استقبلت موسكو إعلان اعتراف الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان بشكل عقلاني، وباتزان ورزانة، بعيدًا عن المزايدات والتصريحات المجانية.
قبل ساعة من إعلان اعتراف “ترامب” بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان، جرى اتصال هاتفي بين وزيري خارجية البلدين “سيرجي لافروف” و”مايك بومبيو”. ولم تحدد الخارجية الروسية الطرف الذي بادر بالاتصال. وهي عادة ما تشير إلى هذا الطرف في حال كانت المبادرة من جانبها. وانتقد “لافروف” خلال المكالمة، عزم الولايات المتحدة على الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان. وقال: “إن توجه واشنطن إلى الاعتراف بإسرائيلية الجولان يقود إلى انتهاك سافر للقانون الدولي، ويعرقل تسوية الأزمة السورية، ويزيد الوضع في الشرق الأوسط تأزمًا”.
وبعد إعلان الاعتراف، أعلنت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية “ماريا زاخاروفا” أن قرار “ترامب” حول الاعتراف بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان خطوة جديدة نحو تدمير القاعدة القانونية للتسوية بالشرق الأوسط. وقالت، على شاشة قناة “روسيا-24”: “لسوء الحظ نشهد خطوة جديدة في اتجاه تدمير القاعدة القانونية الدولية لتسوية الوضع في الشرق الأوسط. ولا يزال موقف روسيا من هذه المسألة ثابتًا، وينص على أن مرتفعات الجولان تعد أرضًا سورية”.
وركزت “زاخاروفا” على نقطين أساسيتين: الأولى، أن “روسيا تسترشد بشكل متتابع بقرار رقم 497 لمجلس الأمن الدولي، وهو يقول “إن قرار إسرائيل بسريان قوانينها وإدارتها في هذه الأراضي السورية ليست له أي قوة قانونية”. الثانية، أن “الساسة الأمريكيين في واشنطن، الذين يحبون بشكل كبير الإشارة إلى ضرورة التمسك بالقانون الدولي، لم يتناقضوا فقط، في هذه الحالة بالذات، مع القانون فحسب، بل وينتهكونه بشكل مباشر”.
وفي تصريح ثالث، أكد نائب وزير الخارجية، المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط ودول إفريقيا “ميخائيل بوجدانوف”، أن توقيع “دونالد ترامب” مرسومه بشأن الجولان لا يغير موقف موسكو المنطلق من أن الجولان جزء لا يتجزأ من أراضي سوريا.
وفي نهاية المطاف، خرج مركز القرار الروسي برأيه النهائي المعلن في هذا الصدد، ليعرب الناطق الرسمي باسم الكرملين “دميتري بيسكوف” عن أسفه إزاء قرار الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان، محذرًا من تداعيات سلبية سيجلبها هذا القرار إلى المنطقة دون أدنى شك. وأكد أن “إعلان ترامب بشأن الجولان خطوة جديدة تتخذها واشنطن في مخالفة واضحة للقانون الدولي”. وقال: “إن هذا القرار ستكون له تداعيات سلبية بالنسبة للتسوية الفلسطينية الإسرائيلية، وبالنسبة للمزاج العام للتسوية السياسية في سوريا، وهذا لا يثير شكوكًا لدى أحد”.
هذه هي تصريحات موسكو المعلنة والتي تتعامل بعقلانية شديدة مع الخطوة الأمريكية، نظرًا لأوضاع روسيا السيئة اقتصاديًّا وسياسيًّا، ووقوعها تحت ضغوط شديدة، على رأسها العقوبات الأمريكية-الأوروبية-الكندية المفروضة عليها منذ عام 2014.
