بسم الله الرحمن الرحمن
تعريف النار :
النار هي الدار التي أعدها الله للكافرين به، المتمردين على شرعه، المكذبين لرسله، وهي عذابه الذي يعذب فيه أعداءه، وسجنه الذي يسحن فيه المجرمين. وهي الخزي الأكبر، والخسران العظيم، الذي لا خزي فوقه، ولا خسران أعظم منه، رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [آل عمران: 192]، أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ [التوبة: 63]، وقال: إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر: 15]. وكيف لا تكون النار كما وصفنا وفيها من العذاب والآلام والأحزان ما تعجز عن تسطيره أقلامنا، وعن وصفه ألسنتنا، وهي مع ذلك خالدة وأهلها فيها خالدون، ولذلك فإن الحق أطال في ذم مقام أهل النار في النار إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان: 66]، هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ [ص: 55 – 56]
خزنة النار :
يقوم على النار ملائكة، خلقهم عظيم، وبأسهم شديد، لا يعصون الله الذي خلقهم، ويفعلون ما يؤمرون، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6]. وعدتهم تسعة عشر ملكاً، كما قال تعالى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر: 26 - 30] وقد فتن الكفار بهذا العدد، فقد ظنوا أنه يمكن التغلب على هذا العدد القليل، وغاب عنهم أن الواحد من هؤلاء يملك من القوة ما يواجه به البشر جميعاً، ولذلك عقب الحق على ما سبق بقوله: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا [المدثر: 31]. قال ابن رجب: والمشهور بين السلف والخلف أن الفتنة إنما جاءت من حيث ذكر عدد الملائكة الذين اغتر الكفار بقلتهم، وظنوا أنهم يمكنهم مدافعتهم وممانعتهم، ولم يعلموا أن كل واحد من الملائكة لا يمكن البشر كلهم مقاومته. وهؤلاء الملائكة هم الذين سماهم الله بخزنة جهنم في قوله: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ [غافر: 49]
سعة النار و بعد قعرها :
أما قعرها وعمقها فعن خالد بن عمير قال: ((خطب عتبة بن غزوان فقال: إنه ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاماً لا يدرك لها قعراً والله لَتُملأَن أفعجبتم.)) (1) رواه مسلم موقوفاً هكذا، وكذا خرجه الإمام أحمد موقوفاً، وخرجه أيضاً مرفوعاً. قال الحافظ: والموقوف أصح (2) .
وخرج الترمذي عن عتبة بن غزوان أنه قال على منبر البصرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الصخرة العظيمة لتلقى من شفير جهنم فتهوي فيها سبعين وما تقض إلى قرارها)).
قال: وكان عمر رضي الله عنه يقول: (أكثروا ذكر النار, فإن حرها شديد, وإن قعرها بعيد, وإن مقامعها من حديد) (3) .
قال الترمذي: (رواه الحسن عن عتبة ولا نعرف للحسن سماعاً من عتبة بن غزوان).
وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فسمعنا وجبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا حجر أرسل في جهنم منذ سبعين خريفاً)) (4) .
وخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لو أن حجراً قذف به في نار جهنم لهوى فيها سبعين خريفاً قبل أن يبلغ قعرها)) (5) (6) .
وأخرج ابن المبارك عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (إن ما بين شفير جهنم مسيرة سبعين خريفاً من حجر يهوي أو صخرة تهوي عظمها كعشر عشراوات أي: نوق عشارية عظام سمان فقال له رجل تحت ذلك شيء يا أبا أمامة؟ قال: نعم غي وآثام) (7) .
قال الحافظ في التخويف (8) : (وقد روي هذا مرفوعاً بإسناد فيه ضعف وزاد فيه: ((قيل وما غي وما آثام قال: بئران يسيل فيهما صديد أهل النار وهما اللتان ذكرهما الله في كتابه فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم: 59] وفي الفرقان يَلْقَ أَثَامًا [الفرقان: 68].)) (9) .
قال الحافظ: (والموقوف أصح) (10) .
وأخرج الإمام أحمد عن عبد الله عنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من حكم يحكم بين الناس إلا حبس يوم القيامة وملك آخذ بقفاه حتى يقفه على شفير جهنم, ثم يرفع رأسه إلى الله عز وجل فإذا قال: ألقه، ألقاه في مهوي أربعين خريفاً)) (11) .
وفي التخويف للحافظ (12) بسند فيه عبد الله بن الوليد الرصافي لا يحفظ الحديث – وكان شيخاً صالحاً – أن أبا ذر رضي الله عنه قال لعمر رضي الله عنه ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يجاء بالوالي يوم القيامة فينبذ على جسر جهنم فيرتج به الجسر ارتجاجة لا يبقي منه مفصل إلا زال عن مكانه, فإن كان مطيعاً لله في عمله مضى به، وإن كان عاصياً لله في عمله انخرق به الجسر فهوى في جهنم مقدار خمسين عاماً. فقال له عمر رضي الله عنه: من يطلب العمل بعد هذا؟ قال أبو ذر رضي الله عنه: من سلت الله أنفه, وألصق خده بالتراب, فجاء أبو الدرداء فقال له عمر: يا أبا الدرداء هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ حدثنا بحديث حدثني به أبو ذر، قال: فأخبره أن مع الخمسين خمسين عاما يهوي أو نحو هذا)) (13) .
........ وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوي بها في النار)) (14) وفي لفظ ((يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب)) (15) .
وأخرج الإمام أحمد والترمذي عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها في النار سبعين خريفاً)) (16) .
وخرجه ابن ماجه وكذا البزار بنحوه عن ابن مسعود رضي الله عنه. هذا عمقها.
وأما سعتها فروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((أتدرون ما سعة جهنم؟ قلنا: لا، قال: قال: أجل والله ما تدرون, ما بين شحمة أذن أحدهم وعاتقه مسيرة سبعين خريفاً، تجري فيه أودية القيح والصديد والدم، قلنا: أنهار؟ قال: لا بل أودية، ثم قال: أتدرون ما سعة جهنم؟ قلنا: لا، قال: حدثتني عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] فأين الناس يومئذ؟ قال: على جسر جهنم)) روه الإمام أحمد. (17)
وخرج النسائي والترمذي منه المرفوع وصححه الترمذي وخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.
