من الأربعين شخص الموجودين من البدايه ظل منهم بعد ضرب اليهود لنا حوالى 8 اشخاص , و تلك البطانيه التى كانت على مقدمه الدبابه بدأت تحترق و الدبابه بها ذخيرة , فتحركنا بسرعه بعد انصراف العربه المدرعه و أطفئنا الحريق , و جدنا الاسرائيليين يعودون الينا مرة اخرى بعد قليل و يسألون عن الطيار الموجود و يتحدثون بعض اللغه العربيه و بعض الانجليزى ,فكان من الواضح ان الاستجواب السريع للاسري الذين سلموا انفسهم منذ دقائق قد اطلع الاسرائيليين علي وجود طيار مصري حي تحت الدبابه و هو صيد ثمين جدا لهم ، فسلمت نفسى و كنت اريد ان اسلم نفسى من شدة العطش و اليأس ، و تلك اللحظه التى يكون فيها الفرد منا في هذه الحاله لا يشعر بها اى شخص سوى من شعر بالهزيمه فى اعماقه , فقد كنا منذ ايام بالجو و نملك السماء , و الان ذقن طويله وحفاه و عطشي و جياع , و امامك اليهود مسلحين و كنا لم نأكل او نشرب منذ 5 او 6 ايام.
واخذوا كل من كان حى و تظاهر بانه ميت , انا و ضابط المدرعات احمد وحش و وجدى ضابط الاشارة و من معى من عمال المنجم و الجنود المنضمين الينا , ذهبنا الى قياده المنطقه التى ارسلت سابقا الطائرة و سيارة الجيب , و في الطريق و فوق احد المرتفعات ظهرت القناه علي الافق ، فقد كنا بالفعل بالقرب منها ، و في معسكر قياده المنطقه وجدنا الجنرال الاسرائيلى ومعه كلب صغير , و من خلفه جنود يلعبون كره طائرة كأنهم في مصيف و يتمشون في الموقع بدون اى مشكله و كأنها ارضهم و كأن الحرب قد انتهت , و كنا لم نشرب منذ اسبوع و اعطونا ماءا وعصير , وحققوا معنا بشكل سطحى و وضعونا بالسيارة مرة اخرى , و ذهبنا الى مطار المليز , قطعنا المسافه فى اقل من ساعه , وكنت قد خدمت بهذا المطار , و كان شعور مؤسف ان ترى مطارك يحتله العدو , و ملعب الاسكواش قد وضعوا به الاسرى , و المدرجات وضعوا الضباط فيها . و بالملعب نفسه حوالى 400 اسير بين جريح و مصاب , و كانت تصدر عنهم اصوات أستغاثه طوال الليل و يأتى جندى يهودى كل فترة و يطلق النار في الهواء فيسكت الجميع , و بعد قليل يعاودوا الاستغاثه.
و جاءوا في اليل اخذونى و معي ثلاث اخرين منهم الضابط احمد وحش , و ربطو اعيننا و اجلسونا مثل الجنود الاسرى على الرمال , و بدأوا يطلقون النار على الارض لدرجة ان الرمال تطايرت علي ملابسي من اثار الطلقات, و كنت انتظر ان اصاب بطلقه في اي لحظه فتلوت الشهاده مرة اخري و سلمت امري لله , لكن المفاجأه بانهم اعادونا مرة اخرى الى اماكننا .
و في الصباح التالي اخذونا بسيارة من مطار المليز الى معسكر اكبر به مجموعه اكبر من الاسرى واعطونا طعاما, و كنا نقتصر في تناول الطعام لكى تكفينا فترة اطول فلا احد منا يعرف متي سيأكل مرة اخري و كان الطعام بسكوت و خلافه من المعلبات , و بعد قليل اخذوا منا الطعام مرة اخرى.
