;غوانتانامو: حرب أمريكا على حقوق الإنسان

إنضم
1 أكتوبر 2007
المشاركات
870
التفاعل
88 0 0




تأليف: ديفيد روز
رجمة: وسيم حسن عبده
عرض وتحليل: يوسف كامل خطاب


مازالت الحرب التي خاضتها الإدارة الأمريكية بقيادة الرئيس (جورج بوش) على الإرهاب والتي بدأت بالهجوم على أفغانستان في 7 أكتوبر 2001م، ثم تبعتها بالهجوم على العراق واحتلاله في 20 مارس 2003م مثار جدل ونقاش قانوني وأخلاقي لا ينتهي، نظرًا لما تم في هذه الحرب وما أعقبها من انتهاكات صريحة للقانون الدولي العام، ومخالفات واضحة لقرارات وتوصيات المنظمات الدولية بشأن حقوق الإنسان، سواء في أفغانستان، أو في العراق، فقد ارتكبت القوات الأمريكية في كلتا الدولتين أفعالاً مشينة جعلت من حربها على الإرهاب إرهابًا أكثر قسوة ووحشية وهمجية. وقد عجزت الإدارة الأمريكية برغم آلتها الدعائية الهائلة عن إخفاء جرائمها ضد الإنسانية في أفغانستان والعراق بشعارات: حقوق الإنسان، ونشر الديمقراطية، وإطلاق الحريات... إلى غير ذلك من الشعارات الزائفة التي تم الترويج لها لتسويق الاعتداء السافر على الشعوب، وتبرير الانتهاك الفاضح للقوانين الدولية باسم: "الحرب على الإرهاب"، وتهديد كل من يخالفها الرأي بوصمة دعم الإرهاب؛ ولكن ذلك كله لم يضلل الباحثين عن الحقيقة، ولم يخفْ أنصارها، فانطلقوا يفتشون عنها في دهاليز السياسة وتحت أقبية السجون، ويستنبطونها من أحاديث من ساهم في تلك الانتهاكات من المسؤولين الأمريكيين راغبًا أم مكرهًا ، واعيًا أم مخدوعًا فضلاً عمن اكتووا بنيران تلك المخالفات والانتهاكات من المفرج عنهم من الأسرى والمعتقلين.


نبذة عن المؤلف والكتاب


مؤلف الكتاب الذي نعرضه على هذه الصفحات هو الكاتب والصحفي البريطاني (ديفيد روز) الحائز على العديد من الجوائز الصحفية، ومنها (جائزة العالم الواحد) لصحافة حقوق الإنسان، وهو من الكتّاب الدائمين في مجلتي: (المراقب) و (ذا أوبزيرفر)، فضلاً عن صحيفتي: (متاع الدنيا) و (فانتي فير) البريطانية .
وقد بدأت قصة مؤلفنا مع الكتاب عندما زار معتقل (غوانتانامو) ضمن وفد مكون من (250) صحفيًا في (أكتوبر 2003م)، وكتب عنه مقالة نشرت في صحيفة (فانتي فير)؛ ثم تابع قضية معتقلي جوانتانامو عبر مصادر متعددة حتى تجمعت لديه الخيوط الكاملة للقضية، فنسج منها الكتاب الذي بين أيدينا تحت عنوان: "غوانتانامو: حرب أمريكا على حقوق الإنسان"؛ والذي صدرت طبعته الأولى المترجمة إلى العربية على يدي الأستاذ: (وسيم حسن عبده) عام (2007م)، عن دار (الأوائل للنشر والتوزيع) بدمشق سوريا؛ ويقع الكتاب في (224) صفحة من القطع المتوسط، مدعومة بملحق صور مكون من ثمان صفحات تؤكد الكثير من الحقائق التي أوردها المؤلف في ثنايا كتابه.


عرض الكتاب


يتألف الكتاب من: (مقدمة للمترجم)، أشار فيها إلى معسكر غوانتانامو، وكيف آل إلى الإدارة الأمريكية، وماكتسبه من شهرة عالمية بعد أن أصبح معتقلاً لسجناء الحرب على الإرهاب، ولما تم فيه من انتهاك لحقوق الإنسان. تأتي بعد ذلك (مقدمة المؤلف) التي يستعرض فيها بإيجاز كيفية القبض على بعض البريطانيين الذين كانوا متواجدين لأسباب اجتماعية خاصة في باكستان وأفغانستان عند بدء الحرب الأمريكية على أفغانستان، وكيف تم نقلهم بصورة لا إنسانية مكبلين بالسلاسل، مغمضي العيون، مسدودي الآذان على متن إحدى طائرات (سي 17) العسكرية الأمريكية إلى غوانتانامو بعد رحلة استغرفت (27) ساعة، ليودعوا زنزاناتهم الفولاذية المكشوفة ذات الأرضية الأسمنتية الصلبة، فيما كان يسمى آنذاك بمعتقل (أشعة اكس) والذي تم تحويله فيما بعد إلى معتقل (دلتا)، ليستكملوا مسلسلاً طويلاً من الإهانة والإذلال والتعذيب.
ويذكر المؤلف في (المقدمة) الأسباب الكامنة وراء تأليفه لهذا الكتاب بقوله: "يحاول هذا الكتاب الإجابة عن سؤال (رسول) وهو أحد المعتقلين البريطانيين، وكان سؤاله عندما وصل إلى غوانتانامو هو: ما هذا المكان بحق الجحيم؟ وأن ينظر في أسئلة أخرى: من هم سجناء غوانتانامو؟ وما هو سبب احتجازهم؟ وما هو موقع غوانتانامو فيما يسمّى (الحرب على الإرهاب)؟ وإلى أي حد كان فعالاً في إنجاز المهمة المرجوة منه؟ وما مدى توافقه مع مزاعم الرموز البارزة في إدارة (جورج بوش) حوله وحول نزلائه؟".
وقد سعى المؤلف إلى الإجابة عن هذه الأسئلة عبر صفحات الكتاب، التي جزّأها أربعة أجزاء، جاءت على النحو التالي:


الجزء الأول: (بدافع الشرف):


