في الثاني من رمضان من سنة 702 تواجهت جيوش المغول بقيادة مع جيوش الدولة المملوكية في مصر والشام بقيادة الملك الناصر والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير – والجاشنكير هو الذي يتصدى لذوق المأكول والمشروب قبل السلطان خوفاً من أن يدس عليه فيه سُّم ونحوه، ووقعت المعركة في مرج الصُفر شرقي شقحب، وهي قرية في أول منطقة حوران على بعد 40 كيلومتراً جنوبي دمشق.
وقبل أن نتحدث عن المعركة ينبغي توضيح بعض الحقائق التاريخية.
أولاً: تتحدث كتب التاريخ الإسلامي عن التتار، ويسمونهم كذلك التتر أو الططر، عند الحديث عن الاجتياح المغولي للمشرق الإسلامي ثم للشرق العربي، وهو في الواقع غزو مغولي، والمغول قبائل رُحَّل تقطن منغوليا وكانت في العادة تدين بالولاء لإمبراطور الصين، ثم أتى جنكيزخان فوحدها، وسيطر على أغلب المناطق الصينية، ثم قام حفيده هولاكو في فترة حكمه التي دامت 11 عاماً، بالاستيلاء على الشرق الإسلامي، واجتاح بغداد ودمرها ودخل دمشق حتى وصل إلى حدود مصر. أما التتار فهم أحد شعوب أو قبائل وسط آسيا، ومنطقتهم الأصلية شمالي شرق منغوليا، وهم يتكلمون لغة تركية، ولم يكونوا ضمن قبائل المغول، وإن انضموا لهم أو خضعوا لسلطانهم في بعض الحقب.
وقد أطلق المؤرخون المسلمون وبعض مؤرخي الغرب اسم التتار على المغول لمعرفتهم أكثر بالتتار، فقد كان منهم مماليك في المنطقة، وجرى استعماله ودرج، وإن كان بعض المؤرخين قد استعمل الاسم الصحيح: المغول أو المُغل.
ثانياً: كانت المعركة بين جيشين مسلمين، على الأقل من الناحية الإسمية، ونبين ذلك فيما يلي:
مات هولاكو في سنة 663 وخلّف ثلاثة أولاد هم: أَبَغا وتراقاي وتكودر، وكانت والدة هولاكو نسطورية وزوجته طُقُز خاتون مسيحية، تولى الحكم بعد هولاكو ابنه أَبَغا ودام حكمه 17 عاماً، ومات في سنة 681، ووتولى الملك بعده أخوه تكودر الذي اعتنق الإسلام وتسمى بأحمد، وتوجه للتصالح مع الدولة المملوكية، وبقي تكودر خاناً بعد أبغا لمدة تقارب السنتين قبل أن يثور ضده أرغون ابن أخيه أبغا ويقتله ويتولى الحكم وينقض كل إصلاحاته الإسلامية.
وكان أرغون بوذياً شديد التمسك ببوذيته، وعين يهودياً معادياً للمسلمين في منصب الوزير هو سعد الدولة، ومات أرغون سنة 690، ومرت سنوات أربع مضطربة تولى الحكم فيها ابنه كيخاتو ثم ابن أخيه بيدو، ثم ابنه غازان - وتسميه بعض المصادر قازان - وكانوا جميعاً على الديانة البوذية.
وكان نائب غازان واسمه نوروز مسلماً خيِّراً صحيح الإسلام، يحفظ كثيرا من القرآن والرقائق والأذكار، فأقنع غازان أن يتحول إلى الإسلام، فأعلن إسلامه بعد قليل من توليه السلطة في سنة 694، وتسمى بمحمود وتلقب بمعز الدين، وكانت سنه 24 عاماً، وكان يوم إسلامه يوما عظيما، اغتسل وجمع مجلسا، وشهد شهادة الحق في الملأ العام، ولقنه نوروز شيئا من القرآن وعلمه الصلاة وصام رمضان تلك السنة، وصار في بلاطه عدد كبير من العلماء والفقهاء والأدباء والمؤرخين المسلمين.
