المقدم طيار صلاح دانش - ملحمه القتال والاسر والعوده للقتال مرة اخري

vondeyaz

عضو
إنضم
28 ديسمبر 2008
المشاركات
57
التفاعل
9 0 0
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدم صلاح دانش
الطيار المصري الوحيد الذي تم اسرة في يونيو 1967
البطل يحكي قصته مع النكسه والاسر والعوده مرة اخري للقوات الجويه
حتي نصر اكتوبر
 
مقدمه:
أنها قصه بطل مصري بكل معاني الكلمه ، بطل قاتل وانهزم وأُسر ورغم محاولات غسيل المخ التي تعرض لها والحرب النفسيه من الجيش الاسرائيلي في معسكر الاسر ،الا انه عاد للقتال مرة اخري ولم ينكسر ولم ُيهزم .
قصته تصلح بلا شك فيلما دراميا او مسلسلا بطوليا يحمل كل المعاني البطوليه والانسانيه التي قد يتعرض لها شاب في مقتبل الرجوله ، فقد واجهه كل حلقات الجحيم في النكسه والاسر بقوة وعزيمه و اصرار .

وكالعاده لم نكن نعرف قصه هذا الرجل الا بعد ان جلسنا معه وسمعنا لكلماته المتواضعه والمغلفه في اطار طبيعي من الكلمات العاديه ، فكلمه الواجب هي القاسم الاكبر في حوارة فقد ادى واجبه وهو سعيد بذلك ولو عاد الزمن به لادى نفس الواجب مرة اخري رغم كل ما يحمله من مخاطر والام و لو كان هذا الرجل امريكيا أو اسرائيليا لشاهدنا افلام و ثائقيه و افلام دراميه تثير الشجن والحماس في النفوس ، و لحملت عدة شوارع في عدة مدن أسمه ، لكنه مثل المئات او الالاف من الرجال غيرة في مصر ، فقد ُوضعت اعمالهم و بطولاتهم و تجربتهم القاسيه في ادراج النسيان .

في قصه هذا الرجل مثال و عبرة لمن يعتبر ، و قدوة لمن يبحث عن قدوة، و لعل الله ينصف هذا الرجل و تصل بطولته الي الملايين من شباب الامه العربيه الذي يحتاج الي مثل هذه البطولات لتعيد اليه امجاد صنعها رجال في وقت كان فيه مقياس الرجال بالتصرفات والبطوله والانتماء و حب الوطن وليس مقاييس هذا العصر .
 
البدايه:

بعد ان انهيت دراستي الثانويه عام 1959 التحقت بكليه الهندسه و درست بها لمده عام واحد فقط ، فقد كانت رغبتي في الطيران اكبر من رغبتي في ان اكون مهندسا.

فألتحقت بالكليه الجويه عام 1960 وفي تلك الفترة الجميله من تاريخ مصر وخاصه بعد حرب 1956 كان الزعيم جمال عبد الناصر يغرس فينا روح الوطنيه والانتماء فكان حب مصر و حب خدمه الوطن شعورا جياشا يملئ كيان كل منا.

و تدرجت في الدراسه بالكليه من طالب اعدادي الي طالب بالقسم المتوسط، وشاركت و انا طالب بالقسم المتوسط في تخريج الدفعه 13 و التي كانت تسبقنا بعام ، و لاول مرة يقوم طلبة القسم المتوسط بعمل عرض جوي يشمل الطيران بالتشكيلات امام ساحه العرض ، و كان لي الشرف ان اكون احد افراد هذا التشكيل.

بعدها انتقلت الي القسم النهائي بالكليه و تخرجت عام 1963 لانتقل بعدها علي الفور الي وحده تدريب المقاتلات والمتركزه في كبريت لنتدرب علي الطائرة ميج 15 ، وكانت نقله كبيرة لي من الطيران بطائره بمحرك مروحي الي طائرة نفاثه و كان عددنا اثني عشرة طيار مقاتل في نفس الدفعه منهم
(( سامي لاشين – نبيل نوير- سيد نجيب – احمد هاشم – سمير عزيز ميخائل – هاني مظهر))
و طبعا و كما هو معروف فأن عدد قليل من دفعه الكليه الجويه يتمكن من ان يصبح طيار مقاتل والباقي يتم توزيعه علي اسراب النقل او القاذفات او التوجيه الارضي طبقا لمستوي الطالب وكفاءاته واستعداده الطبي.

بعد انتهاء فترة التدريب علي الميج 15 انتقلت الي مطار ابو صوير للتدريب علي الميج 17 ، لكني لم أستمر كثيرا فيها فقد انتقلت الي أسراب الميج 19 عام 1964 و كانت الميج 19 قد وصلت مصر منذ فترة قصيرة وبالتحديد عام 1961 و كانت طائرة مقاتله اسرع من الصوت و جيده جدا طبقا لمقاييس هذا الوقت.

و التحقت بفرقه تدريب أرضي علي الميج 19 وبعد فترة انضممت الي سرب مقاتل عامل ، و كان يوجد فقط سربين من الميج 19 الاول بقياده – محمد عبد الرحمن و الاخر بقياده علاء بركات و الذي انضممت له ، و اذكر القاده الاثنين بكل خير فقد كانا عالى كفاءة كبيرة ، و اذكر ان محمد عبد الرحمن انتقل الي المقاتلة السوخوي 7 بعد ذلك بفترة و قام بجهود كبيرة مع الطائرة السوخوي 7 لانها لم تكن طائرة جيده ، و اذكر انه خلال حرب الاستنزاف زار مستر سوخوي (( مصمم الطائرات الروسي الشهير )) بنفسه و رشه عمل محمد عبد الرحمن و تدارس معه في طرق و اساليب تطوير السوخوي 7 ،و لان محمد عبد الرحمن كان قد طور كثيرا في طائرة السوخوي 7 بصوره اثارت اعجاب الخبراء السوفيت في مصر ودعت بمصمم الطائرة للحضور و الوقوف بنفسه علي نقاط ضعف الطائرة لتطويرها ولتفادي الاخطاء في التصميمات المقبله.

و كانت الميج 19 لا تختلف كثيرا عن الميج 17 ، غير انها كانت اول طائرة سوفيتيه اسرع من الصوت وتم صنعها علي عجل كنموذج مطور او محسن من الميج 17 ، لكن الهيكل لم يكن قويا بالقدر الذي يتحمل المحركين الكبيرين ، و كانت مناورتها علي الارتفاع المتوسط مثل اربعه او خمسه كيلو متر جيده اما فوق ذلك فقد كانت مناورتها تقل بالتدريج ، و كانت تستطيع الوصول الي سرعه الصوت بالطيران المستوي اما الميج 17 و التي بمحرك واحد فقط فكانت يجب ان تقوم بمناورة طيران غاطس لمده طويله للوصول الي سرعه الصوت.

و كان تسليح الميج 19 الاساسي هو عباره عن ثلاث رشاشات احداها في مقدمه الطائرة والاثنين الاخرين بالاجنحه و بكل مدفع ستون طلقه و كنا نخرج للتدريب في ميدان الرمايه وبكل مدفع خمس عشر طلقه فقط لكي نتدرب علي اقتصاد الطلقات ، و كان المطلوب منا تنفيذ اربع او خمس هجمات بعدد الطلقات المحدود و كانت المدافع الثلاث تضرب في وقت واحد وكانت قوة نيرانيه كبيرة جدا.
 
