أدرج موضوع طويل نسبيا .. ولكن الشاهد منه إن ترامب يحضر لفقاعة إعلامية أكثر منها أي شيء آخر ... فقاعة إعلامية تقوم بإلهاء وتشتيت الإعلام العالمي الغارق تماما في متابعة الأسبوع الأسود على ترامب وفضائح متواصلة وأحداث ملتهبة على رأس ترامب.
إذا كان هدف ترامب مجرد فقاعة فارغة جديدة فلا مرحبا به وفقاعاته السخيفة.
أتركم للموضوع ...
فقاعات ترمب.. دليلك لاستخدام أزمات العالم للتغطية على فضائحك
لم يكن "مايكل كوهين" معتادًا على الشعور بالقلق إزاء التعامل مع تعقيدات لجان التفتيش الأميركية، فشهادة المحاماة خاصته، وفندق الأطلسي الشهير الذي يملكه في فلوريدا، وشراكته في ملكية شركة "تاكسي فاوند كوري"، وصولًا لترشحّه لمنصب عمدة نيويورك عام 2003، وانتهاء بانتقاله للعمل كمحامٍ خاص للملياردير "دونالد ترمب" قبل أكثر من عقد، وحتى ما بعد تسلم الأخير لرئاسة أمريكا بداية العام الماضي 2017، كل ذلك جعل كوهين يختبر القانون الأميركي في مختلف مستوياته جيًدا، وعلّمه أن يرى الخطر القادم مبكرًا متخذًا احتياطاته الكاملة. خبراتٌ منحته شعورًا نسبيًا بالأمان إلى أن داهمت لجنة تفتيش رسمية مكتبه ومنزله وغرفة تتبع له في فندق "لويز ريجنسي" في مانهاتن بنيويورك، في 9 إبريل/نيسان 201، هادمة ذلك الشعور بشكل مفاجئ.
لم يكن كوهين أميركيًا عاديًا، فكونه محامٍ لرئيس الدولة منحه حصانة خاصة، لذا كان من الطبيعي ألا يسمح لهم في البداية بإجراء التفتيش، ولكن إذنا قضائيًا بختم "رود روزنشتاين" نائب وزير العدل الأميركي مكّن وحدة الفساد العامة بمانهاتن من إجرائه، ومصادرة هواتف كوهين المحمولة وحواسيبه وسجلات ترتبط بالأعمال التجارية الخاصة بترمب، في إطار تحقيقات "روبرت مولر"، المستشار الفيدرالي الخاص، ورئيس اللجنة المكلفة بالتحقيق في التدخل الروسي بالانتخابات الأميركية.
تغطية سي إن إن لتصريحات ترمب بفصل روبرت مولر ونائب المدعي العام
خلال التفتيش، علم كوهين أن الصلاحيات الممنوحة لـ "مولر" من الكونغرس قد مكّنته من الحصول على إذن "روزنشتاين" في ضم الأول لمسار تحقيق الثاني، وهو مسار توسع في الشهور الأخيرة ليشمل نشاطات ترمب التجارية، ليصبح ذلك الحدث بغضون ساعات الخبر الأول في الصحافة الأميركية.
سعى أمرُ التفتيش للتدقيق في علاقة كوهين برجال أعمال روس، وفي مبالغ مالية يُعتقدُ أن ترمب قام بدفعها عبر محاميه لممثلتي أفلام إباحية، ادعتا أن الرئيس الجديد أقام معهما علاقات جنسية عام 2006، كجزء من اتفاقية عدم الكشف عن المعلومات قبل أيام من الانتخابات الرئاسية عام 2016، وهو ما جعل تلك الدفعات تُعتبر بمثابة مساهمات غير قانونية للحملات الانتخابية كونها ساهمت بإخفاء القصص المضرة سياسيًا إن صحت، وساعدت ترمب في الوصول للبيت الأبيض.
في نفس توقيت المداهمة، كان ترمب في اجتماع على مستوى وزارتي الدفاع والخارجية وقيادات الصف الأول من الجيش الأميركي في البيت الأبيض لمناقشة الردّ المناسب على الهجوم الكيماوي الذي نفذه النظام السوري مستخدمًا غاز السارين السام في مدينة "دوما" السورية، ولدى تلقيه خبر مداهمة مكتب كوهين، وكعادته في استخدام موقع التواصل الاجتماعي "تويتر" كمنصة لردود أفعاله السياسية، نشر ترمب تغريدة هددت بعزل كل من مولر و"روزنشتاين" الراعي المباشر لملف التحقيقات [1].
(تغريدة دونالد ترمب - امتياز المحقق مولر مات)
أثار تصريح ترمب ضجة كبيرة في مجلس الشيوخ الأميركي لدى الجمهوريين وذوي الياقات الزرقاء على حدّ سواء، وصولًا لتحذير بعضهم للرئيس من تكرار "مذبحة السبت" التي لا تزال موصوفة بـ «وصمة عار» على جبين الديمقراطية الأميركية، وهو المصطلح المؤرخ لما قام به "ريتشارد نيكسون" الرئيس السابع والثلاثين لأمريكا، لدى فصله المدعي العام "آرشيبالد كوكس" بعد سلسلة من الفضائح التي لاحقت الأول، الأمر الذي أدى لعزل نيكسون لاحقًا، لتتصدر كلٌّ من تصريحات ترمب وردود الأفعال التي تبعتها العناوين الأولى على شاشات "سي إن إن" وغيرها، والصفحات الأولى على كل من "واشنطن بوست" و "التايمز" الأميركيتين[2].
بطريقته الاستعراضية التي علمته إياها تجربته التلفازية، وأسلوبٍه التشويقي الذي اكتسبه من خلفيته التجارية، انتقل ترمب وقتها من التهديد بفصل مولر وموكله ليتلاعب بأعصاب العالم عبر تويتر أيضًا، متحدثًا عن ضربة عسكرية قادمة ضد نظام الأسد، مجهولة التوقيت والمستوى، عقوبة على استخدامه السلاح الكيماوي، وفيما كانت الترتيبات جارية لتنفيذ الضربة عبر تحالف يجمع كلّا من بريطانيا وفرنسا بقيادة واشنطن، كانت روسيا قد استنفرت أسطولها على سواحل محافظة طرطوس السورية ومضاداتها الأرضية داخل قواعدها العسكرية بالداخل السوري، مهددة بإسقاط الصواريخ الأميركية على لسان سفيرها في لبنان " ألكسندر زاسيبكين"، الأمرُ الذي شجع ترمب على مواصلة العبث بأعصاب روسيا والنظام السوري ومعارضيه وسائر الدول الإقليمية، متحدثُا بجملته الشهيرة عن صواريخ «لطيفة وجديدة وذكية» قادمة دون تحديد نوعها، وداعيًا الروس لانتظار الرد الحاسم خلال 48 ساعة، والتوقف عن دعم «الحيوان»، اللقب الذي اختاره ترمب لبشار الأسد[3].
