاب جماعي شارك فيه مجموعة من الباحثين والمؤرخين الأنكلوساكسونيين نشر تحت عنوان: "القرصنة وجرائم البحر، دراسات تاريخية ومعاصرة"، وقد تناول كل فصل من الكتاب منطقة معينة من المناطق التي عرفت خلال فترة من فترات التاريخ بظهور أعمال قرصنية، كجزر الكاريبي وإفريقيا وجنوب شرق آسيا وغيرها، وبالنسبة لهذا الفصل وهو الحادي عشر ضمن ترتيب الفصول في الكتاب، فهو يتناول إشكالية ظهور أعمال قرصنة في منطقة أيت بويفار بالريف في منتصف القرن التاسع عشر، في فترة جد حساسة، حيث كان التنافس التجاري بين القوى الأوربية حادا جدا حول الهيمنة في البحر المتوسط ومضيق جبل طارق، جاء الفصل تحت عنوان: "حدود القوة البحرية البريطانية، السفينة التجارية (الأخوات الثلاث)، قراصنة الريف والسفن الحربية البريطانية"، وهو من توقيع الأستاذ المحاضر أندرو لامبرت(1)، المعروف كواحد من كبار الباحثين في مجال تاريخ البحرية البريطانية، وقد تناول فيه بالدراسة والتحليل الخيارات التي كانت أمام بريطانيا لحل مشكل القرصنة الريفية بما يتناسب مع الحفاظ على مركز الهيمنة في مجال التجارة، واحتكار الامتيازات التجارية مع المغرب، ودفع القوى الأخرى التي كانت لها نفس الأطماع وخاصة فرنسا، هل الحل هو القوة أم الضغط على المغرب لدفع التعويضات وقمع القراصنة وثنيهم؟ وإذا كان الخيار الأنسب هو استخدام القوة مع الريفيين فكيف تستطيع بريطانيا أن تخصص جزءا من قواتها البحرية لهذه القضية التي تتطلب وقتا، وقضاياها عبر العالم كثيرة ومتعددة، مع العلم أن الحملات التأديبية التي توجهت إلى المنطقة تفاجأت بالصعوبات الكثيرة التي تحول دون توجيه ضربة إلى القراصنة من شأنها أن تثنيهم عن تماديهم في أعمالهم.
فريد المساوي
حدود القوة البحرية البريطانية،
السفينة التجارية "الأخوات الثلاث"، قراصنة الريف
والسفن الحربية البريطانية(2).
يعالج هذا الفصل رد الفعل البريطاني خلال القرن التاسع عشر على مشكل القرصنة على طريق تجاري متوسطي هام ورئيسي، ففي الوقت الذي كان فيه قراصنة الريف مجرد مجموعة صغيرة مزعجة، فإن بريطانيا لم يكن بمقدورها أن توقفهم دون نشر قوات بحرية مهمة على الساحل، وهذا الخيار كان من شأنه فتح مجموعة من القضايا الخطيرة والمركبة في العلاقات بين بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وكذا المغرب والجزائر وجبل طارق، قضايا تحب بريطانيا معالجتها منفصلة. وكان رد الفعل البحري الوحيد دون ذلك هو التصرف حين ضبط القراصنة متلبسين باعتراض إحدى السفن. وقد ثبت أن العقوبات المحلية من طرف الحكومة المغربية لم تكن حاسمة(3).
ما بين 1846 و1856 تم الاعتراض لثماني سفن على الساحل المتوسطي المغربي منها ستة بريطانية، واحدة فرنسية وأخرى بروسية: Ruth في 30 مارس 1846، طاقمها هرب، three sisters في 2 نونبر 1848 الطاقم هرب أيضا، violet 5/6 أكتوبر 1851، florat بروسية في دجنبر 1852، Cuthbert Young في 21 يونيو 1854 طاقمها هرب، jeune dieppoise فرنسية في 8 أبريل 1855، Livey في 2 ماي 1855 وطاقمها هرب أيضا، ثم hymen في 14 ماي 1856، إضافة إلى عدد كبير من الزوارق والخافرات الإسبانية التي احتجزت، وكانت موجة مماثلة من العمليات القرصنية حدثت سنتي 1834 و1835 أنهيت بتدخل عسكري من طرف سلطان المغرب.
حكومات بريطانيا وفرنسا وبروسيا تدارست خيارات ونطاقات استعمال القوات العسكرية البحرية، لكن المشكل في الأخير حل مرة أخرى من طرف القوات المغربية، وفي جانب آخر فالنتيجة قابلها صبر وتسامح من لندن وباريس، وفي ذلك خدمة للمغرب كعازل حيوي بين الجزائر كمستعمرة فرنسية والقاعدة الإستراتيجية البريطانية في جبل طارق، الدرس الذي نستخلصه من دراسة هذه القضية هو أن القراصنة كغيرهم من البشر يعيشون على البر، وعلى البر ينبغي زجرهم وثنيهم عن ممارساتهم، ولهذا فالقوات البحرية وحدها غير كافية لمحاربة القرصنة.
الهوامش:
1 ـ ولد أندرو لامبرت في نورفولك، بإنجلترا، حصل على درجة البكالوريا في القانون، ثم حصل على الماجستير والدكتوراه في تاريخ البحرية في قسم الدراسات الحربية، بالكلية الملكية بلندن، بعد الانتهاء من بحث الدكتوراه، اشتغل محاضرا في التاريخ الدولي الحديث من عام 1983 حتى عام 1987، و كذلك مستشار في قسم التاريخ والشؤون الدولية في الكلية الملكية البحرية، في الفترة من 1987 حتى 1989، اشتغل محاضرا في الدراسات الحربية في أكاديمية ساندهيرست العسكرية الملكية، ومن عام 1989 حتى عام 1991، اشتغل في قسم دراسات الحربية في الكلية الملكية في لندن، ثم أستاذ في تاريخ البحرية، في الفترة من 1999 حتى 2001، وشغل مناصب أخرى كثيرة في نفس المجال، و منح له لقب الأمين الفخري لجمعية السجلات البحرية البريطانية من عام 1996 حتى عام 2005، وصديق الجمعية التاريخية الملكية. ويركز لامبرت في دراساته على التاريخ البحري والاستراتيجي للإمبراطورية البريطانية مند الحروب النابليونية إلى الحرب العالمية الأولى، والتطوير في وقت مبكر في مجال الكتابة التاريخية البحرية، وقد تناول في بحوثه مجموعة من القضايا، بما في ذلك التكنولوجيا و تأثيرها في التحولات التاريخية، التطورات السياسية، والأمن الدولي، إدارة الأزمات والصراعات و غير ذلك، كما كتب وقدم لهيئة الإذاعة البريطانية السلسلة التلفزيونية "الحرب في البحر" في عام 2004، في فاتح ماي 2014 حصل على وسام أندرسون من قبل جمعية الأبحاث البحرية على كتابه "بريطانيا ضد أمريكا في الحرب البحرية عام 1812".
2 ـ مما تجدر الإشارة إليه هو أنني ترجمت من النص الأصلي المتن فقط ولم أعد تثبيت الحواشي والإحالات الواردة فيه، و من أراد العودة إليها أو التحقق منها عليه مراجعتها في النص الأصلي.
3 ـ هذا ما كان يبدو للبريطانيين في البداية، و لكن الحقيقة أن المخزن كان يتهرب من قمع القراصنة، وربما كان هناك تواطؤ معهم، كما أن كل الحملات التأديبية الأجنبية سواء كانت بريطانية أو بروسية لم تستطع إيقاف الأعمال القرصنية، أما المخزن فإنه في الأخير هو الذي تمكن من ذلك بإرسال "حركاته" التي أبانت عن فعاليتها.
قراصنة الريف:
شاطئ الريف جزء من الساحل المتوسطي المغربي، تقريبا بين سبتة ومليلية، في رأس المذاري الثلاث(1)، المكان كان مرتعا واضحا للقراصنة، ما دامت منطقة معزولة وجد فقيرة، وتوجد بالقرب منها أسواق جذابة ومغرية للتهريب تجد فيها أغلب القبائل الريفية البربرية مجالا أفضل من القرصنة، وكان حاكم جبل طارق سعيدا بالترحيب بالحمولات التي يجلبونها، كثير من القوارب الصغيرة التي تشتغل بالتهريب على طول الساحل كانت تهرب الأسلحة إلى الجزائر أو تنقل التبغ والمجوهرات إلى إسبانيا، وكانت تلوذ بتلك السواحل لتجنب محميات إسبانيا وكذا قوات البحرية الفرنسية، وكان مالكي ومشغلي أغلب تلك القوارب من خارج جبل طارق كما تعترف بذلك إسبانيا وفرنسا، في أوائل القرن التاسع عشر كان الريفيون يسعدون بفرص حجز المهربين الإسبان، قوارب الصيد الريفية كان طولها أربعين قدما وعرضها ستة أقدام، وتصل قوة تجديفها إلى ستة عشر مجدافا، كانت واسعة بما يكفي لممارسة التهريب والقرصنة، وكانت القوارب المبحرة عبر مضيق جبل طارق لولوج البحر المتوسط هي المستهدفة، إذا لم تبقى مبحرة شمال جزيرة البرهان(2)، تجد نفسها في تيار يجرها في اتجاه الجنوب، إلى أن تتوقف بسبب هدوء البحر الذي تسببه شبه جزيرة قلعية، في نطاق بحر بني بويفار (3) الهادئ حيث تجول قوارب تجديف وأصحابها مدججين بأسلحة ثقيلة. لقد كان بني بويفار يعتمدون القنص والتجارة الساحلية كمصدر للرزق، وفي 1830 احتلت فرنسا الجزائر، فشوشت على التجارة الساحلية، والإسبان كثفوا في ضغوطهم على الملاحة الساحلية للريفيين، وهذا ألغى إمكانيات مهمة للتجارة بالمنطقة وهدد السكان المعتمدين على الملاحة، فالتضييق الإسباني كان يتسع ليشمل قوارب الصيد والزوارق الصغيرة ليشل في 1854 حركة الساحل الريفي، نصف العمليات القرصنية حدثت في هذا الوقت. رغم أنه لم تكن هناك علاقة مباشرة بين أعمال إسبانيا والقرصنة، فالمراكب المصادرة من طرف الإسبان لم تكن في ملك بني بويفار، ولكن الحضور الإسباني ظل عاملا أساسيا، فقد قطع الفرص على نمو واستمرار التجارة الشرعية، لقد شجعوا وأغروا على مقاومتها وكبحها.
إن بني بويفار الذين اعترضوا سفينة Ruth كانوا يمثلون واحدة من عدد من القبائل على هذا الساحل والمعروفة جماعيا بقراصنة الريف، يسحبون السفن التي يغنمونها إلى إحدى الشواطئ الضيقة بين رأس المذاري الثلاث وخليج إعزانن(4) وبعد تجريدها من البضائع والمعدات والأدوات المعدنية يحرقون هياكلها، إذا تم القبض على طاقم ما، فإن أفراده يتم افتدائهم من طرف التمثيليات الأوربية في طنجة بمعزل عن تدخل الحكومة المغربية، ولكن كما هو معروف، فطواقم أربعة من أصل ستة سفن بريطانية تم اعتراضها ما بين سنتي 1846 و1856 لم تنتظر حتى يتم القبض عليها بل فر أفرادها على متن زوارقهم، ومع السمة التجارية بالأساس لعملية افتداء الأسرى فإننا قد نتصور أن تحضر في العملية عوامل أخرى، كأن يتم التواطؤ من بعض الطواقم مع القراصنة من أجل اقتسام الفدية.
أثناء العودة الضرورية لسفينة ما قصد استعادة البواخر المحتجزة أو ببساطة لإنزال عقوبات بالسكان المحليين، اكتشفت السفن البريطانية بسرعة حقيقة مرة، هي أن الإنجليز كانت لهم معرفة قليلة جدا بتلك الناحية، كما كانوا يفتقرون إلى خرائط دقيقة، ومخططات موثوق بها، فبلدة بويفار كانت شبه مستحيلة التوطين، فهي غالبا تقع وراء حدود البصر وعصية عن القصف، وكذلك قواربهم، فالريفيون كانوا يدفنونها في الرمال أو يخفونها في الكهوف، وسواحلهم تغلب عليها المنحدرات، وهي ميزة ملحوظة لصالح المدافعين من نيران الحرب، نفس النقطة الإيجابية كانت تساعد الريفيين على تحديد مواقع السفن القادمة نحوهم بمنظاراتهم المميزة، ثم يستعملون الإشارات النارية لإعلام الآخرين بمجرد تحديد موقع غنيمة محتملة، كما كانت لدى قراصنة الريف أسلحة كافية للإيقاع بضحاياهم، البعض منهم يمتلك البنادق الريفية المحلية الصنع ذات الأنبوب الطويل، فقد جاء تقرير البحرية لتبرير عدم إنزال العقاب لسنة 1846 كما يلي: "البنادق الريفية تزيد مسافة طلقتها عن البندقية الإنجليزية بقدر نصف طلقة، والريفيون قناصون ماهرون، يعرفون بين المغاربة بولعهم بالحروب وبكونهم عدائين مهرة"، ولا يقتصر سلاحهم عن البنادق، ففي 1848 تعرضت البخارية الملكية polyphemus لقصف بواسطة مدفع كان قد أرسله سلطان المغرب سابقا للاستعمال ضد الإسبان.
بينما كانت عمليات وغارات الريفيين صغيرة و غير منتظمة، فالسلطان كان يؤكد عدم قدرته على زجرهم، وبريطانيا كانت تفضل عدم الضغط في القضية، ولم تكن لها رغبة في الزيادة من مشاكل المغرب، كما لم تكن تحب أن توفر لفرنسا مبررات للتصرف على الساحل الممتد من الجزائر إلى حدود جبل طارق، بناءا على ذلك فرد الفعل القياسي لبريطانيا على حوادث القرصنة في المنطقة هو إرسال سفينة حربية لاستعادة السفينة المستهدفة، و معاقبة أولئك البرابرة الوقحين.