دركات النار :
النار متفاوتة في شدة حرها، وما أعده الله من العذاب لأهلها، فليست درجة واحدة، وقد قال الحق تبارك وتعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 145]. والعرب تطلق: الدرك على كل ما تسافل، كما تطلق: الدرج على كل ما تعالى: فيقال: للجنة درجات وللنار دركات، وكلما ذهبت النار سفلاً كلما علا حرها واشتد لهيبها، والمنافقون لهم النصيب الأوفر من العذاب، ولذلك كانوا في الدرك الأسفل من النار. وقد تسمى النار درجات أيضاً، ففي سورة الأنعام ذكر الله أهل الجنة والنار، ثم قال: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ [الأنعام: 132]، وقال: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ, هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [آل عمران: 162 - 163]، قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: (درجات الجنة تذهب علواً، ودرجات النار تذهب سفلاً) (1) . وقد ورد عن بعض السلف أن عصاة الموحدين ممن يدخلون النار يكونون في الدرك الأعلى، ويكون في الدرك الثاني اليهود، وفي الدرك الثالث النصارى، وفي الدرك الرابع الصابئون، وفي الخامس المجوس، وفي السادس مشركو العرب، وفي السابع المنافقون. ووقع في بعض الكتب تسمية هذه الدركات: فالأول جهنم، والثاني لظى، والثالث الحطمة، والرابع السعير، والخامس سقر، والسادس الجحيم، والسابع الهاوية. ولم يصح تقسيم الناس في النار وفق هذا التقسيم، كما لم يصح تسمية دركات النار على النحو الذي ذكروه، والصحيح أن كل واحد من هذه الأسماء التي ذكروها: جهنم، لظى، الحطمة... إلخ اسم علم للنار كلها، وليس لجزء من النار دون جزء (5)
فعذاب جهنم متفاوت بعضه أشد من بعض، وعلى هذا فمنازل أهل النار متفاوتة بتفاوت دركاتها، وقد أخبر سبحانه أن المنافقين أسفل أهل النار إذ هم في الدرك الأسفل منها.
وأخبر صلى الله عليه وسلم عن أهون أهل النار عذاباً فقال: ((إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لرجل توضع في أخمص قدميه جمرة يغلي منها دماغه)) (2) . وصرح صلى الله عليه وسلم أنه أبو طالب فقال: ((أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، وهو متنعل بنعلين يغلي منهما دماغه)) (3) .
ولا شك أن عصاة المؤمنين الذين يدخلون النار فيعذبون فيها على قدر أعمالهم ثم يخرجون منها.... لا شك أنهم أهون أهل النار عذاباً لأن عذابهم فيها مؤقت، أما بقية أهل النار من الكفار والمنافقين فكما قال الله عز وجل فيهم: لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا [ فاطر: 36].
ومقصود النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((أهون أهل النار عذاباً)) في هذا الحديث أهلها المقيمين فيها الذين لا يخرجون منها كما قال صلى الله عليه وسلم: ((أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون. ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم (أو قال: بخطاياهم) فأماتهم إماتة. حتى إذا كانوا فحماً، أذن بالشفاعة. فجيء بهم ضبائر ضبائر. فبثوا على أنهار الجنة. ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم. فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل))
سجر جهنم و تسعرها :
روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لما خلق الله النار أرسل إليها جبريل قال له: اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها، قال: فنظر إليها فإذا هي يركب بعضها بعضاً, فرجع فقال: وعزتك لا يدخلها أحد سمع بها, فأمر بها فحفت بالشهوات, ثم قال له: اذهب فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها, فذهب فنظر إليها ورجع فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها)) خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي (1) .
وفي حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن ملكين أتياه في المنام فذكر رؤيا طويلة وفيها: قال: انطلقت, فأتينا على رجل كريه المرآة, كأكره ما أنت راء، فإذا هو عند نار يحشها ويسعى حولها قال: قلت: ما هذا؟ قالا لي: انطلق)) وفي آخر الحديث: ((قالا: فأما الرجل الكريه المرآة الذي عند النار يحشها ويسعى حولها فإنه مالك خازن جهنم)) وقد خرجه البخاري بتمامه، وخرج مسلم أوله ولم يتمه (2) .
وقوله: ((كريه المرآة)) أي المنظر, وقوله: ((يحشها)) أي يوقدها.
وروى هذا الحديث أبو خلدة عن أبي رجاء عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث بطوله، وفي حديثه قال: ((فرأيت شجرة لو اجتمع تحتها خلق كثير لأظلتهم, وتحتها رجلان أحدهما يوقد ناراً والآخر يحتطب الحطب)) وفي آخر الحديث: ((قلت: فالرجلان اللذان رأيت تحت الشجرة، قال: ذلك ملكان من جهنم يحمون جهنم لأعداء الله إلى يوم القيامة)) (3) ...
وجهنم تسجر كل يوم نصف النهار, وفي (صحيح مسلم) عن عمرو بن عبسة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صلِّ صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس وترتفع, فإنها تطلع بين قرني شيطان, وحينئذ يسجد لها الكفار, ثم صل فإن الصلاة مشهودة (محظورة) حتى يستقل الظل بالرمح, ثم أقصر عن الصلاة فإنه حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصل)) (4) وذكر بقية الحديث.
وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه من حديث أبي أمامة وغيره (5) .
وفي حديث صفوان بن المعطل عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا طلعت الشمس فصل حتى تعتدل على رأسك مثل المرح، فإذا اعتدلت على رأسك فإن تلك الساعة تسخر فيها جهنم وتفتح فيها أبوابها, حتى تزول عن حاجبك الأيمن)) خرجه عبدالله بن الإمام أحمد (6) .
وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((فإذا انتصف النهار فأقصر عن الصلاة حتى تميل الشمس, فإنها حيئنذ تسعر جهنم, وشدة الحر من فيح جهنم)) (7) .
وروى أبو بكر بن عياش عن عاصم عن زر عن عبدالله بن مسعود قال: (أن الشمس تطلع بين قرني شيطان, أو في قرني شيطان, فما ترتفع قصمة في السماء إلا فتح لها باب من أبواب النار, فإذا كانت الظهيرة فتحت أبواب النار كلها, فكنا ننهى عن الصلاة عند طلوع الشمس, وعند غروبها, ونصف النهار) (8) خرجه يعقوب بن شيبة ورواه الإمام أحمد عن أبي بكر بن عياش أيضاً.