ولكن إسلام غازان وإسلام أغلب المغول المنضوين تحت رايته لم يحدث تغييراً فورياً وجذرياً في سلوكيات كثير من المغول ولا في سياساتهم الخارجية أو استراتيجيتهم العسكرية، وتسبب ذلك في أن بقي كثير من المسلمين يعتبرونهم كفاراً أو ضلالاً، فقد بقي شرب الخمر وغيرها من الموبقات شائعاً دون إنكار بين المغول، واستمروا في محاولاتهم للسيطرة على المشرق العربي، وسعوا للتحالف مع الفرنج وراسلوا البابا في هذا الصدد، وتحالفوا مع الأرمن في آسيا الصغرى، ولما استولوا على دمشق أوكلوا أمرها لحليفهم الأرمني الذي أساء التعامل والمعاملة مع سكانها من المسلمين، وبقيت استراتيجية المغول العسكرية قائمة على ترويع الخصم وقصم ظهره دون شفقة أو رحمة، وإن بدا عنصر الاعتدال تجاه المسلمين يظهر فيها، وما جرى من جيوش المغول في دمشق يعدُّ أمراً خفيفاً إذا قورن بما فعلوه في بغداد من قبل.
وقد أتاح انتماؤهم للإسلام الفرصة لشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من العلماء أن يحاججوهم في كثير من تصرفاتهم، و كذلك استنكر المغول واستهجنوا بعض التصرفات من الدولة المملوكية وولاتها التي تتناقض مع الإسلام، وحاججوهم بالرجوع إلى الشريعة!
وأورد فيما يلي صورة عن المعركة مجموعة من الروايات التاريخية، مع إبقاء كلمة التتار:
تواترت الأخبار بنزول جيش التتار على الفرات بقصد دمشق في عساكر عظيمة تبلغ ثمانين ألفاً، وكتب قطلوشاه نائب غازان إلى الأمير عز الدين أيبك نائب الملك الناصر بدمشق يرَّغبه في طاعته، وأقبل الناس من حلب وحماة إلى دمشق جافلين من التتار، فاستعد أهل دمشق للفرار ولم يبق إلا خروجهم، فنودي بدمشق: من خرج منها حلَّ مالُه ودمه.
وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية دور كبير في رفع الروح المعنوية لدى أمراء وسكان دمشق، حيث حثهم على الصمود والبقاء في البلد في وجه الغزاة، وأرسل من قبل إلى الأمير أرجواش نائب قلعة دمشق يقول له: لو لم يبق فيها إلا حجر واحد فلا تسلمهم ذلك إن استطعت. ولما اقتربت المعركة أكد حتمية النصر وحلف الأَيمان بذلك فقالوا له: قل إن شاء الله! فقال: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً.
واجتمعت بعض الجيوش الإسلامية عند حماة، ولحق بهم عساكر طرابلس وحمص، وبلغ التتار ذلك فبعثوا طائفة كثيرة إلى القريتين - قرية كبيرة في بادية حمص - فأوقعوا بهم، فتوجه إليهم بعض قادة المسلمين في ألف وخمسمئة فارس، فطرقوهم بمنزلة عَرَض في حادي عشر شعبان على غفلة، وافترقوا عليهم أربع فرق، وقاتلوهم قتالاً شديداً من نصف النهار إلى العصر حتى كسروهم وأفنوهم - وكان التتار، فيما يقال، أربعة آلاف - واستنقذوا الأسرى من أيدي التتار، وهم نحو ستة آلاف أسير، ولم يُفقد من العسكر الإسلامي إلا ثمانية وخمسون قتيلاً، وكُتب إلى السلطان بذلك ودٌقَّت البشائر بدمشق.
ودخل الأمير بيبرس الجاشنكير بمن معه من جيوش مصر إلى دمشق في نصف شعبان، ولبث يستحث السلطان في القاهرة على الخروج، واجتمع أمراء مصر والشام بدمشق واختلف رأيهم في الخروج إلى لقاء العدو أو انتظار قدوم السلطان؛ ثم خشوا من مفاجأة العدو فنادوا بالرحيل؛ وركبوا في أول شهر رمضان من دمشق، فاضطربت دمشق بأهلها، وأخذوا في الرحيل منها على وجوههم، واشتروا الحمار بستمئة درهم والجمل بألف درهم، وترك كثير منهم حريمه وأولاده ونجا بنفسه إلى القلعة؛ فلم يأت الليل إلا وبوادر التتار في سائر نواحي المدينة، وسار العسكر مُـخِفَّاً، وبات الناس بدمشق في الجامع يضجون بالدعاء إلى الله تعالى؛ فلما أصبحوا رحل التتار عن دمشق بعد أن نزلوا بالغوطة.