في ماي 1846 حين قبض الريفيون المركب التجاري البريطاني Ruth، أرسلت حكومة جبل طارق مركب البحرية الملكية fantôme، تحت قيادة القائد فريدريك نيكولسون (5)، في 12 ماي 1846، حدد نيكولسون موقع القراصنة قريبا من رأس المذاري الثلاث، حيث سحبوا المركب إلى الشاطئ لنهب حمولته، نزل نيكولسون إلى البر و أرغم القراصنة على الابتعاد عن الشاطئ، واستعاد السفينة Ruth وجزءا من الحمولة، قتل في المواجهة بعض القراصنة في حين خلف البريطانيون قتيلا وثماني جرحى.
لقد كوفئ نيكولسون على حماسته حيث تمت ترقيته إلى درجة قبطان، وملازمه الأول أصبح قائدا، و منحت له أموال وزعت على أفراد الطاقم. ولكن مهما كان، فقائده العام في المحطة المتوسطية، الأميرال السيد وليام باركر(6)، لم تثر العملية إعجابه، العملية كانت حقيقة شجاعة وحازمة، لكن Ruth عادت حطاما لا قيمة لها ... " لا أستطيع إلا الندم على الصراع من أجل استعادتها، هذا الصراع الذي كان مجازفة، ليس فقط لأن عادات البرابرة كانت معروفة، و لكن أيضا أن نتائج المحاولة كانت محبطة". كان مقتنعا بأنه كان أفضل بكثير لو طالب بتعويضات من السلطات الشرعية، التباين بين حملة نيكولسون الدموية و تحفظ باركر الحذر كان واضحا.
كخبير في الشؤون الدولية، فهم باركر أن القوة المسلحة كانت وسيلة ذات فائدة محدودة في تلك الظرفية، ومهما كان فقد كان على نيكولسون أن يفهم أن قراصنة الريف ربما يهنئون بعضهم البعض على إبعادهم للكافرين و تحصينهم لمكتسباتهم غير المشروعة.
حين تم الضغط على السلطان(7) من أجل دفع تعويض على السفينة Ruth، أعلن عدم قدرته على معاقبة الريفيين، البريطانيون كانوا قلقين من السكوت و عدم الضغط على المغرب في الوقت الذي كانت فيه حرب فرنسا مع عبد القادر بالجزائر لا زالت في تقدم. في هذه الأثناء تدخل الحاكم المحلي المغربي(8) لإنزال ما يكفي من العقاب تلبية لرغبة جون دراموند هاي(9) قنصل بريطانيا في طنجة. مهما كان فالسلطان توصل بتحذير رسمي بأن أية أعمال تكررت من هذا القبيل ستجعل البريطانيين يتخذون التدابير اللازمة بأيديهم، مدعمين تحذيرهم بجلب سفينة حربية بخارية من جبل طارق ومعززين القوات البحرية بوسائل ممتازة استعدادا لتحدي القراصنة، اقتربت السفينة إلى الساحل بسرعة واختارت أحسن المواقع للقصف البحري أو لاستعمال زوارقها المربعة الواسعة ذات المجاديف للحرب الشاطئية.
الهوامش:
1 ـ هو رأس جبلي على الساحل المتوسطي للمغرب يتكون من نتوء جبلي كبير ممتد شمالا داخل البحر الأبيض المتوسط بالقرب من مدينة مليلية المحتلة، وكما اعتبر هذا الرأس معلما بحريا للسفن حيث تقع منارة كبيرة في طرفه الشمالي، فإنه شكل أيضا خطرا للسفن المبحرة في بحر البرهان بسبب الهدوء و الركود الذي يسببه في البحر و الذي كان يسبب في وقوف المراكب الريحية لتبقى مهددة بالاستهداف من طرف القراصنة، كما قد تصطدم في الصخور كما حدث مع سفينة حربية إسبانية في 26 غشت عام 1923.
2 ـ جزيرة تحت النفوذ الإسباني توجد بالبحر المتوسط قبالة مدينة مليلية وعلى بعد مسافة متساوية بينها و بين الساحل المغربي وبينها وبين الساحل الإسباني، وهناك آراء تقول إنها في الأصل جزيرة مغربية.
3 ـ اسم أيت بويفار يطلق على مجوعة سكانية تعتبر فخذا من قبيلة قلعية بإقليم الناضور حاليا.
4 ـ قرية ساحلية ضمن مجال أيت بويفار توجد بها حاليا جماعة إعزانن الترابية.
5 ـ قائد عسكري بريطاني التحق بالقوات البحرية مند الأربعينيات من ق 19، ثم شغل منصب قبطان لإحدى السفن الحربية مند سنة 1849، وشارك في قصف الإسكندرية سنة 1882، وأصبح القائد العام للقوات البحرية محطة رأس الرجاء الصالح وغرب إفريقيا إلى أن تقاعد سنة 1897، وتوفي سنة 1915.
6 ـ ضابط عسكري بريطاني ولد سنة 1781، دخل البحرية الملكية سنة 1793، ترقى إلى رتبة ضابط ثم أميرال، شارك في معركة بريريال سنة 1806، وقاد فرقاطة في معركة الرأس الأخضر سنة 1831، كما شارك في معارك الصين والجزر الهندية وحرب الأفيون الأولى، وفي فبراير 1845 عين قائدا عاما للأسطول المتوسطي، لكنه استقال بعد فترة وجيزة لأسباب صحية، وتوفي سنة 1866.
7 ـ كان هذا في فترة حكم السلطان عبد الرحمان بن هشام الذي حكم ما بين 1822 و 1859.
8 ـ يقصد هنا حاكم طنجة المسمى محمد بن عبد الملك الذي قاد الحملة التأديبية على قرية إعزانن بسبب اعتراضهم مراكب الأجانب سنة 1856.
9 ـ جون دراموند هاي هو المبعوث فوق العادة للمملكة المتحدة لدى المغرب في القرن التاسع عشر، ولد عام 1816 في فالنسيان بفرنسا حيث كان يعمل والده، تلقى تعليمه في مدرسة شرترهووس جنبا إلى جنب مع شقيقه الأكبر إدوارد هاي دراموند هاي، في سن الثامن و العشرين تقريبا تم إرساله إلى المغرب كمساعد للقنصل العام، أثناء اشتغاله بالمغرب أثبت حنكته و مهارته في نشاطه الدبلوماسي، حيث تميز بروح المبادرة و حب حرية التصرف، وهذا استمر دون انقطاع خلال مدة عمله كقنصل لأكثر من 40 عاما، حيث مكنه ذكاءه، و نشاطه، و معرفته الدقيقة للشخصية الشرقية من ممارسة قدر من النفوذ سواء مع حكومة بلده أو مع المغرب أو مع السكان من مختلف الفئات، في عام 1845، كما قام بدور وسيط في الأزمات التي كانت بين المغرب وكل من الدنمارك والسويد واسبانيا، و كذلك كانت له تدخلات و أدوار فعالة في الكثير من القضايا الدبلوماسية و السياسية الأخرى.
القبض على باخرة " three sisters ":
في 31 أكتوبر عام 1848 خرجت من جبل طارق الباخرة التجارية المسجلة على مرسى ليفربول three sisters متجهة إلى مالطا، كانت محملة برزم الأقمشة و كمية كبيرة من البارود، الباخرة كندية البناء تقدر سعتها ب 134 طن مملوكة للسيد ماط(1) وبعض صغار المستثمرين، كانت عادة تعمل في الخط التجاري بين ليفربول و ديميرارا، ولهذا فقد كانت "الأخوات الثلاث" خارج مجالها المعتاد ولذلك لم تكن مؤمنة. و كانت الحمولة لشركة من جبل طارق مملوكة لجيمس كلاسكاو وشركاؤه.
في 2 نونبر 1848 تم اعتراض طريق "الأخوات الثلاث" من طرف مجموعة من القوارب في ساحل الريف، حينها أطلق القراصنة النار عليها، فنزل الطاقم في زورق و جدف مبتعدا في البحر، فجر القراصنة "الأخوات الثلاث" إلى الشاطئ، أنقذ الطاقم من طرف باخرة تجارية عابرة في صباح اليوم التالي، ووصلوا إلى جبل طارق في السابع من نونبر، الملاحظ أن الأولوية لدى حاكم جبل طارق هي إثبات أن حمولتها كانت شرعية، و بمجرد أن اشتكت الجهات التي أرسلت إليها الحمولة، فإن حاكم جبل طارق السيد روبرت ويلسون(2) أحال القضية إلى جون دراموند هاي مشيرا عليه بالتدخل لدى الحكومة المغربية، و طلب من جيمس مكلفرتي من باخرة بوليفيموس أن يحمل الرسالة إلى طنجة، لكن مكلفرتي رفض ذلك، و في المقابل انطلق فورا إلى مسرح الجريمة، في الصباح الباكر من اليوم التالي انطلق بوليفيموس مسرعا في خليج al khoyamich (3)، ثم اتجه شرقا في اتجاه رأس المذاري الثلاث، في صباح يوم 8 نونبر بعد أن مسح ساحل ترامونتانا(4)، اكتشف مكلفرتي السفينة المستهدفة وقد سحبت إلى الشاطئ، وكان حولها سبعة من قوارب الريفيين، والمكان يوجد تحت المنحدرات البارزة التي يحتلها ما يقدر بحوالي خمس مائة رجل مسلح، تحركت بوليفيموس في اتجاه الشاطئ فأطلق عليها القراصنة النار، ولدفعهم لتغيير أماكنهم أمطرتهم بالرشاش الناري و بمختلف أنواع الطلقات النارية الكثيفة والمتكررة حتى تراجعوا، تمكن فريق من رفع مخطف السفينة، ثم عقلت لتجرها بوليفيموس إلى الماء، هنا بدأ الريفيون إطلاق النار من إحدى المدافع التي لم تستطع السفينة تحديد مكانها، فأطلقت الرشاش من جديد، أصيب خمسة بحارة بجروح. مع مواجهة عدو كثير العدد و مسلح تسليحا جيدا، تخلى مكلفرتي عن غايته الأصلية المتمثلة في النزول و إحراق مراكب القراصنة، ورأى أنها لا تستحق المجازفة بحياة بحارته من أجل ذلك، فجر سفينته المسترجعة وانطلق مبحرا إلى جبل طارق.
السفينة جردت من الأشرعة و الحبال، في الواقع جردت من كل ما كان على متن السفينة يمكن حمله، كما كانوا قد كسروا الأقفال وحملوا جزء كبير من الحمولة، وعندما وصلوا إلى جبل طارق اكتشفوا أن القراصنة أفرغوا 850 برميل من البارود و كمية كبيرة من القماش. ما كان عليهم أن يتعبوا أنفسهم من أجل أربعمائة برميل من الرنجة(5)، وخمسة عشرة عبوة من التبغ، وطنين من الكاكاو، أو عشرين طنا من الفحم.
خبر قضية "الأخوات الثلاث" تزامن مع انشغال الأميرال باركر في قضايا سياسية معقدة ومتعبة مرتبطة بنابولي وسيسيليا، لم تكن لديه سفن إضافية، وكانت خطوته المقبلة هي الاتجاه شرقا إلى بحر إيجة لدعم تركيا، وليس غربا لتأديب قلة من اللصوص الريفيين. من حادثة Ruth كان يعلم أن السلطان سيتنصل من المسؤولية، وابتهج لاسترداد الأخوات الثلاث، وأشاد بتجاهل مكلفرتي أوامر الحاكم بالاتصال بجون دراموند هي، وكذلك بقراره عدم النزول إلى البر. كما تبين من هذه الحادثة فبالنسبة للبريطانيين، فوجود بارجة بخارية مقيمة في جبل طارق، سيمكن من رد الفعل بسرعة واصطياد الجناة متلبسين قبل أن تتصرف أية قوة أخرى، والعبارة الأخيرة إشارة إلى القوات الفرنسية التي قد تساعدها قضية القراصنة المغاربة وتوجهها كذريعة لغزو السلطنة.
الهوامش:
1 ـ اسمه الكامل هو Sampsom Matchison حسب قائمة لأرباب السفن نشرتها مجلة بلفاست الشهرية The Belfast Monthly magazine عدد 60 جزء 11 بتاريخ 31 يوليوز 1813، ص 46.
2 ـ هو الجنرال روبرت توماس ويلسون، ولد سنة 1877، اشتغل ضمن إدارة الإمبراطورية البريطانية بكثير من البلدان، كما مارس السياسة و دخل البرلمان كعضو عن الحزب اللبرالي من 1818 إلى 1831، وشغل منصب حاكم جبل طارق من سنة 1842 حتى وفاته سنة 1849.
3 ـ الكلمة مكتوبة بهذه الصيغة و يبدو من خلال السياق أنه يقصد خليج الحسيمة أو جون الحسيمة الذي كان يعرف بهذا الإسم، نسبة إلى جزيرة الحسيمة (نكور)، قبل أن يطلق الإسم على مدينة الحسيمة حديثا.
4 ـ اسم قديم كان يطلق على منطقة معينة من ساحل الريف، ومن المرجح أنها كلمة رومانية مركبة معناها الجبال الثلاثة، وقد يكون هو رأس المذاري الثلاث نفسه.
5 ـ نوع من السمك يتم تحضيره بطريقة خاصة حيث يصبح قابلا للتخزين، حيث يملح أو يخلل ثم يتم تجفيفه.
حملة نابيير لحل مشاكل التجارة:
كان وزير الخارجية، اللورد بالمرستون حريصا على تلقين الريفيين درسا، واستغل كون الأميرالية قد أمرت سرب الجنوب بالبحرية الملكية بتعزيز أسطول البحر المتوسط، وكرد فعل على التعزيزات الفرنسية، فإن بالمرستون، الذي كان قد وجه اللورد أوكلاند، اللورد الأول للأميرالية، لنشر السرب لدعم مطالبه في قضية الشركة التجارية البريطانية الإخوان ريدمان(1)، والآن مؤخرا أضاف مسألة القرصنة إلى برنامج البعثة. حادثة "الأخوات الثلاث" لم تؤدي إلا إلى تعقيد الوضع، فمشاكل التجارة يمكن حلها بضرب حصار على الموانئ الكبرى مثل موغادور (الصويرة الحديثة) على ساحل المحيط الأطلسي، وكذلك طنجة، أما قرصنة الريف فيلزمها تحرك محلي.
