العبث بالتاريخ الإسلامي
أ.د علي بن إبراهيم النملة
أ.د علي بن إبراهيم النملة
من العبث في علوم الدين - والدين نفسه - إلى العبَث بالتاريخ عامَّة، والتاريخ الإسلامي بخاصَّة؛ إذ إنَّ بعضًا من المؤرِّخين الأجانب من المستشرقين والأدباء العرب من غير المسلمين، قد أساؤوا إلى التاريخ الإسلامي إساءة متعمَّدة - في المجمل، لا في الكُلِّ - ساعدَهم في ذلك تلك الموضوعية في السرد التاريخي التي لجأ إليها بعض المؤرِّخين والمفسِّرين من المسلمين - والمؤرِّخين من غير المسلمين - كالطبري والقرطبي وابن كثير، والمسعودي وابن الأثير، وغيرهم عندما أدخلوا في سَردِهم التاريخي، وفي تفسيرهم، بعضَ الأخبار الإسرائيلية التي بثَّها اليهود في ثنايا توثيق الأحداث والأخبار[1].
ثمَّ يمضي الزمان ويظهر علينا كُتَّابٌ وأدباء ومؤرِّخون في نهاية القرن التاسع عشر إلى بداية القرن العشرين الميلاديين، ويدرك المؤرِّخون والمختصُّون هذا الدسَّ على التاريخ الإسلامي، ويعالجونه في بحوثهم ودراساتهم وندواتهم ومؤتمراتهم، ليبقى محصورًا بينهم، وبقاء الردود محصورةً بين المختصِّين يفوِّت الفرصةَ على المتابعين من القرَّاء المحبِّين للتاريخ، دون أن يكونوا من المختصِّين، فيظهر من هؤلاء القُرَّاء كُتَّاب - لهم بدورهم قُرَّاء - قد تكون كتاباتهم محصورة على الصحافة السيَّارة من جرائد ومجلات ثقافية، ثم يظهر منهم كُتَّاب الروايات التاريخية، التي يبحث عنها المنتِجون والمخرجون في أجهزة الإعلام من إذاعة أو تلفزيون.
لأنَّ المشاهِد التمثيلية تحتاج إلى البهارات، تُدخل عناصر العشق والحبِّ والغرام في مشهد تاريخي مصيري لا علاقة فيه - وبه وله - بالعشق والحبِّ والغرام، فيفسد الغرَض النَّبيل من الحادثة التاريخية بسبب هذه "البهارات"، التي لا تكاد تخلو منها قصَّة تاريخية لحلقة واحدة أو لحلقات مسلسلة، حتى يصل الأمر إلى أن تكون الفتوح الإسلامية التي كانت من أسباب انتشار الإسلام قامَت لأسباب تتعلَّق بالعشق والغرام.
استَعرِضوا - إنْ شئتم - روايات تاريخ الإسلام من إعداد جرجي زيدان، الذي كتب عن تاريخ التمدُّن الإسلامي، وهي سلسلة بدأَت أحداثُها من عصر الخلفاء الراشدين إلى سقوط الخِلافة الإسلامية العثمانية سنة 1343هـ/ 1924م، مرورًا بالحروب الصليبية وموقعة حِطِّين، التي أُعيدَت أسبابها إلى التعلُّق بفتاة من قِبَل قادة هذه المعركة من المسلمين، حتَّى عنوانات الرِّوايات كانت مثيرةً، وصورة الغلاف كانت أكثر إثارة؛ من غادة كربلاء إلى العبَّاسة أخت الرشيد إلى فتاة غرناطة، وما إلى ذلك[2].
العجيب أنَّ هذه السلسلة من الروايات كانت مقروءة بصورة مذهلة عند خروجها عن دار الهلال للنَّشر بالقاهرة، الرائدة بمجلَّتها المشهورة، وسلسلة كتاب الهلال المشهورة أيضًا، بما أسهمَت به في نشر الثقافة العربية الإسلامية، تلك الدار التي كان لجرجي زيدان - هو وأهله - الفضلُ في إنشائها سنة 1892م[3].