قَنَاعات موسكو الحقيقية
بعيدًا عن الموقف الرسمي المعلن، فإن روسيا لديها عدة قناعات مهمة بشأن خطوة الولايات المتحدة، تلخصها النقاط التالية:
1- روسيا تعتبر أن “ترامب” يستخدم موضوع اعترافه بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان كورقة في حملة إعادة انتخابه للرئاسة عام 2020. وتعرف جيدًا أن هناك قبولًا ضمنيًّا داخل الولايات المتحدة بتوجه “ترامب” هذا، وأن نقطة نقد الديمقراطيين الرئيسية لتصريحات “ترامب” في هذا الخصوص هي الطبيعة السياسية للقرار، واعتماده دون أي نقاش بين الأحزاب والجمهور السياسي.
2- ترصد موسكو جيدًا الوضع الداخلي الأمريكي، وتدرك أن الكثيرين يتهمون “ترامب” بتقديم الدعم السياسي لرئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو”، معتبرين أن إعادة انتخابه تصب في صالح الولايات المتحدة. لكن آخرين يخشون أن يؤدي القرار إلى زعزعة الوضع القائم منذ سنوات عديدة، ويتسبب في موجة مواجهات بين إسرائيل من جهة، وبين إيران وحزب الله من جهة أخرى.
3- بعض الأجنحة في روسيا ترى أن الاعتراف الأمريكي بسيادة إسرائيل على الجولان يدفن فعلًا “صفقة القرن الترامبية” بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وهو ما يتلاقى مع مصالح روسيا. لكن القيادة الروسية لا ترى ذلك، وإنما ترى العكس تمامًا. إذ اعتبرت الخارجية الروسية أن قرار “ترامب” هذا قد يكون مقدمة لإعلان “صفقة القرن”.
4- أن هذا القرار غير محفوف بالمخاطر بالنسبة لترامب نفسه، بل على العكس تًمامًا.
5- لن يغير منتقدو إسرائيل موقفهم تجاهها بصرف النظر عن الوضع الرسمي للجولان.
6- سيضطرب الشارع العربي قليلًا ثم يهدأ، وسيبتلع الزعماء العرب هذا القرار، كما ابتلعوا قرار اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة للدولة اليهودية في ديسمبر 2017.
7- أن الأوروبيين سيفكرون بأزمة “التضامن الأطلسي” ولن يعترضوا بشدة، وإنما سيطلقون تصريحات مطاطة ومعتادة وقديمة لامتصاص الصدمة. فقد ذكرت ممثلة الدائرة الدبلوماسية في الاتحاد الأوروبي “ميا كوسيانيتش”، أن الاتحاد “لا يزال لا يعترف” بالجولان كجزء من إسرائيل.
8- على الجبهة الخارجية تكمن أهمية هذه القضية، بالنسبة للرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة، في إعادة انتخاب “نتنياهو”، وتعزيز الأمن الفعلي لإسرائيل على الأرض.
مسارات روسيا وتحركاتها المتوقعة
في ضوء الموقف الروسي الرسمي المعلن، وفي ضوء القناعات السابقة أيضًا، من الواضح أن موسكو تتحرك بحرص وحذر شديدين، لأنها هي الأخرى ليست فقط مهتمة بأمن إسرائيل، بل حريصة على هذا الأمن، بقدر حرصها على التواجد عسكريًّا (برًّا وبحرًا وجوًّا) في المنطقة، وبقدر حرصها أيضًا على فرض نفسها كشريك في تسوية الأزمة الفلسطينية، وطرح المبادرات المتوالية للتأكيد على مكانتها في حل هذه القضية، حتى وإن تعارضت بعض خطواتها مع خطوات القاهرة، أو أي من العواصم العربية.