وكان السلطان المملوكي الملك الناصر محمد قد خرج بعساكره وأمرائه من الديار المصرية إلى جهة البلاد الشامية في ثالث شعبان، وخرج بعده المستكفي بالله الخليفة العباسي في مصر، وبلغ الأمراء قدوم السلطان فتوجهوا إليه من مرج راهط فلقوه على عقبة الشحورا في ثاني رمضان، واتفق أن ساعة وصول التتار إلى الجيش في خمسين ألفاً مع قطلوشاه نائب غازان، وصل السلطان بباقي العساكر الإسلامية، فلبس العسكر بأجمعه السلاح، واتفقوا على قتال التتار بشقحب تحت جبل غباغب؛ وكان قطلوشاه قد وقف على أعلى النهر، فصفت العساكر الإسلامية، فوقف السلطان في القلب وبجانبه الخليفة، ومشى السلطان على التتار والخليفة بجانبه ومعهما القُرَّاء يتلون القرآن ويحثون على الجهاد ويشوقون إلى الجنة، وصار الخليفة يقول: يا مجاهدون؛ لا تنظروا لسلطانكم. قاتلوا عن دين نبيكم صلى الله عليه وسلم وعن حريمكم! والناس في بكاء شديد، ومنهم من سقط عن فرسه إلى الأرض، وتواصى الأميران بيبرس وسلار على الثبات في الجهاد، وكل ذلك والسلطان والخليفة يكران في العساكر يميناً وشمالاً، ثم عاد السلطان والخليفة إلى مواقفهما، ووقف خلفهما الغلمان والأحمال والعساكر صفاً واحداً، وقال لهم: من خرج من الأجناد عن المصاف فاقتلوه ولكم سلبه.
فلما تم الترتيب زحفت كراديس التتار كقطع الليل، وكان ذلك وقت الظهر من يوم السبت ثاني رمضان، وحمل قائد التتار قطلوشاه على ميمنة المسلمين فثبتت لهم الميمنة وقاتلوهم أشد قتال حتى قُتِلَ من أعيان الميمنة من أمراء المماليك الأمير حسام الدين لاجين، وأوليا بن قرمان، والأمير سنقر الكافوري، والأمير أيدمر الشمسي القشاش، والأمير آقوش الشمسي الحاجب، وحسام الدين علي بن باخل، ونحو الألف فارس، كل ذلك وهم في مقابلة العدو والقتال عمّال بينهم، فلما وقع ذلك أدركتهم الأمراء من القلب ومن الميسرة، وصاح سلار: هلك والله أهل الإسلام! وصرخ في بيبرس وفي المماليك البرجية فأتوه دفعة واحدة، فأخذهم وصدم بهم العدو، وقصد مقدم التتار قطلوشاه، وتقدم عن الميمنة حتى أخذت الميمنة راحة، وأبلى سلار في ذلك اليوم هو وبيبرس الجاشنكير بلاء حسناً، وسلموا نفوسهم إلى الموت. فلما رأى باقي الأمراء منهم ذلك ألقوا نفوسهم إلى الموت، واقتحموا القتال؛ وكانت لسلار وبيبرس في ذلك اليوم اليد البيضاء على المسلمين - رحمهما الله تعالى - واستمروا في القتال إلى أن كشفوا التتار عن المسلمين.
وكانت الميمنة لما قُتِلَ الأمراءُ منها انهزم من كان معهم، ومرت التتار خلفهم، فجفل الناس وظنوا أنها كسرة؛ وأقبل السواد الأعظم على الخزائن السلطانية فكسروها ونهبوا ما فيها من الأموال؛ وجفل النساء والأطفال، وكانوا قد خرجوا من دمشق عند خروج الأمراء منها، وكشف النساء عن وجوههن وأسبلن الشعور، وضج ذلك الجمع العظيم بالدعاء، وقد كادت العقول أن تطيش وتذهب عند مشاهدة الهزيمة، واستمر القتال بين التتار والمسلمين إلى أن وقف كل من الطائفتين عن القتال إذ حال الليل بين الفريقين.