كان للأميرالية فهم جيد لهذا الساحل، وأوكلاند لم يكن متحمسا لشن عمليات هجومية، "إن موسم هذا العام ليس مناسبا للهجوم على موغادور، وساحل الريف نادرا ما يكون تحت حكم الإمبراطور ـ السلطان ـ، والعمليات هناك من المحتمل أن تكون خطيرة ودون فائدة، ولكن يمكن القيام بعمليات بالزوارق الخفيفة بهدف الإثبات للبرابرة، أن سواحلهم قابلة للغزو وإنزال العقاب"، كما أبلغ السيد أوكلاند قائد السرب الغربي، نائب الأميرال السيد تشارلز نابيير(2): "أولا يجب أن تسعى إلى اكتساح الساحل بالمراكب الخفيفة من تطوان إلى مليلية و تدمر جميع القوارب التي تصادفها، و أخشى مع ذلك، و بالنظر إلى طبيعة هذا الساحل، أن تكون العملية صعبة و خطيرة و مكلفة جدا، ثانيا يمكن أن تحاول ضرب حصار على موانئ الساحل الغربي، و لكن أخشى في هذا الموسم من السنة أنه من المستحيل القيام بالعملية بشكل فعال، ثالثا قد تفتت طنجة أو موغادور إلى قطع، لكن من شأن هذا أن يكون عنيفا جدا، ومما لا ينبغي التفكير فيه كقضية ذات أولوية.
كان أوكلاند يفضل ممارسة الضغط من خلال إرسال قوة كبيرة إلى موغادور، لكن هذا لم يكن من شأنه أن يحل قضية الريف، لقد كانت أوامر المسؤول غريبة و غامضة، فقد سمحت لنابير أن يؤدب القراصنة، إن كان يعتقد أن ذلك ممكنا و الوسائل الموضوعة تحت تصرفه كافية، لقد قيدت سلطاته التقديرية بعناية محكومة بالضرورات السياسية الظرفية لتجنب الحرب و عدم ترك أية فرصة لقوى أخرى لتتصرف، هذا مع الإبقاء على رفع المعنويات و التأييد لقدرات نابيير، كصديق مند فترة طويلة و من أنصار بالمرستون، مبينا أن المهمة الغامضة نشأت في أصلها داخل وزارة الخارجية، الواقع أن بالمرستون كان قد أقنع نابيير جيدا بالانتظار حتى الربيع حيث الطقس أفضل، بدل الإسراع و المجازفة بإرسال بواخره الحربية.
في هذه الأثناء كان السرب في سبيتهيد Spithead محاصرا برياح الجنوب، رأى نابيير في ذلك فرصة لتعزيز سرب المتوسط بطلبة من القيادة العليا، والتي ستكون شاغرة قريبا، لقد كان افتتاحا للأسلوب المفضل لديه، و المتمثل في اتخاذ إجراءات حاسة و سريعة، وكانت هناك خطورة في الروتين وأساليب الانتظار والعمليات الطويلة الأمد، "آمل أن يتم السماح بالقيام بعمليات قصيرة مع الموريين(3) إن تمادوا في وقاحتهم ورفضوا دفع التعويضات، فالحصار هو عقاب بطيء في هذا الموسم من السنة، وهو عمل غير مضمون النتيجة". رغم اضطراره لكبح جماح الحماس لدى نابيير، حرص أوكلاند على أن يكون إيجابيا "أنا متفائل أنك تستطيع تحقيق الغرض مع المغاربة بالوسائل القوية، لكننا في البداية علينا استعمال وسائل لطيفة مدعومة بظهور قوي".
قام نابيير بسرعة بخطوته، وطلب الرسوم البيانية لطنجة وموغادور قصد استكمال التقارير الرسمية، وأوكلاند حذر من كون العمليات المستمرة والمستدامة على ساحل المحيط الأطلسي خطيرة جدا بين نونبر وأبريل، كما أن بالنسبة لساحل الريف، فالبخاريات وحدها التي بمقدورها الاقتراب منه ـ القادرة على دفع الخطر عن النازلين إلى البر ـ، و عرض بعض النقط الواضحة للاستهداف بالهجوم.
مع وصوله إلى لشبونة يوم 4 يناير 1849، افتتح نابيير الاتصالات مع جون دراموند هاي في طنجة، من خلال المعلومات المرسلة من قبل الأميرالية خلص إلى ما يلي: " يبدو لي من الأفضل ترك خط السفن الحربية في جبل طارق، و أخذ السفن الصغيرة و البحارة لتدمير كل القوارب على ساحل الريف ... أنا لم أحب كثيرا فكرة إقامة حصار على الساحل الغربي، لأن ذلك من شأنه أن ينبههم و يمنحهم الوقت للاستعداد لرد الهجوم". بدل المخاطرة بحصار طويل و ممل، كان بإمكان نابيير التجديف بباخرته القوية إلى جدران موغادور و تحطيمها بواسطة أسلحته، وطلب من جون دراموند هاي معلومات عن دفاعات طنجة. لم يكن هذا هو النهج الذي يحبذه جون دراموند هاي، فأبلغه أن السلطان قد يفسح المجال أمام استعمال مناسب للقوة.
من سوء حظ نابيير أن اللورد أوكلاند توفي فجأة قبل بداية السنة الجديدة، و ترك قيادة الأميرالية للورد الأول للقوات البحرية، نائب الأميرال السيد جيمس دونداس(4)، أميرال مكتب ذو تجربة محدودة في مجال الملاحة، عوض به في دور مركزي في سياسة الحزب اللبرالي. حركة أوكلاند الموجهة في صالح الاقتصاديات المهيمنة استمرت بعد وفاته دون الكثير من التفكير في عواقب على المدى الطويل. تم تخفيض ثلاثة آلاف رجل من تقديرات سرب نابيير، مما يفسر إلغاء انطلاق الحملة قبل نهاية مارس، لتتحول إلى حملة على ساحل الريف في ماي. لقد بدأ العد العكسي في 11 يناير حين استدعيت السفينة رودني، إحدى قطع البحرية الملكية للعودة إلى الميتروبول فورا لتسديد نفقات ترتبت عليها، وهذا طرح آنذاك مسألة حول نابيير و هي هل بإمكانه القيام بشيء قبل أن تتبخر قواته. تم تعيين السيد فرانسيس بارينغ(5) في منصب اللورد الأول في 16 يناير، لكنه لم يباشر عمله فعلا إلا بعد إعادة انتخابه في مقعده في مجلس العموم في حوالي السادس من فبراير، إلى هذه اللحظة كانت الأميرالية قد ظلت مكرسة لنوع من الروتين، ليس لأن نابيير طال انتظاره لعودة بارينغ فالرجلين سبق لهما خوض منافسة انتخابية في البورتسموث قبل خمسة عشرة سنة.
أبحر نابيير إلى جبل طارق مكتئبا لفقدان سيده أوكلاند في 18 يناير 1849، وصل يوم السابع و العشرين بعد رحلة مريرة عكست مزاجه العكر، البريد الموالي حمل إليه أخبار سيئة، لقد ألغت الأميرالية زيارته المبرمجة إلى سانتا كروز تينيريفي، موجهة له استدعاء للحضور إلى جزيرة ماديرا(6) ثم بعدها العودة إلى لشبونة من دون تأخير، كما جاءته رسالة خاصة من دونداس و قد كانت بمثابة ضربة، سيعطى الأميرال باركر جولة ثانية كقائد عام في المتوسط، و أضاف ما هو أسوأ: "أنت لن تقوم بأية محاولة ضد المغرب من دون المزيد من الأوامر، و أنا أعرف أن هذه هي رغبة السيد بارينغ والحكومة ". بارينغ، اللورد الأول الجديد، يبدو أنه سيواصل نهج سلفه الحذر و ليست له نية إعطاء الأوامر لنابيير بالتصرف، و كان أقل براعة، كما أن إعادة تعيين باركر كان شيئا ليس عاديا إلى حد بعيد، لكنه كان منطقيا تماما. ظل البحر المتوسط متوترا و باركر أبان عن حكمة ملحوظة في تصرفه. يوم الواحد و الثلاثين فتح نابيير مراسلة خاصة من بارينغ، و قد جاء فيها أن جون دراموند هاي سيستدعى إلى محفل في جبل طارق، و أنه خلال حضوره سيهيئون تصاميم حول عمليات في الريف والسواحل الأطلسية. و أرسل رسالة أخرى إلى بارينغ و بالمرستون يطلب القيادة بالمتوسط. التقى نابيير وجون دراموند هاي على متن حاملة لواء (flagship)، وبعد ذلك غادر دراموند هاي على متن البخارية الملكية صيدون ليقدم الطلب النهائي إلى وزير الخارجية المغربي في العرائش قصد تسوية قضية ريدمان، و بهذا دق ناقوس الخطر بالموانئ المغربية. أثار نابيير بسعادة هذه المخاوف، و أبقى بتباه على بارجتين كانتا عائدتين إلى الميتروبول في عرض المتوسط، ليس فقط لأنه كان يعتزم التصرف فحضوره إلى جبل طارق عزز قناعته بأن حصارا فعالا للموانئ المغربية سيكون مستحيلا، وقال أنه بمجرد عودة صيدون من العرائش سيرى ما يمكن فعله ضد الريف. إلى حدود اللحظة كان قد أبقى على أوراقه بالقرب منه "لا أصدق أنه قد يعتقد وجود أي مخططات عنهم هنا، هذا أفضل بكثير"، لكن من الواضح أن الأميرالية كانت لها آراء أخرى، فيوم فاتح فبراير صدرت الأوامر لنابيير ليكون فورا على استعداد للمثول في سبيتهيد Spithead.
رغم كون الأميرالية لم تكن تهتم كثيرا بشؤون المغرب، فقد جلب نابيير لنفسه الاهتمام سريعا، فقد جلب له عرض التباهي بالقدرة السلاحية إذعان المغرب في غضون أسبوع واحد، قنصلهم وصل إلى جبل طارق على متن زورق في الرابع من فبراير، موافقا على عقد التزام بشأن مطالب ريدمان، و قد أوضح نابيير: "لقد بدا بوضوح أنه كان خائفا جدا، ووصول سفينة رودني، و جلسات التقديم التي عقدها بالمسرح لم يكونا كفيلين بتهدئته". في حرص على تحقيق تسوية سريعة، رفض نابيير محاولة حاكم جبل طارق المشاركة، وأرسل قارب إلى طنجة للحصول على رأي جون دراموند هاي، وقد وافقت له الأميرالية على احتجاز السفن في ظل الظروف الخاصة.
التحول المفاجئ على ما يبدو في سياسة طنجة، هو تنامي مخاوف فرنسا، خشية أن تحتل بريطانيا الأراضي المغربية، خاصة ساحل الريف القريب من الجزائر، و كانت باريس قد حثت السلطان على التنازل. نابيير كان حريصا تماما على التسوية، فساحل المحيط الأطلسي في الشتاء لن يقدم إلا فرص قليلة قد تساعد على القيام بعمليات تأديبية. رغبة منه في التوضيح، نابيير قال لبارينغ إنه سيبعث باخرة أو ربما اثنتين إلى بريطانيا قصد التهديء و تبديد المخاوف من كون الحملات قد تكون مكلفة، "للقيام بالعملية بنجاح، يجب القيام بكل شيء بشكل صحيح و فعال، و بقوات جيدة، و يكون ذلك عمل واحد مستمر على جميع السواحل، إنهم مجموعة سيئة، و يستحقون أشد العقاب".
أجرى محادثات أخرى عن الريفيين مع دونداس "سمعت أنهم مجموعة مولعة بالحرب، وقناصين ماهرين وإذا ما احتجزوا سجناء فإنهم يقتلون المسنين ويستخدمون الشباب في الأشغال، إذن ليس أمامي خيار آخر غير تنفيذ هذه العملية، على الأقل حاكم جديد لجبل طارق قد عوض المقرف ويلسون".
في ذلك اليوم نفسه طلبت منه الأميرالية إرسال التصاميم و التعزيزات إلى السرب الذي يقوده باركر بالأسطول المتوسطي و يعود هو إلى الميتروبول مع بقية سربه، وضح له دونداس الأسباب في رسالة خاصة: " إنه لحد الآن هو القائد ... كما أننا حريصون على تخفيض أعدادنا من الرجال، وكذلك التخفيف من عدد السفن"، في يوم العاشر أعلن نابيير أن قضية ريدمان قد سويت، واعتذر لباركر في اليوم التالي لاحتجاز الأمير رجنت(7) دعما لدبلوماسية بلده. المغاربة قبلوا التحكيم إلى تاجرين من جبل طارق، اللذان خفضا فورا مطالب ريدمان من 17000 دولار أمريكي إلى 10000، منتقدان حساباته وأوراق طلبه. اعتقد نابيير أن المغاربة يعرفون التجار جيدا، وأنهم أجروا معهم الكثير من المعاملات، ومن المرجح حسب رأيه أن تحكيمهم سيكون لصالح الحكومة المغربية.
الهوامش:
1 ـ الإخوة ريدمان كانوا يملكون محلا بالجديدة يستعملونه كمستودع للسلع قبل تصديرها، فصودر منهم المحل من طرف المخزن فتدخلت القنصلية البريطانية بسبب ذلك، أنظر بوشعراء مصطفى، الاستيطان والحماية بالمغرب، ج 3، ص 992.