يستعرض المؤلف في هذا الجزء الجرائم التي ارتكبتها القوات الأمريكية في حق الشعب الأفغاني بمساعدة قوات (رشيد دستم)، الحليف الأفغاني للقوات الأمريكية في أفغانستان معتمدًا على مصادر عديدة ممن عملوا في أفغانستان آنذاك تحت رعاية الأمم المتحدة، ومن خدموا في القوات الأمريكية، فضلاً عمن التقاهم من المعتقلين الذين تم الإفراج عنهم من غوانتانامو. وقد أجمعت هذه المصادر رغم تباعدها واختلافها على عدة حقائق، أبرزها:
أن عمليات الاعتقال التي كانت تتم في أفغانستان بواسطة قوات الجنرال (رشيد دستم) عند بدأ القصف الجوي الأمريكي، اتخذت صورة عشوائية، الأمر الذي أوقع الآلاف من الأهالي الفارين من القصف الأمريكي، ممن ليس لهم علاقة بطالبان أو القاعدة في أيدي قوات (دستم).
أن المحتجزين في سجن (شيبارغان) التابع لقوات (دستم) تعرّضوا لظروف مروعة، حيث كانت مباني السجن لا تحمي السجناء من الظروف الجوية السيئة، فكان الثلج ينهمر عليهم بين الحين والآخر، ناهيك عن كثافة أعداد المساجين في الزنزانة الواحدة، وقلة الطعام والمياه، حيث لم يكن نصيب كل سجين من الطعام يتجاوز ربع رغيف هندي مع فنجان ماء صغير؛ وكان من السجناء مصابون بإصابات مريعة كأطراف ممزقة، وجراحات نافذة ولم يجدوا من يقدم لهم أي علاج، وظلوا يعانون الآلام إلى أن قضى كثير منهم بسبب إصابته.
انتشار المقابر الجماعية في كثير من المدن الأفغانية لمواراة الآلاف من جثث القتلى الذين لاقوا حتفهم جراء القصف الجوي الأمريكي، والقصف المدفعي لقوات (دستم)، أو المعاناة الشديدة داخل سجن (شيبارغان)؛ وهو ما أكده (وليم هاغلند) مسؤول الأمم المتحدة للطب الشرعي، الذي كشف بعض المقابر الجماعية، واستخرج من إحداها ثلاث جثث قام بتشريحها، وأرجع سبب الوفاة إلى الاختناق؛ وقال عن عدد الجثث التي حواها هذا القبر: "كان من المستحيل إحصاء عدد الجثث التي احتواها ذلك القبر الجماعي، لكن الرقم قد يعود إلى الآلاف". ص 38.
قيام قوات (دستم) بتسليم أو بالأحرى بيع من تم القبض عليهم من الأهالي إلى القوات الأمريكية، والحصول على (500) دولارمقابل كل أسير؛ بعد إقناع الأمريكيين بأن أولئك الأسرى من مقاتلي طالبان أو تنظيم القاعدة لضمان إتمام الصفقة والحصول على الثمن.
إساءة معاملة الأسرى الذين تم استلامهم شرائهم من قِبل القوات الأمريكية للحصول على معلومات عن طالبان أو القاعدة وقائدها (أسامة بن لادن)، حيث كان يتم تقييدهم بالسلاسل عند إيداعهم سجن القوات الأمريكية في (قندهار) واستجوابهم وهم جاثون على ركبهم والأسلحة موجهة إلى رؤوسهم، مع توجيه اللكمات والركلات إلى أجسادهم.
نقل الأسرى بعد استجوابهم في (قندهار) أو (بغرام) بأفغانستان إلى معتقل (أشعة اكس) (دلتا) فيما بعد بغوانتانامو لمواصلة (سيناريو) التعذيب والإهانة والإذلال المخالف لكافة القوانين والأعراف الدولية، وخصوصًا اتفاقية (جنيف) الثالثة لحقوق الأسرى لعام 1949م، والتي تجرّم كافة الأفعال السالفة الذكر.


لماذا غوانتانامو ؟


غوانتانامو هي قاعدة للقوات البحرية الأمريكية، تقع على الساحل الجنوبي الشرقي للجزيرة الكوبية، تبلغ مساحتها (55،116) كلم2 من الأراضي والمياه الكوبية، وقد حصلت الولايات المتحدة على هذه القاعدة كغنيمة حرب انتصرت فيها القوات الأمريكية على القوات الأسبانية التي كانت تستعمر كوبا عام 1898م حسبما تشير إليه بعض الروايات فيما تشير رواية أخرى إلى أن سلطة أمريكا على غوانتانامو تعود إلى عام 1903م، عندما قبلت كوبا التخلّي عنها لجارتها الصديقة آنذاك كبادرة امتنان من الكوبيين على الدعم الذي قدمه لهم الأمريكيون أثناء مقاومتهم للمستعمر الأسباني، وذلك مقابل إيجار سنوي (2000) قطعة ذهبية، تبلغ قيمتها آنذاك (4085) دولارًا أمريكياً.
وبعد انتصار الثورة الكوبية، وتولي (فيدل كاسترو) حكم كوبا، طالب الأمريكيين مرارًا باستعادة الجزيرة، ورفض استلام قيمة إيجارها، إلاّ أن الأمريكيين رفضوا طلب (كاسترو) استنادًا إلى الاتفاقية القديمة، مما جعلها نقطة خلاف رئيسة بين الدولتين.
وقد حرصت الإدارة الأمريكية على أن تجعل غوانتانامو مقرًا لاعتقال من وصفتهم ب (الإرهابيين)، لأهداف سياسية أفصح عنها مسؤول رفيع المستوى في البنتاجون ممن عملوا مع وزير الدفاع الأمريكي السابق (رامسفيلد) بقوله: "جاءت المشورة القانونية بأننا يمكننا فعل مانشاء بهم