ومال قطلوشاه بمن معه إلى جبل قريب منه، وصعد عليه وفي نفسه أنه انتصر، فلما صعد الجبل رأى السهل والوعر كله عساكر، والميسرة السلطانية ثابتة وأعلامها تخفق، فبُهِتَ قطلوشاه وتحير واستمر بموضعه حتى كمل معه جمعه، وأتاه من كان خلف المنهزمين من الميمنة السلطانية ومعهم عدة من المسلمين قد أسروهم، منهم: الأمير عز الدين أيدمر نقيب المماليك السلطانية، فأحضره قطلوشاه وسأله: من أين أنت؟ فقال: من أمراء مصر، وأخبره بقدوم السلطان؛ وكان قطلوشاه ليس له علم بقدوم السلطان بعساكر مصر إلا ذلك الوقت؛ فعند ذلك جمع قطلوشاه أصحابه وشاورهم فيما يفعل، وإذا بكوسات - صنوج من نحاس شبه الترس الصغير، يدق بأحدها على الآخر - السلطان والبوقات قد زحفت وأزعجت الأرض وأرجفت القلوب بحسها، فلم يثبت بولاي أحد قواد قطلوشاه وخرج من تجاه قطلوشاه في نحو العشرين ألفاً من التتار، ونزل من الجبل بعد المغرب ومر هارباً.
وبات السلطان وسائر عساكره على ظهور الخيل والطبول تضرب، وتَلاحَق بهم من كان انهزم شيئاً بعد شيء، وهم يقصدون ضرب الطبول السلطانية والكوسات؛ وأحاط عسكر السلطان بالجبل الذي بات عليه التتار، وصار بيبرس وسلار وقبجق والأمراء والأكابر في طول الليل دائرين على الأمراء والأجناد يوصونهم ويرتبونهم ويؤكدون عليهم في التيقظ، ووقف كل أمير في مصافه مع أصحابه، والحمل والأثقال قد وقف على بعد، وثبتوا على ذلك حتى ارتفعت الشمس.
وشرع قطلوشاه في ترتيب من معه، ونزلوا مشاة وفرساناً وقاتلوا العساكر، فبرزت المماليك السلطانية بمقدميها إلى قطلوشاه وجوبان، وعملوا في قتالهم عملاً عظيماً، فصاروا تارة يرمونهم بالسهام وتارة يواجهونهم بالرماح، واشتغل الأمراء أيضاً بقتال من في جهتهم، وصاروا يتناوبون في القتال أميراً بعد أمير، وألحت المماليك السلطانية في القتال وأظهروا في ذلك اليوم من الشجاعة والفروسية ما لا يوصف حتى إن بعضهم قتل تحته الثلاثة من الخيل.
واتفق أن بعض من كان أسره التتار هرب ونزل إلى السلطان، وعرَّفه أن التتار قد أجمعوا على النزول في السَحَر لمصادمة العساكر السلطانية، وأنهم في شدة من العطش، فاقتضى الرأي أن يفرج لهم عند نزولهم ويركب الجيش أقفيتهم، فلما باتوا على ذلك وأصبحوا، ركب التتار ونزلوا من الجبل فلم يتعرض لهم أحد وساروا إلى النهر فاقتحموه؛ فعند ذلك ركبهم بلاء الله من المسلمين وأيدهم الله تعالى بنصره حتى حصدوا رؤوس التتار عن أبدانهم ووضعوا فيهم السيف ومروا في أثرهم قتلاً وأسراً إلى وقت العصر.
واستمر التتار في الانسحاب شرقاً حتى وصلوا إلى نهر الفرات وهو في قوة زيادته، فلم يقدروا على العبور، والذي عبر فيه هلك، فساروا على جانبه إلى جهة بغداد، فانقطع أثرهم على شاطئ الفرات وهلكوا من الجوع، وأخذت منهم العربان جماعة كثيرة، وأخلف الله تعالى بهذه الوقعة ما جرى على المسلمين في المصاف الذي كان ببلد حمص قرب مجمع المروج في سنة 699.
وعادت الجيوش إلى السلطان وعرفوه بهذا النصر العظيم، فكتبت البشائر في البطائق، وسُرِّحتْ الطيور بهذا النصر العظيم إلى غزة.
وأصبح أهل دمشق يوم الأحد يتحدثون بكسر التتار، وخرج ناس إلى ناحية الكسوة، فرجعوا ومعهم شيء من المكاسب ورؤوس التتار، وصارت أدلة الكسر تقوى قليلاً قليلاً، ولكن الناس مما عندهم من شدة الخوف لا يصدقون.
ثم ركب السلطان في يوم الاثنين من مكان الواقعة، وبات ليلته بالكسوة وأصبح يوم الثلاثاء وقد خرج إليه أهل دمشق، فسار إليها ومعه الخليفة في عالم عظيم من الفرسان والأعيان والعامة والنساء والصبيان لا يحصيهم إلا الله تعالى، وهم يضجون بالدعاء والهناء والشكر لله سبحانه وتعالى على هذه المنة! وتساقطت عبرات الناس فرحاً، ودقت البشائر بسائر الممالك؛ وكان هذا اليوم يوماً لم يشاهد مثله. وسار السلطان حتى نزل بالقصر الأبلق، وقد زُينت المدينة.