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم)) (9) وفي رواية خرجها أبو نعيم: ((من فيح جهنم)) أو((من فيح أبواب جهنم))
أبواب النار:
أخبر الحق أن للنار سبعة أبواب كما قال تعالى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ [الحجر: 43 - 44]. قال ابن كثير في تفسير الآية: أي قد كتب لكل باب منها جزء من أتباع إبليس يدخلونه لا محيد لهم عنه، أجارنا الله منها، وكل يدخل من باب بحسب عمله، ويستقر في درك بحسب عمله ونُقِلَ عن علي بن أبي طالب قوله وهو يخطب: إن أبواب جهنم هكذا - قال أبو هارون - أطباقاً بعضها فوق بعض ونُقل عنه أيضاً قوله: أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض، فيمتلئ الأول، ثم الثاني، ثم الثالث، حتى تمتلئ كلها (1) . وعندما يردُ الكفار النار تفتح أبوابها، ثم يدخلونها خالدين وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [الزمر: 71]، وبعد هذا الإقرار يقال لهم: ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: 72]، وهذه الأبواب تغلق على المجرمين، فلا مطمع لهم في الخروج منها بعد ذلك، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ [البلد: 19 - 20]. قال ابن عباس: مُّؤْصَدَةٌ مغلقة الأبواب، وقال مجاهد: أصد الباب بلغة قريش، أي أغلقه. (2) وقال الحق في سورة الهمزة: وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ [الهمزة: 1 - 9]. فأخبر الحق أن أبوابها مغلقة عليهم، وقال ابن عباس: فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ يعني الأبواب هي الممددة، وقال قتادة في قراءة ابن مسعود: إنها عليهم مؤصدة بعمد ممددة، وقال عطية العوفي: هي عمد من حديد، وقال مقاتل: أطبقت الأبواب عليهم، ثم شدت بأوتاد من حديد، حتى يرجع عليهم غمها وحرها، وعلى هذا فقوله: مُّمَدَّدَةٍ صفة للعمد، يعني أن العمد التي أوثقت بها الأبواب ممددة مطولة، والممدود الطويل أرسخ وأثبت من القصير. وقد تفتح أبواب النار وتغلق قبل يوم القيامة، فقد أخبر المصطفى أن أبواب النار تغلق في شهر رمضان، فعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين ومردة الجن)) (3) . وخرّج الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة، فلم يغلق منها باب))
بعد أبواب جهنهم عن بعضها البعض و ما أعد فيها من عذاب :
قال بعض أهل العلم في قوله تعالى: لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر: 44] قال: (من الكفار، والمنافقين, والشياطين، بين الباب والباب خمسمائة عام, فالباب الأول: يسمى جهنم لأنه يتجهم في وجوه الرجال والنساء، فيأكل لحومهم، وهو أهون عذاباً من غيره، والباب الثاني: يقال له: لظى نزاعة للشوى، ويقول آكلة لليدين والرجلين, تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ عن التوحيد وتولى عما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، والباب الثالث: يقال: له سقر، وإنما سمي سقر لأنه يأكل لحوم الرجال والنساء لا يبقى لهم لحماً على عظم، والباب الرابع يقال له: الحطمة. فقد قال تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحُطَمَةُ الآية تحطم العظام، وتحرق الأفئدة: قال تعالى: الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ, تأخذه النار من قدميه، وتطلع على فؤاده، وترمي بشرر كالقصر، كما قال تعالى:تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ الآية, يعني سوداً فتطلع الشرر إلى السماء، ثم تنزل فتحرق وجوههم, وأيديهم, وأبدانهم، فيبكون الدمع حتى ينفذ، ثم يبكون الدماء، ثم يبكون القيح حتى تنفذ، حتى أن السفن لو أرسلت تجري فيما خرج من أعينهم لجرت، والباب الخامس يقال: له الجحيم, وإنما سمي الجحيم لأنه عظيم، الجمرة الواحدة منه أعظم من الدنيا.
والباب السادس: يقال له: السعير وإنما سمي السعير لأن يسعر منذ خلق؛ فيه ثلاثمائة قصر في كل قصر ثلاثمائة بيت في كل بيت ثلاثمائة لون من العذاب, وفيه الحيات، والعقارب، والقيود، والسلاسل، والأغلال، والأنكال، وفيه جب الحزن، ليس في النار عذاب أشد منه، إذا فتح باب الجب حزن أهل النار حزناً شديداً.الباب السابع: يقال له الهاوية من وقع فيه لم يخرج منه أبداً. وفيه بئر الهباب إذا فتح تخرج منه نار تستعيذ منه النار، وفيه الذي قال الله عز وجل: سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا أو جبل من نار تصعده أعداء الله على وجوههم, مغلولة أيديهم إلى أعناقهم, مجموعة أعناقهم إلى أقدامهم, والزبانية وقوف على رءوسهم, بأيديهم مقامع من حديد، إذا ضرب أحدهم بالمقمعة ضربة سمع صوتها الثقلان، وأبواب النار حديد، فرشها الشوك، غشاوتها الظلمة, أرضها نحاس, ورصاص, وزجاج، النار من فوقهم، والنار من تحتهم، لهم من فوقهم ظلل من النار. ومن تحتهم ظلل, أوقد عليها ألف عام حتى احمرت, وألف عام حتى ابيضت، وألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مدلهمة مظلمة، قد مزجت بغضب الله).
ذكره القتيبي في كتاب (عيون الأخبار).
وذكر عن ابن عباس: (أن جهنم سوداء مظلمة لا ضوء لها ولا لهب، وهي كما قال تعالى: لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ على كل باب سبعون ألف جبل, على كل جبل سبعون ألف شعب من النار، في كل شعب سبعون ألف شق من نار، في كل شق سبعون ألف واد من نار، في كل واد سبعون ألف قصر من النار، في كل قصر سبعون ألف حية, وسبعون ألف عقرب، لكل عقرب سبعون ألف ذنب، لكل ذنب سبعون ألف نقار, لكل نقار سبعون ألف قلة من سم، فإذا كان يوم القيامة كشف عنها الغطاء, فتطير منها سرادق عن يمين الثقلين, وآخر عن شمالهم, وسرادق أمامهم, وسرادق من فوقهم, وآخر من ورائهم، فإذا نظر الثقلان إلى ذلك جثوا على ركبهم وكل ينادي رب سلم سلم).
قال القرطبي (1) : (ومثله لا يقال من جهة الرأي، فهو توقيف لأنه أخبار عن مغيب). انتهى.
ثم نقل عن وهب بن منبه نحوه. وأقول: وهب يحدث عن الإسرائيليين كثيراً، ولا يقبل مثل ذلك عنه، ولا عن أمثاله ونظرائه إلا أن يرد به دليل من الكتاب أو السنة الصحيحة، وما ورد في ذلك من القرآن والحديث يكفي، ويشفي ويغني عن غيره.
وقود النار :
وقود النار الأحجار والفجرة الكفار، كما قال الحق: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم: 6]، وقال: فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة: 24]. والمراد بالناس الذين توقد النار بهم الكفرة المشركون، وأما نوع الحجارة التي تكون للنار وقوداً فالله أعلم بحقيقتها، وقد ذهب بعض السلف إلى أن هذه الحجارة من كبريت، قال عبدالله بن مسعود: هي حجارة من كبريت، خلقها الله يوم خلق السماوات والأرض في السماء الدنيا يعدها للكافرين، رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم في المستدرك. وقال بهذا القول ابن عباس ومجاهد وابن جريج. (1) وإذا كان القول هذا مأخوذاً من الرسول صلى الله عليه وسلم فنأخذ به، ولا نجادل فيه، وإن كان أمراً اجتهادياً مبنياً على العلم بطبائع الحجارة وخصائصها فهذا قول غير مسلّم، فإن من الحجارة ما يفوق حجارة الكبريت قوة واشتعالاً. والأوائل رأوا أن حجارة الكبريت لها خصائص ليست لغيرها من الحجارة فقالوا إنها مادة وقود النار، يقول ابن رجب: وأكثر المفسرين على أن المراد بالحجارة حجارة الكبريت توقد بها النار. ويقال: إن فيها خمسة أنواع من العذاب ليس في غيرها: سرعة الإيقاد، ونتن الرائحة، وكثرة الدخان، وشدة الالتصاق بالأبدان، قوة حرها إذا حميت. وقد يوجد الله من أنواع الحجارة ما يفوق ما في الكبريت من خصائص، ونحن نجزم أن ما في الآخرة مغاير لما في الدنيا. ومما توقد به النار الآلهة التي كانت تعبد من دون الله إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ [الأنبياء: 98 – 99 ]وحصبها: وقودها وحطبها، وقال الجوهري: كل ما أوقدت به النار أو هيجتها فقد حصبتها، وقال أبو عبيدة: كل ما قذفته في النار فقد حصبتها به
شدة حرها و زمهريرها :
قال الله تعالى: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ لاَّ بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [ الواقعة:41-44]
قال ابن عباس: (من دخان) وكذا قال مجاهد وعكرمة وغير واحد (1) ، وعن مجاهد قال: (ظل من دخان جهنم وهو السموم) (2) وقال أبو مالك: (اليحموم ظل من دخان جهنم) (3) قال الحسن وقتادة في قوله: لاَّ بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ: (لا بارد المدخل ولا كريم المنظر) (4) , والسموم: هو الريح الحارة, قاله قتادة وغيره (5) .
