كان يومَ عملٍ آخر استقللتُ فيه قطارَ لندن عائدًا البيت. تحرك القطار كعادته في ليالي إنجلترا الباردة، مودعًا مدينة لندن، منطلقًا كالسيف الذي يطعن ستائر الظلام.
عبر نافذة القطار الدافئ لا ترى شيئًا إلا أشباح الأشجار الآخذة في الأفول خلف الضباب والظلام معلنةً نهاية اليوم.
دق هاتفي ليعلمني بوصول رسالة، ففتحتها لأجدها تحمل مفاجأة. كانت رسالةً من شركة تحاليل جينية (DNA analysis) هولندية كنت قد أرسلت لها عينة بغية تحديد الخريطة الجينية لي، ولمعرفة أصولي.
خريطتي الجينية
تعود الحكاية إلى عيد ميلادي حينما أهدتني زوجتي الإنجليزية باقة التحليل المدفوعة مقدمًا. بصراحة، لم يكن لدي فضول شديد للقيام بالأمر إلا بعد أن قرأت عنه واكتشفت ما يمكن أن أعرفه.
على أي حال، فاجأتني الرسالة بإعلامي بأنني على مسافة نقرة على هاتفي من معرفة كل تاريخي، ومن أين أتى أجدادي، وما هي أصولهم، ومن هم (إن أمكن في أجيال قريبة)، إلخ.
شعرت بالفضول الشديد. نقرت على شاشة الهاتف. وإمعانًا في تعذيبي، مر القطار في نفقٍ طويل تفقد فيه الهواتف التغطية.
مرت دقائق النفق السبعة كسنين، وأنا أشاهد علامة التحميل على شاشة هاتفي، بينما بدأ عقلي في تصور النتائج بالفعل، وكأنه لا يقدر على الانتظار.
“حسنًا مينا”، قلت لنفسي. “أنت تعلم بالفعل أن هناك فرع شامي، ولكن قد يكون هناك أيضًا أفرع عديدة؛ عرب. شمال أفريقيا. يونان. مصر. استقبلت العديد من الأجناس على أي حال”.
خرج القطار من ذلك النفق وانتهى التحميل سريعًا، ووصلتني النتائج التي كانت بسيطة وواضحة:
13% من منطقة الشام ولبنان، 1% مجزأة إلى نسب صغيرة من قوميات مختلفة تحيط بمصر، و”86% مصري”.. ثم تأخذ التفاصيل الشديدة الغزارة تتوالى.
من أين أتى هؤلاء؟ وكيف تطورت وتحورت الخريطة؟ وكيف تعود في دقتها وتفاصيلها إلى آلاف السنين؟ بل ما هي نسب الفصائل البشرية المكونة لبشريتي (Neanderthal وHomo sapien)؟ وكيف تكون مسؤولة عن تفاصيل جينية في ملامحي ككثافة الشعر أو الحساسية تجاه مواد معينة، وداء الجيوب الأنفية الذي يزعجني ويزعج الكثير من الرجال تحديدًا في مصر؟ إلى آخره.
حقيقة الهوية
لم تحمل الخريطة الماضي والحاضر فحسب، بل كان المستقبل أيضًا على مسافة نقرةٍ أخرى ومائة جنيه إسترليني. إن دفعتها سأعرف ما يمكن لجيناتي أن تخبرني عن إمكانية تعرضي للأمراض المختلفة (السكري، الضغط، مشاكل القلب، السرطان وغيرها من أمراض يمكن الاستدلال عنها جينيًا).
صراحةً لا أجد كلمات تصف تلك اللحظة التي شعرت فيها بنوع من اليوفوريا: لحظة اجتمع فيها الماضي والحاضر والمستقبل في نفس الوقت. بات فيها للزمن وجه يراك وتراه، ويمكنك التعاطي معه لأنه ما عاد سرًا.