وقبل أن نتحدث عن المعركة ينبغي توضيح بعض الحقائق التاريخية.
أولاً: تتحدث كتب التاريخ الإسلامي عن التتار، ويسمونهم كذلك التتر أو الططر، عند الحديث عن الاجتياح المغولي للمشرق الإسلامي ثم للشرق العربي، وهو في الواقع غزو مغولي، والمغول قبائل رُحَّل تقطن منغوليا وكانت في العادة تدين بالولاء لإمبراطور الصين، ثم أتى جنكيزخان فوحدها، وسيطر على أغلب المناطق الصينية، ثم قام حفيده هولاكو في فترة حكمه التي دامت 11 عاماً، بالاستيلاء على الشرق الإسلامي، واجتاح بغداد ودمرها ودخل دمشق حتى وصل إلى حدود مصر. أما التتار فهم أحد شعوب أو قبائل وسط آسيا، ومنطقتهم الأصلية شمالي شرق منغوليا، وهم يتكلمون لغة تركية، ولم يكونوا ضمن قبائل المغول، وإن انضموا لهم أو خضعوا لسلطانهم في بعض الحقب.
وقد أطلق المؤرخون المسلمون وبعض مؤرخي الغرب اسم التتار على المغول لمعرفتهم أكثر بالتتار، فقد كان منهم مماليك في المنطقة، وجرى استعماله ودرج، وإن كان بعض المؤرخين قد استعمل الاسم الصحيح: المغول أو المُغل.
ثانياً: كانت المعركة بين جيشين مسلمين، على الأقل من الناحية الإسمية، ونبين ذلك فيما يلي:
مات هولاكو في سنة 663 وخلّف ثلاثة أولاد هم: أَبَغا وتراقاي وتكودر، وكانت والدة هولاكو نسطورية وزوجته طُقُز خاتون مسيحية، تولى الحكم بعد هولاكو ابنه أَبَغا ودام حكمه 17 عاماً، ومات في سنة 681، ووتولى الملك بعده أخوه تكودر الذي اعتنق الإسلام وتسمى بأحمد، وتوجه للتصالح مع الدولة المملوكية، وبقي تكودر خاناً بعد أبغا لمدة تقارب السنتين قبل أن يثور ضده أرغون ابن أخيه أبغا ويقتله ويتولى الحكم وينقض كل إصلاحاته الإسلامية.
وكان أرغون بوذياً شديد التمسك ببوذيته، وعين يهودياً معادياً للمسلمين في منصب الوزير هو سعد الدولة، ومات أرغون سنة 690، ومرت سنوات أربع مضطربة تولى الحكم فيها ابنه كيخاتو ثم ابن أخيه بيدو، ثم ابنه غازان - وتسميه بعض المصادر قازان - وكانوا جميعاً على الديانة البوذية.
وكان نائب غازان واسمه نوروز مسلماً خيِّراً صحيح الإسلام، يحفظ كثيرا من القرآن والرقائق والأذكار، فأقنع غازان أن يتحول إلى الإسلام، فأعلن إسلامه بعد قليل من توليه السلطة في سنة 694، وتسمى بمحمود وتلقب بمعز الدين، وكانت سنه 24 عاماً، وكان يوم إسلامه يوما عظيما، اغتسل وجمع مجلسا، وشهد شهادة الحق في الملأ العام، ولقنه نوروز شيئا من القرآن وعلمه الصلاة وصام رمضان تلك السنة، وصار في بلاطه عدد كبير من العلماء والفقهاء والأدباء والمؤرخين المسلمين.
ولكن إسلام غازان وإسلام أغلب المغول المنضوين تحت رايته لم يحدث تغييراً فورياً وجذرياً في سلوكيات كثير من المغول ولا في سياساتهم الخارجية أو استراتيجيتهم العسكرية، وتسبب ذلك في أن بقي كثير من المسلمين يعتبرونهم كفاراً أو ضلالاً، فقد بقي شرب الخمر وغيرها من الموبقات شائعاً دون إنكار بين المغول، واستمروا في محاولاتهم للسيطرة على المشرق العربي، وسعوا للتحالف مع الفرنج وراسلوا البابا في هذا الصدد، وتحالفوا مع الأرمن في آسيا الصغرى، ولما استولوا على دمشق أوكلوا أمرها لحليفهم الأرمني الذي أساء التعامل والمعاملة مع سكانها من المسلمين، وبقيت استراتيجية المغول العسكرية قائمة على ترويع الخصم وقصم ظهره دون شفقة أو رحمة، وإن بدا عنصر الاعتدال تجاه المسلمين يظهر فيها، وما جرى من جيوش المغول في دمشق يعدُّ أمراً خفيفاً إذا قورن بما فعلوه في بغداد من قبل.