الاشتباك الاول
في اول يوم التحق بسرب ميج 19 عامل كان ذلك عام 1965 في مطار فايد ، وعينت لكي اكون في الطوارئ و كان ذلك معناه ان اكون لابسا لملابس الطيران وجاهز للاقلاع لكنني في غرفه الطوارئ .
ولحظي السعيد صدر امر اقلاع فوري (سكرامبل- وهو مصطلح انجليزي مستخدم فى مجال الطيران العسكري من الحرب العالميه الثانيه ويعني الاقلاع الفوري والسريع ) فأقلعت سريعا مع علاء بركات كقائد التشكيل و كان الاقلاع يتم بالافتربرنر (الحارق اللاحق) لزياده سرعه تسارع الطائرة و تحقيق اقلاع سريع ، و كان هذا الاقلاع له تدريب خاص و كانت عيني اثناء الاقلاع علي طائرة علاء بركات فقد كنت حديث الخبرة مقارنه به ، و عندما بدأت ارفع العجل و جدت ضوء باب العجلات مضاء ، مما يعني ان الباب لم يغلق كما يجب مما يعني ان الطائرة لن تطير بشكل سليم و سيعرضني هذا الامر لاستهلاك وقود اضافي , فور الاقلاع بدأ الموجه الارضي في توجيهنا نحو اشتباك تدور رحاه قرب العريش و كان لدينا مقاتلات يقودها الطيارون المسيري و السمري و كان الطيار الحديدي يدعم الاشتباك بأربع طائرات (فينجر فور) ، و فور ان رأتنا الردارات الاسرائيليه أبلغت طائراتها بوجود دعم مصري في الطريق فنفذت الطائرات الاسرائيليه مناورة للتخلص من الاشتباك سريعا و عادت من حيث أتت .
و فور علمي بأنتهاء الاشتباك حاولت الاتصال بالطيار علاء بركات بالاسلكي لكن اتضح ان جهازي قد تعطل لسبب ما فحاولت الاقتراب منه و ان اميل بالطائرة لكي يري باب العجل مفتوحا ، فظن انني احاول ان احذرة من طائرات اسرائيلي خلفنا ، فبدأ يناور بطائرته و لم يلاحظ مشكلتي.

و نظرا لانخفاض مستوي الوقود لدي فقد قررت ان اهبط في العريش ، و فور هبوطي أبلغت اللواء الدريني قائد لواء الميج 19 تليفونيا بمشكلتي فرد علي بانه غير مسموح ببقاء الطائرات بعيدا عن مطاراتها و ارسل الي الطيار جلال عبد العليم و معه فني بطائرة ميج 15 ذات مقعدين لاصلاح طائرتي و عدت انا و الفني بالميج 15 في نفس اليوم , لن انسي هذا اليوم ، فهو اول يوم لي كطيار مقاتلات في الاسراب و يتم فيه اشتباك جوي و من حظي ان اكون قريبا من هذا الاشتباك او مشارك فيه و لو بالدعم فقط.

سرب العروبه :
كانت نزعه العروبه تملئ الاجواء و الوجدان في تلك الفترة فكتبنا علي طائراتنا اسماء المدن والعواصم العربيه مثل بغداد – بيروت- دمشق- الرياض- الموصل- طرابلس- الخرطوم وهكذا .
و كان سربنا مخصص في وقت السلم بالطيران لاعتراض طائرات الرؤساء الزائرين الي مصر فور دخولهم الاجواء المصريه و مصاحبتهم حتي مطار القاهرة ، و كذلك عمل العروض الجويه امام الرؤساء لذلك اطلق علينا سرب العروبه.
 
والذي لا يعلمه الكثيرون ان هذه الفترة شهدت اشتباكات جويه كثيرة مع اسرائيل ، و تم إسقاط الطيار محمد عبد المنعم و استشهد ، و قفز الطيار خالد الدالي بالمظله في احد الاشتباكات و بناء علي ذلك تم عزل قائد المنطقه الشرقيه الجويه لكن بالطبع لم تكن اخبار تلك الاشتباكات تصل الي الصحف او عامه الشعب لذلك لم تذكر في التاريخ لكني اذكرها هنا لتكريم اسم الشهيد طيار محمد عبد المنعم و الذي استشهد في اشتباك لم يعرف عنه احد بعد فترة تورطنا في حرب اليمن و في احد الايام جاءت للقياده معلومات ان البريطانيين حركوا حامله طائرات بالقرب من اليمن فصدرت لنا الاوامر بالسفر لليمن لدعم القوات المصريه.

فسافرت الي اليمن ضمن سرب ميج 17 ، لكننا لم نقاتل فقد هدأت الامور قليلا ،فأعطينا كل وقتنا للتدريب و كان مطار صنعاء اعلي من مستوي سطح البحر فكانت الطائرة ثقيله جدا في الاقلاع والهبوط مما اكسبنا خبرة اضافيه لم نكن لنحصل عليها في مصر و في عام 1967 قمت بأجراء عمليه جراحيه و ظللت بالمستشفي مده شهر عدت بعدها لللواء لاجد تعليمات بأن انضم الي مدرسه المقاتلات بمطار كبريت لانهم محتاجين مدرسين او كما اطلق عليه وقتها (سيكشن ليدر) اي قادة تشكيلات و كان معي في الالتحاق بكبريت كل من الطيارين سعد زغلول و مرتضي الرفاعي و سيد نجيب (استشهد بعدها )
فور التحاقنا بالتدريس و اثناء احد الطلعات صدرت لنا الاوامر بالهبوط فورا ومنع الطيران.

النكسه:
اعلنت حاله الطوارئ يوم 14 مايو 1967 وعدنا الي اللواء المقاتل و ذهب سرب منا الي الغردقه فذهبنا هناك لعده ايام ، و اعلن عن حاجه القوات الجويه لطياري الطائرة السوخوي 7 الجديده التي وصلت من روسيا حديثا فتطوعت انا و الطيار مرتضي الرفاعي و ذهبنا للتدريب علي الطائرة السوخوي 7 لايام ، صدرت الينا الاوامر بعدها بالعوده لمطار فايد علي الميج 19 مرة اخري و كانت حاله الطوارئ معلنه لكن المعيشه في مطار فايد عاديه جدا ، فالطائرات في حاله طوارئ و هناك مظلات جويه علي اوقات متفرقه لكن المطار كان به عدد كبير من العائلات و كنت متزوجا في تلك الفترة فكنت اذهب للمنزل وقت الغذاء و اعود للمطار ، فلم يكن احد يتوقع الحرب و حتي إن توقعنا الحرب فقد كان النصر مضمونا مائه في المائه , كان يوجد بالمطار لواء من الطائرة سوخوي 7 (2 سرب ) و لواء من الطائره ميج 21 ( 2 سرب ) و عدد محدود من طائرات الميج 19 لانها كانت عائده من اليمن مفككه و بعضها مازال تحت التركيب و كانت الطائرة الميج 19 الواحده تحمل و تنقل علي طائرتين انتينوف المخصصه للنقل.
و في يوم خمسه يونيو 1967 بدأت النكسه ، و بدأ مسار حياتي يتغير خاصه منذ الساعه الثامنه و الدقيقه الخامسه و الاربعين ، ففي تلك اللحظه كنا نتلقي محاضرات نظريه ، و كان عدد كبير من الطيارين ينتظرون و صول طائرة نائب الرئيس (حسين الشافعي ) و معه وفد عراقي لزيارة المطار و اذكر من هؤلاء الطيارين – مدحت المليجي – السمري – محمد خميس – الشناوي- ممدوح حشمت – سمير عزيز – فريد حرفوش – فاروق حماده و بدأ ضرب المطار بعنف و ساد الهرج و المرج اجواء المطار و سط الدخان الكثيف والنيران المشتعله ، و اتذكر حاله الصدمه و الذهول التي اصابت الجميع فكان الجميع غير مصدق ما يحدث ، و كان ذهولنا ان اسرائيل قد جرؤت علي شن الحرب و انها ستتعرض لهزيمه قاسيه
و فور انقشاع دخان الضرب الاسرائيليه وجدنا ان لواء الميج 21 قد دمر تماما و كذلك عدد كبير من طائرات السوخوي 7.

واصيبت الطائرة التى تقل حسين الشافعي نائب الرئيس و الطاهر يحيي رئيس الوزراء العراقي و عطلت الممر الفرعي لكن من فيها نجوا بسلام , دفع الفنيين عدد من طائرات السوخوي 7 السليمه تجاه الاشجار المحيطه بالمطار فنجت من الضربه الثانيه التي عادت سريعا لتدمير ما تبقي من طائرات و كذلك نجى عدد من طائرات ميج 19 و كان لدينا بالهنجر (و الهنجر هو بيت الطائره او المكان الذي تبيت فيه الطائره او يتم تخزينها فيه) اربع طائرات ميج 19 فحاولنا ان نخرج بها من علي الطريق الاسفلتي خارج المطار فكسرنا سور المطار و وضعنا طائره في وضع اقلاع و رفعنا مقدمتها بواسطه رافعه فوجدنا ان الطيار لن يرى الطريق و هو ما يعني انه لن يتمكن من الاقلاع او الهبوط و فشلت تلك الفكرة.

