النار

إنضم
17 يوليو 2010
المشاركات
3,855
التفاعل
8,331 32 1
بسم الله الرحمن الرحمن

تعريف النار :



النار هي الدار التي أعدها الله للكافرين به، المتمردين على شرعه، المكذبين لرسله، وهي عذابه الذي يعذب فيه أعداءه، وسجنه الذي يسحن فيه المجرمين. وهي الخزي الأكبر، والخسران العظيم، الذي لا خزي فوقه، ولا خسران أعظم منه، رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [آل عمران: 192]، أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ [التوبة: 63]، وقال: إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر: 15]. وكيف لا تكون النار كما وصفنا وفيها من العذاب والآلام والأحزان ما تعجز عن تسطيره أقلامنا، وعن وصفه ألسنتنا، وهي مع ذلك خالدة وأهلها فيها خالدون، ولذلك فإن الحق أطال في ذم مقام أهل النار في النار إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان: 66]، هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ [ص: 55 – 56]

خزنة النار :

يقوم على النار ملائكة، خلقهم عظيم، وبأسهم شديد، لا يعصون الله الذي خلقهم، ويفعلون ما يؤمرون، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6]. وعدتهم تسعة عشر ملكاً، كما قال تعالى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر: 26 - 30] وقد فتن الكفار بهذا العدد، فقد ظنوا أنه يمكن التغلب على هذا العدد القليل، وغاب عنهم أن الواحد من هؤلاء يملك من القوة ما يواجه به البشر جميعاً، ولذلك عقب الحق على ما سبق بقوله: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا [المدثر: 31]. قال ابن رجب: والمشهور بين السلف والخلف أن الفتنة إنما جاءت من حيث ذكر عدد الملائكة الذين اغتر الكفار بقلتهم، وظنوا أنهم يمكنهم مدافعتهم وممانعتهم، ولم يعلموا أن كل واحد من الملائكة لا يمكن البشر كلهم مقاومته. وهؤلاء الملائكة هم الذين سماهم الله بخزنة جهنم في قوله: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ [غافر: 49]


سعة النار و بعد قعرها :

أما قعرها وعمقها فعن خالد بن عمير قال: ((خطب عتبة بن غزوان فقال: إنه ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاماً لا يدرك لها قعراً والله لَتُملأَن أفعجبتم.)) (1) رواه مسلم موقوفاً هكذا، وكذا خرجه الإمام أحمد موقوفاً، وخرجه أيضاً مرفوعاً. قال الحافظ: والموقوف أصح (2) .
وخرج الترمذي عن عتبة بن غزوان أنه قال على منبر البصرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الصخرة العظيمة لتلقى من شفير جهنم فتهوي فيها سبعين وما تقض إلى قرارها)).
قال: وكان عمر رضي الله عنه يقول: (أكثروا ذكر النار, فإن حرها شديد, وإن قعرها بعيد, وإن مقامعها من حديد) (3) .
قال الترمذي: (رواه الحسن عن عتبة ولا نعرف للحسن سماعاً من عتبة بن غزوان).
وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فسمعنا وجبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا حجر أرسل في جهنم منذ سبعين خريفاً)) (4) .
وخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لو أن حجراً قذف به في نار جهنم لهوى فيها سبعين خريفاً قبل أن يبلغ قعرها)) (5) (6) .
وأخرج ابن المبارك عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (إن ما بين شفير جهنم مسيرة سبعين خريفاً من حجر يهوي أو صخرة تهوي عظمها كعشر عشراوات أي: نوق عشارية عظام سمان فقال له رجل تحت ذلك شيء يا أبا أمامة؟ قال: نعم غي وآثام) (7) .
قال الحافظ في التخويف (8) : (وقد روي هذا مرفوعاً بإسناد فيه ضعف وزاد فيه: ((قيل وما غي وما آثام قال: بئران يسيل فيهما صديد أهل النار وهما اللتان ذكرهما الله في كتابه فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم: 59] وفي الفرقان يَلْقَ أَثَامًا [الفرقان: 68].)) (9) .
قال الحافظ: (والموقوف أصح) (10) .
وأخرج الإمام أحمد عن عبد الله عنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من حكم يحكم بين الناس إلا حبس يوم القيامة وملك آخذ بقفاه حتى يقفه على شفير جهنم, ثم يرفع رأسه إلى الله عز وجل فإذا قال: ألقه، ألقاه في مهوي أربعين خريفاً)) (11) .
وفي التخويف للحافظ (12) بسند فيه عبد الله بن الوليد الرصافي لا يحفظ الحديث – وكان شيخاً صالحاً – أن أبا ذر رضي الله عنه قال لعمر رضي الله عنه ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يجاء بالوالي يوم القيامة فينبذ على جسر جهنم فيرتج به الجسر ارتجاجة لا يبقي منه مفصل إلا زال عن مكانه, فإن كان مطيعاً لله في عمله مضى به، وإن كان عاصياً لله في عمله انخرق به الجسر فهوى في جهنم مقدار خمسين عاماً. فقال له عمر رضي الله عنه: من يطلب العمل بعد هذا؟ قال أبو ذر رضي الله عنه: من سلت الله أنفه, وألصق خده بالتراب, فجاء أبو الدرداء فقال له عمر: يا أبا الدرداء هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ حدثنا بحديث حدثني به أبو ذر، قال: فأخبره أن مع الخمسين خمسين عاما يهوي أو نحو هذا)) (13) .
........ وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوي بها في النار)) (14) وفي لفظ ((يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب)) (15) .
وأخرج الإمام أحمد والترمذي عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها في النار سبعين خريفاً)) (16) .
وخرجه ابن ماجه وكذا البزار بنحوه عن ابن مسعود رضي الله عنه. هذا عمقها.
وأما سعتها فروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((أتدرون ما سعة جهنم؟ قلنا: لا، قال: قال: أجل والله ما تدرون, ما بين شحمة أذن أحدهم وعاتقه مسيرة سبعين خريفاً، تجري فيه أودية القيح والصديد والدم، قلنا: أنهار؟ قال: لا بل أودية، ثم قال: أتدرون ما سعة جهنم؟ قلنا: لا، قال: حدثتني عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] فأين الناس يومئذ؟ قال: على جسر جهنم)) روه الإمام أحمد. (17)
وخرج النسائي والترمذي منه المرفوع وصححه الترمذي وخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.


دركات النار :

النار متفاوتة في شدة حرها، وما أعده الله من العذاب لأهلها، فليست درجة واحدة، وقد قال الحق تبارك وتعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 145]. والعرب تطلق: الدرك على كل ما تسافل، كما تطلق: الدرج على كل ما تعالى: فيقال: للجنة درجات وللنار دركات، وكلما ذهبت النار سفلاً كلما علا حرها واشتد لهيبها، والمنافقون لهم النصيب الأوفر من العذاب، ولذلك كانوا في الدرك الأسفل من النار. وقد تسمى النار درجات أيضاً، ففي سورة الأنعام ذكر الله أهل الجنة والنار، ثم قال: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ [الأنعام: 132]، وقال: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ, هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [آل عمران: 162 - 163]، قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: (درجات الجنة تذهب علواً، ودرجات النار تذهب سفلاً) (1) . وقد ورد عن بعض السلف أن عصاة الموحدين ممن يدخلون النار يكونون في الدرك الأعلى، ويكون في الدرك الثاني اليهود، وفي الدرك الثالث النصارى، وفي الدرك الرابع الصابئون، وفي الخامس المجوس، وفي السادس مشركو العرب، وفي السابع المنافقون. ووقع في بعض الكتب تسمية هذه الدركات: فالأول جهنم، والثاني لظى، والثالث الحطمة، والرابع السعير، والخامس سقر، والسادس الجحيم، والسابع الهاوية. ولم يصح تقسيم الناس في النار وفق هذا التقسيم، كما لم يصح تسمية دركات النار على النحو الذي ذكروه، والصحيح أن كل واحد من هذه الأسماء التي ذكروها: جهنم، لظى، الحطمة... إلخ اسم علم للنار كلها، وليس لجزء من النار دون جزء (5)
فعذاب جهنم متفاوت بعضه أشد من بعض، وعلى هذا فمنازل أهل النار متفاوتة بتفاوت دركاتها، وقد أخبر سبحانه أن المنافقين أسفل أهل النار إذ هم في الدرك الأسفل منها.
وأخبر صلى الله عليه وسلم عن أهون أهل النار عذاباً فقال: ((إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لرجل توضع في أخمص قدميه جمرة يغلي منها دماغه)) (2) . وصرح صلى الله عليه وسلم أنه أبو طالب فقال: ((أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، وهو متنعل بنعلين يغلي منهما دماغه)) (3) .
ولا شك أن عصاة المؤمنين الذين يدخلون النار فيعذبون فيها على قدر أعمالهم ثم يخرجون منها.... لا شك أنهم أهون أهل النار عذاباً لأن عذابهم فيها مؤقت، أما بقية أهل النار من الكفار والمنافقين فكما قال الله عز وجل فيهم: لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا [ فاطر: 36].
ومقصود النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((أهون أهل النار عذاباً)) في هذا الحديث أهلها المقيمين فيها الذين لا يخرجون منها كما قال صلى الله عليه وسلم: ((أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون. ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم (أو قال: بخطاياهم) فأماتهم إماتة. حتى إذا كانوا فحماً، أذن بالشفاعة. فجيء بهم ضبائر ضبائر. فبثوا على أنهار الجنة. ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم. فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل))