(التغطية الإخبارية لقناة سي إن إن الأميركية المتفاعلة مع تصريحات ترمب حول الضربة العسكرية)
بمرور ساعات على تغريدات ترمب، كانت امبراطوريات الإعلام الأميركي المرئي والمقروء تقوم بتغطية صحافية مكثفة لتفكيك ما يرمي إليه الرئيس، وتحليل حجم وأبعاد الضربة الأميركية المحتملة، وكان بالإمكان تمييز مقال على الصفحة الأولى من واشنطن بوست للمحلل العسكري الشهير "بول سون" بعنوان "ما الذي يعنيه ترمب بالصواريخ الذكية المتجهة إلى سوريا؟"[4]، بالتوازي مع افتتاحية مشابهة لنيويورك تايمز [5] بعنوان "ترمب يعد بضرب سوريا، ويحذر روسيا من دعم الأسد"، مع أخبار عن اتصالات بين واشنطن مع كل من أنقرة وبغداد والرياض.
وفيما كانت التحليلات العسكرية وقتها تحاولُ تفسير سبب تأخر الضربة العسكرية بعد تجاوز الفترة المحددة، أعاد تصريح مفاجئ لـ "ترمب" إلى الأذهان احتمال إنجازه صفقة سريعة مع موسكو، في استحضار لتجربة سلفه أوباما صيف عام 2013، وهي تجربة انتهت بتسليم جزء من ترسانة الأسد الكيماوية بوساطة روسية مقابل إيقاف الضربة الأميركية وقتها. حملت تغريدة مفاجئة لـ "ترمب" ما مفاده أنّ الضربة الأميركية من الممكن ألا تحدث أبدًا، داعيًا الجميع لشكر أمريكا على حربها ضد تنظيم الدولة "داعش"[6]، وتاركًا جميع الأطراف على صفيح ساخن من تخمينات وتحليلات محتملة استمرت حتى قيام التحالف الثلاثي بتنفيذ ضربة محدودة في الرابع عشر من أبريل/نيسان الجاري ضد قواعد عسكرية للنظام السوري.
في وقت كانت لجان التحقيق الفيدرالية والإعلام الأميركي يضيقون الخناق فيه على ترمب بتتبعهم لما يُكشف عنه، طُرحت تساؤلات حول التكتيك الذي سار عليه الملياردير الأميركي في حبس أنفاس الأميركيين وجذب أنظارهم للخارج، وهو تكتيك مستمر حتى يومنا هذا، وأمر فُسِّرَ على أنه تنفيس للضغط الداخلي الذي يعاني منه ترمب نتيجة التحقيقات التي تحاصره، وتتبع الإعلام المحلي لها، إلا أن أحدًا لم يمسك بالصورة كاملة بعد.
الحُلم
لم يكن التساؤل حيال التوقيت هو الوحيد ذي الأهمية، فـ "ترمب" ذي الخلفية القومية، والذي لطالما عبر عن إعجابه بـ "رونالد ريغان" الرئيس الأميركي السابق وشعاره الشهير «لنجعل أميركا عظيمة»، لم يُخفِ رغبته بتنصيب نفسه خلفًا له، وعبر عن ذلك مرارًا بتكراره لشعار «أميركا أولًا»، وهو شعارٌ يستدعي -في هذا الإطار- صب اهتمام إدارته على مشاكل الولايات المتحدة الداخلية وتجنيبها الاستنزاف في شؤون الدول الأخرى.
أوقعَ ذلك الأميركيين الذين حاولوا فهم استراتيجية ترمب الرئاسية في تناقض حاد، بعد الضربة العسكرية التي نفذها ضد نظام الأسد، والتي جاءت بعد أيام من تهديده بشن حرب نووية ضد كوريا الشمالية، في أكبر تصعيد نووي جرّت إليه الولايات المتحدة والعالم منذ الأزمة الكوبية الشهيرة، وهو تناقضٌ طرَح معه تساؤلات حول طريقة استثمار ترمب لملفات الولايات المتحدة المنسجمة مع دورها كأبٍ راعٍ للعالم، من وجهة النظر الأميركية، في تنفيس الضغط المترتب على مشاكله الداخلية، وبدايات استخدامه لهذه الطريقة.
عرفت الانتخابات الأميركية الحديث لأول مرة عن اشتباه لدور لعبه الجيش السيبراني الروسي في التأثير بنتائجها بعد أسابيع من نشر موقع ويكيليكس تسريبات لآلاف الوثائق من البريد الإلكتروني الخاص بالمرشحة الديمقراطية "هيلاري كلينتون" في يونيو/حزيران عام 2016، بعد أن ترك القراصنة ثغرات خلفهم مكنت محللي الهجمات السيبرانية في وكالة الاستخبارات الأميركية "سي آي إيه" من تتبعِ آثارهم واكتشاف وجودِ شعَرات من الفراء الروسي خلف الاختراق، وما إن نشرت الوكالة تقريرها حول مسؤولية الروس المحتملة في نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام، حتى شرع مكتب التحقيقات الفيدرالي برئاسة "جيمس كومي" بتكليف من الكونغرس الأميركي بالتحقيق في الدور الروسي وعلاقة ترمب بذلك، وهو أمر جلب بمرور الوقت مستشاري ترمب خلال حملته الانتخابية تحت مجهر التحقيق، واستتبعَ معه أحداثًا أخرى اشتبكت معها في التفاصيل والأطراف المتورطة.
تخبرنا الإحصائيات التي رُصدت بين عامي 2017 و الربع الأول من العام الجاري عن حجم الصدمة التي عاشتها الديمقراطية الأميركية بعد وصول ترمب لسدة البيت الأبيض، وما استتبعتها من توترات لاحقة، حيث أنه وبالتوازي مع تسليط إمبراطوريات الإعلام الأميركي الضوء على نتائج تحقيقات المكتب الفيدرالي ووكالة الاستخبارات المركزية بشكل متسلسل على طول تلك المدة، كان بإمكان الأميركيين وغيرهم تمييز ملامح الصراع الذي بدأ بين ترمب والمؤسسات التشريعية المؤثرة في القرار الأميركي، وكبرى وسائل الإعلام الرسمية كذلك، وهو صراعٌ تعلم ترمب بمرور الوقت أن أمثل طريقة لإدارته تكمنُ باستثمار الملفات المتأصلة في السياسة الخارجية لأميركا، على نحوٍ يخفّفُ ضغط جبهته الداخلية ويخلطُ أوراق خصومه ومؤيديه على حدّ سواء، بالتوازي مع تذكير الشعب الأميركي بين حين وآخر بمعدلات النمو الاقتصادي التي أحدثها.
كانت تلك ومازالت استراتيجية أصيلة لـ "ترمب" في إدارة صراعه، يرافقها الانتعاش الاقتصادي الذي شهدته أمريكا خلال رئاسته، خطّة منظمة بدا أن ترمب قد وعى جيدًا أنها الطريقة الوحيدة التي ستمكنه من دخول البيت الأبيض مجددًا خلال الانتخابات الرئاسية الجديدة عام 2020، وهي خطة بدأ المقامرة بها على الأرجح منذ أيامه الأولى في الرئاسة.