ومن الصعب أن نتصور إقبال روسيا على خطوات راديكالية، أو تصريحات ساخنة تتجاوز الخطوط الحمراء. ومن الأصعب تصور إمكانية حدوث أي تحركات روسية على غرار ما كان الاتحاد السوفيتي يقوم به. فموسكو ما بعد السوفيتية، براجماتية للغاية، وتدرك أن مصالحها ليست مرتبطة بدمشق فقط أو بطهران وحزب الله فقط، وإنما بمنظومة علاقات وتناقضات وصراعات، عليها أن تتخلص فيها من الانحيازات الكاملة لهذا الطرف أو ذاك، واللجوء إلى حلول فردية أو قسرية (وهي أصلًا غير قادرة على ذلك)، خاصة أن أوضاعها الداخلية والخارجية لا تسمح بأي مغامرات أخرى إضافية، بعد أوكرانيا وسوريا. وذلك بطبيعة الحال بعيدًا عن تصريحات موسكو المليئة بالثقة والقوة، والموجهة بالأساس إلى الرأي العام الداخلي، وإلى بعض الحلفاء (سوريا، وإيران، وحزب الله، وحماس) الذين وجدوا أنفسهم أمام خيارات ضئيلة وشحيحة، ولم يجدوا أمامهم سوى “الحليف” الروسي.
إن روسيا تدرك أيضًا أن العالم تَغَيَّر، وأن الدول العربية لديها أولويات وحلفاء ومصالح. وبالتالي، لا يمكن لروسيا أن تتجاوز خطوطًا وحدودًا معينة لن يُسمَح لها بها، وحتى إذا سُمِحَ، فلن تقدر على تقديم ما تقدمه الولايات المتحدة والدول الأوروبية وحلف الناتو، ما يعني أن عنصر الثقة مرتبط مباشرة بما يمكن أن تقدمه هذه الدولة العربية أو تلك لروسيا بشكل مباشر، أو يتم تحديد نطاق المصالح بين روسيا وهذا الطرف العربي أو ذاك.
تعتمد روسيا الحرص والحذر، وتكتيك “خطوة للأمام وخطوتين إلى الخلف”، وتفضل التعامل الإعلامي “الساخن” الذي يتناسب مع المزاج العربي، والذي يزيح عن كاهلها التورط المباشر في أي حدث. إذ يكفيها ما يجري في سوريا من أحداث. ولكن أحداث سوريا “متعددة الأطراف” ستسير وفق أبطأ السيناريوهات المتوقعة، وهذا أيضًا يرفع عن موسكو حالة الحرج التي سببها قرار “دونالد ترامب” بخصوص الجولان، وكل ما يمكن أن تفعله روسيا هو الربط بين الجولان والقدس للتماشي مع المزاج السائد في الشارع العربي عمومًا، وفي الدول والتنظيمات الحليفة لها. وأيضًا لإحراج بعض الحكومات العربية التي تخطط بعيدًا عن روسيا، أو تقوم بالتنسيق مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية. وهذا ينطبق أيضًا على الدول التي تمتلك الكثير من الأوراق أو بعض الأوراق المؤثرة، سواء فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية أو بالصراع في سوريا وليبيا واليمن.
إن روسيا ستقف ضد أي مشروع مستقبلي في المنطقة، ما لم تحصل على نصيبها أو حصتها، بما في ذلك ما يسمى “صفقة القرن” أو أي مشروعات أخرى. هذا إضافة إلى المشروعات والمبادرات الروسية التي تتعلق بمصالح روسيا حصرًا ويمكنها أن تعوق هذا المشروع العربي أو ذاك، أو تسحب البساط من تحت أقدام هذه المبادرة أو تلك. وهذا تفكير براجماتي تمامًا، خاصة أنها تدرك مدى تدني مستوى العلاقات بين الولايات المتحدة وحلفائها العرب، وضغوط واشنطن على العديد من الحكومات العربية. وبالتالي، ما الذي يمكنه أن يمنعها من اعتماد نفس السيناريوهات الأمريكية للضغط على هذا الحليف أو ذاك، أو هذه الدولة أو تلك، ولكن بنكهة روسية وبما تمتلكه موسكو من أوراق، وبما يضمن عدم انهيار العلاقات أو قطعها أو إيقاف هذا المشروع أو ذاك، حتى وإن كانت المشاريع لا تزال على الورق أو قيد التفاوض.