سجر جهنم و تسعرها :

روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لما خلق الله النار أرسل إليها جبريل قال له: اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها، قال: فنظر إليها فإذا هي يركب بعضها بعضاً, فرجع فقال: وعزتك لا يدخلها أحد سمع بها, فأمر بها فحفت بالشهوات, ثم قال له: اذهب فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها, فذهب فنظر إليها ورجع فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها)) خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي (1) .
وفي حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن ملكين أتياه في المنام فذكر رؤيا طويلة وفيها: قال: انطلقت, فأتينا على رجل كريه المرآة, كأكره ما أنت راء، فإذا هو عند نار يحشها ويسعى حولها قال: قلت: ما هذا؟ قالا لي: انطلق)) وفي آخر الحديث: ((قالا: فأما الرجل الكريه المرآة الذي عند النار يحشها ويسعى حولها فإنه مالك خازن جهنم)) وقد خرجه البخاري بتمامه، وخرج مسلم أوله ولم يتمه (2) .
وقوله: ((كريه المرآة)) أي المنظر, وقوله: ((يحشها)) أي يوقدها.
وروى هذا الحديث أبو خلدة عن أبي رجاء عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث بطوله، وفي حديثه قال: ((فرأيت شجرة لو اجتمع تحتها خلق كثير لأظلتهم, وتحتها رجلان أحدهما يوقد ناراً والآخر يحتطب الحطب)) وفي آخر الحديث: ((قلت: فالرجلان اللذان رأيت تحت الشجرة، قال: ذلك ملكان من جهنم يحمون جهنم لأعداء الله إلى يوم القيامة)) (3) ...
وجهنم تسجر كل يوم نصف النهار, وفي (صحيح مسلم) عن عمرو بن عبسة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صلِّ صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس وترتفع, فإنها تطلع بين قرني شيطان, وحينئذ يسجد لها الكفار, ثم صل فإن الصلاة مشهودة (محظورة) حتى يستقل الظل بالرمح, ثم أقصر عن الصلاة فإنه حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصل)) (4) وذكر بقية الحديث.
وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه من حديث أبي أمامة وغيره (5) .
وفي حديث صفوان بن المعطل عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا طلعت الشمس فصل حتى تعتدل على رأسك مثل المرح، فإذا اعتدلت على رأسك فإن تلك الساعة تسخر فيها جهنم وتفتح فيها أبوابها, حتى تزول عن حاجبك الأيمن)) خرجه عبدالله بن الإمام أحمد (6) .
وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((فإذا انتصف النهار فأقصر عن الصلاة حتى تميل الشمس, فإنها حيئنذ تسعر جهنم, وشدة الحر من فيح جهنم)) (7) .
وروى أبو بكر بن عياش عن عاصم عن زر عن عبدالله بن مسعود قال: (أن الشمس تطلع بين قرني شيطان, أو في قرني شيطان, فما ترتفع قصمة في السماء إلا فتح لها باب من أبواب النار, فإذا كانت الظهيرة فتحت أبواب النار كلها, فكنا ننهى عن الصلاة عند طلوع الشمس, وعند غروبها, ونصف النهار) (8) خرجه يعقوب بن شيبة ورواه الإمام أحمد عن أبي بكر بن عياش أيضاً.
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم)) (9) وفي رواية خرجها أبو نعيم: ((من فيح جهنم)) أو((من فيح أبواب جهنم))

أبواب النار:


أخبر الحق أن للنار سبعة أبواب كما قال تعالى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ [الحجر: 43 - 44]. قال ابن كثير في تفسير الآية: أي قد كتب لكل باب منها جزء من أتباع إبليس يدخلونه لا محيد لهم عنه، أجارنا الله منها، وكل يدخل من باب بحسب عمله، ويستقر في درك بحسب عمله ونُقِلَ عن علي بن أبي طالب قوله وهو يخطب: إن أبواب جهنم هكذا - قال أبو هارون - أطباقاً بعضها فوق بعض ونُقل عنه أيضاً قوله: أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض، فيمتلئ الأول، ثم الثاني، ثم الثالث، حتى تمتلئ كلها (1) . وعندما يردُ الكفار النار تفتح أبوابها، ثم يدخلونها خالدين وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [الزمر: 71]، وبعد هذا الإقرار يقال لهم: ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: 72]، وهذه الأبواب تغلق على المجرمين، فلا مطمع لهم في الخروج منها بعد ذلك، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ [البلد: 19 - 20]. قال ابن عباس: مُّؤْصَدَةٌ مغلقة الأبواب، وقال مجاهد: أصد الباب بلغة قريش، أي أغلقه. (2) وقال الحق في سورة الهمزة: وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ [الهمزة: 1 - 9]. فأخبر الحق أن أبوابها مغلقة عليهم، وقال ابن عباس: فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ يعني الأبواب هي الممددة، وقال قتادة في قراءة ابن مسعود: إنها عليهم مؤصدة بعمد ممددة، وقال عطية العوفي: هي عمد من حديد، وقال مقاتل: أطبقت الأبواب عليهم، ثم شدت بأوتاد من حديد، حتى يرجع عليهم غمها وحرها، وعلى هذا فقوله: مُّمَدَّدَةٍ صفة للعمد، يعني أن العمد التي أوثقت بها الأبواب ممددة مطولة، والممدود الطويل أرسخ وأثبت من القصير. وقد تفتح أبواب النار وتغلق قبل يوم القيامة، فقد أخبر المصطفى أن أبواب النار تغلق في شهر رمضان، فعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين ومردة الجن)) (3) . وخرّج الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة، فلم يغلق منها باب))


بعد أبواب جهنهم عن بعضها البعض و ما أعد فيها من عذاب :


قال بعض أهل العلم في قوله تعالى: لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر: 44] قال: (من الكفار، والمنافقين, والشياطين، بين الباب والباب خمسمائة عام, فالباب الأول: يسمى جهنم لأنه يتجهم في وجوه الرجال والنساء، فيأكل لحومهم، وهو أهون عذاباً من غيره، والباب الثاني: يقال له: لظى نزاعة للشوى، ويقول آكلة لليدين والرجلين, تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ عن التوحيد وتولى عما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، والباب الثالث: يقال: له سقر، وإنما سمي سقر لأنه يأكل لحوم الرجال والنساء لا يبقى لهم لحماً على عظم، والباب الرابع يقال له: الحطمة. فقد قال تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحُطَمَةُ الآية تحطم العظام، وتحرق الأفئدة: قال تعالى: الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ, تأخذه النار من قدميه، وتطلع على فؤاده، وترمي بشرر كالقصر، كما قال تعالى:تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ الآية, يعني سوداً فتطلع الشرر إلى السماء، ثم تنزل فتحرق وجوههم, وأيديهم, وأبدانهم، فيبكون الدمع حتى ينفذ، ثم يبكون الدماء، ثم يبكون القيح حتى تنفذ، حتى أن السفن لو أرسلت تجري فيما خرج من أعينهم لجرت، والباب الخامس يقال: له الجحيم, وإنما سمي الجحيم لأنه عظيم، الجمرة الواحدة منه أعظم من الدنيا.
والباب السادس: يقال له: السعير وإنما سمي السعير لأن يسعر منذ خلق؛ فيه ثلاثمائة قصر في كل قصر ثلاثمائة بيت في كل بيت ثلاثمائة لون من العذاب, وفيه الحيات، والعقارب، والقيود، والسلاسل، والأغلال، والأنكال، وفيه جب الحزن، ليس في النار عذاب أشد منه، إذا فتح باب الجب حزن أهل النار حزناً شديداً.الباب السابع: يقال له الهاوية من وقع فيه لم يخرج منه أبداً. وفيه بئر الهباب إذا فتح تخرج منه نار تستعيذ منه النار، وفيه الذي قال الله عز وجل: سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا أو جبل من نار تصعده أعداء الله على وجوههم, مغلولة أيديهم إلى أعناقهم, مجموعة أعناقهم إلى أقدامهم, والزبانية وقوف على رءوسهم, بأيديهم مقامع من حديد، إذا ضرب أحدهم بالمقمعة ضربة سمع صوتها الثقلان، وأبواب النار حديد، فرشها الشوك، غشاوتها الظلمة, أرضها نحاس, ورصاص, وزجاج، النار من فوقهم، والنار من تحتهم، لهم من فوقهم ظلل من النار. ومن تحتهم ظلل, أوقد عليها ألف عام حتى احمرت, وألف عام حتى ابيضت، وألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مدلهمة مظلمة، قد مزجت بغضب الله).
ذكره القتيبي في كتاب (عيون الأخبار).
وذكر عن ابن عباس: (أن جهنم سوداء مظلمة لا ضوء لها ولا لهب، وهي كما قال تعالى: لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ على كل باب سبعون ألف جبل, على كل جبل سبعون ألف شعب من النار، في كل شعب سبعون ألف شق من نار، في كل شق سبعون ألف واد من نار، في كل واد سبعون ألف قصر من النار، في كل قصر سبعون ألف حية, وسبعون ألف عقرب، لكل عقرب سبعون ألف ذنب، لكل ذنب سبعون ألف نقار, لكل نقار سبعون ألف قلة من سم، فإذا كان يوم القيامة كشف عنها الغطاء, فتطير منها سرادق عن يمين الثقلين, وآخر عن شمالهم, وسرادق أمامهم, وسرادق من فوقهم, وآخر من ورائهم، فإذا نظر الثقلان إلى ذلك جثوا على ركبهم وكل ينادي رب سلم سلم).
قال القرطبي (1) : (ومثله لا يقال من جهة الرأي، فهو توقيف لأنه أخبار عن مغيب). انتهى.
ثم نقل عن وهب بن منبه نحوه. وأقول: وهب يحدث عن الإسرائيليين كثيراً، ولا يقبل مثل ذلك عنه، ولا عن أمثاله ونظرائه إلا أن يرد به دليل من الكتاب أو السنة الصحيحة، وما ورد في ذلك من القرآن والحديث يكفي، ويشفي ويغني عن غيره.