و بدأوا يعطونا الطعام المصرى الخاص بالجيش و الذى استولوا عليه من مخلفات الجيش المصري ,
و بعد بضعة ايام اخذوا الضباط فقط بأتوبيس الى مطار بير تمادا , و عند وصولنا اخذونى و غطوا عينى و وضعونى في طائرة و طرنا بها حوالى 40 دقيقه , و تقريبا تلك المسافه هى المسافه بين تمادا و بين تل ابيب العاصمه, و نزلت بمطار اخر و ركبت سيارة و معي اثنين من الحرس و مازالت عينى مغطاه , حتى و صولنا الى مبنى مثل المخابرات , و ازالوا الغطاء من على عينى و وجدت ضابط طيار ذو رتبه كبيرة امامى , اول سؤال سأله لى قال (انت دفعة الطيار سلامه فهمى عبد العزيز ؟)
جاوبته بنعم , و كان سلامه فهمى دفعتى بالفعل , و توفى في التدريب , و كُتب نعي له بالجريده , فطبيعى ان يعرفوه .
قال لى مستكملا (الان لا يعرف عنك احد شئ , بالنسبه للمصريين انت مفقود و لم يرك احد و نحن نأسرك و بناء على تعاونك معنا في الاستجوابات نقرر ما اذا نعلن عن اسمك ام لا) و وصل المقصود من كلامه الي ، فهم يمكن ان يقتلوني بكل سهوله لو لم اتعاون و لن يعرف احد ما حدث لي , و بعد ذلك اخذونى على سجن يسمى (سرفند) , هو سجن لليهود العسكريين الذين وقعت عليهم احكام جراء جرائم ارتكبوها اثناء الخدمه , دخلت الزنزانه و كنت بمفردى و كان بها سرير بجانب الحائط فى غرفه 2X3 متر , و دلو لقضاء الحاجه بغطاء و ظللت هكذا لمدة يومين او ثلاث , و فى تلك اللحظه كنت افكر اننى مفقود , و لا يعلم عنى احد شئ بمصر , و كنت متزوج و زوجتى على وشك الولاده .
و في الايام التاليه بدأوا يسألونى بعض الاسئله الساذجه و لكى يروا مدى تعاونى معهم , (مثل اى مطار اقلعت منه ؟), و يعرضوا علي خريطه المطار و يسألوني مرة اخري (اين غرفة الطوارئ ؟) و هكذا , و تشعر انهم يعرفون كل شئ و لكن يريدون ان يتأكدوا و كنت اجاوب على الاسئله و احاول ان اخدعهم بقدر الامكان , فكنت اجلس ليلا لأتذكر ماذا قلت حتى اذا سالونى مرة اخرى نفس الاسئله لا يكون كلامى متضارب , و لكنهم كانوا يسألونى بأسلوب مختلف حتى يعرفوا ان كنت صادق ام لا .
و كنت اجيب على اسئلتهم , لأن الوضع لا يدعو ان اظهر اى عمل بطولى، فقد كانوا بالفعل يعرفون الكثير و الكثير عن مطاراتنا.
و جاء الى شخص للسؤال عن الملاحه , واخر للسؤال عن المحركات , و كان عبارة عن استجواب صورى , و كنا كطيارين مثلا لا نعلم اين مخزن الذخيرة بالمطار مثلا , الشئ الذى اصروا عليه و ادى الي مشكله خلال الاستجواب هو كيف يتم التنسيق بين القوات الجوية و الدفاع الجوى و كنا كافراد طيارين لا نعلم ما اذا كان هناك تنسيق ام لا , و كانوا يظهرون الغضب من عدم اجابتى على ذلك السؤال , و كنت اجلس عاده على طاوله , ويجلس امامى المحقق على الطرف الاخر يرتدى ملابس عسكريه من القوات الجوية , و ظل ذلك الوضع لمدة شهر .