2 ـ الجنرال تشارلز جيمس نابيير، ولد في 10 غشت 1782 و توفي في 29 غشت 1853، كان جنرالا في الإمبراطورية البريطانية والقائد العام للقوات المسلحة الجيش البريطاني في الهند، كان له دور بارز في قهر السند في ما يعرف الآن بباكستان، انضم إلى فوج المشاة الثالث و الثلاثين التابع للجيش البريطاني في 1794، قاد فوج من المشاة خلال الحرب في شبه الجزيرة الإيبيرية ضد نابليون بونابرت حيث أصيب إصابة خطيرة ولكنه أنقذ على قيد الحياة، ثم قبض عليه كأسير حرب من طرف الجيش الفرنسي، وقد تم منحه الميدالية الذهبية في الجيش بعد أن عاد إلى بريطانيا، في عام 1842، وهو في سن الستين، تم تعيينه على قيادة الجيش الهندي في بومباي و هذا ما قاده إلى إقليم السند، لغرض قمع تمرد مشايخ المسلمين الذين بقوا معادين للإمبراطورية البريطانية بعد الحرب الأنجلو أفغانية الأولى و انتهت الحملة بإخضاع السند و ضمها إلى الإمبراطورية. عين نابيير محافظا لمقاطعة بومباي. ولكنه بسبب صراع مع إدارة شركة الهند الشرقية البريطانية، تم عزله من منصبه وعاد إلى بريطانيا إلى أن تم إرساله مرة أخرى إلى الهند خلال ربيع عام 1849، بالإضافة إلى الهند قام بعدة حملات في مناطق أخرى ضمن المهام العسكرية البريطانية.
3 ـ وضعت لفظة الموريين هنا بدل المغاربة أو أية لفظة أخرى كمقابل لكلمة moors.
4 ـ عاش الأميرال جيمس دونداس ما بين 4 دجنبر 1785 و 3 أكتوبر 1862، كان ضابطا في البحرية الملكية، وشارك في الحروب النابليونية، ثم ترقى إلى رتبة قائد، كما شغل منصب عضو في البرلمان كنائب يميني لمقاطعة غرينتش، وأصبح اللورد الأول للبحرية الملكية خلال ولاية الوزير الأول راسل في يوليو 1847، تم تعيينه قائدا عاما للقوات المسلحة في منطقة البحر الأبيض المتوسط في عام 1852، وأدى كل العمليات البحرية في البحر الأسود بما في ذلك قصف سيفاستوبول في أكتوبر 1854 خلال حرب القرم.
5 ـ فرانسيس بارينغ سياسي بريطاني عضو في البرلمان عن بورتسموث مند عام 1826، و شغل مناصب وزارية عدة مرات، و رفض بعض الحقائب في فترات أخرى (المالية في حكومة راسل)، تولى منصب اللورد الأول للأميرالية مند يناير 1849، كان من المعارضين لحرب القرم.
6 ـ جزيرة ماديرا تقع في المحيط الأطلسي قبالة الساحل المغربي أبعد من جزر الكناري، اكتشفها البرتغاليون سنة 1419 واحتلوها، وتستمد اسمها من الخشب لوفرته فيها، كما تسمى أيضا جزيرة الزهور نظرا لمناخها المعتدل طوال السنة.
7 ـ ولي عهد الدنمارك في أوائل القرن التاسع عشر.
إن بني بويفار الذين اعترضوا سفينة Ruth كانوا يمثلون واحدة من عدد من القبائل على هذا الساحل والمعروفة جماعيا بقراصنة الريف، يسحبون السفن التي يغنمونها إلى إحدى الشواطئ الضيقة بين رأس المذاري الثلاث وخليج إعزانن(4) وبعد تجريدها من البضائع والمعدات والأدوات المعدنية يحرقون هياكلها، إذا تم القبض على طاقم ما، فإن أفراده يتم افتدائهم من طرف التمثيليات الأوربية في طنجة بمعزل عن تدخل الحكومة المغربية، ولكن كما هو معروف، فطواقم أربعة من أصل ستة سفن بريطانية تم اعتراضها ما بين سنتي 1846 و1856 لم تنتظر حتى يتم القبض عليها بل فر أفرادها على متن زوارقهم، ومع السمة التجارية بالأساس لعملية افتداء الأسرى فإننا قد نتصور أن تحضر في العملية عوامل أخرى، كأن يتم التواطؤ من بعض الطواقم مع القراصنة من أجل اقتسام الفدية.
أثناء العودة الضرورية لسفينة ما قصد استعادة البواخر المحتجزة أو ببساطة لإنزال عقوبات بالسكان المحليين، اكتشفت السفن البريطانية بسرعة حقيقة مرة، هي أن الإنجليز كانت لهم معرفة قليلة جدا بتلك الناحية، كما كانوا يفتقرون إلى خرائط دقيقة، ومخططات موثوق بها، فبلدة بويفار كانت شبه مستحيلة التوطين، فهي غالبا تقع وراء حدود البصر وعصية عن القصف، وكذلك قواربهم، فالريفيون كانوا يدفنونها في الرمال أو يخفونها في الكهوف، وسواحلهم تغلب عليها المنحدرات، وهي ميزة ملحوظة لصالح المدافعين من نيران الحرب، نفس النقطة الإيجابية كانت تساعد الريفيين على تحديد مواقع السفن القادمة نحوهم بمنظاراتهم المميزة، ثم يستعملون الإشارات النارية لإعلام الآخرين بمجرد تحديد موقع غنيمة محتملة، كما كانت لدى قراصنة الريف أسلحة كافية للإيقاع بضحاياهم، البعض منهم يمتلك البنادق الريفية المحلية الصنع ذات الأنبوب الطويل، فقد جاء تقرير البحرية لتبرير عدم إنزال العقاب لسنة 1846 كما يلي: "البنادق الريفية تزيد مسافة طلقتها عن البندقية الإنجليزية بقدر نصف طلقة، والريفيون قناصون ماهرون، يعرفون بين المغاربة بولعهم بالحروب وبكونهم عدائين مهرة"، ولا يقتصر سلاحهم عن البنادق، ففي 1848 تعرضت البخارية الملكية polyphemus لقصف بواسطة مدفع كان قد أرسله سلطان المغرب سابقا للاستعمال ضد الإسبان.
بينما كانت عمليات وغارات الريفيين صغيرة و غير منتظمة، فالسلطان كان يؤكد عدم قدرته على زجرهم، وبريطانيا كانت تفضل عدم الضغط في القضية، ولم تكن لها رغبة في الزيادة من مشاكل المغرب، كما لم تكن تحب أن توفر لفرنسا مبررات للتصرف على الساحل الممتد من الجزائر إلى حدود جبل طارق، بناءا على ذلك فرد الفعل القياسي لبريطانيا على حوادث القرصنة في المنطقة هو إرسال سفينة حربية لاستعادة السفينة المستهدفة، و معاقبة أولئك البرابرة الوقحين.
في ماي 1846 حين قبض الريفيون المركب التجاري البريطاني Ruth، أرسلت حكومة جبل طارق مركب البحرية الملكية fantôme، تحت قيادة القائد فريدريك نيكولسون (5)، في 12 ماي 1846، حدد نيكولسون موقع القراصنة قريبا من رأس المذاري الثلاث، حيث سحبوا المركب إلى الشاطئ لنهب حمولته، نزل نيكولسون إلى البر و أرغم القراصنة على الابتعاد عن الشاطئ، واستعاد السفينة Ruth وجزءا من الحمولة، قتل في المواجهة بعض القراصنة في حين خلف البريطانيون قتيلا وثماني جرحى.
لقد كوفئ نيكولسون على حماسته حيث تمت ترقيته إلى درجة قبطان، وملازمه الأول أصبح قائدا، و منحت له أموال وزعت على أفراد الطاقم. ولكن مهما كان، فقائده العام في المحطة المتوسطية، الأميرال السيد وليام باركر(6)، لم تثر العملية إعجابه، العملية كانت حقيقة شجاعة وحازمة، لكن Ruth عادت حطاما لا قيمة لها ... " لا أستطيع إلا الندم على الصراع من أجل استعادتها، هذا الصراع الذي كان مجازفة، ليس فقط لأن عادات البرابرة كانت معروفة، و لكن أيضا أن نتائج المحاولة كانت محبطة". كان مقتنعا بأنه كان أفضل بكثير لو طالب بتعويضات من السلطات الشرعية، التباين بين حملة نيكولسون الدموية و تحفظ باركر الحذر كان واضحا.
كخبير في الشؤون الدولية، فهم باركر أن القوة المسلحة كانت وسيلة ذات فائدة محدودة في تلك الظرفية، ومهما كان فقد كان على نيكولسون أن يفهم أن قراصنة الريف ربما يهنئون بعضهم البعض على إبعادهم للكافرين و تحصينهم لمكتسباتهم غير المشروعة.
حين تم الضغط على السلطان(7) من أجل دفع تعويض على السفينة Ruth، أعلن عدم قدرته على معاقبة الريفيين، البريطانيون كانوا قلقين من السكوت و عدم الضغط على المغرب في الوقت الذي كانت فيه حرب فرنسا مع عبد القادر بالجزائر لا زالت في تقدم. في هذه الأثناء تدخل الحاكم المحلي المغربي(8) لإنزال ما يكفي من العقاب تلبية لرغبة جون دراموند هاي(9) قنصل بريطانيا في طنجة. مهما كان فالسلطان توصل بتحذير رسمي بأن أية أعمال تكررت من هذا القبيل ستجعل البريطانيين يتخذون التدابير اللازمة بأيديهم، مدعمين تحذيرهم بجلب سفينة حربية بخارية من جبل طارق ومعززين القوات البحرية بوسائل ممتازة استعدادا لتحدي القراصنة، اقتربت السفينة إلى الساحل بسرعة واختارت أحسن المواقع للقصف البحري أو لاستعمال زوارقها المربعة الواسعة ذات المجاديف للحرب الشاطئية.
الهوامش:
1 ـ هو رأس جبلي على الساحل المتوسطي للمغرب يتكون من نتوء جبلي كبير ممتد شمالا داخل البحر الأبيض المتوسط بالقرب من مدينة مليلية المحتلة، وكما اعتبر هذا الرأس معلما بحريا للسفن حيث تقع منارة كبيرة في طرفه الشمالي، فإنه شكل أيضا خطرا للسفن المبحرة في بحر البرهان بسبب الهدوء و الركود الذي يسببه في البحر و الذي كان يسبب في وقوف المراكب الريحية لتبقى مهددة بالاستهداف من طرف القراصنة، كما قد تصطدم في الصخور كما حدث مع سفينة حربية إسبانية في 26 غشت عام 1923.
2 ـ جزيرة تحت النفوذ الإسباني توجد بالبحر المتوسط قبالة مدينة مليلية وعلى بعد مسافة متساوية بينها و بين الساحل المغربي وبينها وبين الساحل الإسباني، وهناك آراء تقول إنها في الأصل جزيرة مغربية.
3 ـ اسم أيت بويفار يطلق على مجوعة سكانية تعتبر فخذا من قبيلة قلعية بإقليم الناضور حاليا.
4 ـ قرية ساحلية ضمن مجال أيت بويفار توجد بها حاليا جماعة إعزانن الترابية.
5 ـ قائد عسكري بريطاني التحق بالقوات البحرية مند الأربعينيات من ق 19، ثم شغل منصب قبطان لإحدى السفن الحربية مند سنة 1849، وشارك في قصف الإسكندرية سنة 1882، وأصبح القائد العام للقوات البحرية محطة رأس الرجاء الصالح وغرب إفريقيا إلى أن تقاعد سنة 1897، وتوفي سنة 1915.
6 ـ ضابط عسكري بريطاني ولد سنة 1781، دخل البحرية الملكية سنة 1793، ترقى إلى رتبة ضابط ثم أميرال، شارك في معركة بريريال سنة 1806، وقاد فرقاطة في معركة الرأس الأخضر سنة 1831، كما شارك في معارك الصين والجزر الهندية وحرب الأفيون الأولى، وفي فبراير 1845 عين قائدا عاما للأسطول المتوسطي، لكنه استقال بعد فترة وجيزة لأسباب صحية، وتوفي سنة 1866.
7 ـ كان هذا في فترة حكم السلطان عبد الرحمان بن هشام الذي حكم ما بين 1822 و 1859.
8 ـ يقصد هنا حاكم طنجة المسمى محمد بن عبد الملك الذي قاد الحملة التأديبية على قرية إعزانن بسبب اعتراضهم مراكب الأجانب سنة 1856.
9 ـ جون دراموند هاي هو المبعوث فوق العادة للمملكة المتحدة لدى المغرب في القرن التاسع عشر، ولد عام 1816 في فالنسيان بفرنسا حيث كان يعمل والده، تلقى تعليمه في مدرسة شرترهووس جنبا إلى جنب مع شقيقه الأكبر إدوارد هاي دراموند هاي، في سن الثامن و العشرين تقريبا تم إرساله إلى المغرب كمساعد للقنصل العام، أثناء اشتغاله بالمغرب أثبت حنكته و مهارته في نشاطه الدبلوماسي، حيث تميز بروح المبادرة و حب حرية التصرف، وهذا استمر دون انقطاع خلال مدة عمله كقنصل لأكثر من 40 عاما، حيث مكنه ذكاءه، و نشاطه، و معرفته الدقيقة للشخصية الشرقية من ممارسة قدر من النفوذ سواء مع حكومة بلده أو مع المغرب أو مع السكان من مختلف الفئات، في عام 1845، كما قام بدور وسيط في الأزمات التي كانت بين المغرب وكل من الدنمارك والسويد واسبانيا، و كذلك كانت له تدخلات و أدوار فعالة في الكثير من القضايا الدبلوماسية و السياسية الأخرى.
القبض على باخرة " three sisters ":
في 31 أكتوبر عام 1848 خرجت من جبل طارق الباخرة التجارية المسجلة على مرسى ليفربول three sisters متجهة إلى مالطا، كانت محملة برزم الأقمشة و كمية كبيرة من البارود، الباخرة كندية البناء تقدر سعتها ب 134 طن مملوكة للسيد ماط(1) وبعض صغار المستثمرين، كانت عادة تعمل في الخط التجاري بين ليفربول و ديميرارا، ولهذا فقد كانت "الأخوات الثلاث" خارج مجالها المعتاد ولذلك لم تكن مؤمنة. و كانت الحمولة لشركة من جبل طارق مملوكة لجيمس كلاسكاو وشركاؤه.