وقود النار :

وقود النار الأحجار والفجرة الكفار، كما قال الحق: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم: 6]، وقال: فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة: 24]. والمراد بالناس الذين توقد النار بهم الكفرة المشركون، وأما نوع الحجارة التي تكون للنار وقوداً فالله أعلم بحقيقتها، وقد ذهب بعض السلف إلى أن هذه الحجارة من كبريت، قال عبدالله بن مسعود: هي حجارة من كبريت، خلقها الله يوم خلق السماوات والأرض في السماء الدنيا يعدها للكافرين، رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم في المستدرك. وقال بهذا القول ابن عباس ومجاهد وابن جريج. (1) وإذا كان القول هذا مأخوذاً من الرسول صلى الله عليه وسلم فنأخذ به، ولا نجادل فيه، وإن كان أمراً اجتهادياً مبنياً على العلم بطبائع الحجارة وخصائصها فهذا قول غير مسلّم، فإن من الحجارة ما يفوق حجارة الكبريت قوة واشتعالاً. والأوائل رأوا أن حجارة الكبريت لها خصائص ليست لغيرها من الحجارة فقالوا إنها مادة وقود النار، يقول ابن رجب: وأكثر المفسرين على أن المراد بالحجارة حجارة الكبريت توقد بها النار. ويقال: إن فيها خمسة أنواع من العذاب ليس في غيرها: سرعة الإيقاد، ونتن الرائحة، وكثرة الدخان، وشدة الالتصاق بالأبدان، قوة حرها إذا حميت. وقد يوجد الله من أنواع الحجارة ما يفوق ما في الكبريت من خصائص، ونحن نجزم أن ما في الآخرة مغاير لما في الدنيا. ومما توقد به النار الآلهة التي كانت تعبد من دون الله إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ [الأنبياء: 98 – 99 ]وحصبها: وقودها وحطبها، وقال الجوهري: كل ما أوقدت به النار أو هيجتها فقد حصبتها، وقال أبو عبيدة: كل ما قذفته في النار فقد حصبتها به


شدة حرها و زمهريرها :

قال الله تعالى: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ لاَّ بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [ الواقعة:41-44]
قال ابن عباس: (من دخان) وكذا قال مجاهد وعكرمة وغير واحد (1) ، وعن مجاهد قال: (ظل من دخان جهنم وهو السموم) (2) وقال أبو مالك: (اليحموم ظل من دخان جهنم) (3) قال الحسن وقتادة في قوله: لاَّ بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ: (لا بارد المدخل ولا كريم المنظر) (4) , والسموم: هو الريح الحارة, قاله قتادة وغيره (5) .
وهذا الآية تضمنت ذكر ما يتبرد به في الدنيا من الكرب والحر، وهو ثلاثة، الماء, والهواء, والظل، فهواء جهنم، السموم وهو الريح الحارة الشديدة الحر، وماؤها الحميم الذي قد اشتد حره، وظلها اليحموم, وهو قطع دخانها أجارنا الله من ذلك كله بكرمه ومنه.
وقال تعالى: انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ [ المرسلات:30], قال مجاهد: (هو دخان جهنم: اللهب الأخضر, والأسود, والأصفر الذي يعلو النار إذا أوقدت).
قال السدي: في قوله: إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ [ المرسلات:32] قال: (زعموا أن شررها ترمي به كأصول الشجر ثم يرتفع فيمتد).
وقال القرظي: (على جهنم سور, فما خرج من وراء سورها يخرج منها في عظم القصور, ولون القار) (6) .
وقال الحسن والضحاك في قوله: كَالْقَصْرِ: (هو كأصول الشجر العظام) (7) .
وقال مجاهد: (قطع الشجر والجبل) (8) .
وصح عن ابن مسعود قال: (شرر كالقصور والمدائن) (9) . وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ يقول: كالقصر العظيم) (10) .
وفي (صحيح البخاري) عن ابن عباس قال: (كنا نرفع من الخشب بقصر ثلاثة أذرع أو أقل, نرفعه للشتاء نسميه القصر) (11) .
وقوله: كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ قال ابن عباس: (حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض تكون كأوساط الرجال) (12) وقال مجاهد: (هي حبال الجسور) (13) . وقالت طائفة: (هي الإبل) منهم الحسن وقتادة والضحاك (14) وقالوا: (الصفر هي السود). وروي عن مجاهد أيضاً (15) .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: جِمَالَتٌ صُفْرٌ قال: (يقول قطع النحاس) (16) .
قال الله عز وجل: يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ [الرحمن:35] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ ويقول: لهب النار وَنُحَاسٌ يقول: دخان النار) (17) ، وكذا قال سعيد بن جبير وأبو صالح وغيرهما: أن النحاس دخان النار (18) ، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ قال: (دخان) (19) ، وقال أبو صالح: (الشواظ: اللهب الذي فوق النار ودون الدخان) (20) ، قال منصور عن مجاهد: (الشواظ، هو اللهب الأخضر المتقطع) وعنه قال: (الشواظ قطعة من النار فيها خضرة) (21) .
قال الحسين بن منصور: أخرج الفضيل بن عياض رأسه من خوخة, فقال منصور عن مجاهد: يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ [ الرحمن:35] ثم أدخل رأسه فانتحب ثم أخرج رأسه، فقال: هو اللهب المنقطع, ولم يستطع أن يجيز الحديث (22) .
وخرج النسائي والترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف امرئ أبداً)) (23) (36)
أما حرها فقال تعالى: وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة: 81] وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضا فنفسني, فأذن لها في نفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف فأشد ما تجدون من الحر من سمومها, وأشد ما تجدون من البرد من زمهريرها)) (24) .
وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ناركم هذه ما يوقد ابن آدم جزء واحد من سبعين جزءاً من نار جهنم)) قالوا: والله إن كانت لكافية قال: ((إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها)) (25) .
وخرجه الإمام أحمد وزاد فيه: ((وضربت بالبحر مرتين, ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد)) (26) وتقدم.
وخرج الإمام عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((إن النار هذه جزء من مائة جزء من جهنم)) (27) وروى الطبراني: ((أن جبريل عليه السلام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي بعثك بالحق لو أن قدر ثقب إبرة فتح من جهنم لمات من في الأرض كلهم جميعاً من حره)) (28) .
قال الحافظ (29) : (وروي عن الحسن مرسلاً من وجه ضعيف، والحديث تكلم فيه والله تعالى أعلم).
وقال كعب الأحبار رحمه الله لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لو فتح من جهنم قدر منخر ثور بالمشرق ورجل بالمغرب لغلى دماغه حتى يسيل من حرها.)
وقال عبد الملك بن عمير: (لو أن أهل النار كانوا في نار الدنيا لقالوا فيها).
وقال بشير بن منصور: قلت لعطاء السلمي رحمه الله: (لو أن إنساناً أوقدت له نار وقيل له: من دخل هذه النار نجا من النار، فقال عطاء: لو قيل لي ذلك لخشيت أن تخرج نفسي فرحاً قبل أن أقع فيها) (30) .
فإن قلت قد ذكرت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((أن هذه النار جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم)) (31) وفي حديث آخر ((من مائة جزء)) (32) وكلا الحديثين ثابت عنه صلى الله عليه وسلم.
قلت: لفظة سبعين وسبعمائة وسبعة آلاف ونحوها كثيراً ما يراد به التكثير كقوله تعالى: إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ [التوبة: 80] وهذا كثير جداً في كلام العرب أو يقال: إن هذين الحديثين وردا بحسب اختلاف النارين اللتين من نار الدنيا, وكل أحد يشاهد أن بعض نار الدنيا أقوى وأشد حر من بعض، هذا معلوم بالحس لا ينكره أحد والله تعالى أعلم.
وأما زمهريرها
فروي أن بيتاً في جهنم يتميز فيه الكافر من برده يعني يتقطع ويتمزع وقال مجاهد: (إن في النار لزمهريراً يقيلون فيه، يهربون إلى ذلك الزمهرير فإذا وقعوا حطم عظامهم حتى يسمع لها نقيض).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (يستغيث أهل النار من الحر فيغاثون بريح باردة يصدع العظام بردها فيسألون الحر) (33) .
وعن عبد الملك بن عمير أنه قال: (بلغني أن أهل النار يسألون خازنها أن يخرجهم إلى حَبَّانها فأخرجهم فقتلهم البرد حتى رجعوا إليها فدخلوها مما وجدوا من البرد) (34) .
وأخرج أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن كعباً رضي الله عنه قال: (إن في جهنم برداً هو الزمهرير يسقط اللحم حتى يستغيثوا بحر جهنم)