و رغم تدمير ممرات المطار و عدد كبير من الطائرات فلم يكن لدينا شك في النصر و ان الحرب ستكون في صالحنا ، و كنا نتعجل المشاركه في الحرب و النصر معا و كانت روحنا المعنويه عاليه جدا و ساعد في رفعها نجاح المهندسين خلال الليل في ترميم الممر الفرعي بواسطة اسمنت سريع التصلب و اصبح الممر صالحا للعلميات في اليوم التالي فأقلع الطيارون مدحت المليجي و السمري بطائرتي سوخوي 7 في صباح يوم 6 يونيو لتنفيذ مهمه قصف مخطط لها في خطط العلميات ، و اثناء عودتهم اشتبكوا مع طائرات ميراج اسرائيلي قرب القناه.

و عاد الطيار السمري فقط و طائرته تصدر دخان كثيف لكنه هبط بنجاح و قفز من الطائرة و علي غير المتوقع لم تنفجر الطائرة ، و سمعنا ان الطيار مدحت المليجي هبط في مطار ابو صوير.
و اقلعت مع المقدم الدريني و علاء بركات و حشمت صدقي في مظله مع اول ضوء لكي نعلم اليهود الذين يرونا علي الرادار بأن المطار سليم و يعمل بكفاءة ، و سلحنا طائراتنا بالمدافع الرشاشه الاصليه و صواريخ جو ارض غير موجهه و خزانات وقود اضافيه. فأقلعنا الي ارتفاع 12 الف قدم (حوالي اربعه كيلو مترات) و نظرا لان الطائرات تم استعجال تركيبها بعد عودتها من اليمن فلم تكن في حاله فنيه جيده مثلا طائرة علاء بركات كان المحرك يسحب وقودا بشكل اكبر من اللازم ، و طائرة الطيار حشمت صدقي كان بها مشكله في الخزانات الاضافيه فأحدها يسحب و الاخر لا يسحب وقود ، فأعطى الطيار الدريني الامر لهم بالنزول و اصبحت اطير مع المقدم الدريني فقط و كان مسار المظله فوق القناه ، و عند عودتنا بعد انتهاء المظله بدأنا الهبوط علي الممر الفرعي المعاكس (رقمه 08) بعد ان اقلعنا من اتجاه الممر (27) و كانت الشمس في اعيننا.

و كنت احاول ان اطير بجوار الطيار الدريني لكي انفذ هبوط سليم فما زالت خبرتي قليله مقارنه به خاصه و ان الممر لم يكن كله أمنا مائه في المائه ، فأقتربت طائرتي منه لمسافه خطيرة و كان يوجد ببرج المراقبه طيار اردني اسمه ( الحاج صدوقه ) و هو لاجئ سياسي لمصر حضر بطائرته الهوكر هنتر هربا من نظام الملك حسين، و تم ضمه بالفعل الي سرب العروبه.

فأبلغ الحاج صدوقه المقدم الدريني بأن هناك طائره خلفه بمسافه قريبه و هو يقصد طائرتي ، لكن الدريني فهم ان الطائرة المقصوده هي طائرة اسرائيلي ، و كانت طائره الدريني و طائرتي قد لامست عجلاتهم الارض ، فبدأ الدريني ينفذ مناورة سير متعرج علي الارض لتفادي الطائرة المعاديه و انا انفذ معه نفس المناورة بدون ان اعرف لماذا يقوم الدريني بذلك.

ولم تكن الميج 19 مزوده بجهاز بيرسكوب ليري الطيار من خلاله ما يحدث خلفه وهو جهاز بدائي مثل بيرسكوب الغواصه لكنه صغير وهو موجود في الميج 17 و الميج 15 فواصلت المناورة خلف الدريني الذي اتجه بطائرته و أوقف طائرته وسط مجموعه اشجار و انا خلفه ، ثم قفز من الكابينه الي داخل احد الحفر و انا من خلفه و نحن نتسأل عما يحدث ،بعدها ضحكنا كثيرا علي هذا الموقف.

في اليوم التالي 7 يونيو بدأنا مع اول ضوء في التجهيز لطلعه اخري و كان المخطط ان يقلع تشكيل من اربع طائرات (فينجر فور) به الطيارون تيسير حشيش و عادل الجريدلي و سمير ادريس و انا صلاح دانش و وجدت الطيار سعد زغلول يأتي الي مهرولا و يطلب مني ان يقلع هو بدلا مني فرفضت طلبه لان اسمي بالجدول و لا استطيع ان اغير اسمه مكان اسمي فليس هذا من صلاحياتي.

و بدأنا نستعد للاقلاع و كان الهدف هو مهاجمه طابور مدرع اسرائيلي يتقدم من العريش تجاه بئر لحفن
و كنا مسلحين بصواريخ جو ارض غير موجهه و نظرا لان حاله الوقود بالطائرة لا تسمح بالطيران المنخفض حتي الوصول الي الهدف فقد قررنا الطيران علي ارتفاع عال و هو خمسه كيلو مترات و ان نعود علي ارتفاع منخفض.

و كان من الطبيعي ان يتم رصدنا بالرادارات الاسرائيليه فور تسلقنا لارتفاع عالي ، و فعلا تم تبليغنا بوجود طائرات معاديه اسرائيلي كثيره فور عبورنا القناه و بأننا يجب ان نعود فورا. فرد الطيار تيسير حشيش بأنه من المفترض ان تكون هناك طائرات ميج 21 تحمي هجومنا (وهو ما لم يكن صحيحا وقتها – عكس ما تم اعطاءه للطيارين في المحاضرة قبل الطلعه) و في تلك اللحظه لمحت طائرة ميراج اسرائيلي تعتدل لتوجه نيرانها نحوي فقمت بمناورة لتجنب الاصابه و سمعت صوت الطيار تيسير حشيش يعطي الامر (افتر برنر اون) اي افتح الحارق اللاحق لزياده سرعه الطائرة للسرعه القصوي ، و بدأنا نهرب من طائرات العدو و قلت لنفسي لو مرت ثلاث ثوان و لم تصبني طائرات العدو ساكون في مدي بعيد و امن بعيد عنها حيث ان سرعه طائرتي اسرع بكثير من الميراج عندما يعمل الحارق اللاحق لدينا.
ورأيت طائرة الطيار سمير ادريس بعيده عنا ، فمن الواضح انه لم يستطع ان يفتح الحارق اللاحق او انه تعطل و لمحت طائرة اسرائيليه تعتدل خلفه و تصوب نيرانها عليه و النيران تندلع في طائرة سمير ادريس و تصطدم بالارض بدون ان يقفز منها سمير.

فناورت بطائرتي و الغيط و الغضب بداخلي ، و هدفي هو اسقاط تلك الطائرة التي قتلت سمير ، و ناورت عده مناورات حتي استطعت ان اكون خلفها و بدأت اضرب علي تلك الطائرة دفعات قصيرة كما تدربنا في ميدان الضرب قبل الحرب ، و لم تصبه طلقاتي و كان المفترض ان استمر في الضرب عليه حتي تنفذ الطلقات ، الا انني فضلت الاقتراب منه اكثر لاحصل علي اصابه مؤكده فأقتربت منه كثيرا حتي شاهدت الطيار في الكابينه و خوذته البيضاء واضحه و بدأت الضرب مرة اخري ، لكن المفاجأه ان المدفع لم يضرب و حاولت مرتين و لم يضرب المدفع، فقررت ان اضرب عليه بصواريخ جو ارض التي معي ، لكن ما لم اكن اعرفه و قتها ان الطيار الاسرائيلي يقوم بمناورات لكي يضبط طائرتي لزميل له دخل خلف طائرتي و هو اسلوب الطعم و لم اعي ذلك وقتها , و كان ذلك خطأ مني فقد كان كل تركيزي في تدمير و قتل الطيار الذي قتل سمير، و لم اشاهد الطائره التي اعتدلت خلفي و ظلت مناورات الطائرة التي امامي مستمرة و انا خلفها بهدف الحصول علي تصويب جيد لضرب الصواريخ ، و فجأه شعرت بطلقات تصطدم بجسم طائرتي ، و اهتزت الطائرة بعنف و بدأت في السقوط الحلزوني ، و بعد ثانيه استطعت السيطرة علي دوران الطائرة لكن الطائرة مازالت تسقط و من الواضح ان الطلقات اصابت مجموعه الذيل فلم استطع رفع الطائرة ، و بدأت الطائرة تهوي سريعا من ارتفاع اربعه كيلو مترات تقريبا. فكان القرار في كسر من الثانيه بان اقفز ، و فعلا اندفع الكرسي القاذف بي خارج الطائرة ، و كنت اسمع صوت الطائرات حولي و صوت طلقات المدافع ، فأخرجت مسدسي و ضربت عده طلقات علي قبه المظله لكي اثقبها و ازيد من سرعه هبوط الطائرة .
 