في 2 نونبر 1848 تم اعتراض طريق "الأخوات الثلاث" من طرف مجموعة من القوارب في ساحل الريف، حينها أطلق القراصنة النار عليها، فنزل الطاقم في زورق و جدف مبتعدا في البحر، فجر القراصنة "الأخوات الثلاث" إلى الشاطئ، أنقذ الطاقم من طرف باخرة تجارية عابرة في صباح اليوم التالي، ووصلوا إلى جبل طارق في السابع من نونبر، الملاحظ أن الأولوية لدى حاكم جبل طارق هي إثبات أن حمولتها كانت شرعية، و بمجرد أن اشتكت الجهات التي أرسلت إليها الحمولة، فإن حاكم جبل طارق السيد روبرت ويلسون(2) أحال القضية إلى جون دراموند هاي مشيرا عليه بالتدخل لدى الحكومة المغربية، و طلب من جيمس مكلفرتي من باخرة بوليفيموس أن يحمل الرسالة إلى طنجة، لكن مكلفرتي رفض ذلك، و في المقابل انطلق فورا إلى مسرح الجريمة، في الصباح الباكر من اليوم التالي انطلق بوليفيموس مسرعا في خليج al khoyamich (3)، ثم اتجه شرقا في اتجاه رأس المذاري الثلاث، في صباح يوم 8 نونبر بعد أن مسح ساحل ترامونتانا(4)، اكتشف مكلفرتي السفينة المستهدفة وقد سحبت إلى الشاطئ، وكان حولها سبعة من قوارب الريفيين، والمكان يوجد تحت المنحدرات البارزة التي يحتلها ما يقدر بحوالي خمس مائة رجل مسلح، تحركت بوليفيموس في اتجاه الشاطئ فأطلق عليها القراصنة النار، ولدفعهم لتغيير أماكنهم أمطرتهم بالرشاش الناري و بمختلف أنواع الطلقات النارية الكثيفة والمتكررة حتى تراجعوا، تمكن فريق من رفع مخطف السفينة، ثم عقلت لتجرها بوليفيموس إلى الماء، هنا بدأ الريفيون إطلاق النار من إحدى المدافع التي لم تستطع السفينة تحديد مكانها، فأطلقت الرشاش من جديد، أصيب خمسة بحارة بجروح. مع مواجهة عدو كثير العدد و مسلح تسليحا جيدا، تخلى مكلفرتي عن غايته الأصلية المتمثلة في النزول و إحراق مراكب القراصنة، ورأى أنها لا تستحق المجازفة بحياة بحارته من أجل ذلك، فجر سفينته المسترجعة وانطلق مبحرا إلى جبل طارق.
السفينة جردت من الأشرعة و الحبال، في الواقع جردت من كل ما كان على متن السفينة يمكن حمله، كما كانوا قد كسروا الأقفال وحملوا جزء كبير من الحمولة، وعندما وصلوا إلى جبل طارق اكتشفوا أن القراصنة أفرغوا 850 برميل من البارود و كمية كبيرة من القماش. ما كان عليهم أن يتعبوا أنفسهم من أجل أربعمائة برميل من الرنجة(5)، وخمسة عشرة عبوة من التبغ، وطنين من الكاكاو، أو عشرين طنا من الفحم.
خبر قضية "الأخوات الثلاث" تزامن مع انشغال الأميرال باركر في قضايا سياسية معقدة ومتعبة مرتبطة بنابولي وسيسيليا، لم تكن لديه سفن إضافية، وكانت خطوته المقبلة هي الاتجاه شرقا إلى بحر إيجة لدعم تركيا، وليس غربا لتأديب قلة من اللصوص الريفيين. من حادثة Ruth كان يعلم أن السلطان سيتنصل من المسؤولية، وابتهج لاسترداد الأخوات الثلاث، وأشاد بتجاهل مكلفرتي أوامر الحاكم بالاتصال بجون دراموند هي، وكذلك بقراره عدم النزول إلى البر. كما تبين من هذه الحادثة فبالنسبة للبريطانيين، فوجود بارجة بخارية مقيمة في جبل طارق، سيمكن من رد الفعل بسرعة واصطياد الجناة متلبسين قبل أن تتصرف أية قوة أخرى، والعبارة الأخيرة إشارة إلى القوات الفرنسية التي قد تساعدها قضية القراصنة المغاربة وتوجهها كذريعة لغزو السلطنة.
الهوامش:
1 ـ اسمه الكامل هو Sampsom Matchison حسب قائمة لأرباب السفن نشرتها مجلة بلفاست الشهرية The Belfast Monthly magazine عدد 60 جزء 11 بتاريخ 31 يوليوز 1813، ص 46.
2 ـ هو الجنرال روبرت توماس ويلسون، ولد سنة 1877، اشتغل ضمن إدارة الإمبراطورية البريطانية بكثير من البلدان، كما مارس السياسة و دخل البرلمان كعضو عن الحزب اللبرالي من 1818 إلى 1831، وشغل منصب حاكم جبل طارق من سنة 1842 حتى وفاته سنة 1849.
3 ـ الكلمة مكتوبة بهذه الصيغة و يبدو من خلال السياق أنه يقصد خليج الحسيمة أو جون الحسيمة الذي كان يعرف بهذا الإسم، نسبة إلى جزيرة الحسيمة (نكور)، قبل أن يطلق الإسم على مدينة الحسيمة حديثا.
4 ـ اسم قديم كان يطلق على منطقة معينة من ساحل الريف، ومن المرجح أنها كلمة رومانية مركبة معناها الجبال الثلاثة، وقد يكون هو رأس المذاري الثلاث نفسه.
5 ـ نوع من السمك يتم تحضيره بطريقة خاصة حيث يصبح قابلا للتخزين، حيث يملح أو يخلل ثم يتم تجفيفه.
حملة نابيير لحل مشاكل التجارة:
كان وزير الخارجية، اللورد بالمرستون حريصا على تلقين الريفيين درسا، واستغل كون الأميرالية قد أمرت سرب الجنوب بالبحرية الملكية بتعزيز أسطول البحر المتوسط، وكرد فعل على التعزيزات الفرنسية، فإن بالمرستون، الذي كان قد وجه اللورد أوكلاند، اللورد الأول للأميرالية، لنشر السرب لدعم مطالبه في قضية الشركة التجارية البريطانية الإخوان ريدمان(1)، والآن مؤخرا أضاف مسألة القرصنة إلى برنامج البعثة. حادثة "الأخوات الثلاث" لم تؤدي إلا إلى تعقيد الوضع، فمشاكل التجارة يمكن حلها بضرب حصار على الموانئ الكبرى مثل موغادور (الصويرة الحديثة) على ساحل المحيط الأطلسي، وكذلك طنجة، أما قرصنة الريف فيلزمها تحرك محلي.
كان للأميرالية فهم جيد لهذا الساحل، وأوكلاند لم يكن متحمسا لشن عمليات هجومية، "إن موسم هذا العام ليس مناسبا للهجوم على موغادور، وساحل الريف نادرا ما يكون تحت حكم الإمبراطور ـ السلطان ـ، والعمليات هناك من المحتمل أن تكون خطيرة ودون فائدة، ولكن يمكن القيام بعمليات بالزوارق الخفيفة بهدف الإثبات للبرابرة، أن سواحلهم قابلة للغزو وإنزال العقاب"، كما أبلغ السيد أوكلاند قائد السرب الغربي، نائب الأميرال السيد تشارلز نابيير(2): "أولا يجب أن تسعى إلى اكتساح الساحل بالمراكب الخفيفة من تطوان إلى مليلية و تدمر جميع القوارب التي تصادفها، و أخشى مع ذلك، و بالنظر إلى طبيعة هذا الساحل، أن تكون العملية صعبة و خطيرة و مكلفة جدا، ثانيا يمكن أن تحاول ضرب حصار على موانئ الساحل الغربي، و لكن أخشى في هذا الموسم من السنة أنه من المستحيل القيام بالعملية بشكل فعال، ثالثا قد تفتت طنجة أو موغادور إلى قطع، لكن من شأن هذا أن يكون عنيفا جدا، ومما لا ينبغي التفكير فيه كقضية ذات أولوية.
كان أوكلاند يفضل ممارسة الضغط من خلال إرسال قوة كبيرة إلى موغادور، لكن هذا لم يكن من شأنه أن يحل قضية الريف، لقد كانت أوامر المسؤول غريبة و غامضة، فقد سمحت لنابير أن يؤدب القراصنة، إن كان يعتقد أن ذلك ممكنا و الوسائل الموضوعة تحت تصرفه كافية، لقد قيدت سلطاته التقديرية بعناية محكومة بالضرورات السياسية الظرفية لتجنب الحرب و عدم ترك أية فرصة لقوى أخرى لتتصرف، هذا مع الإبقاء على رفع المعنويات و التأييد لقدرات نابيير، كصديق مند فترة طويلة و من أنصار بالمرستون، مبينا أن المهمة الغامضة نشأت في أصلها داخل وزارة الخارجية، الواقع أن بالمرستون كان قد أقنع نابيير جيدا بالانتظار حتى الربيع حيث الطقس أفضل، بدل الإسراع و المجازفة بإرسال بواخره الحربية.
في هذه الأثناء كان السرب في سبيتهيد Spithead محاصرا برياح الجنوب، رأى نابيير في ذلك فرصة لتعزيز سرب المتوسط بطلبة من القيادة العليا، والتي ستكون شاغرة قريبا، لقد كان افتتاحا للأسلوب المفضل لديه، و المتمثل في اتخاذ إجراءات حاسة و سريعة، وكانت هناك خطورة في الروتين وأساليب الانتظار والعمليات الطويلة الأمد، "آمل أن يتم السماح بالقيام بعمليات قصيرة مع الموريين(3) إن تمادوا في وقاحتهم ورفضوا دفع التعويضات، فالحصار هو عقاب بطيء في هذا الموسم من السنة، وهو عمل غير مضمون النتيجة". رغم اضطراره لكبح جماح الحماس لدى نابيير، حرص أوكلاند على أن يكون إيجابيا "أنا متفائل أنك تستطيع تحقيق الغرض مع المغاربة بالوسائل القوية، لكننا في البداية علينا استعمال وسائل لطيفة مدعومة بظهور قوي".
قام نابيير بسرعة بخطوته، وطلب الرسوم البيانية لطنجة وموغادور قصد استكمال التقارير الرسمية، وأوكلاند حذر من كون العمليات المستمرة والمستدامة على ساحل المحيط الأطلسي خطيرة جدا بين نونبر وأبريل، كما أن بالنسبة لساحل الريف، فالبخاريات وحدها التي بمقدورها الاقتراب منه ـ القادرة على دفع الخطر عن النازلين إلى البر ـ، و عرض بعض النقط الواضحة للاستهداف بالهجوم.
مع وصوله إلى لشبونة يوم 4 يناير 1849، افتتح نابيير الاتصالات مع جون دراموند هاي في طنجة، من خلال المعلومات المرسلة من قبل الأميرالية خلص إلى ما يلي: " يبدو لي من الأفضل ترك خط السفن الحربية في جبل طارق، و أخذ السفن الصغيرة و البحارة لتدمير كل القوارب على ساحل الريف ... أنا لم أحب كثيرا فكرة إقامة حصار على الساحل الغربي، لأن ذلك من شأنه أن ينبههم و يمنحهم الوقت للاستعداد لرد الهجوم". بدل المخاطرة بحصار طويل و ممل، كان بإمكان نابيير التجديف بباخرته القوية إلى جدران موغادور و تحطيمها بواسطة أسلحته، وطلب من جون دراموند هاي معلومات عن دفاعات طنجة. لم يكن هذا هو النهج الذي يحبذه جون دراموند هاي، فأبلغه أن السلطان قد يفسح المجال أمام استعمال مناسب للقوة.
من سوء حظ نابيير أن اللورد أوكلاند توفي فجأة قبل بداية السنة الجديدة، و ترك قيادة الأميرالية للورد الأول للقوات البحرية، نائب الأميرال السيد جيمس دونداس(4)، أميرال مكتب ذو تجربة محدودة في مجال الملاحة، عوض به في دور مركزي في سياسة الحزب اللبرالي. حركة أوكلاند الموجهة في صالح الاقتصاديات المهيمنة استمرت بعد وفاته دون الكثير من التفكير في عواقب على المدى الطويل. تم تخفيض ثلاثة آلاف رجل من تقديرات سرب نابيير، مما يفسر إلغاء انطلاق الحملة قبل نهاية مارس، لتتحول إلى حملة على ساحل الريف في ماي. لقد بدأ العد العكسي في 11 يناير حين استدعيت السفينة رودني، إحدى قطع البحرية الملكية للعودة إلى الميتروبول فورا لتسديد نفقات ترتبت عليها، وهذا طرح آنذاك مسألة حول نابيير و هي هل بإمكانه القيام بشيء قبل أن تتبخر قواته. تم تعيين السيد فرانسيس بارينغ(5) في منصب اللورد الأول في 16 يناير، لكنه لم يباشر عمله فعلا إلا بعد إعادة انتخابه في مقعده في مجلس العموم في حوالي السادس من فبراير، إلى هذه اللحظة كانت الأميرالية قد ظلت مكرسة لنوع من الروتين، ليس لأن نابيير طال انتظاره لعودة بارينغ فالرجلين سبق لهما خوض منافسة انتخابية في البورتسموث قبل خمسة عشرة سنة.