وهذا الآية تضمنت ذكر ما يتبرد به في الدنيا من الكرب والحر، وهو ثلاثة، الماء, والهواء, والظل، فهواء جهنم، السموم وهو الريح الحارة الشديدة الحر، وماؤها الحميم الذي قد اشتد حره، وظلها اليحموم, وهو قطع دخانها أجارنا الله من ذلك كله بكرمه ومنه.
وقال تعالى: انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ [ المرسلات:30], قال مجاهد: (هو دخان جهنم: اللهب الأخضر, والأسود, والأصفر الذي يعلو النار إذا أوقدت).
قال السدي: في قوله: إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ [ المرسلات:32] قال: (زعموا أن شررها ترمي به كأصول الشجر ثم يرتفع فيمتد).
وقال القرظي: (على جهنم سور, فما خرج من وراء سورها يخرج منها في عظم القصور, ولون القار) (6) .
وقال الحسن والضحاك في قوله: كَالْقَصْرِ: (هو كأصول الشجر العظام) (7) .
وقال مجاهد: (قطع الشجر والجبل) (8) .
وصح عن ابن مسعود قال: (شرر كالقصور والمدائن) (9) . وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ يقول: كالقصر العظيم) (10) .
وفي (صحيح البخاري) عن ابن عباس قال: (كنا نرفع من الخشب بقصر ثلاثة أذرع أو أقل, نرفعه للشتاء نسميه القصر) (11) .
وقوله: كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ قال ابن عباس: (حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض تكون كأوساط الرجال) (12) وقال مجاهد: (هي حبال الجسور) (13) . وقالت طائفة: (هي الإبل) منهم الحسن وقتادة والضحاك (14) وقالوا: (الصفر هي السود). وروي عن مجاهد أيضاً (15) .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: جِمَالَتٌ صُفْرٌ قال: (يقول قطع النحاس) (16) .
قال الله عز وجل: يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ [الرحمن:35] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ ويقول: لهب النار وَنُحَاسٌ يقول: دخان النار) (17) ، وكذا قال سعيد بن جبير وأبو صالح وغيرهما: أن النحاس دخان النار (18) ، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ قال: (دخان) (19) ، وقال أبو صالح: (الشواظ: اللهب الذي فوق النار ودون الدخان) (20) ، قال منصور عن مجاهد: (الشواظ، هو اللهب الأخضر المتقطع) وعنه قال: (الشواظ قطعة من النار فيها خضرة) (21) .
قال الحسين بن منصور: أخرج الفضيل بن عياض رأسه من خوخة, فقال منصور عن مجاهد: يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ [ الرحمن:35] ثم أدخل رأسه فانتحب ثم أخرج رأسه، فقال: هو اللهب المنقطع, ولم يستطع أن يجيز الحديث (22) .
وخرج النسائي والترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف امرئ أبداً)) (23) (36)
أما حرها فقال تعالى: وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة: 81] وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضا فنفسني, فأذن لها في نفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف فأشد ما تجدون من الحر من سمومها, وأشد ما تجدون من البرد من زمهريرها)) (24) .
وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ناركم هذه ما يوقد ابن آدم جزء واحد من سبعين جزءاً من نار جهنم)) قالوا: والله إن كانت لكافية قال: ((إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها)) (25) .
وخرجه الإمام أحمد وزاد فيه: ((وضربت بالبحر مرتين, ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد)) (26) وتقدم.
وخرج الإمام عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((إن النار هذه جزء من مائة جزء من جهنم)) (27) وروى الطبراني: ((أن جبريل عليه السلام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي بعثك بالحق لو أن قدر ثقب إبرة فتح من جهنم لمات من في الأرض كلهم جميعاً من حره)) (28) .
قال الحافظ (29) : (وروي عن الحسن مرسلاً من وجه ضعيف، والحديث تكلم فيه والله تعالى أعلم).
وقال كعب الأحبار رحمه الله لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لو فتح من جهنم قدر منخر ثور بالمشرق ورجل بالمغرب لغلى دماغه حتى يسيل من حرها.)
وقال عبد الملك بن عمير: (لو أن أهل النار كانوا في نار الدنيا لقالوا فيها).
وقال بشير بن منصور: قلت لعطاء السلمي رحمه الله: (لو أن إنساناً أوقدت له نار وقيل له: من دخل هذه النار نجا من النار، فقال عطاء: لو قيل لي ذلك لخشيت أن تخرج نفسي فرحاً قبل أن أقع فيها) (30) .
فإن قلت قد ذكرت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((أن هذه النار جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم)) (31) وفي حديث آخر ((من مائة جزء)) (32) وكلا الحديثين ثابت عنه صلى الله عليه وسلم.
قلت: لفظة سبعين وسبعمائة وسبعة آلاف ونحوها كثيراً ما يراد به التكثير كقوله تعالى: إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ [التوبة: 80] وهذا كثير جداً في كلام العرب أو يقال: إن هذين الحديثين وردا بحسب اختلاف النارين اللتين من نار الدنيا, وكل أحد يشاهد أن بعض نار الدنيا أقوى وأشد حر من بعض، هذا معلوم بالحس لا ينكره أحد والله تعالى أعلم.
وأما زمهريرها
فروي أن بيتاً في جهنم يتميز فيه الكافر من برده يعني يتقطع ويتمزع وقال مجاهد: (إن في النار لزمهريراً يقيلون فيه، يهربون إلى ذلك الزمهرير فإذا وقعوا حطم عظامهم حتى يسمع لها نقيض).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (يستغيث أهل النار من الحر فيغاثون بريح باردة يصدع العظام بردها فيسألون الحر) (33) .
وعن عبد الملك بن عمير أنه قال: (بلغني أن أهل النار يسألون خازنها أن يخرجهم إلى حَبَّانها فأخرجهم فقتلهم البرد حتى رجعوا إليها فدخلوها مما وجدوا من البرد) (34) .