هناك، فهم سيكونون خارج الصلاحيات القضائية لأي محكمة" ص 43. وقد أكّد الرئيس (بوش) نفسه ذلك الأمر عندما أصدر أمرًا عسكريًا رئاسيًا في (نوفمبر 2001م) يعلن فيه أنه ستتم محاكمة إرهابيّ القاعدة من قِبل لجان عسكرية خاصة لا تخضع لأي من القيود المفروضة على المحاكم المدنية؛ كما أكّد أنه لن يتم التعامل مع هؤلاء كأسرى حرب بل كمقاتلين خارجين على القانون؛ وبذلك أصبح المعتقلون في غوانتانامو مسلوبي الحقوق القانونية، سواء التي يمنحها لهم القانون الأمريكي لأنهم غير محتجزين في سجون تقع في الأراضي الأمريكية أو القانون الدولي، لأن الرئيس الأمريكي لم يعتبرهم أسرى حرب تسري عليهم اتفاقية (جنيف) الثالثة لعام 1949م التي تنص في مادتها (17) على حقوق أسرى الحرب ومعاملتهم.
وقد كان هذ الموقف من الإدارة الأمريكية تجاه المعتقلين مفاجئاً، حتى للأمريكيين أنفسهم لمخالفته للقوانين الأمريكية والدولية؛ ويشير المؤلف إلى أن وزير الخارجية الأمريكي آنذاك (كولن باول) جادل إدارته في هذا الخصوص موضحاً لها مخالفة ذلك لما تسير عليه السياسة الأمريكية منذ أكثر من قرن من الزمن، كما أنه قد يؤدي إلى تقويض الحماية التي يتمتع بها الجنود الأمريكيون أنفسهم في ظل قانون الحرب، فضلاً عما قد يؤدي إليه من إضعاف الدعم الذي تلقاه أمريكا من الأوروبيين؛ إلاّ أن أياً من أفراد الإدارة الأمريكية أعار جدال (باول) أهمية، حيث كان صوتًا فرديًا ضد تكتل عزم على انتهاك حقوق الإنسان.
ورغم حرص الإدارة الأمريكية على مخالفة القوانين الأمريكية والدولية بشأن معتقلي غوانتانامو، إلاّ أن ذلك لم يمنع تلك الإدارة من أن تضلل الرأي العام الأمريكي والدولي بشأن ما يحدث في غوانتانامو من انتهاكات صريحة ومخالفات واضحة، حيث كان الرئيس الأمريكي يصرّح أمام وسائل الإعلام بالقول: "كمسألة سياسية، فإن القوات المسلحة للولايات المتحدة ستمضي في معاملة الأسرى بشكل إنساني؛ وذلك في مدى يتناسب ويتسق مع الظروف العسكرية، وبأسلوب ينسجم ومبادئ اتفاقية جنيف".
ويختتم المؤلف هذا الجزء من كتابه بالحديث عن الأخطاء الفاحشة التي ارتكبتها الاستخبارات العسكرية الأمريكية بشأن من تم اعتقالهم في أفغانستان، ونقلهم إلى غوانتانامو، حيث يشير إلى أن عمليات التحرّي عن المعتقلين، وعمليات استجوابهم من قِبل المحققين الأمريكيين، كانت تفتقر إلى المهارة والدقة والحرفية والموضوعية، نظرًا لأن من قاموا بهذا العمل في أفغانستان كانوا من الخريجين الجدد في مدرسة الاستخبارات العسكرية في ولاية (أريزونا)، ولم تتجاوز فترة تدريبهم (16) أسبوعًا فقط، فضلاً عن اعتمادهم على مترجمين تم التعاقد معهم عن طريق شركات خاصة، وكان أغلبهم ردئ المستوى عديم الخبرة العسكرية. فضلاً عن دافع الكسب المادي، الذي دفع حلف الشمال بقيادة (دستم) إلى زج آلاف الأبرياء للحصول على المكافأة المالية. ويصل المؤلف مما سبق إلى أن أغلب من تم اعتقالهم ونقلهم إلى غوانتانامو لم يكونوا إرهابيين كما زعمت الإدارة الأمريكية وحاولت أن توهم العالم بذلك بل كانوا أبرياء لم يرتكبوا جرمًا.


الجزء الثاني: (أقل الأماكن سوءاً):