وفيما يتعلق بالأوضاع في سوريا وانعكاسات قرار “ترامب” بشأن الجولان على خطوات موسكو المستقبلية في سوريا، فكل شيء واضح في تصريحات الكرملين والخارجية الروسية، وإصرارهما على “الشرعية الدولية” و”قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن ذات الصلة”. وربما تنشيط وتيرة العلاقات والزيارات مع حماس وحزب الله من جهة، ومع إيران ولبنان من جهة أخرى، وطرح بعض الأفكار الهامشية كعقد لقاءات فلسطينية-إسرائيلية في موسكو، أو الإعلان عن اتصالات “مكوكية” مع القادة والزعماء العرب. ولا شك أن موسكو ستظل متمسكة بقرارات الشرعية الدولية بالنسبة للجولان، وهو نفس تمسكها بقرار الشرعية الدولية بالنسبة للقدس. ولكنها لا تستطيع السير أبعد من ذلك، لأن المسألة الآن تتعلق بأمن إسرائيل حصرًا، ولا وجود فيها لداعش أو الإرهاب. الأمر الذي يملي على روسيا الكثير من الحرص والحذر، ومراعاة مصالحها المباشرة وغير المباشرة.
وفي نهاية المطاف، فكل شيء خاضع للتفاوض، بما في ذلك قرار “ترامب” الأخير. ولكن يبدو أن الرئيس الأمريكي غير قانع بشروط هذا التفاوض ولا بحلول موعده. ما يعني -شئنا أم أبينا- إمكانية انتظار مفاجآت أمريكية أخرى بعد القدس والجولان. وروسيا أيضًا ستقف لتنتظر مع الجميع لكي تحدد بوصلة تحركاتها في سوق السلاح والنفط والغاز، وكل ما يتعلق بمصالحها المباشرة حصرًا. أما بقية الملفات فهي مرهونة بتوازنات وضغوط وموازين قوى، ولا أحد يتعجل أي شيء.
قبل ساعة من إعلان اعتراف “ترامب” بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان، جرى اتصال هاتفي بين وزيري خارجية البلدين “سيرجي لافروف” و”مايك بومبيو”. ولم تحدد الخارجية الروسية الطرف الذي بادر بالاتصال. وهي عادة ما تشير إلى هذا الطرف في حال كانت المبادرة من جانبها. وانتقد “لافروف” خلال المكالمة، عزم الولايات المتحدة على الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان. وقال: “إن توجه واشنطن إلى الاعتراف بإسرائيلية الجولان يقود إلى انتهاك سافر للقانون الدولي، ويعرقل تسوية الأزمة السورية، ويزيد الوضع في الشرق الأوسط تأزمًا”.
وبعد إعلان الاعتراف، أعلنت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية “ماريا زاخاروفا” أن قرار “ترامب” حول الاعتراف بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان خطوة جديدة نحو تدمير القاعدة القانونية للتسوية بالشرق الأوسط. وقالت، على شاشة قناة “روسيا-24”: “لسوء الحظ نشهد خطوة جديدة في اتجاه تدمير القاعدة القانونية الدولية لتسوية الوضع في الشرق الأوسط. ولا يزال موقف روسيا من هذه المسألة ثابتًا، وينص على أن مرتفعات الجولان تعد أرضًا سورية”.
وركزت “زاخاروفا” على نقطين أساسيتين: الأولى، أن “روسيا تسترشد بشكل متتابع بقرار رقم 497 لمجلس الأمن الدولي، وهو يقول “إن قرار إسرائيل بسريان قوانينها وإدارتها في هذه الأراضي السورية ليست له أي قوة قانونية”. الثانية، أن “الساسة الأمريكيين في واشنطن، الذين يحبون بشكل كبير الإشارة إلى ضرورة التمسك بالقانون الدولي، لم يتناقضوا فقط، في هذه الحالة بالذات، مع القانون فحسب، بل وينتهكونه بشكل مباشر”.