ثمَّ تبعه بعضٌ من أصحابنا على هذا النسق الذي لم يسلَم منه الأنبياء والرُّسل - على ما جاء في الإسرائيليات عن داود عليه السلام - وأضحَت الإسرائيليات أرضية، أو خلفية، أيِّ ظاهرة كادَت أنْ تقترن بالنصِّ القرآني[4]، بل إنَّ محمَّدًا صلى الله عليه وسلم لم يسلَم منه، وحِيكَ حوله ما حيك حول داود عليه السلام، بفِعل تأثير المستشرقين وتدخُّلهم في تفسير التاريخ، حينما ربطوا بين ما ادَّعوه على داود عليه السلام بما ادَّعوه أيضًا على محمَّد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام ثمَّ القيادات الإسلامية التالية، فاختلقوا لها رمزًا غراميًّا، تُدافع عنه، أو تبتغيه، فتثير الحروب من أجله، وتجيِّش الجيوش...
هكذا كان العبَث بالتاريخ الإسلامي والفتوحات الإسلامية والرموز الإسلامية، التي اتُّهمَت اتِّهامات هي منها براء؛ فالذي كان يغزو عامًا ويحجُّ عامًا تُحاك حوله قصص اللهو والطرب والشراب، حتى شاع مصطلح "الحريم" لدى المستشرقين[5].
يستمرُّ مسلسل العبَث في علوم المسلمين وموروثاتهم، ويتأثَّر بهذا المسلسل بعضٌ من أبنائه، مما يحتاج معه إلى مزيد من الوقفات الهادئة، التي تخاطب العقلَ بأمثلة حصلَت، وحصل لها قدر عالٍ من التحريف.
الهوامش :
[1] علي حسني الخربوطلي: المستشرقون والتاريخ الإسلامي - القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1988م - 137 ص - سلسلة تاريخ المصريين (15).
[2] عبدالرحمن بن صالح العشماوي: وقفة مع جرجي زيدان - ط 2 - الرياض: مكتبة العبيكان، 1424هـ/ 2003م - 123 ص.
[3] أمين بن حسن الحلواني: نبش الهذيان من تاريخ جرجي زيدان، تحقيق: مازن صلاح مطبَّقاني؛ تقديم محمَّد السيد الوكيل - المدينة المنوَّرة: مكتبة ابن القيم، 1410هـ - 1989م - 84 ص - سلسلة دراسات منهجية للاستشراق (4).
[4] حسني يوسف الأطير: البدايات الأولى للإسرائيليات في الإسلام - ط 2 - القاهرة: مكتبة النافذة، 1425هـ/ 2004م - ص (9).
[5] عبدالقادر طاش: هارون الرشيد - بلينفيلد، إنديانا: منظَّمة الشباب المسلم العربي.
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/culture/0/130076/#ixzz5cbR50rSe
ثمَّ يمضي الزمان ويظهر علينا كُتَّابٌ وأدباء ومؤرِّخون في نهاية القرن التاسع عشر إلى بداية القرن العشرين الميلاديين، ويدرك المؤرِّخون والمختصُّون هذا الدسَّ على التاريخ الإسلامي، ويعالجونه في بحوثهم ودراساتهم وندواتهم ومؤتمراتهم، ليبقى محصورًا بينهم، وبقاء الردود محصورةً بين المختصِّين يفوِّت الفرصةَ على المتابعين من القرَّاء المحبِّين للتاريخ، دون أن يكونوا من المختصِّين، فيظهر من هؤلاء القُرَّاء كُتَّاب - لهم بدورهم قُرَّاء - قد تكون كتاباتهم محصورة على الصحافة السيَّارة من جرائد ومجلات ثقافية، ثم يظهر منهم كُتَّاب الروايات التاريخية، التي يبحث عنها المنتِجون والمخرجون في أجهزة الإعلام من إذاعة أو تلفزيون.
لأنَّ المشاهِد التمثيلية تحتاج إلى البهارات، تُدخل عناصر العشق والحبِّ والغرام في مشهد تاريخي مصيري لا علاقة فيه - وبه وله - بالعشق والحبِّ والغرام، فيفسد الغرَض النَّبيل من الحادثة التاريخية بسبب هذه "البهارات"، التي لا تكاد تخلو منها قصَّة تاريخية لحلقة واحدة أو لحلقات مسلسلة، حتى يصل الأمر إلى أن تكون الفتوح الإسلامية التي كانت من أسباب انتشار الإسلام قامَت لأسباب تتعلَّق بالعشق والغرام.