بالنسبة لـ "ترمب" كرئيس قادم من خلفية تجارية، فإن ذلك الخيط السميك بين السياسة والتجارة تلاشى مع أيامه الأولى في البيت الأبيض، وكما اعتاد على أن يصدم زبائنه بصفقاته التجارية في سوق العقارات، حملَ خطابُه الأول حزمة قرارات قاسية وصادمة في آنٍ معًا، في محاولة منه لتفكيك إرث سلفه أوباما وتفعيل رؤيته التي لطالما وعد بها في حملته الانتخابية، وباتَ بعضها يرسمُ ملامحه على الأرض بمرور الأسابيع الأولى.
فمن سحب الولايات المتحدة من برنامج النقاط التجارية، تعهد ترمب أيضًا بإعادة التفاوض بشأن اتفاق التجارة الحرة مع أمريكا الشمالية، مهددًا بالتخلي عنه ما لم تفِ كندا والمكسيك بشروطه، وطالبَ المكسيك في نفس الوقت بدفع تكلفة الجدار الحدودي الذي قرر بناءه على حدودها، كما أنذر الشركات الأميركية التي تنقل الوظائف للخارج بعقوبات اقتصادية، وانتقل للتنين الصيني ليهدده بفرض رسوم جمركية تصل لـ 45 % على صادراته، وصولًا لإعلانه تعليق الهجرة القانونية للعديد من البلدان الإسلامية، وفرض حظر مفتوح على اللاجئين السوريين، لتتصدرَ قراراتُه الصفحات الأولى من وسائل الإعلام المحلية والعالمية، ملهبًا حماس مؤيديه، وتاركًا العالم يبيتُ لياليه على صفيح ساخن.
من السطح، كانت الأمور تبدو كما لو أن ترمب هو الرجل الأكثر سطوة في العالم، ولكن التقارير التي صدرت قبل أربعة أسابيع من وكالة الاستخبارات المركزية حول علاقة روسيا بحملة ترمب الانتخابية جعلت ترمب يتعامل بروح أكثر برغماتية خلف الكواليس.
فبعد تسلم مكتب التحقيقات الفيدرالية برئاسة "كومي" إدارة التحقيق حول العلاقة بين روسيا وتسريب وثائق هيلاري كلينتون، بدأ مجهر التحقيق يقترب تدريجيًا من الأشخاص المقربين من الرئيس الأميركي، الأمرُ الذي دعا ترمب لمحاولة كسب كومي لصفه، بهدف تبديد سحابة التحقيق الروسي، وهو الأمر الذي رفضه كومي وزاد عليه بالإعلان عن أخذ التحقيق لمستويات أعلى ([7]). في تلك الفترة، وفي مطلع شهر أبريل/نيسان تحديدًا، ومع التهديد الذي حمله إصرار كومي، كانت الصحافة الأميركية والعالمية على موعد مع حدث أضخم سيشدُّ الانتباه لمكان آخر من العالم لعدة أسابيع.
أوراق أوباما
لم يكن ترمب راضيًا عن سياسة سلفه باراك أوباما بشقيها الداخلي والخارجي، وخصوصًا عن موقفها "البارد" تجاه الملف السوري، لكنه وانسجامًا مع شعار «أمريكا أولًا» فقد تجاهل ترمب خلال شهوره الأربعة الأولى في الرئاسة الخوض في الملف السوري، مقتصرًا على التصعيد المضطرد ضد تنظيم الدولة، ومستسلمًا بذلك لواقعية أوباما السياسية التي عنت القبول ببقاء الأسد لغياب بديل مقنع، بحسب تصريحات مساعدي ترمب في وقت مبكر من تسلمه للرئاسة.
شجعت التطمينات المبكرة نظام الأسد على المقامرة واختبار جديتها، ولذلك وفي صباح الرابع من أبريل/نيسان للعام الماضي قصف النظام بلدة خان شيخون بغاز السارين السام، مخلفًا مئات القتلى والجرحى، ولتنتقل صور الضحايا من النساء والأطفال بغضون ساعات من صفحات النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي إلى وسائل الإعلام العالمية، مترافقة مع نداءات تطالبُ مجلس الأمن وعلى رأسه واشنطن بمعاقبة الأسد.
كان ما فعله الأسد وتلك النداءات الدولية كل ما احتاجه ترمب لتخفيف خناق الضجيج الإعلامي الذي رافق تحقيقات كومي، ليبدأ باستعراض عضلات إدارته داخل أعمدة الصحافة وشاشات الإعلام الأميركية الرئيسة، وإثبات أفضليته بالمقارنة مع إدارة أوباما «الضعيفة والمترددة» حيال نظام الأسد وداعميه، بحسب توصيف ترمب الشهير، وليناقض تمامًا بذلك نص ما سبق وأن قاله هو في صيف 2013 في دعوته أوباما لعدم ضرب سوريا.
تغريدتين لترمب تدعو أوباما في 2013 لعدم ضرب سوريا
لذلك، وفي خضم التصعيد الجماعي الأوروبي، واجتماع مجلس الأمن العاجل حيال الهجوم بعد يومين، وتلميحات "نيكي هالي" مندوبة واشنطن في الأمم المتحدة حول تدخل عسكري محتمل، بجانب صدور تقارير عاجلة لمنظمة الصحة العالمية حملت النظام السوري مسؤولية الهجوم، كانت فرصة ترمب للتمايز عن الخط الأحمر الذي اشتهر به أوباما قد أصبحت جاهزة للاقتناص وبشكل مباشر.
سرعان ما شنت القوات الأميركية هجومًا محدودًا على مطار شعيرات العسكري في حمص، وهي ضربة وُصفت بأنها رسالة سياسية حملت توقيع الصواريخ في حينها، وأصبحت الخبر الأول على الشاشة الفضية الأميركية، وغطّت الصفحات الأولى من الصحف المحلية، مقابل تحوّل أخبار تحقيقات كومي لعناوين من الدرجة الرابعة والخامسة، ناقلة ترمب المحلي إلى الظلّ الإعلامي الأميركي لفترة لا بأس بها، ومتناولة ترمب العالمي كرئيس واقع استخدم عضلاته العسكرية، تحول لم يلبث أن انتهى مع دخول شهر مايو/أيار من نفس العام، و دخول مستشار ترمب المقرب "فلين" ضمن نطاق التحقيقات، الأمر الذي دفع دونالد لمفاجأة خصومه ومؤيديه في الكونغرس بتحركات أكثر حسمًا، تمثلت بعزل كومي، وتعيين "كرستوفر أشير" الجمهوري المفضل لديه بديلًا عنه [8].