وفي تصريح ثالث، أكد نائب وزير الخارجية، المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط ودول إفريقيا “ميخائيل بوجدانوف”، أن توقيع “دونالد ترامب” مرسومه بشأن الجولان لا يغير موقف موسكو المنطلق من أن الجولان جزء لا يتجزأ من أراضي سوريا.
وفي نهاية المطاف، خرج مركز القرار الروسي برأيه النهائي المعلن في هذا الصدد، ليعرب الناطق الرسمي باسم الكرملين “دميتري بيسكوف” عن أسفه إزاء قرار الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان، محذرًا من تداعيات سلبية سيجلبها هذا القرار إلى المنطقة دون أدنى شك. وأكد أن “إعلان ترامب بشأن الجولان خطوة جديدة تتخذها واشنطن في مخالفة واضحة للقانون الدولي”. وقال: “إن هذا القرار ستكون له تداعيات سلبية بالنسبة للتسوية الفلسطينية الإسرائيلية، وبالنسبة للمزاج العام للتسوية السياسية في سوريا، وهذا لا يثير شكوكًا لدى أحد”.
هذه هي تصريحات موسكو المعلنة والتي تتعامل بعقلانية شديدة مع الخطوة الأمريكية، نظرًا لأوضاع روسيا السيئة اقتصاديًّا وسياسيًّا، ووقوعها تحت ضغوط شديدة، على رأسها العقوبات الأمريكية-الأوروبية-الكندية المفروضة عليها منذ عام 2014.
قَنَاعات موسكو الحقيقية
بعيدًا عن الموقف الرسمي المعلن، فإن روسيا لديها عدة قناعات مهمة بشأن خطوة الولايات المتحدة، تلخصها النقاط التالية:
1- روسيا تعتبر أن “ترامب” يستخدم موضوع اعترافه بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان كورقة في حملة إعادة انتخابه للرئاسة عام 2020. وتعرف جيدًا أن هناك قبولًا ضمنيًّا داخل الولايات المتحدة بتوجه “ترامب” هذا، وأن نقطة نقد الديمقراطيين الرئيسية لتصريحات “ترامب” في هذا الخصوص هي الطبيعة السياسية للقرار، واعتماده دون أي نقاش بين الأحزاب والجمهور السياسي.
2- ترصد موسكو جيدًا الوضع الداخلي الأمريكي، وتدرك أن الكثيرين يتهمون “ترامب” بتقديم الدعم السياسي لرئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو”، معتبرين أن إعادة انتخابه تصب في صالح الولايات المتحدة. لكن آخرين يخشون أن يؤدي القرار إلى زعزعة الوضع القائم منذ سنوات عديدة، ويتسبب في موجة مواجهات بين إسرائيل من جهة، وبين إيران وحزب الله من جهة أخرى.
3- بعض الأجنحة في روسيا ترى أن الاعتراف الأمريكي بسيادة إسرائيل على الجولان يدفن فعلًا “صفقة القرن الترامبية” بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وهو ما يتلاقى مع مصالح روسيا. لكن القيادة الروسية لا ترى ذلك، وإنما ترى العكس تمامًا. إذ اعتبرت الخارجية الروسية أن قرار “ترامب” هذا قد يكون مقدمة لإعلان “صفقة القرن”.
4- أن هذا القرار غير محفوف بالمخاطر بالنسبة لترامب نفسه، بل على العكس تًمامًا.
5- لن يغير منتقدو إسرائيل موقفهم تجاهها بصرف النظر عن الوضع الرسمي للجولان.
6- سيضطرب الشارع العربي قليلًا ثم يهدأ، وسيبتلع الزعماء العرب هذا القرار، كما ابتلعوا قرار اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة للدولة اليهودية في ديسمبر 2017.