و فى احد المرات دخل على شخص كبير السن يرتدى بالطو ابيض و لا يتكلم فقلت لنفسى (انهم سيبدأوا الجزارة) , و بدأ يفتح الحقيبه التى كانت معه و وضع فوطه على عنقى , و اتضح انه حلاق جاء ليقص شعري , لأن شعرى قد نما بشكل كبير و ذقنى كذلك , و كان لنا فترة استحمام مرة واحد بالاسبوع , و يقف معك شخص و انت تستحم , و يعطوك موس لحلاقه شعر الذقن و يأخذوه منك بعد استعماله ,
و كانت الزنزانه بها شباك مسدود بخشب بينها فواصل يدخل الضوء من خلالها اعرف من خلاله ان النهار قد حل , و بالنهار كانوا يغلقوا الكشاف و يكتفوا بأضاءه الشباك , و ليلا يضيئوا الكشاف , و هو عبارة عن كشاف خارج الغرفه و يضئ من خلال شباك اعلى الباب , و الباب حديد به فتحه صغيره ينظرون منها , استمر الوضع لمدة شهر تقريبا , و جاء في يوم و وضعوا طاوله و عليها ورد و نوته للكتابه , و قالوا لى اكتب جواب لكى يرسل الى اهلك في مصر من خلال الصليب الاحمر , و كان كل ما يشغلنى ان يصل ذلك الجواب الى مصر لكى يعلموا بوجودى , فكتبت الى والدى , و اخبرته انى بسجن في أسرائيل و بالزنزانه طاوله عليها ورد و المعامله جيده , و قالوا لى ان معاملتي تتوقف على معاملة المصريين للأسرى اليهود .
بعد كتابه الجواب اخذوا الطاوله و الورد مرة اخري , و ظل هذا الوضع لمده شهر بدون ان يكلمنى شخص و لا اخرج من الزنزانه مطلقا , و طبقا للقانون الدولي يجب ان أمشى على الاقل مرة في الاسبوع خارج غرفتي لكن ذلك لم يحدث و هو كان نوعا من الضغط النفسي الرهيب علي في تلك الزنزانه الضيقه سيئه التهويه .
و فى احد الايام جاءوا الى و معهم ملابس و يقولون انهم سيجعلونى ازور البلد ,و كان ذلك خروجا عن المألوف و كان شيئا جيد ، فذهبت الى منطقه تسمى نتانيا ثم عكا و رأس الناقورة كل ذلك بسيارة مدنيه , و كنت أسير في الشارع أرى الناس , و المدهش انى شاهدت اشياء موجوده فى اسرائيل عام 1967 لا اراها فى مصر الان , مثلا كان كل منزل يوجد عليه سخان بالطاقة الشمسيه و الشوارع النظيفه و المرور و النظام ممتاز, و ادركت انهم يريدون ان يغسلوا عقلي و كانوا ناجحين في ذلك كثيرا، وكانوا قد اخرجونى مرتين خلال الاسر , في المرة الثانيه ذهبت الى سينما , و هي عبارة عن بانوراما دائريه , و كنت اعرف انهم يريدون ان اعلم ان هذه اسرائيل التى نحاربها , و كان غسيل مخ مستمر و كانوا يقولون لي ان العرب لا يتفقون على شئ سوى محاربة اسرائيل , و بعد تلك الزيارات بدأ الصليب الاحمر فى زيارتى , فوالدى بعد ان وصله جوابى ذهب الى قيادة القوات الجوية و معه تورته الى الاسرى الاسرائيليين , و هذا لكى اعامل كمثل ما يعامل الاسرى اليهود .