رمت الإقالة بالتحقيقات تقريبًا في مهب الريح، أو هكذا توقع هو على الأقلّ، لكنّ قرار وزارة العدل الأميركية تعيين "روبرت مولر" على رأس لجنة مستقلة بدد توقعات ترمب بقضاء صيف عامه الأول في الرئاسة بتوترات أقل، وخلال الفترة التي تلت تعيين مولر، بقي شبحُ كومي يلاحقُ ترمب لشهور، فبعد تسليم الأخير سجل محادثاته مع الرئيس الأميركي للجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، توعد كومي بتدوينها في كتاب يصدره لاحقًا، الأمر الذي استفزّ ترمب وقتها وأشعره بطعنة غادرة دفعته لتشويه كومي، واستنادًا على توجسه من اللجنة الجديدة ورغبته المتصاعدة في التخلص من إزعاج التحقيقات دفعة واحدة، قرر ترمب اختبار فكرة إقالة مولر، إلا أن الفكرة تبددت سريعًا بعد الضجيج الذي أثارته، وتهديد "دون ماكغان" أحد مستشاري ترمب المقربين بالرحيل عن البيت الأبيض حال تنفيذها[9].
في تلك الفترة، طفا على السطح أزمتان رئيستان، فبعد أن عاد ترمب من أول زيارة له للسعودية محمّلا بعقود تجارية بقيمة 460 مليار دولار، ومبشرًا بانتعاش اقتصادي ومئات آلاف الوظائف، ليحصل بعدها على ثلاثة أشهر وصفت بأنها الأقل توترًا في جبهته الداخلية منذ بداية العام، لم تلبث الأمور أن ازدادت سوءً مع إدخال الصلات التجارية بين ترمب وموسكو ضمن صلاحيات مولر في التحقيق.
بالتزامن مع ذلك، وكعادته في اتخاذ قرارات بغير مقدمات تسمحُ بتوقعها، أعلن ترمب نقل سفارة واشنطن من تل أبيب للقدس، وهو ما عُدَّ سابقة دبلوماسية وانقلابًا صريحًا على ميثاق الأمم المتحدة الذي يحتم أن تبقى تبعية القدس فيه مرهونة لاتفاق سلام شامل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهو تصريحٌ ألهب مشاعر المسلمين في أنحاء العالم، واستُتبعَ بأزمة عالمية دعت زعماء الاتحاد الأوروبي ودولًا عربية وإسلامية لإدانة القرار، الأمر الذي جعل ترمب يلتفُّ عليه، عبر تصريحات لمسؤولين في البيت الأبيض عن الحاجة لمدة تناهز ثلاث سنوات لبناء سفارة أميركية هناك، وذلك تبعًا لمعايير أشارت تحليلات لاحقة أن ترمب هندسَ افتراضها بإتقان، لتمنحه فرصة محبوكة للخروج بسلاسة من شِباك تصريحه السابق[10].
لم تقتصر حرب الأعصاب على التهديد بإنهاء اتفاق أممي فحسب، ولكنها امتدّت للمنجز الأخير الذي احتفى به سلفه أوباما عام 2015 متمثلًا بالاتفاق النووي الإيراني بوصفه صمام أمان لضبط برنامج طهران النووي، حيث استعرض ترمب للمرة الأولى بشكل جدّي احتمال إنهاء الاتفاق النووي، بالتوازي مع عقوبات استهدفت الحرس الثوري، واتهام إيران بـ «دعم الإرهاب والسعي لتهديد أمن العالم»، وهي اتهامات خلقت ردود أفعال أوروبية ودولية جماعية حذرت ترمب من مغبّة الانسحاب الفردي من اتفاقٍ دولي، فيما غابَ صوتُ موسكو عن تلك الدعوات، الأمر الذي فُسِّرَ بأنّها باتت تفهمُ لعبة من يوصف بـ «رجلها المفضل في البيت الأبيض»[11].
اللعبة
لطالما بدا ترمب كما لو أنه يتعاطى مع شؤون الحكم بأدوات الماضي التجاري الاستعراضي، فمن عملياته الاستعراضية خلال التوقيع على الاتفاقيات، إلى عقيدته في الانقلاب على اتفاقات راسخة دولية، حبس ترمب أنفاس العالم لدى تهديده باستخدام السلاح النووي ضد كوريا الشمالية، نهاية أسبوع حافل بتراشقات بدت صبيانية تمامًا مع "كيم جونغ أون" حول حجم الزر النووي الموجود على مكتب كلا الرجلين، في أول تصعيد نووي عالمي منذ الحرب الباردة، لتنحسرَ صورة التشنج على وسائل التواصل الاجتماعي عن ترتيبات ستجمعُ الرجلين في لقاء تاريخي قريبًا. أدرك الجميع فجأة أنهم أنهوا للتو استعراضًا قام به ترمب مستخدمًا للمرة الأولى النووي، في وقت خفتت فيه أخبار شديدة الأهمية كخضوع ذراعه الأيمن وصهره كُشنر لقبضة مولر وتحقيقه.
خلال الربع الأول من العام الجاري، وفي نفس الوقت الذي حاولت فيه كلٌ من بكين وسيول تسوية الخلاف التاريخي بين أميركا وكوريا الشمالية، فرض ترمب عقوبات هي الأقسى على نظام كوريا الشمالية منذ عام 2008، بالتوازي مع اهتزاز إدارته بثلاث فضائح بدأت مطلع العام واستمرت حتى يومنا هذا، فمن تحقيقات مولر التي كشفت عن الدور الذي لعبته الأموال الإماراتية في التأثير على البيت الأبيض لتأييد حصار قطر، إلى تقرير بثته القناة البريطانية الرابعة حول نشاطات شركة "كامبريدج أناليتكا" الإعلامية غير القانونية واستخدامها لبيانات عشرات الملايين من الناخبين الأميركيين، وهو تقرير لم يلبث أن جلب مساعدين جدد لترمب لقوائم الاتهام بعد انكشافِ خيوط وقوفهم خلف عملية التشويه التي قادتها أناليتيكا ضد كلينتون عام 2016، والتي ظهرت تفاصيلها في تقرير لاحق فكّك شبكة كامبريدج الطويلة والمعقدة، ووجد طريقه بعد ساعات لنيويورك تايمز، وصولًا للضربة الثالثة المتمثلة في وثائق مالية كشفت عنها مداهمة مولر لمكتب كوهين ومنزله قبل أيام كما أسلفنا، ولا تزالُ آثارها متصاعدة لليوم[12].
يعد ترمب اليوم حاضرًا بشخصيته الوصولية في البيت الأبيض أكثر من السياسية، فمواصلته تكرار نفس التكتيكات السابقة مع كل فضيحة داخلية جديدة دون يأس، يشيرُ لطغيان ماضيه التجاري الذي سبقَ وأن علّمه عدم اليأس مع أزماته وديونه المتثاقلة إلى أن وصل لمصافّ أثرياء أميركا. وإذا كان الأميركيون قد فهموا من زيارته مؤخرا لحدود المكسيك[13] لتفقد النماذج الأولية للجدار الحدودي، بعد شهور من إهماله نتيجة عرقلة الكونغرس لبنود كثيرة من قراره، على أنها محاولة لخلط الأوراق ثانية، بهدف التغطية على فضيحة المدفوعات المالية للممثلات الإباحيات، فإن هذا يعني أن احتمال حصوله على دورة ثانية في البيت الأبيض بعد عامين تهبطُ لأدنى مستوياتها، إن لم تتسع لتشمل فرص الحزب الجمهوري بأكمله في نيل أي شعبية بطول الولايات المتحدة وعرضها.
http://hrtd23w7-1875769549.eu-west-...ليلك-لاستخدام-أزمات-العالم-للتغطية-على-فضائحك
إذا كان هدف ترامب مجرد فقاعة فارغة جديدة فلا مرحبا به وفقاعاته السخيفة.