وأخرج أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن كعباً رضي الله عنه قال: (إن في جهنم برداً هو الزمهرير يسقط اللحم حتى يستغيثوا بحر جهنم)
رؤيا ابن عمر للنار :
وفي (الصحيحين) واللفظ للبخاري عن ابن عمر: ((أنه رأى في المنام أنه جاءه ملكان في يد كل واحد منهما مقمعة من حديد، يقبلا بي إلى جهنم ثم لقيه ملك في يده مقمعة من حديد، قالوا: لن تُرع. نعم الرجل أنت، لو كنت تكثر الصلاة، قال: فانطلقوا بي حتى وقفوا بي على شفير جهنم، فإذا هي مطوية كطي البئر، له قرون كقرن البئر، بين كل قرنين ملك بيده مقمعة من حديد، وأرى فيها رجالاً معلقين بالسلاسل، رؤوسهم أسفلهم، عرفت فيها رجالاً من قريش، فانصرفوا بي عن ذات اليمين، فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن عبدالله رجل صالح)
تعريف النار :
النار هي الدار التي أعدها الله للكافرين به، المتمردين على شرعه، المكذبين لرسله، وهي عذابه الذي يعذب فيه أعداءه، وسجنه الذي يسحن فيه المجرمين. وهي الخزي الأكبر، والخسران العظيم، الذي لا خزي فوقه، ولا خسران أعظم منه، رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [آل عمران: 192]، أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ [التوبة: 63]، وقال: إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر: 15]. وكيف لا تكون النار كما وصفنا وفيها من العذاب والآلام والأحزان ما تعجز عن تسطيره أقلامنا، وعن وصفه ألسنتنا، وهي مع ذلك خالدة وأهلها فيها خالدون، ولذلك فإن الحق أطال في ذم مقام أهل النار في النار إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان: 66]، هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ [ص: 55 – 56]
خزنة النار :
يقوم على النار ملائكة، خلقهم عظيم، وبأسهم شديد، لا يعصون الله الذي خلقهم، ويفعلون ما يؤمرون، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6]. وعدتهم تسعة عشر ملكاً، كما قال تعالى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر: 26 - 30] وقد فتن الكفار بهذا العدد، فقد ظنوا أنه يمكن التغلب على هذا العدد القليل، وغاب عنهم أن الواحد من هؤلاء يملك من القوة ما يواجه به البشر جميعاً، ولذلك عقب الحق على ما سبق بقوله: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا [المدثر: 31]. قال ابن رجب: والمشهور بين السلف والخلف أن الفتنة إنما جاءت من حيث ذكر عدد الملائكة الذين اغتر الكفار بقلتهم، وظنوا أنهم يمكنهم مدافعتهم وممانعتهم، ولم يعلموا أن كل واحد من الملائكة لا يمكن البشر كلهم مقاومته. وهؤلاء الملائكة هم الذين سماهم الله بخزنة جهنم في قوله: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ [غافر: 49]
سعة النار و بعد قعرها :
أما قعرها وعمقها فعن خالد بن عمير قال: ((خطب عتبة بن غزوان فقال: إنه ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاماً لا يدرك لها قعراً والله لَتُملأَن أفعجبتم.)) (1) رواه مسلم موقوفاً هكذا، وكذا خرجه الإمام أحمد موقوفاً، وخرجه أيضاً مرفوعاً. قال الحافظ: والموقوف أصح (2) .
وخرج الترمذي عن عتبة بن غزوان أنه قال على منبر البصرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الصخرة العظيمة لتلقى من شفير جهنم فتهوي فيها سبعين وما تقض إلى قرارها)).
قال: وكان عمر رضي الله عنه يقول: (أكثروا ذكر النار, فإن حرها شديد, وإن قعرها بعيد, وإن مقامعها من حديد) (3) .
قال الترمذي: (رواه الحسن عن عتبة ولا نعرف للحسن سماعاً من عتبة بن غزوان).
وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فسمعنا وجبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا حجر أرسل في جهنم منذ سبعين خريفاً)) (4) .
وخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لو أن حجراً قذف به في نار جهنم لهوى فيها سبعين خريفاً قبل أن يبلغ قعرها)) (5) (6) .
وأخرج ابن المبارك عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (إن ما بين شفير جهنم مسيرة سبعين خريفاً من حجر يهوي أو صخرة تهوي عظمها كعشر عشراوات أي: نوق عشارية عظام سمان فقال له رجل تحت ذلك شيء يا أبا أمامة؟ قال: نعم غي وآثام) (7) .
قال الحافظ في التخويف (8) : (وقد روي هذا مرفوعاً بإسناد فيه ضعف وزاد فيه: ((قيل وما غي وما آثام قال: بئران يسيل فيهما صديد أهل النار وهما اللتان ذكرهما الله في كتابه فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم: 59] وفي الفرقان يَلْقَ أَثَامًا [الفرقان: 68].)) (9) .
قال الحافظ: (والموقوف أصح) (10) .
وأخرج الإمام أحمد عن عبد الله عنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من حكم يحكم بين الناس إلا حبس يوم القيامة وملك آخذ بقفاه حتى يقفه على شفير جهنم, ثم يرفع رأسه إلى الله عز وجل فإذا قال: ألقه، ألقاه في مهوي أربعين خريفاً)) (11) .
وفي التخويف للحافظ (12) بسند فيه عبد الله بن الوليد الرصافي لا يحفظ الحديث – وكان شيخاً صالحاً – أن أبا ذر رضي الله عنه قال لعمر رضي الله عنه ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يجاء بالوالي يوم القيامة فينبذ على جسر جهنم فيرتج به الجسر ارتجاجة لا يبقي منه مفصل إلا زال عن مكانه, فإن كان مطيعاً لله في عمله مضى به، وإن كان عاصياً لله في عمله انخرق به الجسر فهوى في جهنم مقدار خمسين عاماً. فقال له عمر رضي الله عنه: من يطلب العمل بعد هذا؟ قال أبو ذر رضي الله عنه: من سلت الله أنفه, وألصق خده بالتراب, فجاء أبو الدرداء فقال له عمر: يا أبا الدرداء هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ حدثنا بحديث حدثني به أبو ذر، قال: فأخبره أن مع الخمسين خمسين عاما يهوي أو نحو هذا)) (13) .
........ وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوي بها في النار)) (14) وفي لفظ ((يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب)) (15) .
وأخرج الإمام أحمد والترمذي عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها في النار سبعين خريفاً)) (16) .
وخرجه ابن ماجه وكذا البزار بنحوه عن ابن مسعود رضي الله عنه. هذا عمقها.
وأما سعتها فروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((أتدرون ما سعة جهنم؟ قلنا: لا، قال: قال: أجل والله ما تدرون, ما بين شحمة أذن أحدهم وعاتقه مسيرة سبعين خريفاً، تجري فيه أودية القيح والصديد والدم، قلنا: أنهار؟ قال: لا بل أودية، ثم قال: أتدرون ما سعة جهنم؟ قلنا: لا، قال: حدثتني عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] فأين الناس يومئذ؟ قال: على جسر جهنم)) روه الإمام أحمد. (17)
وخرج النسائي والترمذي منه المرفوع وصححه الترمذي وخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.
دركات النار :
النار متفاوتة في شدة حرها، وما أعده الله من العذاب لأهلها، فليست درجة واحدة، وقد قال الحق تبارك وتعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 145]. والعرب تطلق: الدرك على كل ما تسافل، كما تطلق: الدرج على كل ما تعالى: فيقال: للجنة درجات وللنار دركات، وكلما ذهبت النار سفلاً كلما علا حرها واشتد لهيبها، والمنافقون لهم النصيب الأوفر من العذاب، ولذلك كانوا في الدرك الأسفل من النار. وقد تسمى النار درجات أيضاً، ففي سورة الأنعام ذكر الله أهل الجنة والنار، ثم قال: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ [الأنعام: 132]، وقال: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ, هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [آل عمران: 162 - 163]، قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: (درجات الجنة تذهب علواً، ودرجات النار تذهب سفلاً) (1) . وقد ورد عن بعض السلف أن عصاة الموحدين ممن يدخلون النار يكونون في الدرك الأعلى، ويكون في الدرك الثاني اليهود، وفي الدرك الثالث النصارى، وفي الدرك الرابع الصابئون، وفي الخامس المجوس، وفي السادس مشركو العرب، وفي السابع المنافقون. ووقع في بعض الكتب تسمية هذه الدركات: فالأول جهنم، والثاني لظى، والثالث الحطمة، والرابع السعير، والخامس سقر، والسادس الجحيم، والسابع الهاوية. ولم يصح تقسيم الناس في النار وفق هذا التقسيم، كما لم يصح تسمية دركات النار على النحو الذي ذكروه، والصحيح أن كل واحد من هذه الأسماء التي ذكروها: جهنم، لظى، الحطمة... إلخ اسم علم للنار كلها، وليس لجزء من النار دون جزء (5)
فعذاب جهنم متفاوت بعضه أشد من بعض، وعلى هذا فمنازل أهل النار متفاوتة بتفاوت دركاتها، وقد أخبر سبحانه أن المنافقين أسفل أهل النار إذ هم في الدرك الأسفل منها.