طيار علي الارض
سقطت بالمظله علي الارض قريبا من حطام طائرتي و حطام طائرة سمير و الذي مازالت النيران تلتهم ما تبقى منهما ، و نفذت التعليمات المعطاه لنا بدقه في مثل هذه الاحوال ، فقمت بفرد المظله علي الارض وجلست فوقها لكي ُأسهل عمليه التعرف علي وانقاذي.

كانت المنطقه التي سقطت فيها في وسط سيناء بالقرب من جبل المغارة و هي تبعد حوالي ثمانين كيلو مترا عن القناه تقريبا ، و لم يكن معي اي شئ من وسائل الاعاشه سواء لاسلكي او مياه او طعام ، و ظللت منتظرا لمده ساعتين تقريبا بلا اي بوادر لمن يبحث عني بعدها قررت الاتجاه غربا تجاه القناه مستعينا باتجاه الشمس ، وبعد فترة وجدت جبلا متوسطا وفوقه بيتا ، فقررت ان اصعد الجبل و هو قرار خاطئ ، حيث ان تسلق الجبل يستهلك كل القوي التي انا في امس الحاجه لها ، لكن الامل بوجود حياه في هذا المنزل دفعني للتسلق ، و سريعا كنت فوق الجبل لافاجأ بأن ما كنت اعتقد انه منزل لم يكن غير ضريح لاحد الشيوخ و محاط بكم من الاضحيات او بالاصح ما تبقي منها من عظام حيوانات مذبوحه ، فسخرت من نفسي و توقعت ان يكون هذا مصيري بجوار الضريح.

ونزلت مرة اخري الجبل لاعنا القرار الذي اتخذته بالتسلق لانه اضاع مجهودي و قوتي هباء و بعد نزولي الجبل فوجئت بإمرأه اعرابيه علي مسافه مني ، و لا اعرف من اين ظهرت تلك السيده او متي ظهرت لانني فوجئت بها واقفه تنظر الي عبر الخمار البدوي.

و ضعت المرأه قربه من الماء بجوارها علي الارض و ركضت الي خلف الجبل سريعا ، و اقتربت من قربه الماء وانا انظر حولي محاولا ان اجد تلك المرأه لاشكرها لكني لم اجدها فتوجست خيفه من الماء الموجود بداخل القربه ، فقد تكون تلك المرأه مدسوسه من اسرائيل بغرض تسميمي ، و كان ذلك تفكيري و قتها فتركت الماء و استمررت في طريقي غربا خاصه و اني لم اكن اشعر بعطش وقتها و اثناء سيري وجدت طائرتين ميج 19 تطيران علي ارتفاع منخفض تجاه الشرق و طبعا بسرعه 800 او 900 كيلو متر في الساعه فأن الطيار بداخلها لا يمكن ان يميز انسان علي الارض بعد مرور الطائرات بدقائق وجدت سيارة جيب مصري تسير علي مسافه فأطلقت عده طلقات لكي انبهه من فيها لكي ينقذوني ، لكنها استمرت في السير حتي اختفت خلف تبه رميله و لحظي السعيد فقد عادت السيارة مرة اخري بعد ثوان من خلف التبه و اتجهت الي و انقذوني ، و اتضح انهم جنود من حرس الحدود يقومون بدوريه و اصطحبوني الي منجم فحم المغارة المقارب لمكان التقاطي ، و كان بالمنجم شركه تديرة و لديهم اماكن معيشه و وجبات و كان ذلك من حسن حظي ان دوريه حرس الحدود قد سمعت طلقاتي.

كان بموقع منجم فحم المغارة حوالي سبعمائه عامل و مهندس و فني ، و كانت اخبار الحرب و انتصارتنا من الاذاعه تلهب مشاعرهم ، و فوجئت بزميلي الطيار سعد زغلول في موقع المنجم ، و كنت قد رفضت ان يخرج مكاني في الطلعه التي سقطت فيها ، فخرج بعدي في طلعه اخري و أسقطت طائرته هو الاخر لكنه سقط بجوار المنجم و تم انقاذه سريعا ، و قصصت عليه ما حدث لي و استشهاد سمير و رغم ذلك كانت معنوياتنا عاليه و الثقه في النصر تملئ كل منا ، و نمنا ليله هادئه علي موسيقي النصر من الراديو وتهليلات المذيع احمد سعيد باننا اسقطنا تسعين طائرة للعدو

البول اثمن ما في الحياه:
اخذنا قسطا وافرا من النوم و الراحه بعد ارهاق اليومين الماضيين و استيقظنا في اليوم التالي علي صوت العمال ، فوجدنا ضابط مدرعات مصري اسمه احمد وحش يتحدث مع العمال ، و كان وجهه و ملابسه غارقين في زيت الدبابات و ذقنه طويله دليل الاجهاد المستمر.

اخبرنا احمد وحش بأن القوات الاسرائيليه دمرت دبابات وحدته و انها تبعد نصف ساعه عن موقعنا و انها تتجه نحونا و يجب ان نخلي أماكننا في اسرع وقت كي لا نقع في الاسر ، فذهبنا الي مدير المنجم و شرحنا له الوضع فأخبرنا بان لديه فقط ثلاث اتوبيسات و كل اتوبيس لا يحمل اكثر من خمسين فرد في الوقت الذي لديه اكثر من سبعمائه عامل في المنجم ، و استقر الامر علي ترك الاتوبيسات و التحرك سيرا ، و اُعلن الخبر في المنجم فبدأ كل عامل يأخذ اي شئ قد يعينه علي مشقه الطريق ، فحمل عدد منهم سمنا طبيعيا و منهم حمل ما يستطيع من ماء و من لم يجد ماءا حمل زجاجات عطر لكي يشربها.
و بدأت السير تجاه القناه ، و كانت العقول تعمل و الاسئله لا تتوقف في عقلي عن كيفيه و صول القوات الاسرائيليه الي هذا المكان في وسط سيناء فالاذاعه لا تتوقف عن سرد انتصارات قواتنا و بطولتها لكن من الواضح ان الواقع كان شيئا اخرا.