في اليونانية القديمة، هناك كلمات عديدة تعبر عن الخوف، أحدها هوφόβος وهو نوع من الرهبة أو المهابة التي يشعر بها المرء في تجربة دينية أو روحية، وهي تختلف عن الرعدة أو Panic التي يمكن أن يشعر به المرء من شيء مرعب عند مواجهة موقف يهدد حياته مثلًا. أما نوع الرهبة الدينية الذي تشعر به في قلبك هو الذي شعرت به وأنا أقف أمام محراب العلم الذي جمع الزمن بين دفتيه بهذا الشكل.
لم أستطع قراءة كامل النتائج؛ لأنها كانت ضخمة، وشاشة هاتفي الصغير (وتوالي الأنفاق اللعينة التي تقطع التغطية) حالت دون ذلك، لكن ما رأيته كان كافيًا لطرح أسئلةً كبرى حول وجودي كإنسان، وعلاقتي بعدةِ دوائر ومفاهيم.
لست الآن أمام نظرية سياسية أو فكرة معينة يطرحها مفكر عن هوية وطنية أو إقليمية أو إنسانية عمومًا، وإنما أنا أمام حقائق علمية ثابتة تجعل من هويتك حقيقة بيولوجية، فما الذي يعنيه ذلك؟ وكيف يمكن أن تصطدم هذه الحقيقة العلمية مع أفكار اجتماعية وأيديولوجيات طعمنا بها المدرسة والإعلام والمجتمع؟
مصري “بامتياز”
أول فكرة ساخرة لاحقتني هي أنني الآن أستطيع القول إنني مصري بامتياز، حرفيًا. تقدير الامتياز يبدأ في الجامعة من 85%، وها قد تجاوزت نسبة مصريتي هذا الحد.
إلا أن السؤال المبدئي الذي طرحته هو: ما معنى “مصري” في الحسابات الجينية؟
بحسب منهجية المعمل الذي أخرج تلك النتيجة، فتقسيم القوميات ليس بالملامح الخارجية كما كانت الأيديولوجيات العنصرية تظن (كالنازيين الذين لطالما أعطوا للشعر الأشقر، طول القامة والأعين الزرقاء صك النقاء العرقي، ولسخرية الأقدار كان هتلر نفسه يفتقر جميعها)، بل ترتبط بالعناصر الجينية التي تمتلكها جماعة استقرت في مكانٍ ما: تلك العناصر تكون مشتركة مع الأجناس المحيطة (هنا يكون التصنيف “غرب آسيوي” أو “شمال أفريقي” أو “متوسطي” أو غيرها من تصنيفات إقيمية المدى). لكن، إذا كانت هناك عناصر في نفس الخريطة الجينية يشترك فيها أعضاء تلك الجماعة، ولا تشترك فيها مع أي جنس آخر محيط، تكون هذه العناصر هي النواة المميِّزة لتلك القومية.
مثلًا:
عاش اليهود في شتات العالم لقرون طويلة، حتى أنهم ما عادوا يتكلمون نفس اللغة، وتجانسوا مع الأجناس التي عاشوا معها، فتجد يهودًا أشكناز من أوروبا بملامح شقراء، وآخرين سفرديم من شمال أفريقيا وإسبانيا، وآخرين إثيوبيين ببشرة سمراء.
إلا أن هناك من العناصر الجينية التي تفردوا بها رغم اختلاطهم بكل تلك الشعوب، وبالتالي بجمع قدر كبير من العينات، أمكن تحديد تلك العناصر، ووضعها على الخريطة الجينية، وتصنيفها كقومية يهودية.
إذا أراد أحدهم اليوم إثبات يهوديته، ونسبة هذه اليهودية في خريطته الجينية، كل ما عليه هو إعطاء عينة من لعابه في أي مكان على الأرض، وفي غضون شهر يمكنه أن يحول شكوكه وأفكاره إلى حقيقة موثقة علميًا يمكن استخدامها للحصول على الجنسية الإسرائيلية.
ليست لكل الشعوب
ليست كل الشعوب التي لديها حدود وطنية لديها أيضًا هوية جينية متمايزة، فمثلاً لا توجد تحاليل تثبت أنك قطري؛ فالهوية القطرية تفتقر للملامح الجينية وليس فقط الثقافية.