خصص المؤلف هذا الجزء لوصف معتقل غوانتانامو بكل ما فيه من: زنزانات، ومساجين، وحراس، ومراكز صحية، وأطباء، ومسؤولين. وقد مكّنته زيارته التي قام بها إلى المعتقل ضمن وفد مكون من (250) صحفيًا في (أكتوبر 2003م) من دقة الوصف، كما مكنته حرفيته الصحفية من الحصول على ما يحتاج إليه من معلومات عبر حواراته مع العناصر البشرية المتواجدة بالمعتقل باستثناء المعتقلين، الذين كانت هناك تعليمات مشددة على الصحفيين بعدم الاقتراب منهم أو الحوار معهم ورغم أن زيارة المؤلف للمعتقل قد تمت بعد الانتهاء من الأبنية الدائمة له وتغيير اسمه إلى معتقل (دلتا)، إلاّ أنه وضع أمام القارئ صورة للمعتقل عند افتتاحه في يناير 2002م، تحت مسمى معتقل (أشعة اكس) واستقباله للأفواج الأولى من المعتقلين الذين قضوا أربعة أشهر ثقيلة في زنزانات الفولاذ المكشوف قبل نقلهم إلى الزنزانات المعدنية سابقة التجهيز، التي ضمّها معتقل (دلتا). كما صوّر للقارئ معتمدًا على مقالة نشرتها صحيفة (ميامي هيرالدز) للصحفية (كارول روزنبرغ) التي سُمح لها مع بعض زملائها الاطلاع على مايدور داخل المعتقل عند افتتاحه من أعلى تلة مجاورة له عبر مناظير الرؤية؛ وعلى ما صرّح به أحد المعتقلين الباكستانيين المفرج عنهم ويدعى (محمد صغير) إلى صحيفة (الغارديان) البريطانية، ما كان يحدث في معتقل (أشعة اكس) عند افتتاحه، حيث كان الأسرى ينقلون من زنزاناتهم إلى مكان استجوابهم وهم مقيدون بالسلاسل على نقالات حديدية، فإذا عادوا إلى الزنزانات حُرّم عليهم الاستناد إلى جدرانها الفولاذية، أو التحدث مع من بجوارهم من السجناء، كما كان يُحرّم عليهم تغطية أيديهم أثناء النوم، الذي كان يتم تحت كشافات ليلية شديدة الإضاءة. كما منعوا من الأذان أو الصلاة داخل الزنزانات وإلاّ تعرّضوا للضرب وتكميم الأفواه. ولم يكن يسمح لهم بإغلاق باب المرحاض أثناء تواجدهم فيه، إذ إن أيديهم اليمنى تكون مكبلة، ويمسك بها الحارس .. إلى غير ذلك من الممنوعات.
وقد طالبت لجنة من الصليب الأحمر عندما زارت المعتقل لأول مرة المسؤولين عن المعتقل بالحدّ منها، فضلاً عن مطالبتهم الإدارة بوضع ستائر فوق الزنزانات لتأمين الظل للمعتقلين بداخلها من أشعة الشمس الشديدة، وتزويد المساجين بالملابس الداخلية التي يفتقرون إليها، وزيادة كم ما يقدم إليهم من طعام لسدّ جوعهم، حيث لا يكفي ما يقدم لهم حاليًا لذلك، ورد الطرف الصناعي الذي صودر من أحد المعتقلين بزعم خطورته الأمنية، والسماح لهم بالخلاء في المرحاض لما في مرافقة الحراس من حرج شديد للرجال في الثقافة الإسلامية.
وبعد أن يغطي المؤلف هذه المرحلة، ينقل القارئ إلى المرحلة التالية، التي انتقل فيها المعتقلون إلى مقرهم الدائم بسجن (دلتا) بزنزاناته المعدنية التي تبلغ مساحة الواحدة منها (2،5) م2، وتشتمل على سرير مثبت في أحد جدران الزنزانة، وبجانبه مرحاض عبارة عن حفرة في أرضية الزنزانة مواجهة لقضبان الباب المفتوحة، حيث يمر الحراس ومن بينهم نساء كل 30 ثانية، لمراقبة المعتقلين، وإلى جانب المرحاض توجد مغسلة صغيرة وصنبور قريب من الأرض لا يمكن استخدامه إلاّ بعد الركوع أرضًا، وتخلو الزنزانات من المراوح التي لا توجد إلاّ في الممرات ولا يتم تشغيلها من قِبل الحراس إلاّ إذا تجاوزت الحرارة 30 درجة مئوية.
ويتابع المؤلف الوصف التفصيلي الدقيق لمشتملات معتقل (دلتا) من أبنية خاصة بالمستشفى، وبسكن الحراس، والأكشاك الخاصة بالتحقيق، ومحل بيع التذكارات، ومطعم مكدونالدز؛ وكلاهما يستخدمان من قِبل الحراس والمحققين، لا المعتقلين. ويمعن المؤلف في دقة الوصف، فيذكر عهدة السجين ومحتوياتها، وما يقدم إليه من طعام ونوعيته، وما يقدم إليه من علاج عبر المستشفى، الذي يعتبر أكثر رواده من المرضى النفسيين المصابين بالاكتئاب، نظرًا لما يتعرضون له بصفة دائمة من معاملة سيئة تهدر كرامتهم الإنسانية، وليأسهم من الخروج من هذا المكان الموحش، فضلاً عن العزلة القاتلة التي يعيشون فيها سواء عن العالم الخارجي، أو عن بعضهم البعض داخل المعتقل، فقد كان من المعتقلين صينيون لا يجدون سوى لغتهم التي لا يعرفها أحد غيرهم.
ونظراً لتفشي مرض الاكتئاب بين المعتقلين، فإن إقبالهم على محاولات الانتحار كانت في تزايد مستمر، وقد أدت محاولة أحدهم الانتحار بشنق نفسه مستخدمًا غطاء سريره إلى إصابته بضرر دماغي متعذر العلاج، حيث أكد طبيبه المعالج للمؤلف أنه سيتعذر عليه المشي مدى الحياة دونما مساعدة. كما أدت محاولة أحدهم الانتحار بالامتناع عن الطعام إلى إشرافه على الهلاك، ما جعل إدارة المعتقل تقيّده في سرير بالمستشفى ويغذونه قسرًا عبر أنبوب تم تمريره من إحدى فتحتي أنفه ليصل إلى معدته موصلاً إليها الفيتامينات والمواد المغذية بالبروتين.
ولم يفت المؤلف أن يصف الحالة النفسية المتردية للحراس المتواجدين بالمعتقل، حيث إن أكثرهم يشعرون بالملل، والوحدة، والقلق على أسرهم بالخارج؛ وبعضهم يشكو من كثرة العمل الذي يصل إلى(8) ساعات يوميًا على مدى خمسة أيام في الأسبوع، كما يشكو سوء الخدمات التي تقدم لهم داخل المعتقل، فعنابر النوم ضيقة، ويتكدس فيها ثمانية أفراد، وأماكن الترفيه منعدمة، والاتصال بينهم وبين أهاليهم ليس ميسوراً لارتفاع ثمن المكالمات، ولوجود كبائن الاتصال في أماكن مكشوفة معرضة للشمس.
ويذكر المؤلف أن الحراس يسلّون أنفسهم على هذا الوضع غير الجيد أنهم في هذا المكان ب (دافع الشرف) و (دفاعًا عن الحرية)، وأن ما هم فيه من سوء (ليس العراق). وعن علاقاتهم بالمعتقلين، نقل المؤلف عن بعضهم أنهم يتعاطفون معهم كونهم بشرًا، ولأن بعضهم يبدو لطيفاً نوعًا ما، ولكنهم عند التعامل معهم ينطلقون من قناعة: "أنهم إرهابيون، وأن هناك سببًا وراء وجودهم هنا". ص 92.
ويختم المؤلف هذا الجزء بالحديث عن القواعد الثلاث عشرة التي يجب على السجناء الالتزام بها، ثم يتبعها ببيان العقوبات التي يتعرّض لها من يخالفها؛ وأبشعها مهاجمة المخالف من قِبل (قوى الرد الصارم).


الجزء الثالث: (معلومات استخبارية قيّمة بشكل هائل):