7- أن الأوروبيين سيفكرون بأزمة “التضامن الأطلسي” ولن يعترضوا بشدة، وإنما سيطلقون تصريحات مطاطة ومعتادة وقديمة لامتصاص الصدمة. فقد ذكرت ممثلة الدائرة الدبلوماسية في الاتحاد الأوروبي “ميا كوسيانيتش”، أن الاتحاد “لا يزال لا يعترف” بالجولان كجزء من إسرائيل.
8- على الجبهة الخارجية تكمن أهمية هذه القضية، بالنسبة للرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة، في إعادة انتخاب “نتنياهو”، وتعزيز الأمن الفعلي لإسرائيل على الأرض.
مسارات روسيا وتحركاتها المتوقعة
في ضوء الموقف الروسي الرسمي المعلن، وفي ضوء القناعات السابقة أيضًا، من الواضح أن موسكو تتحرك بحرص وحذر شديدين، لأنها هي الأخرى ليست فقط مهتمة بأمن إسرائيل، بل حريصة على هذا الأمن، بقدر حرصها على التواجد عسكريًّا (برًّا وبحرًا وجوًّا) في المنطقة، وبقدر حرصها أيضًا على فرض نفسها كشريك في تسوية الأزمة الفلسطينية، وطرح المبادرات المتوالية للتأكيد على مكانتها في حل هذه القضية، حتى وإن تعارضت بعض خطواتها مع خطوات القاهرة، أو أي من العواصم العربية.
ومن الصعب أن نتصور إقبال روسيا على خطوات راديكالية، أو تصريحات ساخنة تتجاوز الخطوط الحمراء. ومن الأصعب تصور إمكانية حدوث أي تحركات روسية على غرار ما كان الاتحاد السوفيتي يقوم به. فموسكو ما بعد السوفيتية، براجماتية للغاية، وتدرك أن مصالحها ليست مرتبطة بدمشق فقط أو بطهران وحزب الله فقط، وإنما بمنظومة علاقات وتناقضات وصراعات، عليها أن تتخلص فيها من الانحيازات الكاملة لهذا الطرف أو ذاك، واللجوء إلى حلول فردية أو قسرية (وهي أصلًا غير قادرة على ذلك)، خاصة أن أوضاعها الداخلية والخارجية لا تسمح بأي مغامرات أخرى إضافية، بعد أوكرانيا وسوريا. وذلك بطبيعة الحال بعيدًا عن تصريحات موسكو المليئة بالثقة والقوة، والموجهة بالأساس إلى الرأي العام الداخلي، وإلى بعض الحلفاء (سوريا، وإيران، وحزب الله، وحماس) الذين وجدوا أنفسهم أمام خيارات ضئيلة وشحيحة، ولم يجدوا أمامهم سوى “الحليف” الروسي.
إن روسيا تدرك أيضًا أن العالم تَغَيَّر، وأن الدول العربية لديها أولويات وحلفاء ومصالح. وبالتالي، لا يمكن لروسيا أن تتجاوز خطوطًا وحدودًا معينة لن يُسمَح لها بها، وحتى إذا سُمِحَ، فلن تقدر على تقديم ما تقدمه الولايات المتحدة والدول الأوروبية وحلف الناتو، ما يعني أن عنصر الثقة مرتبط مباشرة بما يمكن أن تقدمه هذه الدولة العربية أو تلك لروسيا بشكل مباشر، أو يتم تحديد نطاق المصالح بين روسيا وهذا الطرف العربي أو ذاك.