استَعرِضوا - إنْ شئتم - روايات تاريخ الإسلام من إعداد جرجي زيدان، الذي كتب عن تاريخ التمدُّن الإسلامي، وهي سلسلة بدأَت أحداثُها من عصر الخلفاء الراشدين إلى سقوط الخِلافة الإسلامية العثمانية سنة 1343هـ/ 1924م، مرورًا بالحروب الصليبية وموقعة حِطِّين، التي أُعيدَت أسبابها إلى التعلُّق بفتاة من قِبَل قادة هذه المعركة من المسلمين، حتَّى عنوانات الرِّوايات كانت مثيرةً، وصورة الغلاف كانت أكثر إثارة؛ من غادة كربلاء إلى العبَّاسة أخت الرشيد إلى فتاة غرناطة، وما إلى ذلك[2].
العجيب أنَّ هذه السلسلة من الروايات كانت مقروءة بصورة مذهلة عند خروجها عن دار الهلال للنَّشر بالقاهرة، الرائدة بمجلَّتها المشهورة، وسلسلة كتاب الهلال المشهورة أيضًا، بما أسهمَت به في نشر الثقافة العربية الإسلامية، تلك الدار التي كان لجرجي زيدان - هو وأهله - الفضلُ في إنشائها سنة 1892م[3].
ثمَّ تبعه بعضٌ من أصحابنا على هذا النسق الذي لم يسلَم منه الأنبياء والرُّسل - على ما جاء في الإسرائيليات عن داود عليه السلام - وأضحَت الإسرائيليات أرضية، أو خلفية، أيِّ ظاهرة كادَت أنْ تقترن بالنصِّ القرآني[4]، بل إنَّ محمَّدًا صلى الله عليه وسلم لم يسلَم منه، وحِيكَ حوله ما حيك حول داود عليه السلام، بفِعل تأثير المستشرقين وتدخُّلهم في تفسير التاريخ، حينما ربطوا بين ما ادَّعوه على داود عليه السلام بما ادَّعوه أيضًا على محمَّد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام ثمَّ القيادات الإسلامية التالية، فاختلقوا لها رمزًا غراميًّا، تُدافع عنه، أو تبتغيه، فتثير الحروب من أجله، وتجيِّش الجيوش...
هكذا كان العبَث بالتاريخ الإسلامي والفتوحات الإسلامية والرموز الإسلامية، التي اتُّهمَت اتِّهامات هي منها براء؛ فالذي كان يغزو عامًا ويحجُّ عامًا تُحاك حوله قصص اللهو والطرب والشراب، حتى شاع مصطلح "الحريم" لدى المستشرقين[5].
يستمرُّ مسلسل العبَث في علوم المسلمين وموروثاتهم، ويتأثَّر بهذا المسلسل بعضٌ من أبنائه، مما يحتاج معه إلى مزيد من الوقفات الهادئة، التي تخاطب العقلَ بأمثلة حصلَت، وحصل لها قدر عالٍ من التحريف.
الهوامش :
[1] علي حسني الخربوطلي: المستشرقون والتاريخ الإسلامي - القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1988م - 137 ص - سلسلة تاريخ المصريين (15).
[2] عبدالرحمن بن صالح العشماوي: وقفة مع جرجي زيدان - ط 2 - الرياض: مكتبة العبيكان، 1424هـ/ 2003م - 123 ص.
[3] أمين بن حسن الحلواني: نبش الهذيان من تاريخ جرجي زيدان، تحقيق: مازن صلاح مطبَّقاني؛ تقديم محمَّد السيد الوكيل - المدينة المنوَّرة: مكتبة ابن القيم، 1410هـ - 1989م - 84 ص - سلسلة دراسات منهجية للاستشراق (4).
[4] حسني يوسف الأطير: البدايات الأولى للإسرائيليات في الإسلام - ط 2 - القاهرة: مكتبة النافذة، 1425هـ/ 2004م - ص (9).
[5] عبدالقادر طاش: هارون الرشيد - بلينفيلد، إنديانا: منظَّمة الشباب المسلم العربي.
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/culture/0/130076/#ixzz5cbR50rSe