وأخبر صلى الله عليه وسلم عن أهون أهل النار عذاباً فقال: ((إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لرجل توضع في أخمص قدميه جمرة يغلي منها دماغه)) (2) . وصرح صلى الله عليه وسلم أنه أبو طالب فقال: ((أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، وهو متنعل بنعلين يغلي منهما دماغه)) (3) .
ولا شك أن عصاة المؤمنين الذين يدخلون النار فيعذبون فيها على قدر أعمالهم ثم يخرجون منها.... لا شك أنهم أهون أهل النار عذاباً لأن عذابهم فيها مؤقت، أما بقية أهل النار من الكفار والمنافقين فكما قال الله عز وجل فيهم: لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا [ فاطر: 36].
ومقصود النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((أهون أهل النار عذاباً)) في هذا الحديث أهلها المقيمين فيها الذين لا يخرجون منها كما قال صلى الله عليه وسلم: ((أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون. ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم (أو قال: بخطاياهم) فأماتهم إماتة. حتى إذا كانوا فحماً، أذن بالشفاعة. فجيء بهم ضبائر ضبائر. فبثوا على أنهار الجنة. ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم. فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل))
سجر جهنم و تسعرها :
روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لما خلق الله النار أرسل إليها جبريل قال له: اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها، قال: فنظر إليها فإذا هي يركب بعضها بعضاً, فرجع فقال: وعزتك لا يدخلها أحد سمع بها, فأمر بها فحفت بالشهوات, ثم قال له: اذهب فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها, فذهب فنظر إليها ورجع فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها)) خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي (1) .
وفي حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن ملكين أتياه في المنام فذكر رؤيا طويلة وفيها: قال: انطلقت, فأتينا على رجل كريه المرآة, كأكره ما أنت راء، فإذا هو عند نار يحشها ويسعى حولها قال: قلت: ما هذا؟ قالا لي: انطلق)) وفي آخر الحديث: ((قالا: فأما الرجل الكريه المرآة الذي عند النار يحشها ويسعى حولها فإنه مالك خازن جهنم)) وقد خرجه البخاري بتمامه، وخرج مسلم أوله ولم يتمه (2) .
وقوله: ((كريه المرآة)) أي المنظر, وقوله: ((يحشها)) أي يوقدها.
وروى هذا الحديث أبو خلدة عن أبي رجاء عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث بطوله، وفي حديثه قال: ((فرأيت شجرة لو اجتمع تحتها خلق كثير لأظلتهم, وتحتها رجلان أحدهما يوقد ناراً والآخر يحتطب الحطب)) وفي آخر الحديث: ((قلت: فالرجلان اللذان رأيت تحت الشجرة، قال: ذلك ملكان من جهنم يحمون جهنم لأعداء الله إلى يوم القيامة)) (3) ...
وجهنم تسجر كل يوم نصف النهار, وفي (صحيح مسلم) عن عمرو بن عبسة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صلِّ صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس وترتفع, فإنها تطلع بين قرني شيطان, وحينئذ يسجد لها الكفار, ثم صل فإن الصلاة مشهودة (محظورة) حتى يستقل الظل بالرمح, ثم أقصر عن الصلاة فإنه حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصل)) (4) وذكر بقية الحديث.
وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه من حديث أبي أمامة وغيره (5) .
وفي حديث صفوان بن المعطل عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا طلعت الشمس فصل حتى تعتدل على رأسك مثل المرح، فإذا اعتدلت على رأسك فإن تلك الساعة تسخر فيها جهنم وتفتح فيها أبوابها, حتى تزول عن حاجبك الأيمن)) خرجه عبدالله بن الإمام أحمد (6) .
وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((فإذا انتصف النهار فأقصر عن الصلاة حتى تميل الشمس, فإنها حيئنذ تسعر جهنم, وشدة الحر من فيح جهنم)) (7) .
وروى أبو بكر بن عياش عن عاصم عن زر عن عبدالله بن مسعود قال: (أن الشمس تطلع بين قرني شيطان, أو في قرني شيطان, فما ترتفع قصمة في السماء إلا فتح لها باب من أبواب النار, فإذا كانت الظهيرة فتحت أبواب النار كلها, فكنا ننهى عن الصلاة عند طلوع الشمس, وعند غروبها, ونصف النهار) (8) خرجه يعقوب بن شيبة ورواه الإمام أحمد عن أبي بكر بن عياش أيضاً.