تناول المؤلف في هذا الجزء موضوعًا شائكًا من الموضوعات التي تتعلق بالحرب على الإرهاب، وهو موضوع الاستخبارات، حيث أشار إلى أن الإدارة الأمريكية كثيرًا مارددت أن احتجاز المعتقلين في غوانتانامو "يزودنا بمعلومات استخبارية تساعدنا في الحيلولة دون وقوع أعمال إرهابية مستقبلية؛ وتحمي الأرواح. وأنا جد مقتنع أن من شأنها تسريع النصر" كما صرّح وزير الدفاع الأمريكي السابق (رامسفيلد) أمام الغرفة التجارية بميامي في فبراير 2004م فإلى أي مدى كان هذا القول ينطبق على الواقع، وكيف كان المحققون الأمريكيون يحصلون على تلك المعلومات من المعتقلين، وما قيمة تلك المعلومات، وهل ساعدت الولايات المتحدة في الحيلولة دون وقوع أعمال إرهابية مستقبلية، وحمت الأرواح، وسرّعت النصر كما يقول (رامسفيلد) في تصريحه؟
كانت الإجابة عن هذه التساولات هي الهدف من هذا الجزء من الكتاب، وقد سعى المؤلف إلى الحصول عليها عبر مصادر متعددة، منها: التقاؤه المسؤولين عن عمليات التحقيق في معتقل غوانتانامو، فضلاً عن التقاء عدد كبير من الخبراء الأمريكيين في عمليات الاستجواب والتحقيقات العسكرية، وخصوصًا من كان منهم على رأس العمل في فترة إعداده للكتاب؛ وكذلك بعض الأطباء النفسيين، وبخاصة من زار منهم المعتقل لتتبع أحوال المعتقلين النفسية، إضافة إلى التقائه للمعتقلين البريطانيين الذين تم الإفراج عنهم، ومتابعة مقابلات وتصريحات غيرهم من المفرج عنهم إلى وسائل الإعلام.
يشيرالمؤلف أن عملية جمع المعلومات من أسرى غوانتانامو مرت بمرحلتين متمايزتين: الأولى: وتبدأ مع قدوم الأسرى إلى غوانتانامو في أوائل يناير 2002م، وتستمر حتى نوفمبر من العام نفسه، وهي الفترة التي خضع فيها المعتقل لرئاسة اللواء (ريك باكوس). واتسمت بقلة المعلومات التي تم الحصول عليها من المعتقلين، وذلك إما لأن المعتقلين لم تكن لديهم إلاّ القليل من المعلومات عن الإرهاب وأسلحته وتنظيماته وخططه، وإما لأن استجوابهم لم يكن يتم بالمهارة الكافية. وكان الاحتمال الثاني هو الأكثر قبولاً لدى البنتاجون حيث اتهم بعض المسؤولين اللواء (باكوس) بتدليل السجناء، فقد سمح بدخول الكتب إلى معتقل (دلتا) بعد افتتاحه ونقل المعتقلين من زنزانات (أشعة أكس) إليه، كما كان يأمر المحققين بعدم الصراخ في وجه المعتقلين، وأبعد من كان يتعمد الإساءة إليهم عن المعتقل، حسبما صرّح لصحيفة (الغارديان).
أما المرحلة الثانية فتبدأ مع تولي اللواء (جيفري ميلر) رئاسة المعتقل في نوفمبر 2002م، وحتى يونيو 2004م، وقد تميّزت هذه المرحلة بكثرة المعلومات التي تم الحصول عليها من المعتقلين، الأمر الذي جعل وزير الدفاع الأمريكي (رامسفيلد) يطلب من (ميلر) زيارة العراق لإفادة المستجوبين في السجون العراقية بخبراته ومهاراته؛ فهل كان (ميلر) رجل استخبارات محترف ومتميّز حتى يتمكن من تحقيق هذه النتائج (الهائلة) وهي الكلمة التي يحلو ل (ميلر) أن يكررها في أحاديثه إلى وسائل الإعلام والصحفيين في مدة محدودة؟! هذا هو ما سعى مؤلفنا إلى معرفته.
توصّل المؤلف من خلال لقاءاته مع بعض مسؤولي الاستخبارات الأمريكية إلى أن (ميلر) لم يشغل يومًا ما قبل ذهابه إلى غوانتانامو منصبًا في الاستخبارات، وإنما كان أحد ضباط سلاح المدفعية منذ التحاقه بالجيش وحتى وصوله إلى غوانتانامو. ويؤكد أحد ضباط الجيش الأمريكي المتخصصين في الاستخبارات، ممن التقاهم المؤلف، أنه "لا يوجد في السيرة الرسمية لحياة (ميلر) ما يوحي بأن لديه أقل جزء من الخبرة في الاستخبارات (....) ولا يبدو أنه مؤهل بشكل جيد، لا في جهود الاستجواب الاستراتيجي المباشر، ولا في تقدير قيمة المعلومات الاستخبارية المستقاة من جهود كهذه (.....)، إن قلة خبرة (ميلر) تلقي بالشك على قيمة مهمته. عليك والخطاب هنا موجّه من ضباط الاستخبارات الأمريكي إلى مؤلف كتابنا أن تسأل من عيّنه، من اختاره لمنصب كهذا؟"، ص 130.
لم يستطع المؤلف أن يسأل من عيّن (ميلر) في منصبه، ولكنه استطاع مقابلة (ميلر) نفسه، وسؤاله عن أسباب نجاحه الهائل في الحصول على المعلومات الوفيرة من المعتقلين؛ فأجاب: "إن مفتاح هذا الإنجاز كان نظام المحفزات والمكافآت المتدرج الذي أدخلته في مطلع العام 2003م. فالسجين الذي يتعاون مع محققيه يعطى رقمًا تصاعديًا من عناصر الراحة، يصل إلى (29) عنصرًا، ابتداءً من شيء صغير مثل فنجان ماء إضافي، إلى الزيادة في عدد الرسائل القادمة من الأهل، وكتب يحتفظ بها السجين في زنزانته، وفترات تريّض، وحمامات إضافية تصل إلى حد أقصى يصل إلى سبع مرات في الأسبوع" ص131.
وكنتيجة لسياسة الترغيب تلك، وصل (82%) من سجناء معتقل (دلتا) إلى أعلى مستوى امتيازات؛ وتم نقل (140) معتقلاً منهم من الزنزانات الضيقة التي تسبب مرض الخوف من الأماكن المغلقة إلى الراحة النسبية في معتقل (4)، وهو مجمع ضخم مفتوح، يسمح فيه للسجناء بارتداء أثواب بيضاء فضفاضة بدلاً من البدلات البرتقالية، وأن يبيت كل (10) منهم في مهجع مشترك، وأن يتناولوا وجباتهم سويًا على شرفات ظليلة، وأن يستحموا متى رغبوا ذلك، وأن يمارسوا إذا شاؤوا رياضة كرة القدم أو الكرة الطائرة.
وذهب (ميلر) إلى القول بأن هذه السياسة الحكيمة التي اتبعها، فضلاً عن الأسلوب المميّز الذي اتبع في استجواب المعتقلين، جعل المحققين يقنعونهم بالتبرؤ من ولاءاتهم وعقائدهم السابقة: "لقد أدرك الكثير من السجناء أن الأفعال التي قاموا بها كانت خاطئة. وهكذا فقد أعطونا معلومات تفيدنا في كسب الحرب العالمية على الإرهاب. لقد تكلموا لأنهم أعجبوا بالقيم الأمريكية التي جسّدها المعتقل بحد ذاته. لا أعلم بلدًا في العالم يعامل أعداءه كما تفعل ذلك الولايات المتحدة. أنا فخور بشكل (هائل) بما نقوم به"، ص ص 132 133.
لم يكن مؤلفنا وهو الصحفي والإعلامي المخضرم ليقبل بهذا الكلام الاستهلاكي المنّمق من (ميلر)، فطفق يفتش عن الوجه الآخر للعملة، أو عن (العصا) التي أخفاها (ميلر) أثناء حديثه، مكتفيًا بإبراز (الجزرة) كأسلوب للحصول على المعلومات والتحقيق مع المعتقلين. وسرعان ما تكشفت الحقيقة عبر مجموعة من الخيوط المتباعدة، التي استطاع المؤلف أن يمسك بأطرافها حتى توصل إلى الحقيقة التي تتلخص فيما يلي:
أن (ميلر) عند وصوله للمعتقل اتخذ قرارًا إداريًا يقضي بدمج القوى المشتركة في المعتقل، والتي كانت تتكون من مجموعتين: (مجموعة الاعتقال)، وهم الحراس المسؤولون عن المعتقلين أثناء تواجدهم بالزنزانات، و (مجموعة الاستجواب)، التي تضم المحققين، والمحللين، والمترجمين، الذين يؤمنوا المعلومات الاستخبارية، فأصبحوا جميعًا مجموعة واحدة أو في وظيفة واحدة؛ وأصبح من مهام مجموعة الاعتقال (الحراس) تهيئة المعتقلين أو (تليين المعتقلين) للاستجواب، أي فعل كل ما من شأنه أن يجعل المعتقل متجاوبًا ليّناً عند التحقيق معه، فإن لم يحدث، وجّه المحقق الحارس إلى مزيد من التليين.