أتركم للموضوع ...
فقاعات ترمب.. دليلك لاستخدام أزمات العالم للتغطية على فضائحك
لم يكن "مايكل كوهين" معتادًا على الشعور بالقلق إزاء التعامل مع تعقيدات لجان التفتيش الأميركية، فشهادة المحاماة خاصته، وفندق الأطلسي الشهير الذي يملكه في فلوريدا، وشراكته في ملكية شركة "تاكسي فاوند كوري"، وصولًا لترشحّه لمنصب عمدة نيويورك عام 2003، وانتهاء بانتقاله للعمل كمحامٍ خاص للملياردير "دونالد ترمب" قبل أكثر من عقد، وحتى ما بعد تسلم الأخير لرئاسة أمريكا بداية العام الماضي 2017، كل ذلك جعل كوهين يختبر القانون الأميركي في مختلف مستوياته جيًدا، وعلّمه أن يرى الخطر القادم مبكرًا متخذًا احتياطاته الكاملة. خبراتٌ منحته شعورًا نسبيًا بالأمان إلى أن داهمت لجنة تفتيش رسمية مكتبه ومنزله وغرفة تتبع له في فندق "لويز ريجنسي" في مانهاتن بنيويورك، في 9 إبريل/نيسان 201، هادمة ذلك الشعور بشكل مفاجئ.
لم يكن كوهين أميركيًا عاديًا، فكونه محامٍ لرئيس الدولة منحه حصانة خاصة، لذا كان من الطبيعي ألا يسمح لهم في البداية بإجراء التفتيش، ولكن إذنا قضائيًا بختم "رود روزنشتاين" نائب وزير العدل الأميركي مكّن وحدة الفساد العامة بمانهاتن من إجرائه، ومصادرة هواتف كوهين المحمولة وحواسيبه وسجلات ترتبط بالأعمال التجارية الخاصة بترمب، في إطار تحقيقات "روبرت مولر"، المستشار الفيدرالي الخاص، ورئيس اللجنة المكلفة بالتحقيق في التدخل الروسي بالانتخابات الأميركية.
تغطية سي إن إن لتصريحات ترمب بفصل روبرت مولر ونائب المدعي العام
خلال التفتيش، علم كوهين أن الصلاحيات الممنوحة لـ "مولر" من الكونغرس قد مكّنته من الحصول على إذن "روزنشتاين" في ضم الأول لمسار تحقيق الثاني، وهو مسار توسع في الشهور الأخيرة ليشمل نشاطات ترمب التجارية، ليصبح ذلك الحدث بغضون ساعات الخبر الأول في الصحافة الأميركية.
سعى أمرُ التفتيش للتدقيق في علاقة كوهين برجال أعمال روس، وفي مبالغ مالية يُعتقدُ أن ترمب قام بدفعها عبر محاميه لممثلتي أفلام إباحية، ادعتا أن الرئيس الجديد أقام معهما علاقات جنسية عام 2006، كجزء من اتفاقية عدم الكشف عن المعلومات قبل أيام من الانتخابات الرئاسية عام 2016، وهو ما جعل تلك الدفعات تُعتبر بمثابة مساهمات غير قانونية للحملات الانتخابية كونها ساهمت بإخفاء القصص المضرة سياسيًا إن صحت، وساعدت ترمب في الوصول للبيت الأبيض.
في نفس توقيت المداهمة، كان ترمب في اجتماع على مستوى وزارتي الدفاع والخارجية وقيادات الصف الأول من الجيش الأميركي في البيت الأبيض لمناقشة الردّ المناسب على الهجوم الكيماوي الذي نفذه النظام السوري مستخدمًا غاز السارين السام في مدينة "دوما" السورية، ولدى تلقيه خبر مداهمة مكتب كوهين، وكعادته في استخدام موقع التواصل الاجتماعي "تويتر" كمنصة لردود أفعاله السياسية، نشر ترمب تغريدة هددت بعزل كل من مولر و"روزنشتاين" الراعي المباشر لملف التحقيقات [1].
(تغريدة دونالد ترمب - امتياز المحقق مولر مات)
أثار تصريح ترمب ضجة كبيرة في مجلس الشيوخ الأميركي لدى الجمهوريين وذوي الياقات الزرقاء على حدّ سواء، وصولًا لتحذير بعضهم للرئيس من تكرار "مذبحة السبت" التي لا تزال موصوفة بـ «وصمة عار» على جبين الديمقراطية الأميركية، وهو المصطلح المؤرخ لما قام به "ريتشارد نيكسون" الرئيس السابع والثلاثين لأمريكا، لدى فصله المدعي العام "آرشيبالد كوكس" بعد سلسلة من الفضائح التي لاحقت الأول، الأمر الذي أدى لعزل نيكسون لاحقًا، لتتصدر كلٌّ من تصريحات ترمب وردود الأفعال التي تبعتها العناوين الأولى على شاشات "سي إن إن" وغيرها، والصفحات الأولى على كل من "واشنطن بوست" و "التايمز" الأميركيتين[2].
بطريقته الاستعراضية التي علمته إياها تجربته التلفازية، وأسلوبٍه التشويقي الذي اكتسبه من خلفيته التجارية، انتقل ترمب وقتها من التهديد بفصل مولر وموكله ليتلاعب بأعصاب العالم عبر تويتر أيضًا، متحدثًا عن ضربة عسكرية قادمة ضد نظام الأسد، مجهولة التوقيت والمستوى، عقوبة على استخدامه السلاح الكيماوي، وفيما كانت الترتيبات جارية لتنفيذ الضربة عبر تحالف يجمع كلّا من بريطانيا وفرنسا بقيادة واشنطن، كانت روسيا قد استنفرت أسطولها على سواحل محافظة طرطوس السورية ومضاداتها الأرضية داخل قواعدها العسكرية بالداخل السوري، مهددة بإسقاط الصواريخ الأميركية على لسان سفيرها في لبنان " ألكسندر زاسيبكين"، الأمرُ الذي شجع ترمب على مواصلة العبث بأعصاب روسيا والنظام السوري ومعارضيه وسائر الدول الإقليمية، متحدثُا بجملته الشهيرة عن صواريخ «لطيفة وجديدة وذكية» قادمة دون تحديد نوعها، وداعيًا الروس لانتظار الرد الحاسم خلال 48 ساعة، والتوقف عن دعم «الحيوان»، اللقب الذي اختاره ترمب لبشار الأسد[3].