رؤيا ابن عمر للنار :

وفي (الصحيحين) واللفظ للبخاري عن ابن عمر: ((أنه رأى في المنام أنه جاءه ملكان في يد كل واحد منهما مقمعة من حديد، يقبلا بي إلى جهنم ثم لقيه ملك في يده مقمعة من حديد، قالوا: لن تُرع. نعم الرجل أنت، لو كنت تكثر الصلاة، قال: فانطلقوا بي حتى وقفوا بي على شفير جهنم، فإذا هي مطوية كطي البئر، له قرون كقرن البئر، بين كل قرنين ملك بيده مقمعة من حديد، وأرى فيها رجالاً معلقين بالسلاسل، رؤوسهم أسفلهم، عرفت فيها رجالاً من قريش، فانصرفوا بي عن ذات اليمين، فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن عبدالله رجل صالح)
 
أهل النار المخلدين فيها :

التعريف بهم:
أهل النار الخالدون فيها الذين لا يرحلون ولا يبيدون - هم الكفرة والمشركون. قال تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الأعراف: 36]، وقال: لَوْ كَانَ هَؤُلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ [الأنبياء: 99 ]، وقال: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [الزخرف: 74 ]، وقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا [فاطر: 36 ]. وقال: وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 39 ]، وقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ [البقرة:161-162]. وقال: أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ [التوبة: 63] وقال: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ [التوبة: 17] ولما كانوا خالدين فيها فقد وصف الحق عذاب النار بأنه مقيم، أي لا ينقطع، كما أضافه إلى الخلد، قال تعالى: يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ [النجم:37] وقال: ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [يونس: 52]. وفي (صحيح البخاري) عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم: يا أهل النار لا موت، ويا أهل الجنة لا موت، خلود)) (1) . وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقال لأهل الجنة: يا أهل الجنة خلود لا موت، ولأهل النار، يا أهل النار خلود لا موت)) (2) وهذا يقال بعد ذبح الموت كما في حديث ابن عمر عند البخاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا صار أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم ينادي منادي: يا أهل الجنة لا موت، يا أهل النار لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم)) (3) .
وفي (صحيح مسلم) عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يُجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون، ويقولون:نعم هذا الموت. قال: ويقال: يا أهل النار، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون، ويقولون: نعم، هذا الموت، قال: فيؤمر به فيذبح. قال: ثم قال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت. قال: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [مريم: 39 ])) (4) . وأخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري يرفعه قال: ((إذا كان يوم القيامة أتي بالموت كالكبش الأملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيذبح وهم ينظرون، فلو أن أحداً مات فرحاً لمات أهل الجنة، ولو أن أحداً مات حزناً لمات أهل النار))
 
الدعاة الى النار :

أصحاب المبادئ الضالة، والمذاهب الباطلة المخالفون لشرع الله، الدعاة المؤمنون بباطلهم هم دعاة النار، أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [البقرة: 221]، وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [القصص:41]، ومن هؤلاء الشيطان أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [لقمان: 21]، إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6]. وهؤلاء الذين يدعون إلى النار في الدنيا يقودون أقوامهم وأتباعهم إلى النار في الآخرة، ففرعون مثلاً: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود:98]. وكل قادة الشر الذين يدعون إلى عقائد ومبادئ مخالفة للإسلام هم دعاة إلى النار، لأن الطريق الوحيد الذي ينجي من النار ويدخل الجنة هو طريق الإيمان وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ [غافر: 41 ]، كانوا يدعونه إلى فرعون وكفره وشركه، وهو يدعوهم إلى الله وتوحيده والإيمان به. ولما كان الكفار دعاة إلى النار حرم الله على المؤمنين الزواج من المشركات، كما حرم على المؤمنات الزواج من المشركين وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [البقرة: 221 ]
 
أعظم جرائم الخالدين فى النار :

لقد أطال القرآن في تبيان جرائم الخالدين الذين استحقوا بها الخلود في النيران، ونحن نذكر هنا أهمها:


1- الكفر والشرك
فقد أخبرنا الحق تبارك وتعالى أن الذين كفروا يُنادَون عندما يكونون في النار. فيقال لهم: إن مقت الله لكم أعظم من مقتكم أنفسكم بسبب كفركم بالإيمان، ثم بين أن خلودهم في النار إنما هو بسبب كفرهم وشركهم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [غافر: 10]. وحدثنا الحق تبارك وتعالى أن خزنة النار يسألون الكفار عند ورودهم النار قائلين: أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ [غافر: 50]، فيكون الجواب: أنهم استحقوا النار بسبب تكذيبهم المرسلين، وما جاؤوا به قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ [الملك: 9 ]. وقال في المكذبين بالكتاب: وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً [طه:99-101]. وقال في المكذبين بالكتاب المشركين بالله: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [غافر: 70-76 ]. وقال في الكفرة المشركين المسوين آلهتم برب العالمين: فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 94-98 ]. وقال في حق المكذبين بيوم الدين: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا [الفرقان:11]، وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ [الرعد: 5 ]. وقال: مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا [الإسراء: 97-98 ]. (5)

2- عدم القيام بالتكاليف الشرعية مع التكذيب بيوم الدين وترك الالتزام بالضوابط الشرعية
فقد أخبرنا الحق تبارك وتعالى أن أهل الجنة يسألون أهل النار قائلين: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر:42 ] فيجيبون قائلين: قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [المدثر: 43-47 ]. (6)

3- طاعة رؤساء الضلال وزعماء الكفر فيما قرروه من مبادئ الضلال وخطوات الكفر التي تصد عن دين الله ومتابعة المرسلين.

قال تعالى: في هؤلاء: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [فصلت: 25-28]. وعندما يحل الكفار في النار، وتقلب وجوههم فيها يتندمون لعدم طاعتهم الله ورسوله، وطاعتهم السادة الكبراء: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لاَّ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا [الأحزاب: 64-67 ]. (7)

4- النفاق: وعد الله المنافقين النار، وهو وعد قطعه على نفسه لا يخلفه

وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ [التوبة: 68 ]، وأخبرنا أن موقع المنافقين في النار هو دركاتها السفلى، وهي أشدها حراً، وأكثرها إيلاماً إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 145]. (8)

5- الكبر

وهذه صفة يتصف بها عامة أهل النار، قال تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الأعراف: 36 ]. وقد عقد مسلم في (صحيحه) باباً عنون له بقوله: باب النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء وذكر فيه احتجاج الجنة والنار وما قالتا وما قال الله لهما، وساق فيه حديث أبي هريرة يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيه أن النار قالت: ((يدخلني الجبارون والمتكبرون)) (1) وفي رواية قالت: ((أوثرت بالمتكبرين والجبارين. وقال الله لها: أنت عذابي أعذب بك من أشاء)) (2) . وفي (صحيحي البخاري ومسلم) و(سنن الترمذي) عن حارثة بن وهب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار، كل عتل جواظ مستكبر)) (3) ، وفي رواية لمسلم: ((كل جواظ زنيم متكبر)) (4) ومصداق هذا في كتاب الله تبارك وتعالى: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر:60 ]، وقوله: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأحقاف: 20 ]، وقولـه: فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:37-39 ]
 
جملة الجرائم التى تدخل النار :

سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ما عمل أهل النار، وما عمل أهل الجنة؟ فأجاب: عمل أهل النار: الإشراك بالله تعالى، والتكذيب للرسل، والكفر، والحسد، والكذب، والخيانة، والظلم، والفواحش، والغدر، وقطيعة الرحم، والجبن عن الجهاد، والبخل، واختلاف السر والعلانية، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، والجزع عند المصائب، والفخر والبطر عند النعم، وترك فرائض الله، واعتداء حدوده، وانتهاك حرماته، وخوف المخلوق دون الخالق، والعمل رياءً وسمعة، ومخالفة الكتاب والسنة؛ أي: اعتقاداً وعملاً، وطاعة المخلوق في معصية الخالق، والتعصب للباطل، والاستهزاء بآيات الله، وجحد الحق، والكتمان لما يجب إظهاره من علم وشهادة، والسحر، وعقوق الوالدين، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، والربا، والفرار من الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات. وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم جماع الذنوب التي تدخل النار، ففي صحيح مسلم عن عياض بن حمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبة له طويلة: ((وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زَبْرَ له، الذين هم فيكم تبعاً لا يبتغون أهلا ولا مالاً، والخائن الذي لا يخفى له طمع، وإن دقّ إلا خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسى إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك. وذكر البخل، والكذب، والشنظير، الفحاش))
 
صفات أهل النار :


عن حارثة بن وهب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف, لو أقسم على الله لأبره, ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل, جواظ, مستكبر)) (1) .
و(العتل) قال مجاهد وعكرمة: (هو القوي) (2) ، وقال أبو رزين: (هو الصحيح) (3) .
وقال عطاء بن يسار: عن وهب الذماري قال: (تبكي السماء والأرض من رجل أتم الله خلقه, وأرحب جوفه, وأعطاه معظماً من الدنيا, ثم يكون ظلوماً غشوماً للناس, لذلك العتل الزنيم) (4) .
وقال إبراهيم النخعي: (العتل: الفاجر, والزنيم: اللئيم في أخلاق الناس).
وروى شهر بن حوشب عن عبدالرحمن بن غنم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يدخل الجنة جواظ, ولا جعظري, ولا العتل الزنيم, فقال رجل من المسلمين: ما الجواظ, الجعظري, والعتل الزنيم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الجواظ الذي جمع ومنع, وأما الجعظري فالفظ الغليظ قال الله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] وأما العتل الزنيم فشديد الخلق, رحيب الجوف, مصحح, أكول, شروب, واجد للطعام, ظلوم للأنام)) (5) .
وروى معاوية بن صالح عن كثير بن الحارث عن القاسم مولى معاوية قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العتل الزنيم قال: ((هو الفاحش اللئيم)) (6) وقال معاوية: وحدثني عياض بن عبدالله الفهري عن موسى بن عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك خرجه كله ابن أبي حاتم (7) .
وأما المستكبر فهو الذي يتعاطى الكبر على الناس والتعاظم عليهم, وقد قال الله تعالى: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر:60] وقد ذكرنا فيما سبق حديث: ((يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر, يساقون إلى سجن في النار يقال له: بولس, تعلوهم نار الأنيار, يغشاهم الذل من كل مكان)) (8) فإن عقوبة التكبر الهوان والذل كما قال الله تعالى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20]
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربه عز وجل قال: ((الكبرياء ردائي, والعظمة إزاري, فمن نازعني واحداً منهما عذبته بناري)) يعني: ألقيته في جهنم (9) .
وفي (الصحيحين) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تحاجت الجنة والنار, فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين, والمتجبرين, وقالت الجنة: (فما لي) لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم (وغرتهم), قال الله عز وجل للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: أنت عذابي فلا تمتلئ حتى يضع عليها رجله, فتقول: قط قط. فهنالك تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض, ولا يظلم الله من خلقه أحداً, وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقاً)) (10)
وفي رواية خرجها ابن أبي حاتم: ((فقالت النار مالي لا يدخلني إلا الجبارون, والمتكبرون, والأشراف, وأصحاب الأموال)) (11) .
وخرج الإمام أحمد من حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((افتخرت الجنة والنار فقالت النار: يا رب يدخلني الجبابرة, والمتكبرون, والملوك, والأشراف، وقالت الجنة: أي رب يدخلني الضعفاء, والفقراء, والمساكين)) (12) ذكر الحديث بمعنى ما تقدم.
وسبب هذا أن الله عز وجل حف الجنة بالمكاره, وحف النار بالشهوات كما قال تعالى: فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:37-41]
وفي (صحيح البخاري) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حجبت الجنة بالمكاره, وحجبت النار بالشهوات)) (13) , وخرجه مسلم ولفظه: ((حفت الجنة بالمكاره, وحفت النار بالشهوات)) (14) وخرجه أيضاً من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم (15) .
وخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة فقال: انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها, قال: فجاءها فنظر إليها وإلى ما أعد لأهلها فيها, قال: فرجع إليه فقال: فوعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها, فأمر بها فحفت بالمكاره, فقال: ارجع إليها فانظر إلى ما أعددت لأهلها, قال: فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالمكاره, فرجع إليه فقال: وعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد. قال: فاذهب إلى النار فانظر إلى ما أعددت لأهلها, فإذا هي يركب بعضها بعضاً, فرجع إليه فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها, فأمر بها فحفت بالشهوات، فقال: ارجع إليها, فرجع إليها فقال: وعزتك لقد خشيت ألا ينجو منها أحد إلا دخلها)) (16) .
فتبين بهذا أن صحة الجسد وقوته, وكثرة المال, والتنعم بشهوات الدنيا, والتكبر والتعاظم على الخلق وهي صفات أهل النار التي ذكرت في حديث حارثة بن وهب, هي جماع الطغيان والبغي كما قال تعالى: كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى [ العلق:6-7] والطغيان وإيثار الحياة الدنيا وشهواتها من موجبات النار كما قال تعالى: فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:37-39].
وأما الضعيف في البدن, والاستضعاف في الدنيا من قلة المال والسلطان, مع الإيمان فهو جماع كل خير، ولهذا يقال: من العصمة أن لا تجد، فهذه صفة أهل الجنة التي ذكرت في حديث حارثة.
وقد روي نحو حديث حارثة من وجوه متعددة وفي بعضها زيادات... ومن حديث سراقة بن مالك بن جعشم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((يا سراقة, ألا أخبرك بأهل الجنة وأهل النار؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: أما أهل النار فكل جعظري, جواظ، مستكبر. وأما أهل الجنة فالضعفاء المغلوبون)) (17)
ومن حديث عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أخبركم بأهل الجنة وأهل النار، أما أهل الجنة فكل ضعيف متضعف, أشعث ذو طمرين, لو أقسم على الله لأبره، وأما أهل النار فكل جعظري, جواظ, جماع, مناع, ذي تبع)) (18) ...
وخرج الطبراني من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أخبركم بصفة أهل الجنة؟ قلنا: بلى يا رسول الله, قال: كل ضعيف متضاعف, ذو طمرين, لو أقسم على الله لأبره, ألا أنبئكم بأهل النار؟ قلنا: بلى يا رسول الله, قال: كل جظٍ, جعظرٍ, مستكبر، قال: فسألته: ما الجظ؟ قال: الضخم, وما الجعظر؟ قال: العظيم في نفسه)) (19) ...
وروى سليم بن عمر عن فرات البهراني عن أبي عامر الأشعري أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل النار فقال: لقد سألت عن عظيم, كل شديد قعبري, فقال: وما القعبري يا رسول الله؟ قال: الشديد على العشيرة, الشديد على الأهل, الشديد على الصاحب، قال: فمن أهل الجنة يا رسول الله؟ فقال: سبحان الله, لقد سألت عن عظيم, كل ضعيف مزهد)) (20) .
وفي المعنى أحاديث أخر، وفي (صحيح مسلم) عن عياض بن حمار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: ((وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق, ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم, وعفيف متعفف ذو عيال. وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له, الذين هم فيكم تبعاً لا يبغون أهلاً, ولا مالاً. والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه, ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك)) وذكر البخل, والكذب, والشنظير الفحاش (21) .
ففي هذا الحديث جعل النبي صلى الله عليه وسلم أهل الجنة ثلاث أصناف.
أحدهما- ذو السلطان المقسط المتصدق, وهو من كان له سلطان على الناس, فسار في سلطانه بالعدل, ثم ارتقى درجة الفضل.
والثاني- الرحيم الرقيق القلب, الذي لا يخص برحمته قرابته, بل يرحم المسلمين عموماً، فتبين أن القسمين أهل الفضل والإحسان.
والثالث: العفيف المتعفف, ذو العيال, وهو من يحتاج إلى ما عند الناس فيتعفف عنهم, وهذا أحد نوعي الجود أعني العفة عما في أيدي الناس لا سيما مع الحاجة.
وقد وصف الله في كتابه أهل الجنة ببذل الندى, وكف الأذى ولو كان الأذى بحق, فقال: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [ آل عمران:133-134]، فهذا حال معاملتهم للخلق ثم وصف قيامهم بحق الحق فقال: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [ آل عمران:135-136] فوصفهم الله عند الذنوب بالاستغفار، وعدم الإصرار, وهو حقيقة التوبة النصوح.
وقريب من هذه الآية قوله تعالى: فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ [البلد:11-18]، والعقبة قد فسرها ابن عباس بالنار، وفسرها ابن عمر بعقبة في النار ... فأخبر سبحانه أن اقتحامها، وهو قطعها ومجاوزتها يحصل بالإحسان إلى الخلق، إما بعتق الرقبة, وإما بالإطعام في المجاعة, والمطعم إما يتيم من ذوي القربى, أو مسكين قد لصق بالتراب فلم يبق له شيء. ولا بد مع هذا الإحسان أن يكون من أهل الإيمان, والآمر لغيره بالعدل والإحسان, وهو التواصي بالصبر, والتواصي بالمرحمة, وأخبر سبحانه أن هذه الأوصاف أوصاف أصحاب الميمنة.
وأما أهل النار فقد قسمهم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث خمسة أصناف.
الصنف الأول: الضعيف، الذي لا زبر له، ويعني بالزبر القوة والحرص على ما ينتفع به صاحبه في الآخرة من التقوى والعمل الصالح, وخرج العقيلي من حديث أبي هريرة مرفوعاً: ((إن الله يبغض المؤمن الذي لا زبر له)) (22) قال بعض رواة الحديث: يعني الشدة في الحق, ولما حدث مطرف بن عبدالله بحديث عياض بن حمار هذا وبلغ قوله: ((الضعيف الذي لا زبر له)) فقيل له: أو يكون هذا؟ قال: نعم والله, لقد أدركتهم في الجاهلية وإن الرجل ليرعى على الحي ماله إلا وليدتهم يطؤها (23) ........ وهذا القسم شر أقسام الناس, ونفوسهم ساقطة, لأنهم ليس لهم همم في طلب الدنيا ولا الآخرة, وإنما همه شهوة بطنه وفرجه كيف اتفق له، وهو تبع للناس خادم لهم أو طواف عليهم سائل لهم.
والصنف الثاني: الخائن: لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه أي يعني لا يقدر على خيانة ولو كانت حقيرة يسيرة إلا بادر إليها واغتنمها, ويدخل في ذلك التطفيف في المكيال والميزان, وكذلك الخيانة في الأمانات القليلة كالودائع, وأموال اليتامى, وغير ذلك, وهو خصلة من خصال النفاق, وربما يدخل الخيانة من خان الله ورسوله في ارتكاب المحارم سراً مع إظهار اجتنابها.
قال بعض السلف: كنا نتحدث أن صاحب النار من لا تمنعه خشية الله من شيء خفي له.
الصنف الثالث: المخادع، الذي دأبه صباحاً ومساء مخادعة الناس على أهليهم وأموالهم والخداع من أوصاف المنافقين كما وصفهم الله تعالى بذلك, والخداع معناه إظهار الخير, وإضمار الشر لقصد التوصل إلى أموال الناس وأهليهم والانتفاع بذلك، وهو من جملة المكر والحيل المحرمة، وفي حديث ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من غشنا فليس منا والمكر والخداع في النار)) (24)
الصنف الرابع: الكذب والبخل ...
الصنف الخامس: الشنظير وقد فسر بالسيء الخلق، والفاحش هو الفاحش المتفحش.
وفي (الصحيحين) عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه)).
وفي الترمذي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يبغض الفاحش الفاحش البذيء)) والبذيء الذي يجري لسانه بالسفه ونحوه من لغو الكلام.
وفي (المسند) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بحسب امرئٍ من الشر أن يكون فاحشاً بذيئاً بخيلاً جباناً)) فالفاحش هو الذي يفحش في منطقه ويستقبل الرجال بقبيح الكلام من السب ونحوه، ويأتي في كلامه بالسخف وما يفحش ذكره.
 