وليست كل الشعوب التي لديها ملامح جينية يمكن أن تثبت بها حقها في البقاء على أرضها؛ فالعناصر الجينية للتركي تثبت أنه تركماني (تركمانستان في آسيا) أكثر من كونه ينتمي للأرض التي يسيطر عليها كأمر واقع منذ 1453م.
على عكس القطري، فإن الهوية المصرية هي تصنيف واضح على خريطة الجينات، وعلى عكس التركي، فهي تصنيف يميز شعب مستقر على نفس رقعة الأرض التي يتشاركها أصحاب هذا التصنيف منذ عشرات الآلاف من السنين إلى الآن.
ولكن هل لذلك ترجمة في حياة المصريين؟
البعد الاجتماعي
أتذكر جيدًا أنني أخبرت أحد أقاربي بالنتائج. قريبي ينتمي إلى الجانب الذي فيه نسبة الشوام عالية (لأننا نعرف الجد الشامي تحديدًا)، فكان رده: “الحمد لله طلعنا فينا عنصر أجنبي”.
هذا الرد المؤسف ليس فرديًا؛ ففي مصر يتباهى الأفراد والعائلات بانتمائهم – غير المثبت علميًا – لقوميات أجنبية.
في مصر يمكنك أن تتباهى بالجد الشركسي، أو الانتماء لقبيلة عربية: “أصل احنا من أعراب بني فلان اللي غالبًا جم من الحجاز”، مع إيماءات وإشارات دينية مرتبطة تحديدًا بعرب شبه الجزيرة.
يمكنك أيضًا أن التباهي بالعنصر الأوروبي، فلك جدة يونانية أو أرمنية تُشعرك بنشوة قومية. أما التباهي بالعنصر المصري فليست شائعة، على الأقل في خبرتي الشخصية.
هذه الثقافة الجمعية تتجسد في ملامح مناهجنا المدرسية: فتاريخ مصر الأكثر تفصيلًا يبدأ مع الفتح العربي سنة 641م، حيث يعلم الطالب “المصري” عن الآسيوي صلاح الدين أو قطز، أو حتى الدولة الإخشيدية، أكثر من تاريخ مصر القديم.
ينشأ الطالب، بالتالي، وينمو فكريًا في إطار إقليمي دينيًا واجتماعيًا يجعله ينظر إلى الجانب المصري بشكلٍ لا يتناسب مع حقيقة تكوينه الجيني.
انعكاس السياسة والدين
يبدأ بعد ذلك ترجمة الأمر في صورة انتماءاتٍ سياسية وإقليمية تعبر عن الدونية التي يشعر بها المصري نحو العنصر المصري في ثقافته.
يظهر ذلك في صور وتنويعات تعبر من خلال الأنظمة السياسية المتلاحقة، والتي اختلفت في كل شيء إلا في التقليل من شأن الهوية المصرية.
فبعد سقوط الخلاقة العثمانية في تركيا، سارع منظرون في مصر إلى إلهام فؤاد الأول ومن بعده الشاب المهتز، فاقد البوصلة، فاروق، لتحويل مصر لتكون مركزًا لتلك الخلافة.
والعجيب أن النظام الناصري الذي أسقط فاروق أسقط معه أيضًا مصر من اسم الجمهورية الجديدة، وبدلها بالعربية المتحدة.
ثم جاءت التيارات الدينية المتلاحقة التي تُركت لها المساحة لتستهدف قلب الهوية المصرية، فبات التاريخ المصري القديم مُستهدفًا من الشيوخ الذين قيموه من منظورهم الديني.
إرث مقاوم للانتزاع
بالرغم من كل تلك المحاولات المنظمة، فإن الإرث الثقافي ليس سهلًا أن يُنتزع بالكامل، خصوصًا في الأوساط التي عاشت وتناقلت عاداتٍ على فطرتها.
أتذكر في طفولتي أن والدي (وكان سوهاجيًا) يحضر من جدتي جوالًا به أنواع مختلفة من المخبوزات اللذيذة كالفايش والخبز الشمسي.