أبحر نابيير إلى جبل طارق مكتئبا لفقدان سيده أوكلاند في 18 يناير 1849، وصل يوم السابع و العشرين بعد رحلة مريرة عكست مزاجه العكر، البريد الموالي حمل إليه أخبار سيئة، لقد ألغت الأميرالية زيارته المبرمجة إلى سانتا كروز تينيريفي، موجهة له استدعاء للحضور إلى جزيرة ماديرا(6) ثم بعدها العودة إلى لشبونة من دون تأخير، كما جاءته رسالة خاصة من دونداس و قد كانت بمثابة ضربة، سيعطى الأميرال باركر جولة ثانية كقائد عام في المتوسط، و أضاف ما هو أسوأ: "أنت لن تقوم بأية محاولة ضد المغرب من دون المزيد من الأوامر، و أنا أعرف أن هذه هي رغبة السيد بارينغ والحكومة ". بارينغ، اللورد الأول الجديد، يبدو أنه سيواصل نهج سلفه الحذر و ليست له نية إعطاء الأوامر لنابيير بالتصرف، و كان أقل براعة، كما أن إعادة تعيين باركر كان شيئا ليس عاديا إلى حد بعيد، لكنه كان منطقيا تماما. ظل البحر المتوسط متوترا و باركر أبان عن حكمة ملحوظة في تصرفه. يوم الواحد و الثلاثين فتح نابيير مراسلة خاصة من بارينغ، و قد جاء فيها أن جون دراموند هاي سيستدعى إلى محفل في جبل طارق، و أنه خلال حضوره سيهيئون تصاميم حول عمليات في الريف والسواحل الأطلسية. و أرسل رسالة أخرى إلى بارينغ و بالمرستون يطلب القيادة بالمتوسط. التقى نابيير وجون دراموند هاي على متن حاملة لواء (flagship)، وبعد ذلك غادر دراموند هاي على متن البخارية الملكية صيدون ليقدم الطلب النهائي إلى وزير الخارجية المغربي في العرائش قصد تسوية قضية ريدمان، و بهذا دق ناقوس الخطر بالموانئ المغربية. أثار نابيير بسعادة هذه المخاوف، و أبقى بتباه على بارجتين كانتا عائدتين إلى الميتروبول في عرض المتوسط، ليس فقط لأنه كان يعتزم التصرف فحضوره إلى جبل طارق عزز قناعته بأن حصارا فعالا للموانئ المغربية سيكون مستحيلا، وقال أنه بمجرد عودة صيدون من العرائش سيرى ما يمكن فعله ضد الريف. إلى حدود اللحظة كان قد أبقى على أوراقه بالقرب منه "لا أصدق أنه قد يعتقد وجود أي مخططات عنهم هنا، هذا أفضل بكثير"، لكن من الواضح أن الأميرالية كانت لها آراء أخرى، فيوم فاتح فبراير صدرت الأوامر لنابيير ليكون فورا على استعداد للمثول في سبيتهيد Spithead.
رغم كون الأميرالية لم تكن تهتم كثيرا بشؤون المغرب، فقد جلب نابيير لنفسه الاهتمام سريعا، فقد جلب له عرض التباهي بالقدرة السلاحية إذعان المغرب في غضون أسبوع واحد، قنصلهم وصل إلى جبل طارق على متن زورق في الرابع من فبراير، موافقا على عقد التزام بشأن مطالب ريدمان، و قد أوضح نابيير: "لقد بدا بوضوح أنه كان خائفا جدا، ووصول سفينة رودني، و جلسات التقديم التي عقدها بالمسرح لم يكونا كفيلين بتهدئته". في حرص على تحقيق تسوية سريعة، رفض نابيير محاولة حاكم جبل طارق المشاركة، وأرسل قارب إلى طنجة للحصول على رأي جون دراموند هاي، وقد وافقت له الأميرالية على احتجاز السفن في ظل الظروف الخاصة.
التحول المفاجئ على ما يبدو في سياسة طنجة، هو تنامي مخاوف فرنسا، خشية أن تحتل بريطانيا الأراضي المغربية، خاصة ساحل الريف القريب من الجزائر، و كانت باريس قد حثت السلطان على التنازل. نابيير كان حريصا تماما على التسوية، فساحل المحيط الأطلسي في الشتاء لن يقدم إلا فرص قليلة قد تساعد على القيام بعمليات تأديبية. رغبة منه في التوضيح، نابيير قال لبارينغ إنه سيبعث باخرة أو ربما اثنتين إلى بريطانيا قصد التهديء و تبديد المخاوف من كون الحملات قد تكون مكلفة، "للقيام بالعملية بنجاح، يجب القيام بكل شيء بشكل صحيح و فعال، و بقوات جيدة، و يكون ذلك عمل واحد مستمر على جميع السواحل، إنهم مجموعة سيئة، و يستحقون أشد العقاب".
أجرى محادثات أخرى عن الريفيين مع دونداس "سمعت أنهم مجموعة مولعة بالحرب، وقناصين ماهرين وإذا ما احتجزوا سجناء فإنهم يقتلون المسنين ويستخدمون الشباب في الأشغال، إذن ليس أمامي خيار آخر غير تنفيذ هذه العملية، على الأقل حاكم جديد لجبل طارق قد عوض المقرف ويلسون".
في ذلك اليوم نفسه طلبت منه الأميرالية إرسال التصاميم و التعزيزات إلى السرب الذي يقوده باركر بالأسطول المتوسطي و يعود هو إلى الميتروبول مع بقية سربه، وضح له دونداس الأسباب في رسالة خاصة: " إنه لحد الآن هو القائد ... كما أننا حريصون على تخفيض أعدادنا من الرجال، وكذلك التخفيف من عدد السفن"، في يوم العاشر أعلن نابيير أن قضية ريدمان قد سويت، واعتذر لباركر في اليوم التالي لاحتجاز الأمير رجنت(7) دعما لدبلوماسية بلده. المغاربة قبلوا التحكيم إلى تاجرين من جبل طارق، اللذان خفضا فورا مطالب ريدمان من 17000 دولار أمريكي إلى 10000، منتقدان حساباته وأوراق طلبه. اعتقد نابيير أن المغاربة يعرفون التجار جيدا، وأنهم أجروا معهم الكثير من المعاملات، ومن المرجح حسب رأيه أن تحكيمهم سيكون لصالح الحكومة المغربية.
الهوامش:
1 ـ الإخوة ريدمان كانوا يملكون محلا بالجديدة يستعملونه كمستودع للسلع قبل تصديرها، فصودر منهم المحل من طرف المخزن فتدخلت القنصلية البريطانية بسبب ذلك، أنظر بوشعراء مصطفى، الاستيطان والحماية بالمغرب، ج 3، ص 992.
2 ـ الجنرال تشارلز جيمس نابيير، ولد في 10 غشت 1782 و توفي في 29 غشت 1853، كان جنرالا في الإمبراطورية البريطانية والقائد العام للقوات المسلحة الجيش البريطاني في الهند، كان له دور بارز في قهر السند في ما يعرف الآن بباكستان، انضم إلى فوج المشاة الثالث و الثلاثين التابع للجيش البريطاني في 1794، قاد فوج من المشاة خلال الحرب في شبه الجزيرة الإيبيرية ضد نابليون بونابرت حيث أصيب إصابة خطيرة ولكنه أنقذ على قيد الحياة، ثم قبض عليه كأسير حرب من طرف الجيش الفرنسي، وقد تم منحه الميدالية الذهبية في الجيش بعد أن عاد إلى بريطانيا، في عام 1842، وهو في سن الستين، تم تعيينه على قيادة الجيش الهندي في بومباي و هذا ما قاده إلى إقليم السند، لغرض قمع تمرد مشايخ المسلمين الذين بقوا معادين للإمبراطورية البريطانية بعد الحرب الأنجلو أفغانية الأولى و انتهت الحملة بإخضاع السند و ضمها إلى الإمبراطورية. عين نابيير محافظا لمقاطعة بومباي. ولكنه بسبب صراع مع إدارة شركة الهند الشرقية البريطانية، تم عزله من منصبه وعاد إلى بريطانيا إلى أن تم إرساله مرة أخرى إلى الهند خلال ربيع عام 1849، بالإضافة إلى الهند قام بعدة حملات في مناطق أخرى ضمن المهام العسكرية البريطانية.
3 ـ وضعت لفظة الموريين هنا بدل المغاربة أو أية لفظة أخرى كمقابل لكلمة moors.
4 ـ عاش الأميرال جيمس دونداس ما بين 4 دجنبر 1785 و 3 أكتوبر 1862، كان ضابطا في البحرية الملكية، وشارك في الحروب النابليونية، ثم ترقى إلى رتبة قائد، كما شغل منصب عضو في البرلمان كنائب يميني لمقاطعة غرينتش، وأصبح اللورد الأول للبحرية الملكية خلال ولاية الوزير الأول راسل في يوليو 1847، تم تعيينه قائدا عاما للقوات المسلحة في منطقة البحر الأبيض المتوسط في عام 1852، وأدى كل العمليات البحرية في البحر الأسود بما في ذلك قصف سيفاستوبول في أكتوبر 1854 خلال حرب القرم.
5 ـ فرانسيس بارينغ سياسي بريطاني عضو في البرلمان عن بورتسموث مند عام 1826، و شغل مناصب وزارية عدة مرات، و رفض بعض الحقائب في فترات أخرى (المالية في حكومة راسل)، تولى منصب اللورد الأول للأميرالية مند يناير 1849، كان من المعارضين لحرب القرم.
6 ـ جزيرة ماديرا تقع في المحيط الأطلسي قبالة الساحل المغربي أبعد من جزر الكناري، اكتشفها البرتغاليون سنة 1419 واحتلوها، وتستمد اسمها من الخشب لوفرته فيها، كما تسمى أيضا جزيرة الزهور نظرا لمناخها المعتدل طوال السنة.
7 ـ ولي عهد الدنمارك في أوائل القرن التاسع عشر.
حملة نابيير وقراصنة الريف:
بعد حل المشكلة الأساسية، أي التنافس التجاري، رأى السيد نابيير أنه، رغم أن عودته إلى البورتسموث Portsmouth أصبحت وشيكة، فإن بإمكانه التركيز على المشكلة الثانية، أي قرصنة الريفيين، و قد كانت مشكلة معقدة، حيث أن قراصنة الريف كثيرون، و مسلحون تسليحا جيدا، ويتميزون بالدهاء. حتى مع خبرته الواسعة في الحروب الشاطئية و العمليات البحرية، فإنه رأى أن حظه في النجاح كان ضئيلا. و اتفق مع السيد باركر على أن العملية تتطلب قوة كبيرة من البواخر والعسكر، وتمنى لو يمده الحاكم الجديد السيد روبرت غاردنر بمجموعة إضافية من المحاربين. إضافة إلى ذلك فقد كان الطقس سيئا جدا ومتقلبا، ولا يساعده على القيام بعمليات ساحلية فعالة، حتى المراسلات الأخيرة من الأميرالية لم يجد فيها ما يشجعه و يرفع من معنوياته، "إنهم يترقبون أن أذهب إلى ماديرا، والسيد دونداس قال: إننا سنكون في إنجلترا في أبريل"، ولم يشيروا و لو بكلمة إلى السيد ريدمان أو إلى الريفيين، و لهذا فقد أولى الاهتمام لمسألة الحصول على تأييد من وزارة الخارجية، وإن السيد بالمرستون كان سعيدا بأن يؤكد له: "لقد اتخذت في هذه المسألة القرار الجيد و المناسب".
كل شيء يتوقف على الطقس، وما دام كان في انتظار رياح غربية خفيفة لتنفيذ عملياته على ساحل القراصنة، فقد ركب مساء السابع عشر من فبراير عام 1849 هو وخمسمائة جندي من الفوج 34 في صيدون، الفرقاطة ذات العجلة المجدفة المصممة خصيصا للحروب الساحلية، وجعل مشاة البحرية الملكية من البارجة سان فنسنت saint venecent في الطليعة، وجهز تجهيزا جيدا البخاريات سترومبولي Stromboli، غلادياتور gladiator، وبوليفيموسpolyphemus ، إضافة إلى البخاريتان الحديديتان رينارد renard وبلومبرplomber ، وبتجهيز لوائه في صيدونSidon ، قاد نابيير سربه على الساعة الثامنة من ذاك المساء و انطلق قاصدا رأس المذاري الثلاث. ذهب السيد نابيير يحدوه الأمل و ليست لديه أية توقعات، و لكنه على استعداد للتصرف في حالة ما إذا تبينت له أية فرصة لمهاجمة القراصنة، وصل السرب إلى رأس المذاري الثلاث على الساعة الثانية بعد زوال اليوم التالي، ولكنه لم يجد أي شيء ليهاجمه: "إن الطريقة الوحيدة التي أراها مناسبة لمعاقبة هؤلاء الناس، هي النزول إلى البر في مواسم جني محاصيل الذرة وإشعال النيران فيها والاستيلاء على الماشية إن تم العثور عليها (حتى أكواخهم البسيطة لا تستحق أن تقصف)، ثم إعلامهم بسبب فعل ذلك بهم ... عندما ذهبت إلى بلاد الريف توقعت أن أجد شيئا ملموسا لأهاجمه، أ يعقل أن يكونوا قد علموا أننا قادمون من جبل طارق فأبعدوا قواربهم إلى البر؟ أنا لا أعرف بالضبط، وأين توجد مدنهم، أو حتى قراهم الكبيرة؟ هذا ما لا أعرفه أيضا، ولكننا نفترض أنها توجد أبعد قليلا داخل اليابسة".
في الواقع، لقد نصحه أحدهم بالنزول إلى البر و إقامة معسكر هناك، و لكن نابيير كان خبيرا بعادات سكان الجبال من خلال تجربته في لبنان، ولم يكن ليتقبل أية مجازفة من هذا النوع، لقد كان واعيا جدا بمسؤوليته عن سلامة رجاله، و السفن التي تحت قيادته، وكذا سمعة بلاده، كانت للسيد نابيير الشجاعة الأخلاقية لمقاومة الإغراءات التي قد تسبب له المخاطر، رغم التجهيز الجيد للقوات البريطانية فإنها لم تقف على فرصة للسيطرة على الريفيين في هذه التضاريس الوعرة، كان من الأفضل أن لا يعرض نفسه لخطر الهزيمة، فالعواقب السياسية والأخلاقية لذلك ستكون لها نتائج محرجة للغاية.