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم)) (9) وفي رواية خرجها أبو نعيم: ((من فيح جهنم)) أو((من فيح أبواب جهنم))
أبواب النار:
أخبر الحق أن للنار سبعة أبواب كما قال تعالى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ [الحجر: 43 - 44]. قال ابن كثير في تفسير الآية: أي قد كتب لكل باب منها جزء من أتباع إبليس يدخلونه لا محيد لهم عنه، أجارنا الله منها، وكل يدخل من باب بحسب عمله، ويستقر في درك بحسب عمله ونُقِلَ عن علي بن أبي طالب قوله وهو يخطب: إن أبواب جهنم هكذا - قال أبو هارون - أطباقاً بعضها فوق بعض ونُقل عنه أيضاً قوله: أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض، فيمتلئ الأول، ثم الثاني، ثم الثالث، حتى تمتلئ كلها (1) . وعندما يردُ الكفار النار تفتح أبوابها، ثم يدخلونها خالدين وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [الزمر: 71]، وبعد هذا الإقرار يقال لهم: ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: 72]، وهذه الأبواب تغلق على المجرمين، فلا مطمع لهم في الخروج منها بعد ذلك، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ [البلد: 19 - 20]. قال ابن عباس: مُّؤْصَدَةٌ مغلقة الأبواب، وقال مجاهد: أصد الباب بلغة قريش، أي أغلقه. (2) وقال الحق في سورة الهمزة: وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ [الهمزة: 1 - 9]. فأخبر الحق أن أبوابها مغلقة عليهم، وقال ابن عباس: فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ يعني الأبواب هي الممددة، وقال قتادة في قراءة ابن مسعود: إنها عليهم مؤصدة بعمد ممددة، وقال عطية العوفي: هي عمد من حديد، وقال مقاتل: أطبقت الأبواب عليهم، ثم شدت بأوتاد من حديد، حتى يرجع عليهم غمها وحرها، وعلى هذا فقوله: مُّمَدَّدَةٍ صفة للعمد، يعني أن العمد التي أوثقت بها الأبواب ممددة مطولة، والممدود الطويل أرسخ وأثبت من القصير. وقد تفتح أبواب النار وتغلق قبل يوم القيامة، فقد أخبر المصطفى أن أبواب النار تغلق في شهر رمضان، فعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين ومردة الجن)) (3) . وخرّج الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة، فلم يغلق منها باب))
بعد أبواب جهنهم عن بعضها البعض و ما أعد فيها من عذاب :
قال بعض أهل العلم في قوله تعالى: لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر: 44] قال: (من الكفار، والمنافقين, والشياطين، بين الباب والباب خمسمائة عام, فالباب الأول: يسمى جهنم لأنه يتجهم في وجوه الرجال والنساء، فيأكل لحومهم، وهو أهون عذاباً من غيره، والباب الثاني: يقال له: لظى نزاعة للشوى، ويقول آكلة لليدين والرجلين, تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ عن التوحيد وتولى عما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، والباب الثالث: يقال: له سقر، وإنما سمي سقر لأنه يأكل لحوم الرجال والنساء لا يبقى لهم لحماً على عظم، والباب الرابع يقال له: الحطمة. فقد قال تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحُطَمَةُ الآية تحطم العظام، وتحرق الأفئدة: قال تعالى: الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ, تأخذه النار من قدميه، وتطلع على فؤاده، وترمي بشرر كالقصر، كما قال تعالى:تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ الآية, يعني سوداً فتطلع الشرر إلى السماء، ثم تنزل فتحرق وجوههم, وأيديهم, وأبدانهم، فيبكون الدمع حتى ينفذ، ثم يبكون الدماء، ثم يبكون القيح حتى تنفذ، حتى أن السفن لو أرسلت تجري فيما خرج من أعينهم لجرت، والباب الخامس يقال: له الجحيم, وإنما سمي الجحيم لأنه عظيم، الجمرة الواحدة منه أعظم من الدنيا.
والباب السادس: يقال له: السعير وإنما سمي السعير لأن يسعر منذ خلق؛ فيه ثلاثمائة قصر في كل قصر ثلاثمائة بيت في كل بيت ثلاثمائة لون من العذاب, وفيه الحيات، والعقارب، والقيود، والسلاسل، والأغلال، والأنكال، وفيه جب الحزن، ليس في النار عذاب أشد منه، إذا فتح باب الجب حزن أهل النار حزناً شديداً.الباب السابع: يقال له الهاوية من وقع فيه لم يخرج منه أبداً. وفيه بئر الهباب إذا فتح تخرج منه نار تستعيذ منه النار، وفيه الذي قال الله عز وجل: سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا أو جبل من نار تصعده أعداء الله على وجوههم, مغلولة أيديهم إلى أعناقهم, مجموعة أعناقهم إلى أقدامهم, والزبانية وقوف على رءوسهم, بأيديهم مقامع من حديد، إذا ضرب أحدهم بالمقمعة ضربة سمع صوتها الثقلان، وأبواب النار حديد، فرشها الشوك، غشاوتها الظلمة, أرضها نحاس, ورصاص, وزجاج، النار من فوقهم، والنار من تحتهم، لهم من فوقهم ظلل من النار. ومن تحتهم ظلل, أوقد عليها ألف عام حتى احمرت, وألف عام حتى ابيضت، وألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مدلهمة مظلمة، قد مزجت بغضب الله).
ذكره القتيبي في كتاب (عيون الأخبار).
وذكر عن ابن عباس: (أن جهنم سوداء مظلمة لا ضوء لها ولا لهب، وهي كما قال تعالى: لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ على كل باب سبعون ألف جبل, على كل جبل سبعون ألف شعب من النار، في كل شعب سبعون ألف شق من نار، في كل شق سبعون ألف واد من نار، في كل واد سبعون ألف قصر من النار، في كل قصر سبعون ألف حية, وسبعون ألف عقرب، لكل عقرب سبعون ألف ذنب، لكل ذنب سبعون ألف نقار, لكل نقار سبعون ألف قلة من سم، فإذا كان يوم القيامة كشف عنها الغطاء, فتطير منها سرادق عن يمين الثقلين, وآخر عن شمالهم, وسرادق أمامهم, وسرادق من فوقهم, وآخر من ورائهم، فإذا نظر الثقلان إلى ذلك جثوا على ركبهم وكل ينادي رب سلم سلم).
قال القرطبي (1) : (ومثله لا يقال من جهة الرأي، فهو توقيف لأنه أخبار عن مغيب). انتهى.
ثم نقل عن وهب بن منبه نحوه. وأقول: وهب يحدث عن الإسرائيليين كثيراً، ولا يقبل مثل ذلك عنه، ولا عن أمثاله ونظرائه إلا أن يرد به دليل من الكتاب أو السنة الصحيحة، وما ورد في ذلك من القرآن والحديث يكفي، ويشفي ويغني عن غيره.
وقود النار :
وقود النار الأحجار والفجرة الكفار، كما قال الحق: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم: 6]، وقال: فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة: 24]. والمراد بالناس الذين توقد النار بهم الكفرة المشركون، وأما نوع الحجارة التي تكون للنار وقوداً فالله أعلم بحقيقتها، وقد ذهب بعض السلف إلى أن هذه الحجارة من كبريت، قال عبدالله بن مسعود: هي حجارة من كبريت، خلقها الله يوم خلق السماوات والأرض في السماء الدنيا يعدها للكافرين، رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم في المستدرك. وقال بهذا القول ابن عباس ومجاهد وابن جريج. (1) وإذا كان القول هذا مأخوذاً من الرسول صلى الله عليه وسلم فنأخذ به، ولا نجادل فيه، وإن كان أمراً اجتهادياً مبنياً على العلم بطبائع الحجارة وخصائصها فهذا قول غير مسلّم، فإن من الحجارة ما يفوق حجارة الكبريت قوة واشتعالاً. والأوائل رأوا أن حجارة الكبريت لها خصائص ليست لغيرها من الحجارة فقالوا إنها مادة وقود النار، يقول ابن رجب: وأكثر المفسرين على أن المراد بالحجارة حجارة الكبريت توقد بها النار. ويقال: إن فيها خمسة أنواع من العذاب ليس في غيرها: سرعة الإيقاد، ونتن الرائحة، وكثرة الدخان، وشدة الالتصاق بالأبدان، قوة حرها إذا حميت. وقد يوجد الله من أنواع الحجارة ما يفوق ما في الكبريت من خصائص، ونحن نجزم أن ما في الآخرة مغاير لما في الدنيا. ومما توقد به النار الآلهة التي كانت تعبد من دون الله إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ [الأنبياء: 98 – 99 ]وحصبها: وقودها وحطبها، وقال الجوهري: كل ما أوقدت به النار أو هيجتها فقد حصبتها، وقال أبو عبيدة: كل ما قذفته في النار فقد حصبتها به
شدة حرها و زمهريرها :
قال الله تعالى: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ لاَّ بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [ الواقعة:41-44]
قال ابن عباس: (من دخان) وكذا قال مجاهد وعكرمة وغير واحد (1) ، وعن مجاهد قال: (ظل من دخان جهنم وهو السموم) (2) وقال أبو مالك: (اليحموم ظل من دخان جهنم) (3) قال الحسن وقتادة في قوله: لاَّ بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ: (لا بارد المدخل ولا كريم المنظر) (4) , والسموم: هو الريح الحارة, قاله قتادة وغيره (5) .