و امتد طابور الرجال الي حوالي اربعه كيلومترات تقريبا و تعمدت ان اسير في المؤخرة لكي اساعد اي فرد قد يتعرض للتعب ، و بعد سيرنا بعده ساعات صادفنا ضابط من سلاح اشارة اسمه وجدي و معه جهاز لاسلكي يحمله داخل سيارة نقل ثقيل من نوع (زيل) فركبت معه و واصلنا السير في اخر المسيرة ، و كان الطيار سعد زغلول قد فضل ان يكون في المقدمه ، و بعد نصف ساعه بالضبط انتهي و قود السيارة فأضطررنا لتركها و دفن جهاز اللاسلكي في الرمال و استكملنا المسيرة سيرا ، و اثناء السير انضم لنا عدة جنود من احد الوحدات البريه ، و كان معهم جندي يحمل راديو صغير وعبر هذا الراديو سمعنا بيان الرئيس عبد الناصر و تنحيه عن الحكم وقتها و وقتها فقط قدرت ابعاد المأساه و الكارثه ، وقتها هان كل شئ و تساوت الامور و اصبح التشبث بالحياه هو الهدف الوحيد للكل ، في ذلك الوقت كان قد مر بنا يوم علي السير و لم نلتقي بجندي اسرائيلي واحد او طائرة اسرائيليه ، و خلال يومين اخريين من السير الشاق نهارا والراحه ليلا انفرط عقد المسير و تفرق الجميع الي جماعات اتخذت اتجاهات مختلفه و انتهي ما نملكه من سوائل لنشربها ، و ضعفت طاقتي جدا لدرجه انني بدأت في تخزين البول في كوب لكي اشربه لاحقا كذلك فعل الاخرين ، و من الصعب تذكر تلك الفترة و تذكر انه قد نشبت عده صراعات بسبب البول ، فقد اصبح من لديه بول خائفا عليه من الضياع و من لا يملك بولا ينظر الي من يملك بعين الطمع، تلك كانت غريزه البقاء لدينا فالعطش قد تملك منا جميعا وتشقق وجهي بفعل الجفاف ،و استمررنا في المسير لمده خمس ايام و سقط منا العديد من الاجهاد و لم اكن وقتها لدي الطاقه لكي ازيح ذبابه وجدت في وجهي مكانا للراحه ، و ليلا في اليوم الخامس صادفنا في الطريق اعرابى معه جمل ويحمل ماء , و بدانا نشرب منه بالدور وكنا نقتصد بالشرب حتى نستطيع ان نكمل بالقليل من الماء حتى القناه ولكي يشرب الجميع ايضا , لكن أحد الافراد الذين كانوا معنا عندما سمع صوت الماء لم يتمالك اعصابه وهجم علي قربه المياه ليشرب قبل الاخرين فكسر القربه فضاع الماء هبائا علي الرمال, واخبرنا الاعرابى انه سيذهب ليحضر ماء اخر و سيعود و كنا لا نستطيع ان نسير بدونه ليلا لأننا لا نعلم طبيعة الارض اما الاعرابي فعينيه معتاده على الظلام , و هو يعلم معالم الطريق، فذهب ليحضر لنا الماء ولكنه لم يعد ، فقد كان البعض منا في حاله هستيريه فخاف الرجل علي نفسه و اثر السلامه لنفسه.

واثناء السير سمعنا ان سعد زغلول و الذي كان يسبقنا بمسافه قد القي القبض عليهم و قتلوه الاسرائيليين ، وزادت نفسيتي تعبا وارهاقا لكني و صلت لمرحله متأخرة جدا نفسيا و بدنيا و الموت اصبح محيط بنا من كل اتجاه. (علمت بعد فترة ان سعد زغلول فعلا كان قد ُأسر لكن الاسرائيليين لم يعرفوا انه طيار لانه كان يلبس مثل العمال و اختار الاسرائيليين عددا من العمال بالقرعه و قتلوهم بينما تركوا الباقيين ليعبروا القناه وكان بينهم سعد) كنا قد اصابنا اليأس في هذه المرحله و هناك من ضرب نفسه بالنار أمام عيني من شده اليأس و الاحباط ,فقد كان الامل ضعيفا في ان نعود أحياء ، و اثناء السير أنضم الينا جنود منسحبين و اختلطوا بنا و كانت حالتهم السيئه و التجارب التي مروا بها تزيدنا تعبا وارهاقا.

و كان النهار قد أنبلج و كنا نسير بالنهار لنعلم الاتجاه فوجدنا دبابه مصريه مهجورة و لم تكن مصابه فنزلنا تحتها لنستظل بها و كنا حوالى أربعين شخص, هناك من وضع بطانيه امام الدبابه لكى تظلهم .
و كنت انام على الجنزير ثم ذهبت لكى اقضى حاجه , و عندما عدت وجدت شخص اخر قد نام مكانى , و بالطبع لن اتشاجر معه , فنزلت اسفل الدبابه و كنا متزاحمين جدا.

الاسير:
بعد فتره من الراحه تحت الدبابه سمعنا صوت طائرة مروحيه تدور فوقنا ثم عادت من حيث اتت , و بعدها بربع ساعه سمعنا صوت طلقه تضرب الدبابه لدرجة ان الدبابه ارتفعت من على الارض و خبطت برؤسنا , فنظرت و انا مازلت اسفل الدبابه فوجدت سياره مدرعه اسرائيليه هبط منها جنود و يطلقوا نيرانهم علي من يهرب ممن كانوا تحت الدبابه , فظللت مكانى تحت الدبابه كأننى ميت و تلوت الشهادتين , و جاء الجنود الاسرائيليين و تأكدوا ان كل من كان تحت الدبابه ميت و انا منهم و لا احد يوجد معه سلاح , و اخذوا احد الموجودين الذي رفع منديل ابيض, و كان مازال معى ضابط الاشارة (وجدي) و كان لا يصدق نفسه انه مازال على قيد الحياه و طلب مني ان أقرص رجله لكي يتأكد انه مازال حيا ,
 
من الأربعين شخص الموجودين من البدايه ظل منهم بعد ضرب اليهود لنا حوالى 8 اشخاص , و تلك البطانيه التى كانت على مقدمه الدبابه بدأت تحترق و الدبابه بها ذخيرة , فتحركنا بسرعه بعد انصراف العربه المدرعه و أطفئنا الحريق , و جدنا الاسرائيليين يعودون الينا مرة اخرى بعد قليل و يسألون عن الطيار الموجود و يتحدثون بعض اللغه العربيه و بعض الانجليزى ,فكان من الواضح ان الاستجواب السريع للاسري الذين سلموا انفسهم منذ دقائق قد اطلع الاسرائيليين علي وجود طيار مصري حي تحت الدبابه و هو صيد ثمين جدا لهم ، فسلمت نفسى و كنت اريد ان اسلم نفسى من شدة العطش و اليأس ، و تلك اللحظه التى يكون فيها الفرد منا في هذه الحاله لا يشعر بها اى شخص سوى من شعر بالهزيمه فى اعماقه , فقد كنا منذ ايام بالجو و نملك السماء , و الان ذقن طويله وحفاه و عطشي و جياع , و امامك اليهود مسلحين و كنا لم نأكل او نشرب منذ 5 او 6 ايام.
واخذوا كل من كان حى و تظاهر بانه ميت , انا و ضابط المدرعات احمد وحش و وجدى ضابط الاشارة و من معى من عمال المنجم و الجنود المنضمين الينا , ذهبنا الى قياده المنطقه التى ارسلت سابقا الطائرة و سيارة الجيب , و في الطريق و فوق احد المرتفعات ظهرت القناه علي الافق ، فقد كنا بالفعل بالقرب منها ، و في معسكر قياده المنطقه وجدنا الجنرال الاسرائيلى ومعه كلب صغير , و من خلفه جنود يلعبون كره طائرة كأنهم في مصيف و يتمشون في الموقع بدون اى مشكله و كأنها ارضهم و كأن الحرب قد انتهت , و كنا لم نشرب منذ اسبوع و اعطونا ماءا وعصير , وحققوا معنا بشكل سطحى و وضعونا بالسيارة مرة اخرى , و ذهبنا الى مطار المليز , قطعنا المسافه فى اقل من ساعه , وكنت قد خدمت بهذا المطار , و كان شعور مؤسف ان ترى مطارك يحتله العدو , و ملعب الاسكواش قد وضعوا به الاسرى , و المدرجات وضعوا الضباط فيها . و بالملعب نفسه حوالى 400 اسير بين جريح و مصاب , و كانت تصدر عنهم اصوات أستغاثه طوال الليل و يأتى جندى يهودى كل فترة و يطلق النار في الهواء فيسكت الجميع , و بعد قليل يعاودوا الاستغاثه.

و جاءوا في اليل اخذونى و معي ثلاث اخرين منهم الضابط احمد وحش , و ربطو اعيننا و اجلسونا مثل الجنود الاسرى على الرمال , و بدأوا يطلقون النار على الارض لدرجة ان الرمال تطايرت علي ملابسي من اثار الطلقات, و كنت انتظر ان اصاب بطلقه في اي لحظه فتلوت الشهاده مرة اخري و سلمت امري لله , لكن المفاجأه بانهم اعادونا مرة اخرى الى اماكننا .

و في الصباح التالي اخذونا بسيارة من مطار المليز الى معسكر اكبر به مجموعه اكبر من الاسرى واعطونا طعاما, و كنا نقتصر في تناول الطعام لكى تكفينا فترة اطول فلا احد منا يعرف متي سيأكل مرة اخري و كان الطعام بسكوت و خلافه من المعلبات , و بعد قليل اخذوا منا الطعام مرة اخرى.