كنت أحب أن أشارك أبي أكل تلك المخبوزات وكان هو بدوره يقول لي هذه تقاليد تسلمناها وها أنت الآن تتسلمها.
مرت عقود من الزمن على وفاة والدي وانتقالي للحياة في بريطانيا، حيث شاهدت بالصدفة برنامجًا وثائقيًا عن الطبخ في مصر.
في الحلقة الخاصة بالصعيد، زار مقدم البرنامج الإنجليزي أحد المعابد برفقة باحث أثري مصري. الأخير أظهر له نحتًا جداريًا يطابق تماماً خبز الشمس الذي كانت جدتي تصنعه. ليس فقط في شكله الدائري الذي يشبه قرص الشمس، ولكن أيضًا طريقة التزيين (كانت جدتي تستخدم أداة خشبية لتصوير شكل معين على وجه الخبز).
كانت مفاجأة رائعة ليس لها إلا تفسير واحد: كانت جدتي غير المتعلمة التي تعيش في “الصعيد الجواني” تنقل لنا تقليدًا دقيقًا عمره على الأقل أربعة آلاف سنة (هي عمر المعبد، إذا افترضنا أن الخبز لم يسبقه). لقد نجحت جدتي فيما فشل فيه الناصريون، وهو في أن تتسق ممارساتها العملية مع العلم.
الهوية المصرية
صحيح أن قراءة الخريطة الجينية للمصريين تعكس هذا القدر من التفرد، إلا أن النسبة التي تعكس امتزاج ثقافات مع المحيط الإقليمي أيضًا يجب ألا تُهمل.
لكن ماذا لو استلهمنا هذه النسبة لترجمتها إلى شكل من أشكال الهوية الوطنية التي تعتز بملامح العنصر المصري المتجذر في خريطتنا الجينية، وفي الأرض التي استقرت عليها تلك العناصر دون هجرة كبيرة تذكر من وإلى ضفاف النيل، ودون إهمال العنصر الثقافي المرتبط بالمحيط الإقليمي؟
بعد حصول مصر على دستور، وتحولها إلى دولة مستقلة عن السلطنة العثمانية، وبدء العد التنازلي لخروج الإنجليز، كان ذلك ملهمًا للعديد من المفكرين الذين حاولوا تأصيل الحالة السياسية تاريخيًا؛ لتوجيهها بشكل يصنع ما يأملون به وهو “الدولة المصرية”.
في تلك المرحلة كانت الصحف التي تعكس التوجهات الأيديولوجية المختلفة تتصارع حول الأمر، فرأينا صحف الوطن واللواء – أصوات المنتمين للمشروع الإسلامي والعثماني المتمثل في الحزب الوطني الذي تزعمه مصطفى كامل – تسعى لتوجيه الدفة نحو إذابة الهوية المصرية في مشروع الخلافة، بينما أصدر القوميون صحفًا كـ “مصر” في محاولة لتوجيه الدفة في الاتجاه المعاكس.
لكن في كل الأحوال، لم يكن هناك مشروع هادئ عادل قادر على وصف ما يريد في ضوء تاريخ مصر.
هنا كان الشاب الفتي نجيب محفوظ يحاول أن يستلهم التاريخ بمشروع فكري عظيم، فكانت بداية دخوله عالم الرواية هي ثلاثة نصوص استلهمت السلة الفكرية والأخلاقية والثقافية للمصري من خلال تاريخه القديم، الأمر الذي تجسد في ثلاثيته التاريخية: عبث الأقدار (1939)، رادوبيس (1943) وكفاح طيبة (1944).
للأسف، فإن ذلك المشروع الرائع الذي حاول أن يبحث عن أصل مصر في تاريخها “الحقيقي” توقف، بحد قوله، بعد حركة يوليو 1952، والتي التزم الصمت على إثرها مدةً ليعرف أين تقع مصر على الخريطة الآن.