النصوص الدالة على كثرة أهل النار :

جاءت النصوص كثيرة وافرة دالة على كثرة من يدخل النار من بني آدم، وقلة من يدخل الجنة منهم.
قال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103 ]، وقال: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ: 20 ]. وقال الحق تبارك وتعالى لإبليس: لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 85 ] فكل من كفر فهو من أهل النار على كثرة من كفر من بني آدم.
ويدلك على كثرة الكفرة المشركين الذين رفضوا دعوة الرسل أنّ النبي يأتي في يوم القيامة ومعه الرهط، وهم جماعة دون العشرة، والنبي ومعه الرجل والرجلان، بل إن بعض الأنبياء يأتي وحيداً لم يؤمن به أحد، ففي (صحيح مسلم) عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عرضت عليّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد)) (1)
وجاءت نصوص كثيرة تدل على أنه يدخل في النار من بني آدم تسعمائة وتسعة وتسعون من كل ألف، وواحد فقط هو الذي يدخل الجنة. فقد روى البخاري في (صحيحه) عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك، ثم يقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فذاك حين يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد. فاشتد ذلك عليهم فقالوا: يا رسول الله، أينا ذلك الرجل؟ قال: أبشروا، فإن من يأجوج ومأجوج ألفاً ومنكم رجل. ثم قال: والذي نفسي بيده، إني لأطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة. قال: فحمدنا الله وكبرنا. ثم قال: والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل الجنة، إنّ مثلكم في الأمم كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالرقمة في ذراع الحمار)) (2) .
وروى عمران بن حصين ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وهو في بعض أسفاره، وقد تفاوت بين أصحابه السير، رفع بهاتين الآيتين صوته: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج: 1-2 ]، فلما سمع أصحابه ذلك حثوا المطي، وعرفوا أنه عند قول يقوله، فلما دنوا حوله قال: أتدرون أي يوم ذاك؟ قال: ذاك يوم يُنادى آدم عليه السلام، فيناديه ربه عز وجل، فيقول: يا آدم ابعث بعثاً إلى النار. فيقول: يا رب، وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحد في الجنة. قال: فأبلس أصحابه، حتى ما أوضحوا بضاحكة. فلما رأى ذلك قال: أبشروا واعملوا، فوالذي نفس محمد بيده إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء قط إلا كثرتاه: يأجوج ومأجوج، ومن هلك من بني آدم وبني إبليس قال: فسري عنهم، ثم قال: اعملوا وأبشروا، فوالذي نفس محمد بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو الرقمة في ذراع الدابة)) رواه أحمد والترمذي والنسائي في كتاب التفسير في (سننهما)، وقال الترمذي: حسن صحيح (3)
وقد يقال كيف تجمع بين هذه الأحاديث وبين ما ثبت في (صحيح البخاري) عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أول من يدعى يوم القيامة آدم، فتراءى ذريته، فيقال: هذا أبوكم آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فيقول: أخرج بعث جهنم من ذريتك، فيقول: أخرج بعث جهنم من ذريتك، فيقول: يا رب، كم أخرج؟ فيقول: أخرج من كل مائة تسعة وتسعين فقالوا: يا رسول الله، إذا أخذ منا من كل مائه تسعة وتسعون، فما يبقى منا؟ قال: إن أمتي في الأمم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود)) (4)
والظاهر أن هذه الرواية لا تخالف الروايات الأخرى الصحيحة ... فإن ذلك العدد باعتبار معين، وهذا العدد باعتبار آخر. فالأحاديث التي تجعل النسبة تسعمائة وتسعة وتسعين يمكن تحمل على جميع ذرية أدم، وحديث البخاري الذي يجعلها تسعة وتسعين تحمل على جميع ذريته ما عدا يأجوج ومأجوج، ويقرب هذا الجمع كما يقول ابن حجر أن يأجوج ومأجوج ذكروا في حديث أبي سعيد دون حديث أبي هريرة، ويمكن أن يقال: إن الأحاديث الأولى تتعلق بالخلق أجمعين، فإذا جعلت نسبة من يدخل النار إلى من يدخل الجنة باعتبار الأمم جميعاً تكون النسبة، ويكون حديث البخاري الأخير مبيناً نسبة من يدخل النار من هذه الأمة دون سواها، قال ابن حجر: ويُقربه أي هذا القول قولهم في حديث أبى هريرة إذا أخذ منا، ثم قال: ويحتمل أن تقع القسمة مرتين مرة من جميع الأمم قبل هذه الأمة، فيكون من كل ألف واحد إلى الجنة، ومرة من هذه الأمة، فيكون من كل ألف عشرة.
 