وقد أتاح انتماؤهم للإسلام الفرصة لشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من العلماء أن يحاججوهم في كثير من تصرفاتهم، و كذلك استنكر المغول واستهجنوا بعض التصرفات من الدولة المملوكية وولاتها التي تتناقض مع الإسلام، وحاججوهم بالرجوع إلى الشريعة!
وأورد فيما يلي صورة عن المعركة مجموعة من الروايات التاريخية، مع إبقاء كلمة التتار:
تواترت الأخبار بنزول جيش التتار على الفرات بقصد دمشق في عساكر عظيمة تبلغ ثمانين ألفاً، وكتب قطلوشاه نائب غازان إلى الأمير عز الدين أيبك نائب الملك الناصر بدمشق يرَّغبه في طاعته، وأقبل الناس من حلب وحماة إلى دمشق جافلين من التتار، فاستعد أهل دمشق للفرار ولم يبق إلا خروجهم، فنودي بدمشق: من خرج منها حلَّ مالُه ودمه.
وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية دور كبير في رفع الروح المعنوية لدى أمراء وسكان دمشق، حيث حثهم على الصمود والبقاء في البلد في وجه الغزاة، وأرسل من قبل إلى الأمير أرجواش نائب قلعة دمشق يقول له: لو لم يبق فيها إلا حجر واحد فلا تسلمهم ذلك إن استطعت. ولما اقتربت المعركة أكد حتمية النصر وحلف الأَيمان بذلك فقالوا له: قل إن شاء الله! فقال: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً.
واجتمعت بعض الجيوش الإسلامية عند حماة، ولحق بهم عساكر طرابلس وحمص، وبلغ التتار ذلك فبعثوا طائفة كثيرة إلى القريتين - قرية كبيرة في بادية حمص - فأوقعوا بهم، فتوجه إليهم بعض قادة المسلمين في ألف وخمسمئة فارس، فطرقوهم بمنزلة عَرَض في حادي عشر شعبان على غفلة، وافترقوا عليهم أربع فرق، وقاتلوهم قتالاً شديداً من نصف النهار إلى العصر حتى كسروهم وأفنوهم - وكان التتار، فيما يقال، أربعة آلاف - واستنقذوا الأسرى من أيدي التتار، وهم نحو ستة آلاف أسير، ولم يُفقد من العسكر الإسلامي إلا ثمانية وخمسون قتيلاً، وكُتب إلى السلطان بذلك ودٌقَّت البشائر بدمشق.
ودخل الأمير بيبرس الجاشنكير بمن معه من جيوش مصر إلى دمشق في نصف شعبان، ولبث يستحث السلطان في القاهرة على الخروج، واجتمع أمراء مصر والشام بدمشق واختلف رأيهم في الخروج إلى لقاء العدو أو انتظار قدوم السلطان؛ ثم خشوا من مفاجأة العدو فنادوا بالرحيل؛ وركبوا في أول شهر رمضان من دمشق، فاضطربت دمشق بأهلها، وأخذوا في الرحيل منها على وجوههم، واشتروا الحمار بستمئة درهم والجمل بألف درهم، وترك كثير منهم حريمه وأولاده ونجا بنفسه إلى القلعة؛ فلم يأت الليل إلا وبوادر التتار في سائر نواحي المدينة، وسار العسكر مُـخِفَّاً، وبات الناس بدمشق في الجامع يضجون بالدعاء إلى الله تعالى؛ فلما أصبحوا رحل التتار عن دمشق بعد أن نزلوا بالغوطة.