و بدأوا يعطونا الطعام المصرى الخاص بالجيش و الذى استولوا عليه من مخلفات الجيش المصري ,
و بعد بضعة ايام اخذوا الضباط فقط بأتوبيس الى مطار بير تمادا , و عند وصولنا اخذونى و غطوا عينى و وضعونى في طائرة و طرنا بها حوالى 40 دقيقه , و تقريبا تلك المسافه هى المسافه بين تمادا و بين تل ابيب العاصمه, و نزلت بمطار اخر و ركبت سيارة و معي اثنين من الحرس و مازالت عينى مغطاه , حتى و صولنا الى مبنى مثل المخابرات , و ازالوا الغطاء من على عينى و وجدت ضابط طيار ذو رتبه كبيرة امامى , اول سؤال سأله لى قال (انت دفعة الطيار سلامه فهمى عبد العزيز ؟)
جاوبته بنعم , و كان سلامه فهمى دفعتى بالفعل , و توفى في التدريب , و كُتب نعي له بالجريده , فطبيعى ان يعرفوه .

قال لى مستكملا (الان لا يعرف عنك احد شئ , بالنسبه للمصريين انت مفقود و لم يرك احد و نحن نأسرك و بناء على تعاونك معنا في الاستجوابات نقرر ما اذا نعلن عن اسمك ام لا) و وصل المقصود من كلامه الي ، فهم يمكن ان يقتلوني بكل سهوله لو لم اتعاون و لن يعرف احد ما حدث لي , و بعد ذلك اخذونى على سجن يسمى (سرفند) , هو سجن لليهود العسكريين الذين وقعت عليهم احكام جراء جرائم ارتكبوها اثناء الخدمه , دخلت الزنزانه و كنت بمفردى و كان بها سرير بجانب الحائط فى غرفه 2X3 متر , و دلو لقضاء الحاجه بغطاء و ظللت هكذا لمدة يومين او ثلاث , و فى تلك اللحظه كنت افكر اننى مفقود , و لا يعلم عنى احد شئ بمصر , و كنت متزوج و زوجتى على وشك الولاده .

و في الايام التاليه بدأوا يسألونى بعض الاسئله الساذجه و لكى يروا مدى تعاونى معهم , (مثل اى مطار اقلعت منه ؟), و يعرضوا علي خريطه المطار و يسألوني مرة اخري (اين غرفة الطوارئ ؟) و هكذا , و تشعر انهم يعرفون كل شئ و لكن يريدون ان يتأكدوا و كنت اجاوب على الاسئله و احاول ان اخدعهم بقدر الامكان , فكنت اجلس ليلا لأتذكر ماذا قلت حتى اذا سالونى مرة اخرى نفس الاسئله لا يكون كلامى متضارب , و لكنهم كانوا يسألونى بأسلوب مختلف حتى يعرفوا ان كنت صادق ام لا .

و كنت اجيب على اسئلتهم , لأن الوضع لا يدعو ان اظهر اى عمل بطولى، فقد كانوا بالفعل يعرفون الكثير و الكثير عن مطاراتنا.

و جاء الى شخص للسؤال عن الملاحه , واخر للسؤال عن المحركات , و كان عبارة عن استجواب صورى , و كنا كطيارين مثلا لا نعلم اين مخزن الذخيرة بالمطار مثلا , الشئ الذى اصروا عليه و ادى الي مشكله خلال الاستجواب هو كيف يتم التنسيق بين القوات الجوية و الدفاع الجوى و كنا كافراد طيارين لا نعلم ما اذا كان هناك تنسيق ام لا , و كانوا يظهرون الغضب من عدم اجابتى على ذلك السؤال , و كنت اجلس عاده على طاوله , ويجلس امامى المحقق على الطرف الاخر يرتدى ملابس عسكريه من القوات الجوية , و ظل ذلك الوضع لمدة شهر .

و فى احد المرات دخل على شخص كبير السن يرتدى بالطو ابيض و لا يتكلم فقلت لنفسى (انهم سيبدأوا الجزارة) , و بدأ يفتح الحقيبه التى كانت معه و وضع فوطه على عنقى , و اتضح انه حلاق جاء ليقص شعري , لأن شعرى قد نما بشكل كبير و ذقنى كذلك , و كان لنا فترة استحمام مرة واحد بالاسبوع , و يقف معك شخص و انت تستحم , و يعطوك موس لحلاقه شعر الذقن و يأخذوه منك بعد استعماله ,
و كانت الزنزانه بها شباك مسدود بخشب بينها فواصل يدخل الضوء من خلالها اعرف من خلاله ان النهار قد حل , و بالنهار كانوا يغلقوا الكشاف و يكتفوا بأضاءه الشباك , و ليلا يضيئوا الكشاف , و هو عبارة عن كشاف خارج الغرفه و يضئ من خلال شباك اعلى الباب , و الباب حديد به فتحه صغيره ينظرون منها , استمر الوضع لمدة شهر تقريبا , و جاء في يوم و وضعوا طاوله و عليها ورد و نوته للكتابه , و قالوا لى اكتب جواب لكى يرسل الى اهلك في مصر من خلال الصليب الاحمر , و كان كل ما يشغلنى ان يصل ذلك الجواب الى مصر لكى يعلموا بوجودى , فكتبت الى والدى , و اخبرته انى بسجن في أسرائيل و بالزنزانه طاوله عليها ورد و المعامله جيده , و قالوا لى ان معاملتي تتوقف على معاملة المصريين للأسرى اليهود .

بعد كتابه الجواب اخذوا الطاوله و الورد مرة اخري , و ظل هذا الوضع لمده شهر بدون ان يكلمنى شخص و لا اخرج من الزنزانه مطلقا , و طبقا للقانون الدولي يجب ان أمشى على الاقل مرة في الاسبوع خارج غرفتي لكن ذلك لم يحدث و هو كان نوعا من الضغط النفسي الرهيب علي في تلك الزنزانه الضيقه سيئه التهويه .

و فى احد الايام جاءوا الى و معهم ملابس و يقولون انهم سيجعلونى ازور البلد ,و كان ذلك خروجا عن المألوف و كان شيئا جيد ، فذهبت الى منطقه تسمى نتانيا ثم عكا و رأس الناقورة كل ذلك بسيارة مدنيه , و كنت أسير في الشارع أرى الناس , و المدهش انى شاهدت اشياء موجوده فى اسرائيل عام 1967 لا اراها فى مصر الان , مثلا كان كل منزل يوجد عليه سخان بالطاقة الشمسيه و الشوارع النظيفه و المرور و النظام ممتاز, و ادركت انهم يريدون ان يغسلوا عقلي و كانوا ناجحين في ذلك كثيرا، وكانوا قد اخرجونى مرتين خلال الاسر , في المرة الثانيه ذهبت الى سينما , و هي عبارة عن بانوراما دائريه , و كنت اعرف انهم يريدون ان اعلم ان هذه اسرائيل التى نحاربها , و كان غسيل مخ مستمر و كانوا يقولون لي ان العرب لا يتفقون على شئ سوى محاربة اسرائيل , و بعد تلك الزيارات بدأ الصليب الاحمر فى زيارتى , فوالدى بعد ان وصله جوابى ذهب الى قيادة القوات الجوية و معه تورته الى الاسرى الاسرائيليين , و هذا لكى اعامل كمثل ما يعامل الاسرى اليهود .

و جاء الى اول جواب من مصر , و كان به اول صور لأبنتى التى ولدت فى 25 يونيه و صور للعائله و الزوجه, و شعرت اننى أصبحت معروفا الان كاسير حرب و لى حقوق , و لا يستطيعوا ان يفعلوا شئ يودى بحياتىفتحسنت حالتي المعنويه كثيرا و عادت الي روح الصمود و بدأت تتوالى الجوابات من و الى عائلتي بأنتظام ، و كنت اتعمد الا اكتب اي شئ عن الاسر لاني اعلم ان هذه الخطابات تمر علي جهات مخابراتيه كثيرة قبل ان تصل الي مصر و العكس بالطبع ، و كانوا يعطونى مجلات اجنبيه مرة كل شهر مجله او مجلتين , و طوال المده كان هناك بعض التعامل مع المساجين اليهود و قد علمونى بعض العبرى , و كان يعطوني 10 سجائر زرقاء اللون في اليوم , و كانت مميزة عن سجائر الجنود اليهود ,لكي لا نرشوا الجنود و نحصل علي امتيازات ليست من حقنا ، و كان هناك جندى أسرائيلي من اصل عراقى أسمه نيمرن كان متعاطف معى و يجلس معى بعض الوقت .