السر فى كثرة أهل النار :


ليس السبب في كثرة أهل النار هو عدم بلوغ الحق إلى البشر على اختلاف أزمانهم وأمكنتهم، فإن الله لا يؤاخذ العباد إذا لم تبلغهم دعوته، وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15 ]، ولذلك فإن الله أرسل في كل أمة نذيراً، وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24 ]. ولكن السبب وراء ذلك يعود إلى قلة الذين استجابوا للرسل وكثرة الذين كفروا بهم، وكثير من الذين استجابوا لم يكن إيمانهم خالصاً نقياً. وقد تعرض ابن رجب في كتابه (التخويف من النار) إلى السبب في قلة أهل الجنة، وكثرة أهل النار فقال: فهذه الأحاديث وما في معناها تدل على أن أكثر بني آدم من أهل النار، وتدل أيضاً على أن أتباع الرسل قليل بالنسبة إلى غيرهم، وغير أتباع الرسل كلهم في النار إلا من لم تبلغه الدعوة أو لم يتمكن من فهمها على ما جاء فيه من الاختلاف، والمنتسبون إلى أتباع الرسل كثير منهم من تمسك بدين منسوخ، وكتاب مبدل، وهم أيضاً من أهل النار كما قال تعالى: وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود: 17]. وأما المنتسبون إلى الكتاب المحكم والشريعة المؤيدة والدين الحق فكثير منهم من أهل النار أيضاً، وهم المنافقون الذين هم في الدرك الأسفل من النار، وأما المنتسبون إليه ظاهراً وباطناً فكثير منهم فتن بالشبهات، وهم أهل البدع والضلال، وقد وردت الأحاديث على أن هذه الأمة ستفترق على بضع وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة، وكثير منها أيضاً فتن بالشهوات المحرمة المتوعد عليها بالنار وإن لم يقتض ذلك الخلود فيها فلم ينج من الوعيد بالنار، ولم يستحق الوعد المطلق بالجنة من هذه الأمة إلا فرقة واحدة، وهو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ظاهراً وباطناً، وسلم من فتنة الشهوات والشبهات، وهؤلاء قليل جداً لاسيما في الأزمان المتأخرة ولعل السبب الأعظم هو اتباع الشهوات، ذلك أن حب الشهوات مغروس في أعماق النفس الإنسانية زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران: 14 ]. وكثير من الناس يريد الوصول إلى هذه الشهوات عن الطريق التي تهواها نفسه ويحبها قلبه، ولا يراعي في ذلك شرع الله المنزل، أضف إلى هذا تمسك الأبناء بميراث الآباء المناقض لشرع الله وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ [الزخرف: 23-24]. وإلف ما كان عليه الآباء وتقديسه داء ابتليت به الأمم، لا يقل أثره عن الشهوات المغروسة في أعماق الإنسان، إن لم يكن هو شهوة في ذاته. وقد روى الترمذي وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لما خلق الله النار، قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها ثم جاء، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فحفها بالشهوات، فقال: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، فلما رجع، قال: وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها)). أخرجه الترمذي وأبو داود، وزاد النسائي: بعد قوله: ((اذهب فانظر إليها، وإلى ما أعددت لأهلها فيها)) (1) وفي (صحيحي البخاري ومسلم) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره)). أخرجه البخاري ومسلم، ولمسلم ((حفت)) (2) بدل: حجبت. قال صديق حسن خان: والمراد بالشهوات مرادات النفوس ومستلذاتها وأهويتها، وقال القرطبي: الشهوات كل ما يوافق النفس ويلائمها، وتدعو إليه، ويوافقها، وأصل الحفاف الدائر بالشيء المحيط به، الذي لا يتوصل إليه بعد أن يتخطى
 
طعام و شراب و لباس أهل النار :

إن طعام أهل النار هوالضريع والزقوم، وشرابهم الحميم والغسلين والغساق، قال تعالى: لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِن جُوعٍ [الغاشية: 6-7 ]، والضريع شوك بأرض الحجاز يقال له الشبرق. وعن ابن عباس: الشبرق: نبت ذو شوك لاطئ بالأرض، فإذا هاج سمي ضريعاً. وقال قتادة: من أضرع الطعام وأبشعه. وهذا الطعام الذي يأكله أهل النار لا يفيدهم، فلا يجدون لذة، ولا تنتفع به أجسادهم، فأكلهم له نوع من أنواع العذاب. وقال تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان: 43-46] وقد وصف شجرة الزقوم في آية أخرى فقال: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإٍلَى الْجَحِيمِ [الصافات: 62-68 ]. وقال في موضع آخر: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ [الواقعة: 51-56 ]. ويؤخذ من هذه الآيات أن هذه الشجرة شجرة خبيثة، جذورها تضرب في قعر النار، وفروعها تمتد في أرجائها، وثمر هذه الشجرة قبيح المنظر ولذلك شبهه برؤوس الشياطين، وقد استقر في النفوس قبح رؤوسهم وإن كانوا لا يرونهم، ومع خبث هذه الشجرة وخبث طلعها، إلا أن أهل النار يلقى عليهم الجوع بحيث لا يجدون مفراً من الأكل منها إلى درجة ملء البطون، فإذا امتلأت بطونهم أخذت تغلي في أجوافهم كما يغلي دردي الزيت، فيجدون لذلك آلاماً مبرحة، فإذا بلغت الحال بهم هذا المبلغ اندفعوا إلى الحميم، وهو الماء الحار الذي تناهى حره، فشربوا منه كشرب الإبل التي تشرب وتشرب ولا تروى لمرض أصابها، وعند ذلك يقطع الحميم أمعاءهم وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ [ محمد: 15 ]. هذه هي ضيافتهم في ذلك اليوم العظيم، أعاذنا الله من حال أهل النار بمنه وكرمه. وإذا أكل أهل النار هذا الطعام الخبيث من الضريع والزقوم غصوا به لقبحه وخبثه وفساده إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيمًا وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا [المزمل: 12-13 ]، والطعام ذو الغصة هو الذي يغص به آكله، إذ يقف في حلقه. ومن طعام أهل النار الغسلين، قال تعالى: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِؤُونَ [الحاقة: 35-37 ]، وقال تعالى: هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَساقٌ وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ [ص: 57-58 ]. والغسلين والغساق بمعنى واحد، وهو ما سال من جلود أهل النار من القيح والصديد، وقيل: ما يسيل من فروج النساء الزواني ومن نتن لحوم الكفرة وجلودهم، وقال القرطبي: هو عصارة أهل النار. وقد أخبر الحق أن الغسلين واحد من أنواع كثيرة تشبه هذا النوع في فظاعته وشناعته. أما شرابهم فهو الحميم، قال تعالى: وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ [ محمد: 15 ]، وقال: وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنا أَعْتَدْنَا لِلظالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا [الكهف: 29 ]، وقال: وَيُسْقَى مِن ماء صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ [إبراهيم:16-17]، وقال: هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَساقٌ [ص: 57 ].
وقد ذكرت هذه الآيات أربعة أنواع من شراب أهل النار:
الأول: الحميم، وهو الماء الحار الذي تناهي حره، كما قال تعالى: يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن: 44 ]، والـ (آن): هو الذي انتهى حره، وقال: تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [الغاشية:5 ]، وهي التي انتهى حرها فليس بعدها حر.
النوع الثاني: الغساق ...
النوع الثالث: الصديد، وهو ما يسيل من لحم الكافر وجلده، وفي (صحيح مسلم) عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن على الله عهداً لمن شرب المسكرات ليسقيه طينة الخبال. قالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار)) (1) .
الرابع: المهل وقال ابن عباس: في تفسير المهل: ((غليظ كدردي الزيت)) (2) . (5)
وأما لباس أهل النار فقد أخبرنا الحق تبارك وتعالى أنه يُفصّل لأهل النار حلل من النار، كما قال تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ [الحج: 19 ]. وكان إبراهيم التيمي إذا تلا هذه الآية يقول: سبحان من خلق من النار ثياباً. وقال تعالى: وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النارُ [إبراهيم: 48- 49]. والقطران: هو النحاس المذاب. وفي (صحيح مسلم) عن أبي مالك الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة، وعليها سربال من قطران ودرع من جرب)). (3) وخرجه ابن ماجه ولفظه: ((النائحة إذا ماتت ولم تتب قطع الله لها ثياباً من قطران ودرعاً من جرب))
 
صور من العذاب :