وقد كشف الجنرال (انتوينو تاغوبا) في تقريره حول إساءة معاملة السجناء في سجن (أبو غريب) بالعراق، بعضًا من آليات أسلوب التليين التي اعتمدها (ميلر) نفسه، ووجّه إليها المحققين مع الأسرى في سجون العراق، حيث كان الحراس يقومون ليلاً بضرب السجناء وتعذيبهم، ويجبرونهم على التعرّي، ويأمرونهم بأن يمثّلوا وضعيات ممارسات الجنس مع بعضهم البعض، وتصويرهم في تلك الأوضاع المخزية لإذلالهم وتهديدهم ما لم يدلوا للمحققين بما لديهم من معلومات، وكان المحققون يشكرون الحرّاس على التهيئة والتليين الناجحين، اللذين يجعلان السجناء يجيبون على كل الأسئلة ويدلون بمعلومات جيدة.
ويشير المؤلف إلى أنّ ما كان يحدث لسجناء غوانتانامو كان أشد وطأة مما كان يحدث في (أبو غريب)، لأن بعض تقنيات الاستجواب التي اختيرت للاستخدام في غوانتانامو كانت محظورة في العراق، لأن الأسرى في العراق وبالمقارنة مع الأسرى في كوبا كان من المفترض أن يندرجوا تحت حماية اتفاقية جنيف كما صرّح بذلك الجنرال (لانس سميث) القائد المساعد في القيادة المركزية، أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، في شهر مايو 2004م !!
أنّ (ميلر) استغل المناخ السياسي والفكري الذي ساد الولايات المتحدة بعد أحداث 11 سبتمبر، والذي حدّ من القيود الدستورية على رئيس الدولة، وأطلق سلطاته في كل شيء، وخصوصًا الشؤون العسكرية بما فيها معاملة السجناء حيث لم يكتف بما جاء في الكتاب المعياري الخاص بالجيش الأمريكي المعروف باسم (دليل الميدان 43 52) بشأن استجواب الأسرى، والذي يحظر استخدام المحققين لأي نوع من القوة، أو التعذيب النفسي، أو الإهانات، أو التعريض للمعاملة السيئة؛ وطالب من خلال المحققين بالمزيد من الأساليب الاستثنائية لتمكينهم من استجواب الأسرى المقاومين للاستجواب؛ وخصوصًا أساليب أو تقنيات الفئة (2) والتي تشتمل على: الحبس الانفرادي الذي يصل إلى 30 يومًا، واستخدام وضعيات الإجهاد المؤلمة كالوقوف، أو الجلوس لفترات والسجين مقيد ومنحنٍ؛ وإطالة مدة الاستجواب إلى فترات طويلة بلغت (20) ساعة في الجلسة الواحدة، واستخدام عقدة الخوف عند السجناء كالخوف من الكلاب لإرغامهم على الأقوال؛ والتعرية من الثياب، وحلق شعرالرأس والوجه كاملاً بما فيه الحواجب ... وكلها تقنيات مخالفة لاتفاقية (جنيف)، وخصوصًا المادة (17) منها.
ولم يكتف (ميلر) ومحققوه بالمطالبة بآليات الفئة (2) بل طالبوا أيضًا بآليات الفئة (3)، وهي أشد تعذيبًا ونكاية من سابقتها، ومن أساليبها: إقناع السجين بقرب أجله، أو إقباله هو وعائلته على عواقب شديدة الألم؛ واستخدام المنشفة الرطبة الموضوعة على الفم؛ وتقطير الماء عليها بين الحين والآخر حتى يصل السجين إلى مرحلة فقدان الوعي نتيجة الاختناق، فضلاً عن إتلاف رئتيه وجهازه التنفسي؛ وتقنية الغواصة، التي يُغطى فيها رأس السجين بقلنسوة من القماش، ويغطّس قسرًا بشكل متقطع في وعاء ماء يتم استخدامه لخنق السجين، كوسيلة للحصول على المعلومات.
ويذكر المؤلف أن (رامسفيلد) وافق ل (ميلر) ومحققيه على استخدام تقنيات الفئة (2) كاملة، وعلى تقنية واحدة من تقنيات الفئة (3) مع معتقلي غوانتانامو، وقد استمر تطبيقها عليهم لمدة ستة أسابيع، إلى أن أصدر في (16 أبريل 2004م) قائمة جديدة بتقنيات الاستجواب، تشتمل التقنيات السابقة إضافة إلى تقنيات جديدة منها: (تغيّر المشهد إلى الأسوء) وهو نقل السجين من مكان استجوابه إلى مكان أكثر سوءاً؛ و (التلاعب الغذائي) وهو حرمانه من الوجبات الملائمة لفترات طويلة، وأسلوب (تعديل النوم) كقلب فترات النوم من الليل إلى النهار، مع مراعاة أن زنزانات معتقل (دلتا) كانت مصنوعة من المعدن، ونهار كوباً شديد الحرارة؛ و (التلاعب بالمحيط) وهو تغيير مواصفات المكان لخلق نوع من عدم الراحة، كتعديل درجات الحرارة إلى الأعلى أو الأدنى، وبث روائح كريهة في المكان، و (العزل في الحجز الانفرادي).
وقد مورست هذه الأساليب البشعة على معتقلي غوانتانامو للحصول منهم على المعلومات، حيث يروي أحد المعتقلين المحررين، ويُدعى (طارق درغول) بأنهم كانوا يأخذونه إلى الاستجواب مصفدًا، ويجلسونه بشكل منحنٍ على الأرض مقيدين سلاسله في حلقة حديدية ثابتة في الأرض، ثم يقوموا بتشغيل المكيف البارد على أعلى درجاته ويغلقوا المكان ويتركونه على هذا الوضع ساعات طويلة، الأمر الذي كان يسبب له آلامًا شديدة، وخصوصًا في بعض أطرافه المبتورة؛ فضلاً عن اضطراره إلى التبول في ملابسه، لعدم استجابة حراسه لطلبه المتوسل بدخول الحمام، فيلوث ثيابه، وهنا تدخل امرأة من الحراس لتوبخه على فعلته إمعانًا في إهانته وإذلاله. ثم يُعاد بعد ذلك إلى زنزانته ليمكث فيها ساعات قليلة ثم يعاد تكرار المشهد السابق، بعد تغيير درجة الحرارة إلى أعلى درجة.
هذه بعض من الصور التي تشدّق (ميلر) لمؤلف كتابنا بأنه "لا أعلم بلدًا في العالم يعامل أعداءه كما تفعل الولايات المتحدة، أنا فخور بشكل هائل بما نقوم به"، ص 133.
وقد أثبت المؤلف في هذا الجزء من كتابه بأن فرق التحقيق التي استخدمها (ميلر) في استجواب معتقلي غوانتانامو لم يكن لديها خبرة عملية أو حرفية بطبيعة العمل الذي تقوم به، وأنهم كانوا حديثي التخرج وفقًا لشهادة عديد من رجال الاستخبارات في الجيش الأمريكي كما أثبت بأن ما تم الحصول عليه من معلومات من المعتقلين كانت معلومات عامة، ليس فيها ما يمكن أن يعتمد عليه في كشف الإرهاب، وأسلحته، وخططه، وتنظيماته، كما كان يزعم (ميلر) ووزير دفاعه (رامسفيلد)، وذلك بشهادة بعض رجال الاستخبارات المتخصصين الذين كانوا على رأس العمل أثناء رئاسة (ميلر) لمعتقل غوانتانامو، كالمقدم (كريستينو) و (ميلتون بيردن) وغيرهما ممن التقاهم المؤلف في رحلة بحثه عن حقيقة ما يدعيه (ميلر) بشأن المعلومات (الهائلة)، وأساليب الاستجواب المتميزة.
ونختتم هذا الجزء بتعقيب أورده المؤلف على لسان رجل الاستخبارات الأمريكي (ميلتون بيردين) يقوّم فيه استجوابات غوانتانامو حيث يقول عنها: "كانت تستقي عن طريق الأيديولوجية، أي الحاجة إلى تبرير الاعتقالات بحد ذاتها، أكثر مما تعلمته وكالات الاستخبارات من وسائل فعالة لاستخلاص المعلومات من الأشخاص". وبما قال (المؤلف): "لقد زعم (ميلر) و (رامسفيلد) أن معتقلي غوانتانامو جميعًا كانوا إرهابيين أو داعمين للإرهاب، وهكذا كانت إحدى مهام المحقق الأساسية: أن يوجد أدلة (تبرهن) صحة ما زعما" ص 184.