هذا تحديدًا ما نحتاج إكماله اليوم، لكن في ضوء حقيقة راسخة لا يمكن إنكارها، وهي أن تكون هويتك مبنية على جنسيتك التي هي حقيقة بيولوجية بكل عناصرها المميزة والمتداخلة إقليميًا في حدود المتاح. ميزة نحن كمصريين محظوظون بها ولكن هل يمكن أن نستغلها؟
عبر نافذة القطار الدافئ لا ترى شيئًا إلا أشباح الأشجار الآخذة في الأفول خلف الضباب والظلام معلنةً نهاية اليوم.
دق هاتفي ليعلمني بوصول رسالة، ففتحتها لأجدها تحمل مفاجأة. كانت رسالةً من شركة تحاليل جينية (DNA analysis) هولندية كنت قد أرسلت لها عينة بغية تحديد الخريطة الجينية لي، ولمعرفة أصولي.
خريطتي الجينية
تعود الحكاية إلى عيد ميلادي حينما أهدتني زوجتي الإنجليزية باقة التحليل المدفوعة مقدمًا. بصراحة، لم يكن لدي فضول شديد للقيام بالأمر إلا بعد أن قرأت عنه واكتشفت ما يمكن أن أعرفه.
على أي حال، فاجأتني الرسالة بإعلامي بأنني على مسافة نقرة على هاتفي من معرفة كل تاريخي، ومن أين أتى أجدادي، وما هي أصولهم، ومن هم (إن أمكن في أجيال قريبة)، إلخ.
شعرت بالفضول الشديد. نقرت على شاشة الهاتف. وإمعانًا في تعذيبي، مر القطار في نفقٍ طويل تفقد فيه الهواتف التغطية.
مرت دقائق النفق السبعة كسنين، وأنا أشاهد علامة التحميل على شاشة هاتفي، بينما بدأ عقلي في تصور النتائج بالفعل، وكأنه لا يقدر على الانتظار.
“حسنًا مينا”، قلت لنفسي. “أنت تعلم بالفعل أن هناك فرع شامي، ولكن قد يكون هناك أيضًا أفرع عديدة؛ عرب. شمال أفريقيا. يونان. مصر. استقبلت العديد من الأجناس على أي حال”.
خرج القطار من ذلك النفق وانتهى التحميل سريعًا، ووصلتني النتائج التي كانت بسيطة وواضحة:
13% من منطقة الشام ولبنان، 1% مجزأة إلى نسب صغيرة من قوميات مختلفة تحيط بمصر، و”86% مصري”.. ثم تأخذ التفاصيل الشديدة الغزارة تتوالى.
من أين أتى هؤلاء؟ وكيف تطورت وتحورت الخريطة؟ وكيف تعود في دقتها وتفاصيلها إلى آلاف السنين؟ بل ما هي نسب الفصائل البشرية المكونة لبشريتي (Neanderthal وHomo sapien)؟ وكيف تكون مسؤولة عن تفاصيل جينية في ملامحي ككثافة الشعر أو الحساسية تجاه مواد معينة، وداء الجيوب الأنفية الذي يزعجني ويزعج الكثير من الرجال تحديدًا في مصر؟ إلى آخره.
حقيقة الهوية
لم تحمل الخريطة الماضي والحاضر فحسب، بل كان المستقبل أيضًا على مسافة نقرةٍ أخرى ومائة جنيه إسترليني. إن دفعتها سأعرف ما يمكن لجيناتي أن تخبرني عن إمكانية تعرضي للأمراض المختلفة (السكري، الضغط، مشاكل القلب، السرطان وغيرها من أمراض يمكن الاستدلال عنها جينيًا).
صراحةً لا أجد كلمات تصف تلك اللحظة التي شعرت فيها بنوع من اليوفوريا: لحظة اجتمع فيها الماضي والحاضر والمستقبل في نفس الوقت. بات فيها للزمن وجه يراك وتراه، ويمكنك التعاطي معه لأنه ما عاد سرًا.
في اليونانية القديمة، هناك كلمات عديدة تعبر عن الخوف، أحدها هوφόβος وهو نوع من الرهبة أو المهابة التي يشعر بها المرء في تجربة دينية أو روحية، وهي تختلف عن الرعدة أو Panic التي يمكن أن يشعر به المرء من شيء مرعب عند مواجهة موقف يهدد حياته مثلًا. أما نوع الرهبة الدينية الذي تشعر به في قلبك هو الذي شعرت به وأنا أقف أمام محراب العلم الذي جمع الزمن بين دفتيه بهذا الشكل.