تفاوت عذاب أهل النار
لما كانت النار دركات بعضها أشد عذاباً وهولاً من بعض كان أهلها متفاوتون في العذاب، ففي الحديث الذي يرويه مسلم وأحمد عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أهل النار: ((إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حجزته، ومنهم من تأخذه إلى ترقوته (وفي رواية) إلى عنقه)) (1) .
وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن أخف أهل النار عذاباً، ففي (صحيح البخاري) عن النعمان بن بشير قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لرجل توضع في أخمص قدميه جمرة يغلي منها دماغه)) (2) . وفي رواية أخرى في (صحيح البخاري) أيضاً عن النعمان بن بشير: ((إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة رجل على أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل في القمقم)). (3)
وفي رواية النعمان بن بشير عن مسلم: ((إن أهون أهل النار عذاباً من له نعلان وشراكان من نار، يغلي منهما دماغه، كما يغلي المرجل، ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً، وإنه لأهونهم عذاباً)) (4)
وفي (صحيح مسلم) عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن أدنى أهل النار عذابا ينتعل نعلين من نار يغلي دماغه من حرارة نعليه)) (5)
وروى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذُكر عنده عمه أبو طالب، فقال: ((لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه، يغلي منه أم دماغه)) (6)
وقد جاءت النصوص القرآنية مصدقة لتفاوت أصحاب النار في العذاب كقوله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [ النساء:145]، وقوله: وَيَوْمَ تَقُومُ الساعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [ غافر:46]، وقوله: الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ [ النحل: 88].
يقول القرطبي في هذا الموضوع: هذا الباب يدلك على أن كفر من كفر فقط، ليس ككفر من طغى وكفر وتمرد وعصى، ولا شك أن الكفار في عذاب جهنم متفاوتون كما قد علم من الكتاب والسنة، ولأنا نعلم على القطع والثبات أنه ليس عذاب من قتل الأنبياء والمسلمين وفتك فيهم وأفسد في الأرض وكفر، مساوياً لعذاب من كفر فقط وأحسن للأنبياء والمسلمين، ألا ترى أبا طالب كيف أخرجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ضحضاح لنصرته إياه، وذبّه عنه وإحسانه إليه؟ وحديث مسلم عن سمرة يصح أن يكون في الكفار بدليل حديث أبي طالب، ويصح أن يكون فيمن يعذب من الموحدين.
وقال ابن رجب: واعلم أن تفاوت أهل النار في العذاب هو بحسب تفاوت أعمالهم التي أدخلوا بها النار، ثم ساق الأدلة الدالة على ذلك، وساق قول ابن عباس: ليس عقاب من تغلظ كفره وأفسد في الأرض ودعا إلى الكفر كمن ليس كذلك. ثم قال ابن رجب: وكذلك تفاوت عذاب عصاة الموحدين في النار بحسب أعمالهم، فليس عقوبة أهل الكبائر كعقوبة أهل الصغائر، وقد يخفف عن بعضهم بحسنات أخرى له أو بما شاء الله من الأسباب، ولهذا يموت بعضهم في النار.
 
انضاج الجلود:

إن نار الجبار تحرق جلود أهل النار، والجلد موضع الإحساس بألم الاحتراق، ولذلك فإن الله يبدل لهم جلوداً أخرى غير تلك التي احترقت، لتحترق من جديد، وهكذا دواليك، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا [ النساء: 56]
 
الصهر :

من ألوان العذاب صب الحميم فوق رؤوسهم، والحميم هو ذلك الماء الذي انتهى حره، فلشدة حره تذوب أمعاؤهم وما حوته بطونهم فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُود [الحج:19-20].
أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الحميم ليصب على رؤوسهم، فينفذ حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه، حتى يمرق من قدميه، وهو الصهر، ثم يعود كما كان))، وقال: حسن غريب صحيح
 
اللفح :

أكرم ما في الإنسان وجهه،ولذلك نهانا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ضرب الوجه، ومن إهانة الله لأهل النار أنهم يحشرون في يوم القيامة على وجوههم عمياً وصما وبكماً وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مأواهم جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [ الإسراء:97]، ويلقون في النار على وجوههم وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل:90]. وتلفح النار وجوههم وتغشاها أبداً لا يجدون حائلا يحول بينهم وبينها لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النارَ وَلا عَن ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [ الأنبياء:39]، تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [المؤمنون:104]، سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النارُ [ إبراهيم:50]، أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ [الزمر:24]، وانظر إلى هذا المنظر الذي تقشعر لهوله الأبدان: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا [ الأحزاب: 66]، أرأيت كيف يقلب اللحم على النار، والسمك في المقلي، كذلك تقلب وجوههم في النار، نعوذ بالله من عذاب أهل النار.
 
السحب :

ومن أنواع العذاب الأليم سحب الكفار في النار على وجوههم إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [ القمر:47-48]، ويزيد من آلامهم حال سحبهم في النار أنهم مقيدون بالقيود والأغلال والسلاسل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النارِ يُسْجَرُونَ [ غافر:70-72]، قال قتادة: يسحبون مرة في النار وفي الحميم مرة.
 
تسويد الوجوه :

يسود الله في الدار الآخرة وجوه أهل النار يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَما الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [ آل عمران:106]، وهو سواد شديد، كأنما حلت ظلمة الليل في وجوههم وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [ يونس: 27]
 
احاطة النار بالكفار :

أهل النار هم الكفار الذين أحاطت بهم ذنوبهم ومعاصيهم، فلم تبق لهم حسنة، كما قال تعالى في الرد على اليهود الذين قالوا: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة، بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [ البقرة:81]، ولا يكون المرء كذلك إلا إذا كان كافراً مشركاً، يقول صديق حسن خان: " المراد بالسيئة هنا الجنس، ولابد أن يكون سببها محيطاً بها من جميع جوانبه، فلا تبقى له حسنة، وسدت عليها مسالك النجاة، والخلود في النار هو للكفار والمشركين، فيتعين تفسير السيئة والخطيئة في هذه الآية بالكفر والشرك، وبهذا يبطل تشبث المعتزلة والخوارج لما ثبت في السنة متواتراً من خروج عصاة الموحدين من النار ".
ولما كانت الخطايا والذنوب تحيط بالكافر إحاطة السوار بالمعصم، فإن الجزاء من جنس العمل، ولذا فإن النار تحيط بالكفار من كل جهة، كما قال تعالى: لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظالِمِينَ [ الأعراف:41]. والمهاد ما يكون من تحتهم، والغواش جمع غاشية، وهي التي تغشاهم من فوقهم، والمراد أن النيران تحيط بهم من فوقهم ومن تحتهم، كما قال تعالى: يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [ العنكبوت:55]، وقال في موضع آخر: لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ [ الزمر:16]، وقد صرح بالإحاطة في موضع آخر: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [التوبة:49]. وقد فسر بعض السلف المهاد بالفرش، والغواش باللحف.
وتأتي الإحاطة من ناحية أخرى، ذلك أن للنار سوراً يحيط بالكفار، فلا يستطيع الكفار مغادرتها أو الخروج منها، كما قال تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنا أَعْتَدْنَا لِلظالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا [ الكهف:29]. وسرادق النار سورها وحائطها الذي يحيط بها. (1)
 
اطلاع النار على الافئدة :

ذكرنا أن أهل النار يضخم خلقهم في النار شيئاً عظيماً، ومع ذلك فإن النار تدخل في أجسادهم حتى تصل إلى أعمق شيء فيهم سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَواحَةٌ لِّلْبَشَرِ [ المدثر:26-29]، قال بعض السلف في قوله: (لا تبقي ولا تذر)، قال: (تأكل العظم واللحم والمخ ولا تذره على ذلك). وقال الحق تبارك وتعالى: كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَة [الهمزة:4-7]. قال محمد بن كعب القرظي: (تأكله النار إلى فؤاده، فإذا بلغت فؤاده أنشئ خلقه). وعن ثابت البناني أنه قرأ هذه الآية، ثم قال: (تحرقهم النار إلى الأفئدة وهم أحياء، لقد بلغ منهم العذاب، ثم يبكي).
 
اندلاق الامعاء فى النار :

في (الصحيحين) عن أسامة بن زيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يُجاء بالرجل يوم القيامة، فيُلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: أي فلان، ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه)) (1) ومن الذين يجرون أمعاءهم في النار عمرو بن لحي، وهو أول من غير دين العرب، وقد رآه الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجر قصبه في النار، ففي (الصحيحين) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، وكان أول من سيب السوائب))
 
قيود اهل النار و الاغلال و السلاسل :

أعد الله لأهل النار في النار سلاسل وأغلالاً وقيوداً ومطارق إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا [الإنسان:4] إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيمًا وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا [المزمل:12-13]، والأغلال توضع في الأعناق وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سبأ:33]، إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ [غافر:71]، والأنكال: القيود، سميت أنكالاً لأن الله يعذبهم وينكل بهم إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا [المزمل:12]، والسلاسل نوع آخر من ألوان العذاب التي يقيد بها المجرمون كما يقيد المجرمون في الدنيا، وانظر إلى هذه الصورة التي أخبرنا بها الكتاب الكريم خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [ الحاقة:30-32]. وأعد الله لأهل النار مقامع من حديد، وهي المطارق التي تهوي على المجرمين وهم يحاولون الخروج من النار، فإذا بها تطوح بهم مرة أخرى إلى سواء الجحيم، وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج:21-22]
 
عودة
أعلى