خياري كل من نابيير وجون دراموند هاي:
كانت الأميرالية متفائلة: "أنت اتخذت القرار السليم في الامتناع عن القيام بأي عمل عدواني على الساحل الريفي"، كما وافق على ذلك السيد بالمرستون: "لقد تصرفت في هذه المسألة وفق قراراتك الجيدة المعتادة". ولكن في اليوم التالي انتقد مجلس الأميرالية قراره انتظار الريح الشرقية بدلا من استخدام السفن البخارية وسحب الأسطول في اتجاه المحيط الأطلسي، كما عبروا عن قلقهم ورغبتهم في عودة الأسطول إلى حال سبيله، كما اعترف دونداس: "ومن المطلوب جدا أنه ينبغي لنا إعادة جميع السفن قبل 31 مارس وإلا فإننا سوف نكون مزعجين كثيرا بقراراتنا المكلفة، وكذلك سيكون علينا الاقتصار على أربعين ألفا من الرجال ابتداء من ذلك اليوم". وبعد تقييم الاحتمالات، أعاد نابيير السرب رغم أن استعماله له وافق مقتضيات مفاوضات ريدمان، كانت الأميرالية يائسة من التمكن من إعادة البوارج قبل نهاية مارس وإرسال السفن الصغيرة لتعويضها مؤقتا في المحطات الخارجية. قبيل مغادرته ناقش نابيير العمليات المستقبلية مع السيد جون دراموند هاي، مع التوصية على أن تكثر بوليفيموس من زياراتها التفقدية للساحل الريفي ويمكن استبدالها بأية باخرة حديدية قوية أخرى.
كان لا يزال ينتظر رياحا شرقية ليغادر جبل طارق عندما أرسل حاكم مليلية برقية في وقت متأخر يوم 26 فبراير جاء فيها أن قبائل الريف قبلت أن تدفع تعويضا عن سفينة "الأخوات الثلاث". مرة أخرى تبين أن حضور قوة كبيرة سرع العملية الدبلوماسية، نابيير لا يثق كثيرا في مثل هذه العروض، لكن بدا واضحا أن الريفيين جد قلقين، ولهذا قرر مناقشة المسألة مع السيد هاي في طنجة. لقد عرض الريفيون دفع تعويض قدره عشرون ألف دولار أمريكي عن طريق حاكم مليلية، إذا وافق السلطان، ولهذا طلب نابيير من جون دراموند هاي الحصول على موافقة السلطان، لكنه رفض بدعوى أنه ليست له صلاحية ذلك، كما أضاف أن اشتراطهم موافقة السلطان لم تكن سوى مسألة يهدفون منها إلى ربح الوقت، كان لنابيير رأي آخر لكنه اضطر لمغادرة البحر المتوسط تاركا مسألة الريف لجون دراموند هاي.
لم يكن هذا ما يريد هاي سماعه، إنه كان يريد بقاء أسطول نابيير في جبل طارق ليوفر له النفوذ والهيمنة على السلطة المغربية، وفجأة أشاع معلومات جديدة عن القراصنة مفادها أن محافظ المنطقة أخبره بتفاصيل عن أسطول القوارب المحلية، وعن مكان إخفاء الريفيين لآلياتهم، هذه المرة كان دور نابيير للاختبار، فقد خشي أن يكون هذا التواصل قد صمم لاستدراجه إلى فخ، لا يمكنه البقاء دون التفكير في الأمر بذكاء وواقعية، كان رد جون دراموند هاي هو الاحتجاج بالاشتباك الذي وقع بين باخرة اسبانية وبعض القوارب الريفية قرب الجزر الجعفرية، حيث قتل إحدى عشر من القراصنة الريفيين، وأضاف أن الريفيين كانوا دائما يبدون الرغبة في حفظ السلام، ولكنهم لم يوفوا أبدا بوعودهم، بويفار هم المسؤولون عن هذه الأعمال، وهم يملكون ما بين خمسة عشر إلى عشرين قاربا في وادي كرت (رأس بركات)(1)، والساحل كله يملك ما بين ثمانين و مائة قارب، أنهى هاي كلامه بإيجاز و عن طريق إبداء هذه الملاحظة: "لقد قلت المحاصيل هذه السنة بسبب قلة الماء" (2).
أكد نابيير في تقريره الرسمي أنه كانت له الثقة أكثر من جون دراموند هاي بأن الريفيين يريدون دفع التعويض حقا، وكان يقصد أن القنصل، يهدف إلى التحكم في المفاوضات وتحسين العمل الدبلوماسي أكثر من العمل من أجل الدفع بالتجارة البريطانية، النقطة التي اشتغل عليها السيد روبرت ويلسون(3) خلال الشهر السابق. إذا كان السيد جون دراموند هاي يثق في سلطان المغرب، فإن نابيير لا يثق فيه، كان يعلم أن الحاكم والقنصل المغربي في جبل طارق متفقين على صفقة شراء كمية كبيرة من بارود البنادق مؤخرا، و"ربما يريدون أن يزجوا بي في فخ"، لقد استندت وجهة نظره على مصدر استخباراتي جديد، مهرب من جبل طارق كان معتقلا لدى القراصنة. أنهى نابيير علاقات العمل المرتبطة بهذه القضية التي تزداد توترا، بإعلانه لجون دراموند هاي أنه لن يقدم أية إشارة حول أية خيارات مستقبلية بشأن مسألة الريف، قائلا له: "كما كنت أنت ترفض التدخل". في اليوم التالي أي 16 مارس 1849 غادر نابيير جبل طارق متوجا إلى بريطانيا، لأن "السيد هاي لا يرى أنه من المناسب فتح اتصال مع السلطان، ولذلك فبقائي أكثر لن يكون مجديا، ولن أستمر أكثر في لعب دور سفير"، ولكن لم يكن هذا تهديد بالتجميد، فنابيير سبق أن وقف على مشكل دبلوماسي أكثر أهمية، الأزمة السورية في عام 1840 بما يرضي صديقه بالمرستون، لقد فهم نابيير الربط بين القوة والإكراه والدبلوماسية بالنسبة لأي كان، وأنه مع المزيد من الوقت والطقس المناسب سيستطيع إحداث تغيير في هذه القضية، بالنسبة للأحوال آنذاك فقد كانت هناك ضغوط اقتصادية، وكانت الظروف المناخية سيئة، وقد أقنع تقرير نابيير السيد بالمرستون أنه "إذا كانت المفاوضات ستفشل المناورات فسيكون من الأحسن تأجيلها إلى حين تمكننا من القيام بكل ما هو مفيد وضروري"، في اليوم نفسه حولت الأميرالية تلك الأفكار إلى أوامر: "أنا أطلعك على أن سادة بلدي يوافقون على الخطوات التي قررت، لكن هذا حتى تمر بضعة أشهر قبل أن يتم اتخاذ أية إجراءات انتقامية، إنهم يريدونك ألا تتأخر عودتك إلى إنجلترا، وإلى أن تكون هناك ضرورة لإيقاف فوري للمفاوضات".
بعد التفكير، دعم بالمرستون قرار جون دراموند هاي بعدم السعي إلى قبول الحكومة وتأييدها عرض الريفيين دفع التعويضات، كان يرى هناك خيارين، إما تحميل السلطان المسؤولية وإلزامه بدفع التعويضات، أو معاقبة الريفيين دون الالتفات إلى السلطان، وفي ظل الظروف الراهنة فإن الخيار الأول لا يبدو أنه المناسب.
الهوامش:
1 ـ هكذا جاءت في النص الأصلي وربما يقصد رأس هرك.
2 ـ إما كان يقصد بهذا الكلام أن الريفيين لن يستطيعوا الصمود والمواجهة في حالة مهاجمتهم، أو أن الجفاف سيحفز الريفيين على المزيد من الأعمال القرصنية، وفي كلتا الحالتين فإن قصده هو أنه ينبغي للقوات البريطانية البقاء أكثر بالقرب من المغرب (المترجم).
3 ـ روبرت توماس ويلسون سياسي بريطاني عاش ما بين 1777 و1842، اشتغل بالكثير من البلدان المنضوية تحت نفوذ الإمبراطورية البريطانية، كما دخل البرلمان كعضو لبرالي عن مقاطعة سوثورك من 1818 إلى 1831، وشغل منصب حاكم جبل طارق من 1842 حتى وفاته سنة 1849.
نهاية بعثة نابيير:
أعطى نابيير الإشارة في تاسع أبريل بعد وصوله إلى سبيتهيد spithead، أن سربه كان قد تفكك، متطلبات الاقتصاد وما يمليه المنطق السليم أغلقا فصلا من تاريخ القرصنة الريفية، الفرصة الوحيدة التي كانت فيها للقوات البحرية الملكية البريطانية في المنطقة قوة قادرة على معاقبة القراصنة، حرموا خلالها من الحصول على فرصة للتصرف، لقد أصبحت بريطانيا تفضل إيجاد حل دبلوماسي أو تجاري لمشكل القرصنة، وكانت نتائج ومخاطر اللجوء إلى هذه البدائل وخيمة جدا. مبررات هذه السياسة الجبانة ا تكمن في الساحل الريفي وليس حتى في الحكومة المغربية، كما أكد ذلك نابيير وباركر، إن معاقبة الريفيين تتطلب قوة برمائية كبيرة، على الأقل ألف جندي وستة أو ثمانية من السفن البخارية الحربية الكبيرة، كما أن العملية كانت تتطلب وقتا، وفي الظروف الراهنة فإن بريطانيا ببساطة لم يكن لديها الوقت أو السفن للقيام بالمهمة. المشهد الدولي أصبح معقدا وغير مستقر، لم يكن أحد يعلم كيف تصبح فرنسا في مرحلة ما بعد أورليان، أو إيطاليا ما بعد الثورة، في حين أن الضغط الروسي المتزايد على تركيا وجه التركيز إلى الشرق أكثر من أي وقت مضى، هذه العوامل أوضحت لماذا أرسل نابيير لمعالجة قضية أخرى في محطة السيد باركر، فبعيدا عن البحر الأبيض المتوسط واجهت بريطانيا العديد من المشاكل، هدد صراع شليسفيغ هولشتاين سنة 1848-1850 مصلحة حيوية أخرى لبريطانيا ألا و هي الحصول على البلطيق، بالمرستون هدد بإرسال سرب نابيير لرفع الحصار الدنماركي على الساحل الألماني. إضافة إلى ذلك فإن الوضع الاقتصادي المتردي لبريطانيا أجبر الوزراء على خفض عدد رجال القوات البحرية إلى ثلاثة آلاف رجل وتعطيل سفن سرب نابيير بتخصيصها لمباشرة مثل هذه المشاكل، وعلى هذا النطاق الصغير. وكانت القرصنة تعتبر حقا أولوية، خاصة وأن المغرب قد سبق أن فسح الطريق في قضية التجارة، وتراجع التهديد الفرنسي مع سقوط أسرة أورليان.
كانت سياسة بالمرستون على المدى الطويل ترمي إلى تعزيز سلطة الحكومة المغربية، وجعل السلطان يفرض النظام في الريف، والحفاظ على استقلالية بلده، ثم أخيرا الدخول الرسمي لبريطانيا معه في علاقات في المجال التجاري والمالي.
حين كانت الإمبراطورية(1) عنصرا مهما في الاقتصاد البريطاني خلال القرن التاسع عشر، لم تستطع هذه الأخيرة الهيمنة أبدا، فقد استأثرت الإمبراطورية بما يقارب 25 في المائة من احتياجات السوق البريطانية في مختلف القطاعات. لقد كان القطاع الأكثر دينامكية في الاقتصاد البريطاني هو تصدير الأموال، بحلول عام 1890 تم تصدير ما يقارب مائة مليون جنيه إسترليني، أكثر هذا المبلغ تم استثماره خارج الإمبراطورية، وقد ارتبط هذا القطاع ارتباطا وثيقا بالخدمات المالية، ونظام الدعم التجاري لمدينة لندن. لقد أدى تفوق مدينة لندن في مجال التمويل العالمي إلى هيمنة بريطانيا في مجال الملاحة والشحن وما يرتبط بهما من خدمات، وقد انضم المغرب إلى هذا النظام في خمسينيات القرن التاسع عشر، لقد عرفنا الدليل على قيمة المغرب التجارية من خلال عرض قدم له بأن يخصص له فضاء في المعرض الكبير لسنة 1851، وقد رفض السلطان العرض آنذاك بأدب ولباقة، ومع ذلك، ففي غضون ثلاث سنوات، ومع التغييرات التي أحدثها المغرب في مجال الرسوم الجمركية، ومع محاولات السلطان التغلب على التعويضات المفروضة من طرف فرنسا سنة 1844، وكذا طموحات وزراءه ووكلائه إلى الثراء الشخصي، كل هذا أدى إلى المزيد من الشكاوي الواردة من التجار البريطانيين في جبل طارق، إن الواردات البريطانية انخفضت إلى النصف بسبب التغييرات الجمركية المغربية، من 300,000 جنيه عام 1848 إلى 145,000 عام 1850. ورغم الصلح المنعقد سنة 1850 فقد ظل المغرب على خرق المعاهدة بين الطرفين، في غشت 1853 رفض وزير الخارجية السيد جون راسل(2) قبول السفارة المغربية إلى أن يتم حل المشكلة، كان تهديد راسل الضمني هو الانسحاب وترك المغرب عرضة للأطماع الاستعمارية الفرنسية والإسبانية.
موازاة مع الخلفية الداعمة ـ قوة بحرية هائلة كامنة في الأفق القريب ـ وضع جون دراموند هاي مشروعا لمعاهدة تجارية، في عام 1854، تم إدخال تعديلات جديدة على الرسوم الجمركية بما يرضي بريطانيا وفي المقابل حصل المغرب على اطمئنان إلى حد بعيد لحسن نوايا بريطانيا.
عندما اندلعت حرب القرم سنة 1854، منع السلطان اقتراب السفن الحربية الروسية، بتحريض القراصنة عليها، وإعلان مكافئات لمن يظفر بها في الموانئ المغربية، ووافق على توريد ألف ثور إضافية برسوم تصدير منخفضة لتموين القوات البريطانية التي تمر من جبل طارق، ولم يجدد هذا الامتياز للجزائر الفرنسية. كان المغرب أيضا حلقة وصل مهمة في التجارة البريطانية مع إفريقيا جنوب الصحراء، رغم أن ذلك الدور كان في تراجع. على أي، فقد أعاق التجارة البريطانية علو قيمة الرسوم المفروضة محليا على البضائع الأساسية التي كانت تخرج من المغرب كالشمع مثلا، كما تم التغلب على العقبات بفضل الاعتماد على الوسطاء اليهود منذ أن عرفت وضعية اليهود المغاربة تحسنا مهما. وبعد تأخيرات طويلة، فإن اتفاقية جون دراموند هاي، وبعد تعديلات إيجابية، وقعت في 9 دجنبر 1856. تخلى المغرب عن الاحتكار والحواجز على الواردات، وشرع نسبة ثابتة وكحد أقصى على الصادرات هي 10 في المائة، هذه الشروط وفرت الكثير من الاستقرار والأمن للتجار والرأسماليين البريطانيين، بهذه الطريقة انضم المغرب بشكل غير رسمي إلى الإمبراطورية التجارية البريطانية، وبعد أشهر فقط صادر قراصنة الريف آخر سفينة بريطانية تم استهدافها.