وكان السلطان المملوكي الملك الناصر محمد قد خرج بعساكره وأمرائه من الديار المصرية إلى جهة البلاد الشامية في ثالث شعبان، وخرج بعده المستكفي بالله الخليفة العباسي في مصر، وبلغ الأمراء قدوم السلطان فتوجهوا إليه من مرج راهط فلقوه على عقبة الشحورا في ثاني رمضان، واتفق أن ساعة وصول التتار إلى الجيش في خمسين ألفاً مع قطلوشاه نائب غازان، وصل السلطان بباقي العساكر الإسلامية، فلبس العسكر بأجمعه السلاح، واتفقوا على قتال التتار بشقحب تحت جبل غباغب؛ وكان قطلوشاه قد وقف على أعلى النهر، فصفت العساكر الإسلامية، فوقف السلطان في القلب وبجانبه الخليفة، ومشى السلطان على التتار والخليفة بجانبه ومعهما القُرَّاء يتلون القرآن ويحثون على الجهاد ويشوقون إلى الجنة، وصار الخليفة يقول: يا مجاهدون؛ لا تنظروا لسلطانكم. قاتلوا عن دين نبيكم صلى الله عليه وسلم وعن حريمكم! والناس في بكاء شديد، ومنهم من سقط عن فرسه إلى الأرض، وتواصى الأميران بيبرس وسلار على الثبات في الجهاد، وكل ذلك والسلطان والخليفة يكران في العساكر يميناً وشمالاً، ثم عاد السلطان والخليفة إلى مواقفهما، ووقف خلفهما الغلمان والأحمال والعساكر صفاً واحداً، وقال لهم: من خرج من الأجناد عن المصاف فاقتلوه ولكم سلبه.
فلما تم الترتيب زحفت كراديس التتار كقطع الليل، وكان ذلك وقت الظهر من يوم السبت ثاني رمضان، وحمل قائد التتار قطلوشاه على ميمنة المسلمين فثبتت لهم الميمنة وقاتلوهم أشد قتال حتى قُتِلَ من أعيان الميمنة من أمراء المماليك الأمير حسام الدين لاجين، وأوليا بن قرمان، والأمير سنقر الكافوري، والأمير أيدمر الشمسي القشاش، والأمير آقوش الشمسي الحاجب، وحسام الدين علي بن باخل، ونحو الألف فارس، كل ذلك وهم في مقابلة العدو والقتال عمّال بينهم، فلما وقع ذلك أدركتهم الأمراء من القلب ومن الميسرة، وصاح سلار: هلك والله أهل الإسلام! وصرخ في بيبرس وفي المماليك البرجية فأتوه دفعة واحدة، فأخذهم وصدم بهم العدو، وقصد مقدم التتار قطلوشاه، وتقدم عن الميمنة حتى أخذت الميمنة راحة، وأبلى سلار في ذلك اليوم هو وبيبرس الجاشنكير بلاء حسناً، وسلموا نفوسهم إلى الموت. فلما رأى باقي الأمراء منهم ذلك ألقوا نفوسهم إلى الموت، واقتحموا القتال؛ وكانت لسلار وبيبرس في ذلك اليوم اليد البيضاء على المسلمين - رحمهما الله تعالى - واستمروا في القتال إلى أن كشفوا التتار عن المسلمين.
وكانت الميمنة لما قُتِلَ الأمراءُ منها انهزم من كان معهم، ومرت التتار خلفهم، فجفل الناس وظنوا أنها كسرة؛ وأقبل السواد الأعظم على الخزائن السلطانية فكسروها ونهبوا ما فيها من الأموال؛ وجفل النساء والأطفال، وكانوا قد خرجوا من دمشق عند خروج الأمراء منها، وكشف النساء عن وجوههن وأسبلن الشعور، وضج ذلك الجمع العظيم بالدعاء، وقد كادت العقول أن تطيش وتذهب عند مشاهدة الهزيمة، واستمر القتال بين التتار والمسلمين إلى أن وقف كل من الطائفتين عن القتال إذ حال الليل بين الفريقين.
ومال قطلوشاه بمن معه إلى جبل قريب منه، وصعد عليه وفي نفسه أنه انتصر، فلما صعد الجبل رأى السهل والوعر كله عساكر، والميسرة السلطانية ثابتة وأعلامها تخفق، فبُهِتَ قطلوشاه وتحير واستمر بموضعه حتى كمل معه جمعه، وأتاه من كان خلف المنهزمين من الميمنة السلطانية ومعهم عدة من المسلمين قد أسروهم، منهم: الأمير عز الدين أيدمر نقيب المماليك السلطانية، فأحضره قطلوشاه وسأله: من أين أنت؟ فقال: من أمراء مصر، وأخبره بقدوم السلطان؛ وكان قطلوشاه ليس له علم بقدوم السلطان بعساكر مصر إلا ذلك الوقت؛ فعند ذلك جمع قطلوشاه أصحابه وشاورهم فيما يفعل، وإذا بكوسات - صنوج من نحاس شبه الترس الصغير، يدق بأحدها على الآخر - السلطان والبوقات قد زحفت وأزعجت الأرض وأرجفت القلوب بحسها، فلم يثبت بولاي أحد قواد قطلوشاه وخرج من تجاه قطلوشاه في نحو العشرين ألفاً من التتار، ونزل من الجبل بعد المغرب ومر هارباً.