و كنت اخذ المجله الاجنبيه و اترجمها الى العربيه , ثم اعود و اترجمها الى انجليزيه , ثم اعيدها للعربيه , و علب السجائر كنت اقسمها الى قسمين و ارسم عليها مثل الكوتشينه و كان معى مصحف أقرأ فيه بانتظام.

و بعد مده جاء طيار زميل أسمه مرتضى الرفاعي كان قد تم أسقاطه فى 14 و 15 يوليه في الطلعات التي اطلقها الفريق مدكور ابو العز قائد القوات الجويه المصريه وقتها لاعادة الثقه الي الطيارين , و جاء الى الزنزانه المجاورة ,سمحوا لنا ان نجلس مع بعضنا مرتين او ثلاث مرات , و فى احد المرات قال الى مرتضى انه سيقول انه مصاب بالزائده الدوديه لكي يخرج من الزنزانه , و فعلا اخذوه على المستشفى و كشفوا عليه , و بالفعل تم عمل عمليه الزائده , و بعدها اخبروني ان مرتضى الرفاعي تم عمل عمليه له و يريد ان يراني , و عندما زرته في المستشفي كانت اول مرة ارى مستشفى بتلك الشكل , نظام و نظافه بشكل يفوق الوصف , و بعدها بفترة عاد مرتضي الرفاعي الى الزنزانه.

ثم نقلونا الى معسكر (عتليت) للأعتقال , و كان كبير و يوجد به حوالى 6000 اسير مصرى بمختلف الرتب , و بما اننا طيارين كانت اقامتنا مع الضباط و مع اللواءات , و كنت بغرفه بها عقيد صيدلى , و تعرفت علي اخرين منهم عميد يسمى عبد المنعم الوكيل , و اخر طبيب عميد , كنت معهم و كان وقتها رمضان , و كنا نقوم باعداد السلطه و يأتون الينا بالطعام و نفطر سويا , و كنا نلعب كوتشينه و العاب اخرى , و كان هناك بعض المصريين الحلاقين يأتون الينا , و فى احد المرات تم دعوة معسكر اللواءات كما كان يطلق علينا الى معسكر الجنود بأذن من اليهود , كان الجنود قد اعدوا شئ مثل المسرح بالبطاطين و السرائر , و مثلث مكتوب عليه الليله الكبيرة , و الجنود يغنون اوبريت الليله الكبيرة كاملا , و كان يوم جميل جدا و بالنسبه لأخر شهرين كانوا عبارة عن اجازة بالنسبه لي مقارنه بزنزانه الحبس الانفرادي في المعتقل الاول , و فى احد الايام جاء الى المعسكر اسحاق رابين رئيس الاركان الاسرائيلي , فقال له قائد السجن انه هنا يوجد طيار مصري , فنادى علي و سألنى من اى مطار اقلعت منه ؟ فقلت له فايد ، فقال لى انه عمل بذلك المطار منذ ايام الانجليز و سألنى عن اى طلبات أطلبها , فطلبت بعض منه بعض الالعاب مثل البينج بونج و خلافه , وجائنى بقصه عن الفضاء , وهذه بعض الاشياء التى مازلت اتذكرها.
 
و سبب طول مدة الاسر حوالى 8 شهور هو ان هناك اسير اسرائيلى تم القبض عليه واخذ سجن لمده طويله , و كان اليهود بالمفاوضات الخاصه بالاسرى يريدونهو هذا الاسير عرف بعد ذلك بجاسوس الشمبانيا و كان يعمل في مصر تحت غطاء انه تاجر الماني يعمل في الخيول ، و عن طريق المجتمع الراقي المصري استطاع ان يدخل في اروقه الطبقه المصريه الراقيه و ما فيها من كبار ضباط و طيارين ، و عن طريق ذلك الجاسوس الداهيه تم ارهاب العلماء الالمان العاملين في برنامج الصواريخ المصري حتي غادروا مصر هربا ، و تم له ايضا الدخول في اروقه الطيارين و تشكيل نمط لحياه الطيار في مصر و معرفه حياته داخل المطارات مما ساعد في توجيه ضربه 5 يونيو 1967 ، و بسقوط هذا الجاسوس في يد المخابرات المصريه ، انزعجت اسرائيل جدا و عملت جاهده للافراج عنه و جاء عبد الناصر في العيد فأفرج عن بعض المسجونين و من ضمنهم هذا الجاسوس و مجموعه من الضفادع البشريه الاسرائيليه و التي تم اسرهم في الاسكندريه ليله 5 يونيو 1967 بعد فشلهم في الوصول الي الميناء الحربي , و بدأت عمليه تبادل الاسرى تسير بشكل جيد على افواج , و انا تم نزولى اخر فوج , و الطيار مرتضى الرفاعي كان في بدايه الافواج , لأنهم تبادلوا اولا المصابين .

و تم تبادلنا عن طريق البر بالاتوبيسات و نحن نسير بالاراض الاسرائيليه حتى و صلنا الى القناه و تم تبادلنا عن طريق القوارب .











العوده الي مصر – الاستنزاف – حرب اكتوبر
وعندما وصلت للضفه الغربيه علي القناه و جدت اللواء المسيرى و اللواء سمير رمضان فى استقبالى على اعتبار انى الطيار الوحيد , و اخذوني على الكليه الحربيه و كانوا يسمونها (الكرنتينه) اي كحجر صحى , فى خلال هذه الفترة كانوا يعطوننا اكل شهى .

و جاءت الي زوجتى بأبنتي المولوده و شاهدتها من النافذه حيث كانت الزيارة ممنوعه ، فظلت زوجتي في الشارع و شاهدتهم و كانت لحظه صعبه جدا في حياتي و احسست بمدي الالم الذي مررت به في الفترة السابقه , لأنه كان المفروض ان اقضى تلك الفترة بدون خروج و خلال ذلك الوقت بالكليه الحربيه كان افراد المخابرات يجلسوننا بخيمه كبيرة كخيمه امتحانات الكليه , و عليها طاولات كطاولات الطلبه نجلس عليها , و يسألوننا بعض الاسئله البسيطه , ثم اعطونى تذكرة طائرة و اقامه لمدة اسبوع بالاقصر ومعى الطيار الاسير الاخر مرتضى الرفاعي .

و بعد فترة استجمام و استرخاء بالاقصر عدت الى القوات الجوية و ذهبت الى قائد القوات الجوية بمكتبه اللواء مصطفى الحناوى و قال لى انه يقدر ما اشعر به من تجاهل من القوات الجويه و انه قد سقطت طائرته في وقت ما وذهب الى المستشفى و لم يسأل عنه احد و انه يحس ما احس به و يقدره و هنأنى على عودتى مجددا , و قال لى انني ساذهب الى الكليه الجوية , فقلت له انى اريد ان اذهب الى اللواء الجوى المقاتل الخاص بى لكي اعود للقتال مرة اخري , فقال لي ان الكليه بها عجز بالمدرسين , فذهبت الى الكليه الجوية بمدينة بلبيس , و كانت الكليه الجوية بعد حرب 1967 منتشرة و موزعه في مدينة بلبيس و مدينة مرسى مطروح و مدينة المنيا و منطقة امبابه و كنا نذهب كمدرسين الى كل تلك المناطق و بالكليه من عام68 الى 78 بالكليه .

وكان شعورى اول مرة بالطيران بعد الاسر شعور سعيد جدا و كنت اريد ان اعود للواء القتال الجوي, و لكنى ذهبت الى الكليه كمدرس , و اخذت فرقة تدريس على طائرة التدريب الياك18 , و بعدها بدات رحله التدريس على الطائره الجمهوريه و على طائره التدريب ل29 , و كانت هذه الطائرة جديده و ممتازة فى مجال التدريب.
 