الهوامش:
1 ـ يقصد هنا الإمبراطورية التجارية و ليس السياسية أي كل المناطق التي احتكرت بريطانيا الاتجار معها عن طريق المعاهدات أو غيرها.
2 ـ اللورد جون راسل سياسي بريطاني ولد سنة 1792، شغل منصب رئيس الوزراء مرتين، و يقال أن إنجازاته كانت محدودة وأنه تميز بضعف القيادة، و لكنه ساهم في العديد من الإصلاحات التشريعية الإيجابية، كما شغل منصب رئيس مجلس العموم، و فيما بعد وزير الداخلية ووزير الخارجية.
قرار 1856:
رغم أن الريفيون تمكنوا من تجنب العقاب في 1849، فإن آفاق التطور الاقتصادي على المدى الطويل ونمو الرقابة البريطانية غير الرسمية كانت تعني أن أيامهم باتت معدودة، ومع ذلك لم يختاروا التراجع بهدوء عن أعمالهم. في 1850 عاد بالمرستون إلى التعبئة، وشجع الأميرالية على إرسال حملة تأديبية، ولكن كانت هناك الكثير من القضايا الضاغطة ولم تكن لدينا سفن احتياطية. في 5 أكتوبر 1851 اعترض الريفيون السفينة violet ذات الصاريتين قرب نقطة بطوية على خليج إعزانن، لقد نهبوا الحمولة المتكونة من الذرة وقتلوا بعض أفراد الطاقم، وافتدينا الآخرون. أرسل الجنرال غاردنر سفينة صاحبة الجلالة جانوس Janus، وهي سفينة مجدافية صغيرة، تحت قيادة الملازم ريتشارد باول، خرج باول من جبل طارق يوم 17 أكتوبر 1849، ووصل أمام ساحل الريف في اليوم التالي. خلال الساعة الثانية بعد زوال ذالك اليوم، وجد السفينة الإسبانية joven emelia قد استحوذوا عليها وجردوها من كل شيء وجروها إلى خندق عميق على بعد أربعة أميال غرب رأس المذاري الثلاث، من المرجح أنها كالا ترامونتانا.
جدف باول مقتربا من الشاطئ وهو يطلق بعض الطلقات النارية الثقيلة لتشتيت السكان المحليين وتدمير بعض قواربهم، حيث بدا أن نيران مدافعه كانت فعالة بشكل جيد، وعاد في اليوم التالي لإتمام مهمته، في يوم 20 أكتوبر اكتشف باول هيكل السفينة violet المتفحم على الشاطئ على بعد ثلاثة أميال جهة الغرب، وهنا بادره الريفيون بإطلاق النار. رسا باول للمرة الثانية، رغبة منه في تدمير قواربهم، فقط لإثبات تفوقه عنهم بشكل كبير، لكن الفرقة التي نزلت أرغمت على العودة إلى القارب بثمانية جرحى من بينهم باول نفسه، ورغم تمكنه من تدمير مركبين للقراصنة إلا أنه رأى بنفسه الكثير منها مخبأة في الرمال أو موضوعة في الكهوف.
رغم قلق السيد بالمرستون ورغبته في إرسال حملة تأديب واسعة، إلا أن السيد فرانسيس بارينغ لم يكن يضن أن باستطاعتهم فعل أي شيء، لقد كانت البحرية الملكية مجزأة أكثر من أي وقت مضى إلى مجموعات صغيرة جدا، وكانت هناك قضايا أكثر إلحاحا من الانتقام من العمليات القرصنية، خاصة بعد أن قصف الفرنسيين طنجة، مما يهدد باختلال توازن القوى في المضيق، فعندما أتى الأميرال باركر ببخارية قوية، فعل ذلك لدعم المصالح البريطانية مع محاولات فرنسا التوسع في الأقاليم المغربية.
تمكن القبطان هنري جيفارد (1) Henry Giffard بقيادته باخرة البحرية الملكية dragon من استرجاع أربعة ناجين من طاقم السفينة violet بينما كان باول يتعافى من جروحه، بعد ذلك عادت dragon و Janus لمسح ساحل القراصنة، وكما كان متوقعا فقد أطلقت عليهما النيران.
في عام 1852، تأمل الأميرال باركر مشكلة الريف حين غادر المحطة للمرة الأخيرة: "أفترض أنه سيكون من الصعب هدم القرى، أو إحراق المحاصيل، دون الحاجة إلى وقت أطول من مدة حملة ليوم واحد على الساحل، كل محاولة قمنا بها ينبغي أن تكون بطريقة فعالة، وتنفيذها بكيفية أفضل قليلا قد يأتي بنتائج أفضل من شن هجوم على نطاق واسع، حيث أننا قد نتعرض لخسائر كبيرة في الأرواح، ولكنني أضن حقا أنهم يستحقون عقابا بطريقة ما"، وهذا من شأنه أن يمثل عملية كبرى بالنسبة لأي أسطول. في الحقيقة، وكما اعترف مؤرخ للبحرية الملكية متأخر عن العصر الفيكتوري: "لا يبدو أنه تم القيام بأية أعمال انتقامية هامة ضد المخالفين"، وبدلا من ذلك فضل وزير الخارجية اللورد ملمسبوري Lord Malmesbury(2) إجبار المغاربة على حل المشكلة، متبعا في ذلك الخط الذي وضعه صديقه بالمرستون، والمتمثل في التهديد بالتعامل مع المنطقة على اعتبار أنها مستقلة.
لم تستعمل بريطانيا قوة كبرى ضد الريفيين، لأن ذلك كان من شأنه أن يفتح الباب أمام قوى أخرى، كما لم يكن البريطانيون وحدهم المعنيون بهذه المشكلة. ففي سنة 1852، نهب الريفيون السفينة التجارية florat حين اضطرت للتقرب من الشاطئ، ولم تكن البحرية الألمانية قادرة على الرد آنذاك، ولاحقا في 7 غشت 1856، ظهر الأمير أدالبرت(3) بالباخرة الكبيرة ذات العجلة المجدفة Dantzig قرب رأس المذاري الثلاث وهو يقود حملة تأديبية تتكون من ستين رجلا، وفي اشتباك لمدة أربع ساعات ونصف تعلم درسا مؤلما، أحد أصدقاءه البريطانيين أدرك ذلك جيدا، كان أدالبرت واحدا من سبعة عشر جريحا، كما قتل سبعة آخرين. السفن الحربية لا تستطيع فرض الانضباط والاحترام على السكان المحليين، لأنها تفتقر إلى القوة البشرية والمعدات اللازمتين للتحكم في الشاطئ. قبل محاولة الأمير المتهورة، اتخذت الحكومة المغربية إجراءات حاسمة، فقد أرسل السلطان جيشا من ثمانية آلاف جندي بقيادة عبد الملك، الحاكم المحلي الصارم، إلى أراضي بويفار فأحرق قواربهم وقراهم، وفرض غرامات، وصادر الماشية، وأخذ رهائن لضمان حسن سيرتهم في المستقبل. كانت العملية، كدليل على سلطة الحكومة على المنطقة، تعني أنه على السلطان تحمل مسؤولية القرصنة الريفية. فطالبه الفرنسيون بسبعة آلاف دولار كتعويض على سفينتهم jeune dieppoise التي تعرضت للنهب هناك.
في أبريل 1856، وفي مبادرة محلية، التقى القنصل جون دراموند هاي بشيوخ الريف على حدود مليلية، وأجرى معهم اجتماعا باللغة العربية، اللغة الثانية لكلا الطرفين (الريفيون يتكلمون إحدى اللهجات الأمازيغية)، رغم تبادل المصافحات، فإن جون دراموند هاي لم يحلم بأية أوهام، وكان ذلك حكمة، فقد استولوا على سفينة بريطانية أخرى hymen في 14 مايو من نفس السنة، وهذا ما جعل هاي يطالب بالتحرك، وعاد الجيش المغربي لإنزال المزيد من العقاب ببويفار، كما قدم السلطان التعويض عن السفينة hymen. وكانت تلك هي نهاية القرصنة الريفية الكبرى إلى وقت متأخر من القرن، حيث انهارت السلطة المركزية مرة أخرى وعاد الريفيون إلى تجارتهم القديمة (4). وحسب إقرار لمؤرخ بريطاني للإمبراطورية الشريفة من أواخر القرن التاسع عشر، فالريفيون كانوا سعداء باعتراض أي سفينة ضعيفة اضطرت للاقتراب بما فيه الكفاية، طالما أن الحكومات الأجنبية وكذا المغرب، يفضلون دفع الفديات ويقبلون بالتسويات النقدية فإنهم سيستمرون في عملهم. كل الذرائع في العالم حول الحفاظ على توازن القوى، وكذا تجنب تورط الأوربيين في الحرب، لن تفسرـ في نظر المغاربةـ سياسة الاستلقاء التي اتبعت مع هذا الرجل المريض في الغرب.
خلاصة:
في الوقت الذي كانت فيه القرصنة الريفية مصدر إزعاج، كانت أية محاولة جادة من قبل البريطانيين لقمع القراصنة تهدد بجعل الفرنسيين يقومون بتحركات أكبر، التحركات التي كان من شأنها أن تعرض للخطر المصالح الإستراتيجية البريطانية في مضيق جبل طارق، وهيمنتها التجارية والسياسية التي كان من المنتظر أن تؤكدها المعاهدة المغربية البريطانية لعام 1856. الإمبراطورية البريطانية لا يمكن أن تحقق التحسن والهيمنة التجارية دون وجود حكومة مغربية مركزية قوية نسبيا تفرض النظام على المقاطعات، وتضمن إخراج معاهدة "الباب المفتوح" التجارية إلى حيز التنفيذ. قبل كل شيء، كانت تكلفة التعامل مع القراصنة بطريقة مباشرة جد باهظة، لفرض النظام على مجموعة، خطيرة ومسلحة جيدا، وتعاني من الفقر، ويزداد عنفها ضد المسيحيين نتيجة عقود من الحروب الاستعمارية ضد الإسبان، وليس من النادر أن تم تفقيرها وتجويعها... كان ذلك يتطلب حملة عسكرية كبيرة، مدعومة بسرب كبير من القوات البحرية. كانت لا بد أن تكون هناك تكلفة بشرية كبيرة، ومشاكل دبلوماسية خطيرة، ومن شأن مثل هذه العملية في الحقيقة، أن تكون غزوا واحتلالا، وإن كانت لها بعض المشروعية على المدى القصير. كان يمكن لبريطانيا أن تحظى ببعض التأييد من فرنسا لاحتلال ساحل الريف، مع تقديم وعد بالانسحاب لاحقا، وبعد كل شيء فقد كان ذلك بالضبط ما وعد به الفرنسيون بريطانيا حين اجتاحوا الجزائر سنة 1830. كان الرد المناسب هو إقامة دوريات منتظمة، وكان يمكن أن تكون غير مكلفة. لكن بدلا من ذلك كان رد بريطانيا على الهجمات هو إرسال سفن حربية لاستعادة البواخر المحتجزة ومعاقبة القراصنة على حوادث معينة بالذات. كان يتناسب مع المصالح البريطانية دعم وتشجيع الحكومة المغربية على التعامل مع القضية عن طريق استعادة السيطرة على سكان المناطق المضطربة، ذلك أن بعض تلك الهجمات القرصنية قد تكون تتم بتواطؤ مع شبكة تهريب تنشط بين إسبانيا والجزائر وجبل طارق والمغرب، وقد تقوم بأي تصرف غير لائق. ومن شأن وجود نظام جمركي مغربي فعال، مع تعميم رسوم منخفضة، ووجود شرطة كافية، أن تكون في نهاية المطاف أفضل حل لقرصنة الريف.
الهوامش:
1 ـ هنري جيفارد هو ابن الأميرال جون جيفارد، دخل القوات البحرية كضابط صف عام 1824، في 1831 ترقى إلى رتبة ملازم أول، شارك في عدة حملات وحروب بريطانية، شغل منصب قبطان في الكثير من سفن البحرية الملكية.
2 ـ اللورد ملمسبوري سياسي بريطاني من أسرة نبيلة شارك الكثير من أفرادها في الحكومة، شغل عدة مناصب وزارية، وعضوا في البرلمان، وفي الأميرالية، وفي الأخير قضى بقية حياه أسقفا.
3 ـ الأمير أدالبرت هو ابن عم الإمبراطور وليام حاكم بروسيا في أواسط القرن 19، حصل على رتبة عسكرية عالية، وتولى قيادة القوات البحرية الألمانية، هجم على الريف انتقاما لطاقم سفينة بلده florat التي اعترض طريقها الريفيون في إعزانن سنة 1852 وصادروا حمولتها وألحقوا بها خسائر فادحة حسب الصحافة الأوربية، وقد قتل أحد أفراد طاقمها وأصيب قبطانها، ولكن حملته على الريف كانت فاشلة، حيث عاد بعدد من القتلى والجرحى كما أصيب هو نفسه.
4 ـ يقصد هنا ظهور القرصنة من جديد في الريف في أواخر القرن التاسع عشر ولكن هذه المرة فقد ارتبطت بقبيلة بقوية وليس بويفار.
انتهى الفصل
تنويه الفصل اعلاه هو من وجهة النظر البريطانية لذلك بطبيعة الحال فهو منحاز لجانبهم اضافة الى انهم ايضا كانوا يمارسون القرصنة بسرقة المستعمرات مثل ما يصفون اعمال الهجوم على سفنهم بالقرصنة
كل حقوق الترجمة للمترجم فريد المساوي