لم أستطع قراءة كامل النتائج؛ لأنها كانت ضخمة، وشاشة هاتفي الصغير (وتوالي الأنفاق اللعينة التي تقطع التغطية) حالت دون ذلك، لكن ما رأيته كان كافيًا لطرح أسئلةً كبرى حول وجودي كإنسان، وعلاقتي بعدةِ دوائر ومفاهيم.
لست الآن أمام نظرية سياسية أو فكرة معينة يطرحها مفكر عن هوية وطنية أو إقليمية أو إنسانية عمومًا، وإنما أنا أمام حقائق علمية ثابتة تجعل من هويتك حقيقة بيولوجية، فما الذي يعنيه ذلك؟ وكيف يمكن أن تصطدم هذه الحقيقة العلمية مع أفكار اجتماعية وأيديولوجيات طعمنا بها المدرسة والإعلام والمجتمع؟
مصري “بامتياز”
أول فكرة ساخرة لاحقتني هي أنني الآن أستطيع القول إنني مصري بامتياز، حرفيًا. تقدير الامتياز يبدأ في الجامعة من 85%، وها قد تجاوزت نسبة مصريتي هذا الحد.
إلا أن السؤال المبدئي الذي طرحته هو: ما معنى “مصري” في الحسابات الجينية؟
بحسب منهجية المعمل الذي أخرج تلك النتيجة، فتقسيم القوميات ليس بالملامح الخارجية كما كانت الأيديولوجيات العنصرية تظن (كالنازيين الذين لطالما أعطوا للشعر الأشقر، طول القامة والأعين الزرقاء صك النقاء العرقي، ولسخرية الأقدار كان هتلر نفسه يفتقر جميعها)، بل ترتبط بالعناصر الجينية التي تمتلكها جماعة استقرت في مكانٍ ما: تلك العناصر تكون مشتركة مع الأجناس المحيطة (هنا يكون التصنيف “غرب آسيوي” أو “شمال أفريقي” أو “متوسطي” أو غيرها من تصنيفات إقيمية المدى). لكن، إذا كانت هناك عناصر في نفس الخريطة الجينية يشترك فيها أعضاء تلك الجماعة، ولا تشترك فيها مع أي جنس آخر محيط، تكون هذه العناصر هي النواة المميِّزة لتلك القومية.
مثلًا:
عاش اليهود في شتات العالم لقرون طويلة، حتى أنهم ما عادوا يتكلمون نفس اللغة، وتجانسوا مع الأجناس التي عاشوا معها، فتجد يهودًا أشكناز من أوروبا بملامح شقراء، وآخرين سفرديم من شمال أفريقيا وإسبانيا، وآخرين إثيوبيين ببشرة سمراء.
إلا أن هناك من العناصر الجينية التي تفردوا بها رغم اختلاطهم بكل تلك الشعوب، وبالتالي بجمع قدر كبير من العينات، أمكن تحديد تلك العناصر، ووضعها على الخريطة الجينية، وتصنيفها كقومية يهودية.
إذا أراد أحدهم اليوم إثبات يهوديته، ونسبة هذه اليهودية في خريطته الجينية، كل ما عليه هو إعطاء عينة من لعابه في أي مكان على الأرض، وفي غضون شهر يمكنه أن يحول شكوكه وأفكاره إلى حقيقة موثقة علميًا يمكن استخدامها للحصول على الجنسية الإسرائيلية.
ليست لكل الشعوب
ليست كل الشعوب التي لديها حدود وطنية لديها أيضًا هوية جينية متمايزة، فمثلاً لا توجد تحاليل تثبت أنك قطري؛ فالهوية القطرية تفتقر للملامح الجينية وليس فقط الثقافية.
وليست كل الشعوب التي لديها ملامح جينية يمكن أن تثبت بها حقها في البقاء على أرضها؛ فالعناصر الجينية للتركي تثبت أنه تركماني (تركمانستان في آسيا) أكثر من كونه ينتمي للأرض التي يسيطر عليها كأمر واقع منذ 1453م.