(التغطية الإخبارية لقناة سي إن إن الأميركية المتفاعلة مع تصريحات ترمب حول الضربة العسكرية)
بمرور ساعات على تغريدات ترمب، كانت امبراطوريات الإعلام الأميركي المرئي والمقروء تقوم بتغطية صحافية مكثفة لتفكيك ما يرمي إليه الرئيس، وتحليل حجم وأبعاد الضربة الأميركية المحتملة، وكان بالإمكان تمييز مقال على الصفحة الأولى من واشنطن بوست للمحلل العسكري الشهير "بول سون" بعنوان "ما الذي يعنيه ترمب بالصواريخ الذكية المتجهة إلى سوريا؟"[4]، بالتوازي مع افتتاحية مشابهة لنيويورك تايمز [5] بعنوان "ترمب يعد بضرب سوريا، ويحذر روسيا من دعم الأسد"، مع أخبار عن اتصالات بين واشنطن مع كل من أنقرة وبغداد والرياض.
وفيما كانت التحليلات العسكرية وقتها تحاولُ تفسير سبب تأخر الضربة العسكرية بعد تجاوز الفترة المحددة، أعاد تصريح مفاجئ لـ "ترمب" إلى الأذهان احتمال إنجازه صفقة سريعة مع موسكو، في استحضار لتجربة سلفه أوباما صيف عام 2013، وهي تجربة انتهت بتسليم جزء من ترسانة الأسد الكيماوية بوساطة روسية مقابل إيقاف الضربة الأميركية وقتها. حملت تغريدة مفاجئة لـ "ترمب" ما مفاده أنّ الضربة الأميركية من الممكن ألا تحدث أبدًا، داعيًا الجميع لشكر أمريكا على حربها ضد تنظيم الدولة "داعش"[6]، وتاركًا جميع الأطراف على صفيح ساخن من تخمينات وتحليلات محتملة استمرت حتى قيام التحالف الثلاثي بتنفيذ ضربة محدودة في الرابع عشر من أبريل/نيسان الجاري ضد قواعد عسكرية للنظام السوري.
في وقت كانت لجان التحقيق الفيدرالية والإعلام الأميركي يضيقون الخناق فيه على ترمب بتتبعهم لما يُكشف عنه، طُرحت تساؤلات حول التكتيك الذي سار عليه الملياردير الأميركي في حبس أنفاس الأميركيين وجذب أنظارهم للخارج، وهو تكتيك مستمر حتى يومنا هذا، وأمر فُسِّرَ على أنه تنفيس للضغط الداخلي الذي يعاني منه ترمب نتيجة التحقيقات التي تحاصره، وتتبع الإعلام المحلي لها، إلا أن أحدًا لم يمسك بالصورة كاملة بعد.
الحُلم
لم يكن التساؤل حيال التوقيت هو الوحيد ذي الأهمية، فـ "ترمب" ذي الخلفية القومية، والذي لطالما عبر عن إعجابه بـ "رونالد ريغان" الرئيس الأميركي السابق وشعاره الشهير «لنجعل أميركا عظيمة»، لم يُخفِ رغبته بتنصيب نفسه خلفًا له، وعبر عن ذلك مرارًا بتكراره لشعار «أميركا أولًا»، وهو شعارٌ يستدعي -في هذا الإطار- صب اهتمام إدارته على مشاكل الولايات المتحدة الداخلية وتجنيبها الاستنزاف في شؤون الدول الأخرى.
أوقعَ ذلك الأميركيين الذين حاولوا فهم استراتيجية ترمب الرئاسية في تناقض حاد، بعد الضربة العسكرية التي نفذها ضد نظام الأسد، والتي جاءت بعد أيام من تهديده بشن حرب نووية ضد كوريا الشمالية، في أكبر تصعيد نووي جرّت إليه الولايات المتحدة والعالم منذ الأزمة الكوبية الشهيرة، وهو تناقضٌ طرَح معه تساؤلات حول طريقة استثمار ترمب لملفات الولايات المتحدة المنسجمة مع دورها كأبٍ راعٍ للعالم، من وجهة النظر الأميركية، في تنفيس الضغط المترتب على مشاكله الداخلية، وبدايات استخدامه لهذه الطريقة.
عرفت الانتخابات الأميركية الحديث لأول مرة عن اشتباه لدور لعبه الجيش السيبراني الروسي في التأثير بنتائجها بعد أسابيع من نشر موقع ويكيليكس تسريبات لآلاف الوثائق من البريد الإلكتروني الخاص بالمرشحة الديمقراطية "هيلاري كلينتون" في يونيو/حزيران عام 2016، بعد أن ترك القراصنة ثغرات خلفهم مكنت محللي الهجمات السيبرانية في وكالة الاستخبارات الأميركية "سي آي إيه" من تتبعِ آثارهم واكتشاف وجودِ شعَرات من الفراء الروسي خلف الاختراق، وما إن نشرت الوكالة تقريرها حول مسؤولية الروس المحتملة في نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام، حتى شرع مكتب التحقيقات الفيدرالي برئاسة "جيمس كومي" بتكليف من الكونغرس الأميركي بالتحقيق في الدور الروسي وعلاقة ترمب بذلك، وهو أمر جلب بمرور الوقت مستشاري ترمب خلال حملته الانتخابية تحت مجهر التحقيق، واستتبعَ معه أحداثًا أخرى اشتبكت معها في التفاصيل والأطراف المتورطة.
تخبرنا الإحصائيات التي رُصدت بين عامي 2017 و الربع الأول من العام الجاري عن حجم الصدمة التي عاشتها الديمقراطية الأميركية بعد وصول ترمب لسدة البيت الأبيض، وما استتبعتها من توترات لاحقة، حيث أنه وبالتوازي مع تسليط إمبراطوريات الإعلام الأميركي الضوء على نتائج تحقيقات المكتب الفيدرالي ووكالة الاستخبارات المركزية بشكل متسلسل على طول تلك المدة، كان بإمكان الأميركيين وغيرهم تمييز ملامح الصراع الذي بدأ بين ترمب والمؤسسات التشريعية المؤثرة في القرار الأميركي، وكبرى وسائل الإعلام الرسمية كذلك، وهو صراعٌ تعلم ترمب بمرور الوقت أن أمثل طريقة لإدارته تكمنُ باستثمار الملفات المتأصلة في السياسة الخارجية لأميركا، على نحوٍ يخفّفُ ضغط جبهته الداخلية ويخلطُ أوراق خصومه ومؤيديه على حدّ سواء، بالتوازي مع تذكير الشعب الأميركي بين حين وآخر بمعدلات النمو الاقتصادي التي أحدثها.
كانت تلك ومازالت استراتيجية أصيلة لـ "ترمب" في إدارة صراعه، يرافقها الانتعاش الاقتصادي الذي شهدته أمريكا خلال رئاسته، خطّة منظمة بدا أن ترمب قد وعى جيدًا أنها الطريقة الوحيدة التي ستمكنه من دخول البيت الأبيض مجددًا خلال الانتخابات الرئاسية الجديدة عام 2020، وهي خطة بدأ المقامرة بها على الأرجح منذ أيامه الأولى في الرئاسة.