وبات السلطان وسائر عساكره على ظهور الخيل والطبول تضرب، وتَلاحَق بهم من كان انهزم شيئاً بعد شيء، وهم يقصدون ضرب الطبول السلطانية والكوسات؛ وأحاط عسكر السلطان بالجبل الذي بات عليه التتار، وصار بيبرس وسلار وقبجق والأمراء والأكابر في طول الليل دائرين على الأمراء والأجناد يوصونهم ويرتبونهم ويؤكدون عليهم في التيقظ، ووقف كل أمير في مصافه مع أصحابه، والحمل والأثقال قد وقف على بعد، وثبتوا على ذلك حتى ارتفعت الشمس.
وشرع قطلوشاه في ترتيب من معه، ونزلوا مشاة وفرساناً وقاتلوا العساكر، فبرزت المماليك السلطانية بمقدميها إلى قطلوشاه وجوبان، وعملوا في قتالهم عملاً عظيماً، فصاروا تارة يرمونهم بالسهام وتارة يواجهونهم بالرماح، واشتغل الأمراء أيضاً بقتال من في جهتهم، وصاروا يتناوبون في القتال أميراً بعد أمير، وألحت المماليك السلطانية في القتال وأظهروا في ذلك اليوم من الشجاعة والفروسية ما لا يوصف حتى إن بعضهم قتل تحته الثلاثة من الخيل.
واتفق أن بعض من كان أسره التتار هرب ونزل إلى السلطان، وعرَّفه أن التتار قد أجمعوا على النزول في السَحَر لمصادمة العساكر السلطانية، وأنهم في شدة من العطش، فاقتضى الرأي أن يفرج لهم عند نزولهم ويركب الجيش أقفيتهم، فلما باتوا على ذلك وأصبحوا، ركب التتار ونزلوا من الجبل فلم يتعرض لهم أحد وساروا إلى النهر فاقتحموه؛ فعند ذلك ركبهم بلاء الله من المسلمين وأيدهم الله تعالى بنصره حتى حصدوا رؤوس التتار عن أبدانهم ووضعوا فيهم السيف ومروا في أثرهم قتلاً وأسراً إلى وقت العصر.
واستمر التتار في الانسحاب شرقاً حتى وصلوا إلى نهر الفرات وهو في قوة زيادته، فلم يقدروا على العبور، والذي عبر فيه هلك، فساروا على جانبه إلى جهة بغداد، فانقطع أثرهم على شاطئ الفرات وهلكوا من الجوع، وأخذت منهم العربان جماعة كثيرة، وأخلف الله تعالى بهذه الوقعة ما جرى على المسلمين في المصاف الذي كان ببلد حمص قرب مجمع المروج في سنة 699.
وعادت الجيوش إلى السلطان وعرفوه بهذا النصر العظيم، فكتبت البشائر في البطائق، وسُرِّحتْ الطيور بهذا النصر العظيم إلى غزة.
وأصبح أهل دمشق يوم الأحد يتحدثون بكسر التتار، وخرج ناس إلى ناحية الكسوة، فرجعوا ومعهم شيء من المكاسب ورؤوس التتار، وصارت أدلة الكسر تقوى قليلاً قليلاً، ولكن الناس مما عندهم من شدة الخوف لا يصدقون.
ثم ركب السلطان في يوم الاثنين من مكان الواقعة، وبات ليلته بالكسوة وأصبح يوم الثلاثاء وقد خرج إليه أهل دمشق، فسار إليها ومعه الخليفة في عالم عظيم من الفرسان والأعيان والعامة والنساء والصبيان لا يحصيهم إلا الله تعالى، وهم يضجون بالدعاء والهناء والشكر لله سبحانه وتعالى على هذه المنة! وتساقطت عبرات الناس فرحاً، ودقت البشائر بسائر الممالك؛ وكان هذا اليوم يوماً لم يشاهد مثله. وسار السلطان حتى نزل بالقصر الأبلق، وقد زُينت المدينة.
معركة مرج الصفر شرقي شقحب بحوران
حدث في الثاني من رمضان سنة 702 في الثاني من رمضان من سنة 702 تواجهت جيوش المغول بقيادة مع جيوش الدولة المملوكية...
islamsyria.com