على عكس القطري، فإن الهوية المصرية هي تصنيف واضح على خريطة الجينات، وعلى عكس التركي، فهي تصنيف يميز شعب مستقر على نفس رقعة الأرض التي يتشاركها أصحاب هذا التصنيف منذ عشرات الآلاف من السنين إلى الآن.
ولكن هل لذلك ترجمة في حياة المصريين؟
البعد الاجتماعي
أتذكر جيدًا أنني أخبرت أحد أقاربي بالنتائج. قريبي ينتمي إلى الجانب الذي فيه نسبة الشوام عالية (لأننا نعرف الجد الشامي تحديدًا)، فكان رده: “الحمد لله طلعنا فينا عنصر أجنبي”.
هذا الرد المؤسف ليس فرديًا؛ ففي مصر يتباهى الأفراد والعائلات بانتمائهم – غير المثبت علميًا – لقوميات أجنبية.
في مصر يمكنك أن تتباهى بالجد الشركسي، أو الانتماء لقبيلة عربية: “أصل احنا من أعراب بني فلان اللي غالبًا جم من الحجاز”، مع إيماءات وإشارات دينية مرتبطة تحديدًا بعرب شبه الجزيرة.
يمكنك أيضًا أن التباهي بالعنصر الأوروبي، فلك جدة يونانية أو أرمنية تُشعرك بنشوة قومية. أما التباهي بالعنصر المصري فليست شائعة، على الأقل في خبرتي الشخصية.
هذه الثقافة الجمعية تتجسد في ملامح مناهجنا المدرسية: فتاريخ مصر الأكثر تفصيلًا يبدأ مع الفتح العربي سنة 641م، حيث يعلم الطالب “المصري” عن الآسيوي صلاح الدين أو قطز، أو حتى الدولة الإخشيدية، أكثر من تاريخ مصر القديم.
ينشأ الطالب، بالتالي، وينمو فكريًا في إطار إقليمي دينيًا واجتماعيًا يجعله ينظر إلى الجانب المصري بشكلٍ لا يتناسب مع حقيقة تكوينه الجيني.
انعكاس السياسة والدين
يبدأ بعد ذلك ترجمة الأمر في صورة انتماءاتٍ سياسية وإقليمية تعبر عن الدونية التي يشعر بها المصري نحو العنصر المصري في ثقافته.
يظهر ذلك في صور وتنويعات تعبر من خلال الأنظمة السياسية المتلاحقة، والتي اختلفت في كل شيء إلا في التقليل من شأن الهوية المصرية.
فبعد سقوط الخلاقة العثمانية في تركيا، سارع منظرون في مصر إلى إلهام فؤاد الأول ومن بعده الشاب المهتز، فاقد البوصلة، فاروق، لتحويل مصر لتكون مركزًا لتلك الخلافة.
والعجيب أن النظام الناصري الذي أسقط فاروق أسقط معه أيضًا مصر من اسم الجمهورية الجديدة، وبدلها بالعربية المتحدة.
ثم جاءت التيارات الدينية المتلاحقة التي تُركت لها المساحة لتستهدف قلب الهوية المصرية، فبات التاريخ المصري القديم مُستهدفًا من الشيوخ الذين قيموه من منظورهم الديني.
إرث مقاوم للانتزاع
بالرغم من كل تلك المحاولات المنظمة، فإن الإرث الثقافي ليس سهلًا أن يُنتزع بالكامل، خصوصًا في الأوساط التي عاشت وتناقلت عاداتٍ على فطرتها.
أتذكر في طفولتي أن والدي (وكان سوهاجيًا) يحضر من جدتي جوالًا به أنواع مختلفة من المخبوزات اللذيذة كالفايش والخبز الشمسي.
كنت أحب أن أشارك أبي أكل تلك المخبوزات وكان هو بدوره يقول لي هذه تقاليد تسلمناها وها أنت الآن تتسلمها.