و كانت حرب الاستنزاف مستمرة و دورنا لا يقل بأي حال من الاحوال عن دور المقاتلين في الاسراب فالمطلوب منا ان نمد القوات الجويه بالذخيرة من الطيارين لتعويض الخسائر في الطيارين و لكي نعيد بناء القوات الجويه ، و في احد الايام ذهبت مرة الى لواء السوخوى 7 كى ازورة قابلنى الطيار منير فهمى و كان قائد سرب بمطار بلبيس فقابلنى على الباب , و عرفني بنفسه رغم انني اعرفه قائلا المرحوم منير فهمى برسومى , فسألته لماذا كلمة مرحوم ؟! فقال لأن طياري السرب تم تغييرهم ثلاث مرات فالسرب تغير دمه ثلاث مرات , فكل تشكيل للسرب يستشهد افراده و من يحل محلهم يستشهد هو الاخر و هكذا ثلاث مرات لذلك هو يعتبر نفسه مرحوم ، و هذا يدل علي مدى شراسه معارك الاستنزاف الجويه و مدي الخسائر في الطيارين المصريين مما القى علينا عبء نفسي اضافي.

في الكليه الجويه كنا ندرب الطيارن ليلا و نهارا , و كانت لديهم روح قتال عاليه ,و ظهر ذلك في الجديه العاليه و الروح الكبيرة للقتال ، و فى تلك الفترة من حرب النكسه عام 1967 و حتى عام 1973 تم تخريج حوالى 400 طيار و هذا يعتبر انجاز كبير ، و انا اعتبر ان 70% ممن قاتلوا في حرب اكتوبر من ابنائي الطلبه الذين شاركت بهم في القتال و هو من دواعي فخري الشديد.

و في عام 1972 زارنا الفريق محمد صادق و قال لنا ان العمليات قريبه فكان تمهيد لما سيحدث , و كنت أعرف ان القوات تتدرب على العبور , و ان منطقة ترعة الاسماعيليه كنا نتدرب عليها كتجسيم للقناه .

و في العام التالي تم بالكليه الجويه تشكيل لواء مقاتل على طائرة التدريب (L-29 ) من المدرسين فى الكلية الجويه , و علمنا ان هذا اللواء سيعمل مع الطلبه بعد تحقيق النصر لكي يشتركوا في معارك صغيرة لكي نريهم كيف يتعامل معنا العدو و بغرض ان الطالب يشعر بالمعركه , و تم ارسال اللواء الى مطار كوم اوشيم بالفيوم و كان عبارة عن 12 طائرة باللواء.

و كان ذلك قبل الحرب مباشرة , و لم نعلم بالضربه الا من خلال الاذاعه و حضرنا الضربه الجوية الاولى و نحن فى مطار كوم اوشيم و هناك طائرات من الضربه الجوية الاولى هبطت في مطار كوم اوشيم مثل طائرة الطيار حمدى غنيم من طراز ميج 21 المقاتلة الاعتراضيه و الطيار حسن يسرى , و نزلنا الى غرفة العمليات بالمطار , و كانت غرفه جيده و كانت هناك شاشة عمليات و يظهر عليها علامات طيران , و كنا نشاهد الطائرات الاسرئيليه تظهر حتى حائط الصواريخ و تختفى , و هذا يعنى انها قد دمرت و تم اسقاطها .

و كنت مستاء جدا لعلمى بأن هناك من يحارب و نحن نجلس على الارض بطائرات التدريب L-29
لا نفعل شئ , و جاء يوم 14 او 15 أكتوبر و جائتنا الاوامر ان نذهب الى مطار بلبيس ليلا على ارتفاع منخفض جدا قريب جدا من الارض و ارتفعت روحنا المعنويه للسماء فمطار بلبيس من مطارات المواجهه و معني ذلك اننا سندخل في القتال قريبا .

و صباح اليوم التالى جاءت اوامر بطلعة عمليات , و كان ممنوع التحدث في الاسلكى , و الحركات بالاشاره , و طائرات السوخوى 7 المقاتلة القاذفه منتظرة على الممر الاخر , و عندما فتحت السوخوى 7 (الافتر برنر) كان المطار يهتز من قوة محرك السوخوي 7 , و صعدت طائرات السوخوى جميعا , و بعدها بدأت طائرات الL-29 تنطلق في تشكيلات متتاليه تسمى (سكشن) اي كل طائرتين تقلعان مع بعض فى نفس الوقت من نفس الممر في نفس الاتجاه عند الاقلاع , و بدأنا رحلة الذهاب للهدف , و كانت المهمه هى ضرب اى اهداف توجد في الثغرة و كان ذلك يوم 17 اكتوبر , و كنا نرى دبابات العدو و كنا نضرب عليها و نحن على ارتفاع منخفض جدا و كانت الطائرة مسلحه بأربع حمالات صواريخ و كل منها يحمل صاروخين عيار 5 سم , و هي صواريخ تدريب و عندما تصطدم بالدبابه المعاديه لا تؤثر بها . و كان قائد السرب الطيار هانى حسن و كان معنا ايضا الطيارون قدرى المهناوى و حازم شاش و مصطفى حافظ , و احمد التهامى و على شحاته .

و كانت الاهداف التى تعطى لنا على الخرائط فى بعض الاحيان لا نجدها , لأن اليهود كانوا فى تحرك بأستمرار و كنا نجد دبابه منفرده مثلا فنتجه اليها و نضربها و نعبر من فوق الدبابه المعاديه, و كانوا يضربون علينا من مدافع الدبابه و كنا نرى طلقات الدبابات امامنا من بطء سرعه الطائرة , و كانوا يصنعون غلاله من النيران حول الطائرة , و كان افضل حل للافلات منها هو الاستمرار في الطيران بدون دوران حتى تخرج من تلك الغلاله ثم تبدا الدوران , و اذا قام الطيار بتنفيذ دوران و هو بداخل الغلاله الناريه المعاديه فهذه ستصطدم بالطيار , و استشهد الطيار هانى حسن فى تلك الطلعه من مدفع دبابه , و لم تعترضنا مقاتلات اسرائيليه , و عدت من تلك الطلعه و انا مصاب ب8 طلقات في جسم و جناح الطائره لأنها طائرة تتحمل الاصابات و ذلك اثار استغراب اليهود , و بعدها بدا اليهود يضربون على الطيار نفسه داخل الطائره اثناء الطيران , لدرجة ان هناك طائرات عادة و غطاء الكابينه الخلفى مضروب.
 
وفي اليوم التالى كانت هناك طلعه اخرى و اصيبت طائرتي ببعض الطلقات و بدون ان نحقق نتائج تذكر في تلك الطلعه.

و في اليوم التالى 19 أكتوبر كانت هناك طلعه أخري , و فكرنا ان نغير التكتيك و نرتفع بعض الشئ حوالى 500 متر لكي نزيد من فاعلية الصاروخ , و ذهبنا بذلك الاسلوب و استشهد الطيار مصطفى حافظ و الطيار احمد التهامى بصواريخ جو\جو من طائرات مقاتلات معاديه و لم اشترك بتلك الطلعه.

و كان الجو بمطار بلبيس يختلف عن مطار كوم اوشيم , فكان جو المعركه حولنا في كل ثانيه , و الطائرات من حولنا تتحرك بدون توقف , و بدات الاخبار عن الثغرة تظهر بأنها 7 دبابات , و لكن الموضوع اتضح انه غير ذلك .و كانت اخبار الحرب تشعرنا بالغيرة من اننا نجلس في الكليه و الحرب مازالت دائرة .

و انتهت الحرب بعد فترة و لم اشارك فيها الا في طلعات محدوده التأثير لكنه شرف لي ان اكون قد شاركت في النصر و في مسح عار الهزيمه في 1967 و فخري الرئيسي ليس في المشاركه بطلعات اكتوبر لكن أفتخر بان من دربتهم و ساعدت في صقلهم قد قاموا بالحرب و شاركوا فيها ضد الطيران الاسرائيلي و انتصروا بالامكانيات المتاحه.
 
هؤلاء هم الابطال الحقيقيون .. شكرا على الموضوع
 
عودة
أعلى