وهذا الآية تضمنت ذكر ما يتبرد به في الدنيا من الكرب والحر، وهو ثلاثة، الماء, والهواء, والظل، فهواء جهنم، السموم وهو الريح الحارة الشديدة الحر، وماؤها الحميم الذي قد اشتد حره، وظلها اليحموم, وهو قطع دخانها أجارنا الله من ذلك كله بكرمه ومنه.
وقال تعالى: انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ [ المرسلات:30], قال مجاهد: (هو دخان جهنم: اللهب الأخضر, والأسود, والأصفر الذي يعلو النار إذا أوقدت).
قال السدي: في قوله: إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ [ المرسلات:32] قال: (زعموا أن شررها ترمي به كأصول الشجر ثم يرتفع فيمتد).
وقال القرظي: (على جهنم سور, فما خرج من وراء سورها يخرج منها في عظم القصور, ولون القار) (6) .
وقال الحسن والضحاك في قوله: كَالْقَصْرِ: (هو كأصول الشجر العظام) (7) .
وقال مجاهد: (قطع الشجر والجبل) (8) .
وصح عن ابن مسعود قال: (شرر كالقصور والمدائن) (9) . وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ يقول: كالقصر العظيم) (10) .
وفي (صحيح البخاري) عن ابن عباس قال: (كنا نرفع من الخشب بقصر ثلاثة أذرع أو أقل, نرفعه للشتاء نسميه القصر) (11) .
وقوله: كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ قال ابن عباس: (حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض تكون كأوساط الرجال) (12) وقال مجاهد: (هي حبال الجسور) (13) . وقالت طائفة: (هي الإبل) منهم الحسن وقتادة والضحاك (14) وقالوا: (الصفر هي السود). وروي عن مجاهد أيضاً (15) .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: جِمَالَتٌ صُفْرٌ قال: (يقول قطع النحاس) (16) .
قال الله عز وجل: يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ [الرحمن:35] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ ويقول: لهب النار وَنُحَاسٌ يقول: دخان النار) (17) ، وكذا قال سعيد بن جبير وأبو صالح وغيرهما: أن النحاس دخان النار (18) ، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ قال: (دخان) (19) ، وقال أبو صالح: (الشواظ: اللهب الذي فوق النار ودون الدخان) (20) ، قال منصور عن مجاهد: (الشواظ، هو اللهب الأخضر المتقطع) وعنه قال: (الشواظ قطعة من النار فيها خضرة) (21) .
قال الحسين بن منصور: أخرج الفضيل بن عياض رأسه من خوخة, فقال منصور عن مجاهد: يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ [ الرحمن:35] ثم أدخل رأسه فانتحب ثم أخرج رأسه، فقال: هو اللهب المنقطع, ولم يستطع أن يجيز الحديث (22) .
وخرج النسائي والترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف امرئ أبداً)) (23) (36)
أما حرها فقال تعالى: وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة: 81] وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضا فنفسني, فأذن لها في نفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف فأشد ما تجدون من الحر من سمومها, وأشد ما تجدون من البرد من زمهريرها)) (24) .
وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ناركم هذه ما يوقد ابن آدم جزء واحد من سبعين جزءاً من نار جهنم)) قالوا: والله إن كانت لكافية قال: ((إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها)) (25) .
وخرجه الإمام أحمد وزاد فيه: ((وضربت بالبحر مرتين, ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد)) (26) وتقدم.
وخرج الإمام عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((إن النار هذه جزء من مائة جزء من جهنم)) (27) وروى الطبراني: ((أن جبريل عليه السلام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي بعثك بالحق لو أن قدر ثقب إبرة فتح من جهنم لمات من في الأرض كلهم جميعاً من حره)) (28) .
قال الحافظ (29) : (وروي عن الحسن مرسلاً من وجه ضعيف، والحديث تكلم فيه والله تعالى أعلم).
وقال كعب الأحبار رحمه الله لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لو فتح من جهنم قدر منخر ثور بالمشرق ورجل بالمغرب لغلى دماغه حتى يسيل من حرها.)
وقال عبد الملك بن عمير: (لو أن أهل النار كانوا في نار الدنيا لقالوا فيها).
وقال بشير بن منصور: قلت لعطاء السلمي رحمه الله: (لو أن إنساناً أوقدت له نار وقيل له: من دخل هذه النار نجا من النار، فقال عطاء: لو قيل لي ذلك لخشيت أن تخرج نفسي فرحاً قبل أن أقع فيها) (30) .
فإن قلت قد ذكرت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((أن هذه النار جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم)) (31) وفي حديث آخر ((من مائة جزء)) (32) وكلا الحديثين ثابت عنه صلى الله عليه وسلم.
قلت: لفظة سبعين وسبعمائة وسبعة آلاف ونحوها كثيراً ما يراد به التكثير كقوله تعالى: إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ [التوبة: 80] وهذا كثير جداً في كلام العرب أو يقال: إن هذين الحديثين وردا بحسب اختلاف النارين اللتين من نار الدنيا, وكل أحد يشاهد أن بعض نار الدنيا أقوى وأشد حر من بعض، هذا معلوم بالحس لا ينكره أحد والله تعالى أعلم.
وأما زمهريرها
فروي أن بيتاً في جهنم يتميز فيه الكافر من برده يعني يتقطع ويتمزع وقال مجاهد: (إن في النار لزمهريراً يقيلون فيه، يهربون إلى ذلك الزمهرير فإذا وقعوا حطم عظامهم حتى يسمع لها نقيض).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (يستغيث أهل النار من الحر فيغاثون بريح باردة يصدع العظام بردها فيسألون الحر) (33) .
وعن عبد الملك بن عمير أنه قال: (بلغني أن أهل النار يسألون خازنها أن يخرجهم إلى حَبَّانها فأخرجهم فقتلهم البرد حتى رجعوا إليها فدخلوها مما وجدوا من البرد) (34) .
وأخرج أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن كعباً رضي الله عنه قال: (إن في جهنم برداً هو الزمهرير يسقط اللحم حتى يستغيثوا بحر جهنم)
رؤيا ابن عمر للنار :
وفي (الصحيحين) واللفظ للبخاري عن ابن عمر: ((أنه رأى في المنام أنه جاءه ملكان في يد كل واحد منهما مقمعة من حديد، يقبلا بي إلى جهنم ثم لقيه ملك في يده مقمعة من حديد، قالوا: لن تُرع. نعم الرجل أنت، لو كنت تكثر الصلاة، قال: فانطلقوا بي حتى وقفوا بي على شفير جهنم، فإذا هي مطوية كطي البئر، له قرون كقرن البئر، بين كل قرنين ملك بيده مقمعة من حديد، وأرى فيها رجالاً معلقين بالسلاسل، رؤوسهم أسفلهم، عرفت فيها رجالاً من قريش، فانصرفوا بي عن ذات اليمين، فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن عبدالله رجل صالح)