و جاء الى اول جواب من مصر , و كان به اول صور لأبنتى التى ولدت فى 25 يونيه و صور للعائله و الزوجه, و شعرت اننى أصبحت معروفا الان كاسير حرب و لى حقوق , و لا يستطيعوا ان يفعلوا شئ يودى بحياتىفتحسنت حالتي المعنويه كثيرا و عادت الي روح الصمود و بدأت تتوالى الجوابات من و الى عائلتي بأنتظام ، و كنت اتعمد الا اكتب اي شئ عن الاسر لاني اعلم ان هذه الخطابات تمر علي جهات مخابراتيه كثيرة قبل ان تصل الي مصر و العكس بالطبع ، و كانوا يعطونى مجلات اجنبيه مرة كل شهر مجله او مجلتين , و طوال المده كان هناك بعض التعامل مع المساجين اليهود و قد علمونى بعض العبرى , و كان يعطوني 10 سجائر زرقاء اللون في اليوم , و كانت مميزة عن سجائر الجنود اليهود ,لكي لا نرشوا الجنود و نحصل علي امتيازات ليست من حقنا ، و كان هناك جندى أسرائيلي من اصل عراقى أسمه نيمرن كان متعاطف معى و يجلس معى بعض الوقت .
و كنت اخذ المجله الاجنبيه و اترجمها الى العربيه , ثم اعود و اترجمها الى انجليزيه , ثم اعيدها للعربيه , و علب السجائر كنت اقسمها الى قسمين و ارسم عليها مثل الكوتشينه و كان معى مصحف أقرأ فيه بانتظام.
و بعد مده جاء طيار زميل أسمه مرتضى الرفاعي كان قد تم أسقاطه فى 14 و 15 يوليه في الطلعات التي اطلقها الفريق مدكور ابو العز قائد القوات الجويه المصريه وقتها لاعادة الثقه الي الطيارين , و جاء الى الزنزانه المجاورة ,سمحوا لنا ان نجلس مع بعضنا مرتين او ثلاث مرات , و فى احد المرات قال الى مرتضى انه سيقول انه مصاب بالزائده الدوديه لكي يخرج من الزنزانه , و فعلا اخذوه على المستشفى و كشفوا عليه , و بالفعل تم عمل عمليه الزائده , و بعدها اخبروني ان مرتضى الرفاعي تم عمل عمليه له و يريد ان يراني , و عندما زرته في المستشفي كانت اول مرة ارى مستشفى بتلك الشكل , نظام و نظافه بشكل يفوق الوصف , و بعدها بفترة عاد مرتضي الرفاعي الى الزنزانه.
ثم نقلونا الى معسكر (عتليت) للأعتقال , و كان كبير و يوجد به حوالى 6000 اسير مصرى بمختلف الرتب , و بما اننا طيارين كانت اقامتنا مع الضباط و مع اللواءات , و كنت بغرفه بها عقيد صيدلى , و تعرفت علي اخرين منهم عميد يسمى عبد المنعم الوكيل , و اخر طبيب عميد , كنت معهم و كان وقتها رمضان , و كنا نقوم باعداد السلطه و يأتون الينا بالطعام و نفطر سويا , و كنا نلعب كوتشينه و العاب اخرى , و كان هناك بعض المصريين الحلاقين يأتون الينا , و فى احد المرات تم دعوة معسكر اللواءات كما كان يطلق علينا الى معسكر الجنود بأذن من اليهود , كان الجنود قد اعدوا شئ مثل المسرح بالبطاطين و السرائر , و مثلث مكتوب عليه الليله الكبيرة , و الجنود يغنون اوبريت الليله الكبيرة كاملا , و كان يوم جميل جدا و بالنسبه لأخر شهرين كانوا عبارة عن اجازة بالنسبه لي مقارنه بزنزانه الحبس الانفرادي في المعتقل الاول , و فى احد الايام جاء الى المعسكر اسحاق رابين رئيس الاركان الاسرائيلي , فقال له قائد السجن انه هنا يوجد طيار مصري , فنادى علي و سألنى من اى مطار اقلعت منه ؟ فقلت له فايد ، فقال لى انه عمل بذلك المطار منذ ايام الانجليز و سألنى عن اى طلبات أطلبها , فطلبت بعض منه بعض الالعاب مثل البينج بونج و خلافه , وجائنى بقصه عن الفضاء , وهذه بعض الاشياء التى مازلت اتذكرها.