بالنسبة لـ "ترمب" كرئيس قادم من خلفية تجارية، فإن ذلك الخيط السميك بين السياسة والتجارة تلاشى مع أيامه الأولى في البيت الأبيض، وكما اعتاد على أن يصدم زبائنه بصفقاته التجارية في سوق العقارات، حملَ خطابُه الأول حزمة قرارات قاسية وصادمة في آنٍ معًا، في محاولة منه لتفكيك إرث سلفه أوباما وتفعيل رؤيته التي لطالما وعد بها في حملته الانتخابية، وباتَ بعضها يرسمُ ملامحه على الأرض بمرور الأسابيع الأولى.
فمن سحب الولايات المتحدة من برنامج النقاط التجارية، تعهد ترمب أيضًا بإعادة التفاوض بشأن اتفاق التجارة الحرة مع أمريكا الشمالية، مهددًا بالتخلي عنه ما لم تفِ كندا والمكسيك بشروطه، وطالبَ المكسيك في نفس الوقت بدفع تكلفة الجدار الحدودي الذي قرر بناءه على حدودها، كما أنذر الشركات الأميركية التي تنقل الوظائف للخارج بعقوبات اقتصادية، وانتقل للتنين الصيني ليهدده بفرض رسوم جمركية تصل لـ 45 % على صادراته، وصولًا لإعلانه تعليق الهجرة القانونية للعديد من البلدان الإسلامية، وفرض حظر مفتوح على اللاجئين السوريين، لتتصدرَ قراراتُه الصفحات الأولى من وسائل الإعلام المحلية والعالمية، ملهبًا حماس مؤيديه، وتاركًا العالم يبيتُ لياليه على صفيح ساخن.
من السطح، كانت الأمور تبدو كما لو أن ترمب هو الرجل الأكثر سطوة في العالم، ولكن التقارير التي صدرت قبل أربعة أسابيع من وكالة الاستخبارات المركزية حول علاقة روسيا بحملة ترمب الانتخابية جعلت ترمب يتعامل بروح أكثر برغماتية خلف الكواليس.
فبعد تسلم مكتب التحقيقات الفيدرالية برئاسة "كومي" إدارة التحقيق حول العلاقة بين روسيا وتسريب وثائق هيلاري كلينتون، بدأ مجهر التحقيق يقترب تدريجيًا من الأشخاص المقربين من الرئيس الأميركي، الأمرُ الذي دعا ترمب لمحاولة كسب كومي لصفه، بهدف تبديد سحابة التحقيق الروسي، وهو الأمر الذي رفضه كومي وزاد عليه بالإعلان عن أخذ التحقيق لمستويات أعلى ([7]). في تلك الفترة، وفي مطلع شهر أبريل/نيسان تحديدًا، ومع التهديد الذي حمله إصرار كومي، كانت الصحافة الأميركية والعالمية على موعد مع حدث أضخم سيشدُّ الانتباه لمكان آخر من العالم لعدة أسابيع.
أوراق أوباما
لم يكن ترمب راضيًا عن سياسة سلفه باراك أوباما بشقيها الداخلي والخارجي، وخصوصًا عن موقفها "البارد" تجاه الملف السوري، لكنه وانسجامًا مع شعار «أمريكا أولًا» فقد تجاهل ترمب خلال شهوره الأربعة الأولى في الرئاسة الخوض في الملف السوري، مقتصرًا على التصعيد المضطرد ضد تنظيم الدولة، ومستسلمًا بذلك لواقعية أوباما السياسية التي عنت القبول ببقاء الأسد لغياب بديل مقنع، بحسب تصريحات مساعدي ترمب في وقت مبكر من تسلمه للرئاسة.
شجعت التطمينات المبكرة نظام الأسد على المقامرة واختبار جديتها، ولذلك وفي صباح الرابع من أبريل/نيسان للعام الماضي قصف النظام بلدة خان شيخون بغاز السارين السام، مخلفًا مئات القتلى والجرحى، ولتنتقل صور الضحايا من النساء والأطفال بغضون ساعات من صفحات النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي إلى وسائل الإعلام العالمية، مترافقة مع نداءات تطالبُ مجلس الأمن وعلى رأسه واشنطن بمعاقبة الأسد.
كان ما فعله الأسد وتلك النداءات الدولية كل ما احتاجه ترمب لتخفيف خناق الضجيج الإعلامي الذي رافق تحقيقات كومي، ليبدأ باستعراض عضلات إدارته داخل أعمدة الصحافة وشاشات الإعلام الأميركية الرئيسة، وإثبات أفضليته بالمقارنة مع إدارة أوباما «الضعيفة والمترددة» حيال نظام الأسد وداعميه، بحسب توصيف ترمب الشهير، وليناقض تمامًا بذلك نص ما سبق وأن قاله هو في صيف 2013 في دعوته أوباما لعدم ضرب سوريا.
تغريدتين لترمب تدعو أوباما في 2013 لعدم ضرب سوريا
لذلك، وفي خضم التصعيد الجماعي الأوروبي، واجتماع مجلس الأمن العاجل حيال الهجوم بعد يومين، وتلميحات "نيكي هالي" مندوبة واشنطن في الأمم المتحدة حول تدخل عسكري محتمل، بجانب صدور تقارير عاجلة لمنظمة الصحة العالمية حملت النظام السوري مسؤولية الهجوم، كانت فرصة ترمب للتمايز عن الخط الأحمر الذي اشتهر به أوباما قد أصبحت جاهزة للاقتناص وبشكل مباشر.
سرعان ما شنت القوات الأميركية هجومًا محدودًا على مطار شعيرات العسكري في حمص، وهي ضربة وُصفت بأنها رسالة سياسية حملت توقيع الصواريخ في حينها، وأصبحت الخبر الأول على الشاشة الفضية الأميركية، وغطّت الصفحات الأولى من الصحف المحلية، مقابل تحوّل أخبار تحقيقات كومي لعناوين من الدرجة الرابعة والخامسة، ناقلة ترمب المحلي إلى الظلّ الإعلامي الأميركي لفترة لا بأس بها، ومتناولة ترمب العالمي كرئيس واقع استخدم عضلاته العسكرية، تحول لم يلبث أن انتهى مع دخول شهر مايو/أيار من نفس العام، و دخول مستشار ترمب المقرب "فلين" ضمن نطاق التحقيقات، الأمر الذي دفع دونالد لمفاجأة خصومه ومؤيديه في الكونغرس بتحركات أكثر حسمًا، تمثلت بعزل كومي، وتعيين "كرستوفر أشير" الجمهوري المفضل لديه بديلًا عنه [8].
رمت الإقالة بالتحقيقات تقريبًا في مهب الريح، أو هكذا توقع هو على الأقلّ، لكنّ قرار وزارة العدل الأميركية تعيين "روبرت مولر" على رأس لجنة مستقلة بدد توقعات ترمب بقضاء صيف عامه الأول في الرئاسة بتوترات أقل، وخلال الفترة التي تلت تعيين مولر، بقي شبحُ كومي يلاحقُ ترمب لشهور، فبعد تسليم الأخير سجل محادثاته مع الرئيس الأميركي للجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، توعد كومي بتدوينها في كتاب يصدره لاحقًا، الأمر الذي استفزّ ترمب وقتها وأشعره بطعنة غادرة دفعته لتشويه كومي، واستنادًا على توجسه من اللجنة الجديدة ورغبته المتصاعدة في التخلص من إزعاج التحقيقات دفعة واحدة، قرر ترمب اختبار فكرة إقالة مولر، إلا أن الفكرة تبددت سريعًا بعد الضجيج الذي أثارته، وتهديد "دون ماكغان" أحد مستشاري ترمب المقربين بالرحيل عن البيت الأبيض حال تنفيذها[9].