الجزء الرابع: (معاني خليج غوانتانامو):


في هذا الجزء من الكتاب يتناول المؤلف الآثار النفسية والاجتماعية السيئة التي تركتها عمليات الاعتقال العشوائي لكثير من الأبرياء، واتهامهم دونما دليل يُذكر على أنهم إرهابيون، أو داعمون للإرهاب، وهي الفرية التي تكذبها الإدارة الأمريكية نفسها، حيث إنه من بين ال (600) معتقل الذين تم احتجازهم في غوانتانامو والذين مازال أكثرهم حتى الآن رهن الاعتقال لم توجه تهمة صريحة بممارسة الإرهاب سوى لأربعة فقط فيهم، وأخطر هذه التهم، هي التهمة الموجهة إلى مواطن يمني يُدعى: (حمزة البهلول) أنه: (ساعد على إنتاج أشرطة فيديو تجنيدية)!
ويتناول المؤلف هذه الآثار من زاويتين: الأولى:على الأسرى والمعتقلين أنفسهم، حيث إن من أُفرج عنهم منهم مازالوا رهن الآثار النفسية والبدنية السيئة مما مورس عليهم من أساليب همجية، فضلاً عن تعرضهم لإعادة التحقيقات معهم من قِبل استخبارات بلادهم، وتأثر سجلهم الاجتماعي والأسري، الذي سيوثر حتمً على مستقبلهم الوظيفي والاجتماعي. الثانية: أهالي الأسرى والمعتقلين، من الأبناء والزوجات والأخوات والآباء والأمهات، الذين اهتزت مشاعرهم وأحاسيسهم هزات مدمرة، وتعرّضوا لآثار نفسية تحتاج إلى سنين طويلة للبرء منها.
ويذكر المؤلف في هذا السياق قصصًا واقعية لبعض الأخوات والأمهات اللاتي تأثرن اعتقال إخوانهن وأبنائهن، وكذلك بعض الزوجات اللاتي عانين مع أولادهن الصغار افتقاد العائل الوحيد للأسرة.
كما يطرح المؤلف في هذا الجزء من كتابه أمرًا في غاية الأهمية، وهو ما يتعلق بصورة المسلم التي شوهتها الإدارة الأمريكية عالميًا، وحاولت إقناع الرأي العام بأنه ذلك الدموي الإرهابي المجرم المدمّر للحضارة والمدنية، وهي مشاعر ساهمت فيها أكثر من جهة، وعلى رأسها اليمين الأمريكي المتطرف المدعوم كنسيّاً لإظهار الرئيس (بوش) في صورة المخلص أو المنقذ، من خلال دعاية القسس له في الكنائس والبرامج التلفزيونية بأنه يقود حربًا يؤيدها الرب، بل إنه نفسه قد نصّب رئيسًا من قِبل الرب كما يزعم (وليم بوكين) معاون وكيل وزير الدفاع لشؤون الاستخبارات، أحد المسيحيين الأصوليين المؤمنين بتفوق المسيحية على الإسلام، وبالطبيعة المقدسة لمهمة أمريكا في الحرب على الإرهاب حيث يذكر المؤلف أن (بوكين) هذا وقف واعظًا في ولاية (وريغون) في يونيو 2003م، مرتدياً لباسه العسكري الكامل، وزعم أن (الإسلاميين الراديكاليين) يكرهون الولايات المتحدة "لأننا أمة مسيحية؛ ولأن أساسنا وجذورنا يهودية مسيحية، أما العدو، فهو الشيطان وأن الإرهابيين قدموا من إمارات الظلام، وأنهم شياطين"، ص 200.
ويستخلص المؤلف من هذا الأسلوب وغيره أن تصنيف أسرى غوانتانامو كمقاتلين خارجين على القانون، وأنهم يستحقون أن يُعاملوا كالهمجيين والوحوش البرية، هو تراجع عن المعايير الدستورية الأمريكية، وعن قيم (حركة التنوير)، وأن إدارة بوش سواءً في غوانتانامو أو غيرها من سجون الحرب على الإرهاب في العراق أو أفغانستان تسعى إلى تعديل القوانين التي تحكم الولايات المتحدة، واستبدالها بنظام واحد، هو : "بما أن أمريكا ورئيسها يخوضان حربًا عادلة، فأي شيء قد يجدانه مناسبًا، هو بالتالي صحيح. إن ذلك لم يكن تطوّراً، بل كان تمزقاً عنيفًا. إنه يوصي بأن جمهورية (بوش) التكساسوية (من تكساس) استراحت وسط الأيديولوجيات المسيحية للقرن العشرين، مع إصرارها على أن الغايات المرجوة كانت لتبرر الوسائل الضرورية"، ص 203.
ويرفض المؤلف هذا الأسلوب مبيّنًا مخاطره على الأمة والمجتمع، من خلال استطراده في بيان تاريخي لقضية استخدام العنف في استجواب الأسرى والمسجونين وسلبياته، سواء على نوعية ما يؤخذ منهم من معلومات تحت الضغط والقسر، والتي يكون أغلبها مكذوبًا للتخلص من آلام الضغط البدني أو النفسي؛ وأن هذا الأسلوب لم يكن يستخدم في أي من دول العالم قبل أحداث سبتمبر وما أعقبها من تطورات، إلاّ في إسرائيل، رغم ما فيه من اغتصاب لحقوق الإنسان، وأن أمريكا قد استخدمت هذا الاغتصاب في غوانتانامو رغم رصيدها القانوني التاريخي القوي، الذي لا يسمح به وفقًا لما قاله القاضي الأمريكي (جاكسون) في محاكمات (نورمبرج) بأن اغتصاب حقوق الإنسان يجب ألاّ يسمح به على الإطلاق في أمريكا، حتى في زمن الحرب.
واختتم المؤلف هذا الجزء من كتابه بالحديث عن القضية التي رفعها بعض المُحررين من معتقل غوانتانامو (شفيق رسول) يرافقه البريطاني (آصف إقبال) والاستراليان (ممدوح حبيب)، و (ديفيد هيكس) ضد الرئيس الأمريكي (بوش) أمام القضاء الأمريكي في 28 يونيو 2004م، حيث كان قبول القضاء لها، ورفض القاضي الأمريكي (باول سيتفنز) وخمسة من زملائه للحجة التي بررت به الإدارة الأمريكية إنكار الحقوق القانونية والدستورية للأسرى الأجانب، وهي أن وجود غوانتانامو في كوبا لا يمنح سجناءه الحق في إقامة الدعاوى في المحاكم الأمريكية؛ وكان ذلك كما يقول المؤلف : "ردماً للحفر السوداء القانونية التي وجد فيها غوانتانامو على مدى ال (31) شهراً الماضية". ص 213.