تعتمد روسيا الحرص والحذر، وتكتيك “خطوة للأمام وخطوتين إلى الخلف”، وتفضل التعامل الإعلامي “الساخن” الذي يتناسب مع المزاج العربي، والذي يزيح عن كاهلها التورط المباشر في أي حدث. إذ يكفيها ما يجري في سوريا من أحداث. ولكن أحداث سوريا “متعددة الأطراف” ستسير وفق أبطأ السيناريوهات المتوقعة، وهذا أيضًا يرفع عن موسكو حالة الحرج التي سببها قرار “دونالد ترامب” بخصوص الجولان، وكل ما يمكن أن تفعله روسيا هو الربط بين الجولان والقدس للتماشي مع المزاج السائد في الشارع العربي عمومًا، وفي الدول والتنظيمات الحليفة لها. وأيضًا لإحراج بعض الحكومات العربية التي تخطط بعيدًا عن روسيا، أو تقوم بالتنسيق مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية. وهذا ينطبق أيضًا على الدول التي تمتلك الكثير من الأوراق أو بعض الأوراق المؤثرة، سواء فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية أو بالصراع في سوريا وليبيا واليمن.
إن روسيا ستقف ضد أي مشروع مستقبلي في المنطقة، ما لم تحصل على نصيبها أو حصتها، بما في ذلك ما يسمى “صفقة القرن” أو أي مشروعات أخرى. هذا إضافة إلى المشروعات والمبادرات الروسية التي تتعلق بمصالح روسيا حصرًا ويمكنها أن تعوق هذا المشروع العربي أو ذاك، أو تسحب البساط من تحت أقدام هذه المبادرة أو تلك. وهذا تفكير براجماتي تمامًا، خاصة أنها تدرك مدى تدني مستوى العلاقات بين الولايات المتحدة وحلفائها العرب، وضغوط واشنطن على العديد من الحكومات العربية. وبالتالي، ما الذي يمكنه أن يمنعها من اعتماد نفس السيناريوهات الأمريكية للضغط على هذا الحليف أو ذاك، أو هذه الدولة أو تلك، ولكن بنكهة روسية وبما تمتلكه موسكو من أوراق، وبما يضمن عدم انهيار العلاقات أو قطعها أو إيقاف هذا المشروع أو ذاك، حتى وإن كانت المشاريع لا تزال على الورق أو قيد التفاوض.
وفيما يتعلق بالأوضاع في سوريا وانعكاسات قرار “ترامب” بشأن الجولان على خطوات موسكو المستقبلية في سوريا، فكل شيء واضح في تصريحات الكرملين والخارجية الروسية، وإصرارهما على “الشرعية الدولية” و”قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن ذات الصلة”. وربما تنشيط وتيرة العلاقات والزيارات مع حماس وحزب الله من جهة، ومع إيران ولبنان من جهة أخرى، وطرح بعض الأفكار الهامشية كعقد لقاءات فلسطينية-إسرائيلية في موسكو، أو الإعلان عن اتصالات “مكوكية” مع القادة والزعماء العرب. ولا شك أن موسكو ستظل متمسكة بقرارات الشرعية الدولية بالنسبة للجولان، وهو نفس تمسكها بقرار الشرعية الدولية بالنسبة للقدس. ولكنها لا تستطيع السير أبعد من ذلك، لأن المسألة الآن تتعلق بأمن إسرائيل حصرًا، ولا وجود فيها لداعش أو الإرهاب. الأمر الذي يملي على روسيا الكثير من الحرص والحذر، ومراعاة مصالحها المباشرة وغير المباشرة.
وفي نهاية المطاف، فكل شيء خاضع للتفاوض، بما في ذلك قرار “ترامب” الأخير. ولكن يبدو أن الرئيس الأمريكي غير قانع بشروط هذا التفاوض ولا بحلول موعده. ما يعني -شئنا أم أبينا- إمكانية انتظار مفاجآت أمريكية أخرى بعد القدس والجولان. وروسيا أيضًا ستقف لتنتظر مع الجميع لكي تحدد بوصلة تحركاتها في سوق السلاح والنفط والغاز، وكل ما يتعلق بمصالحها المباشرة حصرًا. أما بقية الملفات فهي مرهونة بتوازنات وضغوط وموازين قوى، ولا أحد يتعجل أي شيء.