مرت عقود من الزمن على وفاة والدي وانتقالي للحياة في بريطانيا، حيث شاهدت بالصدفة برنامجًا وثائقيًا عن الطبخ في مصر.
في الحلقة الخاصة بالصعيد، زار مقدم البرنامج الإنجليزي أحد المعابد برفقة باحث أثري مصري. الأخير أظهر له نحتًا جداريًا يطابق تماماً خبز الشمس الذي كانت جدتي تصنعه. ليس فقط في شكله الدائري الذي يشبه قرص الشمس، ولكن أيضًا طريقة التزيين (كانت جدتي تستخدم أداة خشبية لتصوير شكل معين على وجه الخبز).
كانت مفاجأة رائعة ليس لها إلا تفسير واحد: كانت جدتي غير المتعلمة التي تعيش في “الصعيد الجواني” تنقل لنا تقليدًا دقيقًا عمره على الأقل أربعة آلاف سنة (هي عمر المعبد، إذا افترضنا أن الخبز لم يسبقه). لقد نجحت جدتي فيما فشل فيه الناصريون، وهو في أن تتسق ممارساتها العملية مع العلم.
الهوية المصرية
صحيح أن قراءة الخريطة الجينية للمصريين تعكس هذا القدر من التفرد، إلا أن النسبة التي تعكس امتزاج ثقافات مع المحيط الإقليمي أيضًا يجب ألا تُهمل.
لكن ماذا لو استلهمنا هذه النسبة لترجمتها إلى شكل من أشكال الهوية الوطنية التي تعتز بملامح العنصر المصري المتجذر في خريطتنا الجينية، وفي الأرض التي استقرت عليها تلك العناصر دون هجرة كبيرة تذكر من وإلى ضفاف النيل، ودون إهمال العنصر الثقافي المرتبط بالمحيط الإقليمي؟
بعد حصول مصر على دستور، وتحولها إلى دولة مستقلة عن السلطنة العثمانية، وبدء العد التنازلي لخروج الإنجليز، كان ذلك ملهمًا للعديد من المفكرين الذين حاولوا تأصيل الحالة السياسية تاريخيًا؛ لتوجيهها بشكل يصنع ما يأملون به وهو “الدولة المصرية”.
في تلك المرحلة كانت الصحف التي تعكس التوجهات الأيديولوجية المختلفة تتصارع حول الأمر، فرأينا صحف الوطن واللواء – أصوات المنتمين للمشروع الإسلامي والعثماني المتمثل في الحزب الوطني الذي تزعمه مصطفى كامل – تسعى لتوجيه الدفة نحو إذابة الهوية المصرية في مشروع الخلافة، بينما أصدر القوميون صحفًا كـ “مصر” في محاولة لتوجيه الدفة في الاتجاه المعاكس.
لكن في كل الأحوال، لم يكن هناك مشروع هادئ عادل قادر على وصف ما يريد في ضوء تاريخ مصر.
هنا كان الشاب الفتي نجيب محفوظ يحاول أن يستلهم التاريخ بمشروع فكري عظيم، فكانت بداية دخوله عالم الرواية هي ثلاثة نصوص استلهمت السلة الفكرية والأخلاقية والثقافية للمصري من خلال تاريخه القديم، الأمر الذي تجسد في ثلاثيته التاريخية: عبث الأقدار (1939)، رادوبيس (1943) وكفاح طيبة (1944).
للأسف، فإن ذلك المشروع الرائع الذي حاول أن يبحث عن أصل مصر في تاريخها “الحقيقي” توقف، بحد قوله، بعد حركة يوليو 1952، والتي التزم الصمت على إثرها مدةً ليعرف أين تقع مصر على الخريطة الآن.
هذا تحديدًا ما نحتاج إكماله اليوم، لكن في ضوء حقيقة راسخة لا يمكن إنكارها، وهي أن تكون هويتك مبنية على جنسيتك التي هي حقيقة بيولوجية بكل عناصرها المميزة والمتداخلة إقليميًا في حدود المتاح. ميزة نحن كمصريين محظوظون بها ولكن هل يمكن أن نستغلها؟