تقويم الكتاب:


الحق أننا أمام جهد فكري كبير، وعمل إنساني رائع، يستحق الثناء والتقريظ، فقد استطاع المؤلف أن يثبت علميًا وعمليًا مجموعة من الأقوال المرسلة التي كان الناس يتداولونها عن الإدارة الأمريكية الحالية بشكل عاطفي أو ذاتي، أو يستنبطونها من خلال بعض التصريحات المتناثرة من المسؤولين الأمريكيين، وقد برع المؤلف في تتبع الأصول الفكرية والسياسية الكامنة خلف تلك التصريحات، وأنها لم تكن مجرد كلمات تلقى بسبب تأجج مشاعر الشعب والحكومة الأمريكية لتأثرهم بأحداث سبتمبر، بقدر ما كانت مخططاً محكمًا لتحويل الولايات المتحدة من دولة طالما رعت الحرية والديمقراطية والقانون، إلى دولة تحدّ من الحريات، وتدوس الديمقراطية، وتنتهك القوانين العالمية والأمريكية المنادية بحقوق الإنسان، لإرضاء إدارة اليمين الأمريكي المتطرف، الذي يتغذى على أسمدة الأصولية المسيحية واليهودية.
وعلى الرغم من افتقار الكتاب لخطة منهجية واضحة في البحث والتأليف، مما جعل أفكاره مفتقرة إلى التسلسل الموضوعي الذي يسهّل على القارئ استيعاب الفكرة الكلية فضلاً عن الأفكار الجزئية لموضوع الكتاب، إلاّ أن المؤلف قد عوّض القارئ عن ذلك بأسلوبه الصحفي المشوق، الذي تنوّع بين السرد والحوار والوصف والتقرير حول موضوع إنساني مأساوي عالمي.
وتجدر الإشارة إلى الأسلوب الراقي في ترجمة الكتاب، والذي لم يشعر معه القارئ بأن هنالك وسيطًا ينقل إليه أفكار المؤلف ومعانيه وعباراته وألفاظه، وإنما بدا الأمر وكأن الكتاب مؤلف باللغة العربية وليس مترجمًا عن اللغة الإنجليزية، فإذا أضفنا إلى ذلك تعليقات المترجم في هوامش الصفحات على ما يرد في النص الأصلي للكتاب من مصطلحات وعبارات، تحتاج إلى الشرح والتفسير، أدركنا أننا أمام جهد مزدوج أسفرعن عمل قيّم جدير بالقراءة والاهتمام
 
التعديل الأخير:
كتاب يستحق المطالعة لما فيه مما يعانيه المسلمين السجناء بدون وجه حق يضهر الوجه الحقيقي لمن يدعون بحقوق الانسان عليهم لعنة الله
 
عودة
أعلى