في تلك الفترة، طفا على السطح أزمتان رئيستان، فبعد أن عاد ترمب من أول زيارة له للسعودية محمّلا بعقود تجارية بقيمة 460 مليار دولار، ومبشرًا بانتعاش اقتصادي ومئات آلاف الوظائف، ليحصل بعدها على ثلاثة أشهر وصفت بأنها الأقل توترًا في جبهته الداخلية منذ بداية العام، لم تلبث الأمور أن ازدادت سوءً مع إدخال الصلات التجارية بين ترمب وموسكو ضمن صلاحيات مولر في التحقيق.
بالتزامن مع ذلك، وكعادته في اتخاذ قرارات بغير مقدمات تسمحُ بتوقعها، أعلن ترمب نقل سفارة واشنطن من تل أبيب للقدس، وهو ما عُدَّ سابقة دبلوماسية وانقلابًا صريحًا على ميثاق الأمم المتحدة الذي يحتم أن تبقى تبعية القدس فيه مرهونة لاتفاق سلام شامل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهو تصريحٌ ألهب مشاعر المسلمين في أنحاء العالم، واستُتبعَ بأزمة عالمية دعت زعماء الاتحاد الأوروبي ودولًا عربية وإسلامية لإدانة القرار، الأمر الذي جعل ترمب يلتفُّ عليه، عبر تصريحات لمسؤولين في البيت الأبيض عن الحاجة لمدة تناهز ثلاث سنوات لبناء سفارة أميركية هناك، وذلك تبعًا لمعايير أشارت تحليلات لاحقة أن ترمب هندسَ افتراضها بإتقان، لتمنحه فرصة محبوكة للخروج بسلاسة من شِباك تصريحه السابق[10].
لم تقتصر حرب الأعصاب على التهديد بإنهاء اتفاق أممي فحسب، ولكنها امتدّت للمنجز الأخير الذي احتفى به سلفه أوباما عام 2015 متمثلًا بالاتفاق النووي الإيراني بوصفه صمام أمان لضبط برنامج طهران النووي، حيث استعرض ترمب للمرة الأولى بشكل جدّي احتمال إنهاء الاتفاق النووي، بالتوازي مع عقوبات استهدفت الحرس الثوري، واتهام إيران بـ «دعم الإرهاب والسعي لتهديد أمن العالم»، وهي اتهامات خلقت ردود أفعال أوروبية ودولية جماعية حذرت ترمب من مغبّة الانسحاب الفردي من اتفاقٍ دولي، فيما غابَ صوتُ موسكو عن تلك الدعوات، الأمر الذي فُسِّرَ بأنّها باتت تفهمُ لعبة من يوصف بـ «رجلها المفضل في البيت الأبيض»[11].
اللعبة
لطالما بدا ترمب كما لو أنه يتعاطى مع شؤون الحكم بأدوات الماضي التجاري الاستعراضي، فمن عملياته الاستعراضية خلال التوقيع على الاتفاقيات، إلى عقيدته في الانقلاب على اتفاقات راسخة دولية، حبس ترمب أنفاس العالم لدى تهديده باستخدام السلاح النووي ضد كوريا الشمالية، نهاية أسبوع حافل بتراشقات بدت صبيانية تمامًا مع "كيم جونغ أون" حول حجم الزر النووي الموجود على مكتب كلا الرجلين، في أول تصعيد نووي عالمي منذ الحرب الباردة، لتنحسرَ صورة التشنج على وسائل التواصل الاجتماعي عن ترتيبات ستجمعُ الرجلين في لقاء تاريخي قريبًا. أدرك الجميع فجأة أنهم أنهوا للتو استعراضًا قام به ترمب مستخدمًا للمرة الأولى النووي، في وقت خفتت فيه أخبار شديدة الأهمية كخضوع ذراعه الأيمن وصهره كُشنر لقبضة مولر وتحقيقه.
خلال الربع الأول من العام الجاري، وفي نفس الوقت الذي حاولت فيه كلٌ من بكين وسيول تسوية الخلاف التاريخي بين أميركا وكوريا الشمالية، فرض ترمب عقوبات هي الأقسى على نظام كوريا الشمالية منذ عام 2008، بالتوازي مع اهتزاز إدارته بثلاث فضائح بدأت مطلع العام واستمرت حتى يومنا هذا، فمن تحقيقات مولر التي كشفت عن الدور الذي لعبته الأموال الإماراتية في التأثير على البيت الأبيض لتأييد حصار قطر، إلى تقرير بثته القناة البريطانية الرابعة حول نشاطات شركة "كامبريدج أناليتكا" الإعلامية غير القانونية واستخدامها لبيانات عشرات الملايين من الناخبين الأميركيين، وهو تقرير لم يلبث أن جلب مساعدين جدد لترمب لقوائم الاتهام بعد انكشافِ خيوط وقوفهم خلف عملية التشويه التي قادتها أناليتيكا ضد كلينتون عام 2016، والتي ظهرت تفاصيلها في تقرير لاحق فكّك شبكة كامبريدج الطويلة والمعقدة، ووجد طريقه بعد ساعات لنيويورك تايمز، وصولًا للضربة الثالثة المتمثلة في وثائق مالية كشفت عنها مداهمة مولر لمكتب كوهين ومنزله قبل أيام كما أسلفنا، ولا تزالُ آثارها متصاعدة لليوم[12].
يعد ترمب اليوم حاضرًا بشخصيته الوصولية في البيت الأبيض أكثر من السياسية، فمواصلته تكرار نفس التكتيكات السابقة مع كل فضيحة داخلية جديدة دون يأس، يشيرُ لطغيان ماضيه التجاري الذي سبقَ وأن علّمه عدم اليأس مع أزماته وديونه المتثاقلة إلى أن وصل لمصافّ أثرياء أميركا. وإذا كان الأميركيون قد فهموا من زيارته مؤخرا لحدود المكسيك[13] لتفقد النماذج الأولية للجدار الحدودي، بعد شهور من إهماله نتيجة عرقلة الكونغرس لبنود كثيرة من قراره، على أنها محاولة لخلط الأوراق ثانية، بهدف التغطية على فضيحة المدفوعات المالية للممثلات الإباحيات، فإن هذا يعني أن احتمال حصوله على دورة ثانية في البيت الأبيض بعد عامين تهبطُ لأدنى مستوياتها، إن لم تتسع لتشمل فرص الحزب الجمهوري بأكمله في نيل أي شعبية بطول الولايات المتحدة وعرضها.
http://hrtd23w7-1875769549.eu-west-...ليلك-لاستخدام-أزمات-العالم-للتغطية-على-فضائحك