أعظم 5 معارك بحرية على مر العصور
|
الصراع من أجل المياه أو لمجرد السيطرة على موارد الطاقة وتحقيق المجد، مفهوم قديم عاش عليه البشر منذ قديم الأزل كعامل رئيسي نشب بسببه العديد من الحروب الإنسانية. فاستخدمت العديد من أنواع السفن الحربية كوسيلة لمحاربة العدو، من سفن قديمة مصنوعة من الخشب إلى السفن الحربية الضخمة المصنوعة من الحديد في العصور التي سبقت حاملات الطائرات، حتى وصلت في يومنا هذا إلى أحجام أقل بكثير ولكن تعد إخطار مما قبلها مثل الطوافات والمدمرات.
لكن ماذا لو أردنا حصر تاريخ الحروب البحرية، لمعرفة أكبر وأهم المعارك البحرية على مر التاريخ؟، و ما أهم المعارك الحربية أيضًا، إن أردنا أن نكون أكثر تحديدًا؟، فلقد عدنا بعد مطالب عديدة، لنقدم لكم مقالتين من أشهر مقالاتنا التي جمعناهما في مقال واحد، بكتابة كل من جيمس هولمز وروبيرت فارلي، لتستمتعوا بقرائتها.
ما السفن التي حققت النصر في النهاية؟، والمراكب التي غرقت في أعماق المحيط؟، وما المعارك البحرية التي استحوذت على اسم أشهر معركة بحرية تاريخية؟ لتبدأ المناقشة!
***
كانت ومازالت أوجه تصنيف المعارك وفقًا لأهميتها محل جدل عنيف بين المؤرخين منذ أن وُجِدَ المؤرخين العسكريين، حيث استطاع كريسي في كتابة 15 معركة عالمية كلاسيكية حاسمة 1851، وضع أساسيات معايير هذه النوعية. ولكن ما يحدد شدة حسم المعركة عن غيره؟، وماذا يحدد أهمية مناورة عسكرية عن الأخرى؟.
وتَرك مثل هذه المصطلحات بتعريف غير دقيق، يفتح المجال أمام العديد مثل آخر كتالوج أخبار الولايات المتحدة عن المعارك الحاسمة فى أثناء الحرب الأهلية الأمريكية، حيث ذُكِرَ 45 اشتباكا حاسما خلال 4 أعوام من الصراعات وفقًا لكمية الأخبار الأمريكية المهولة.
لذلك، يجب أن يُعرف المصطلح ليكون أقل عجرفة عما هو عليه الآن ليعطي معنىً أقوى، فلو أننا وصفنا كل معركة بكونها حاسمة، فلن يكون هناك أي معركة محيرة أو فاشلة، وبسبب هذه المعضلة وحدها، دائمًا ما أسأل طلابي إذا كانت بعض المعارك الأسطورية، معركة طرف الغار أو معركة مضيق تسوشيما، حاسمة أم مجرد معارك ذات أحداث درامية فقط، أم كونهم معارك لمع بسببهم نجم نيلسون وتوجو.
وعلى ما يبدو، حتى رائدي الاستراتيجيات مُترددين حول ما سيتحق توصيفه بالانتصار الحاسم، عمل كارل فون كلاوزفيتز على توفير تعريف محدد واصفًا الاشتباك الحاسم بالمعركة التي تؤدي إلى تحقيق السلام المباشرةً، وهو ما يشير إلى حدث لا يحمل في طياته مغزى تكتيكي فقط، لكن يحمل أيضًا مغزى استراتيجي وسياسي، ومثل هذه المواجهات تُجبر الطرف المهزوم على قبول شروط الطرف المنتصر الموضوعة على طاولة التفاوض، سواء كان الهدف من المفاوضات هو أنه أصبح غير قادر على استمرارية المعركة، أو يرى أن لديه فرصة ضئيلة للغاية لقلب الطاولة والانتصار على عدوه، أو قدّرَ أنه لن يستطيع الانتصار على عدوه بتاتًا، فوفقًا لهذا التعريف المُوسّع تعتبر المعركة الحاسمة هي العامل المحدد من قبل نتائج الحرب نفسها.
حتى الآن كل ما ذكرناه واضح وجيد، لكن ما المقياس المحدد “للسلام المباشر” لكي توصَف المعركة بالحاسمة؟، هل يجب أن تتم مفاوضات السلام بعد تصادم الأسلحة فورًا فتُعَجّل منها؟، وهل من الممكن أن يتم التوصل إلى اتفاق ما بعد أسابيع أو شهور إن وضحت أسباب ونتائج هذه العلاقات؟، فهل هناك أفق زمني محدد؟.
ويبقى كارل العظيم صامتًا عند مثل هذه التساؤلات، ومن الممكن أن يكون متساهلا جدًا في تحديدهم، ولكن أعتقد أن المعارك قد تكون حاسمة بينما تحقق أهدافًا أكثر اعتدالًا من الانتصار الصريح والمباشر في الحرب، ولكي تحدد ذلك، فسّر الكلمة حرفيًا: هي أمر ما حاسم يحسم شيء آخر. “ولأكون صريحًا، ربما كانت هذه هي الطريقة التي أدت الى إضطراب وسائل الإعلام الأمريكية، فيقرر كل فعل شيء ما وفقًا لمعايير تكتيكية، مهما كان أمرًا دنيوي أو لا يحمل أي صلة واضحة به، فما هو إلا تحديد لمن يتحكم في أرض المعركة في نهاية اليوم أو يكشف عن وصول القتال إلى طريق مسدود. مع العلم أن كل ذلك يصف جزءا بسيطًا من المعنى الأعظم للحسم إن وجد),
وتتسبب بعد التصادمات المسلحة في نتائج حاسمة بمعدلات مختلفة للحروب، فهل من الممكن أن يحدد لقاء تكتيكي ما تؤول إليه الحملة أو مصير ساحة القتال من دون أن يؤدي إلى السلام؟. بإختصار، من الحكمة أن نعرّف النصر الحاسم بمنظور أكثر شمولا (ثلاثي الأبعاد) من وجهة نظر كلاوسفيتز، فهي بمثابة مناورة ما بالأسلحة التي تسمح لأحد الأطراف المتناحرين ليحقق هدف ما، سواء كان إيجابيا أو سلبيا، بعيدًا عن النتائج التكتيكية، وبالطبع الانتصار في الحرب دائمًا ما يؤهل تسمية الطرف المنتصر بالحاسم، ولكن نظرة المؤرخين الواسعة لمجريات الأمور ستمكنهم دائمًا من تقييم معركة طرف الغار بالمعركة الحاسمة.
ففي عام 1805، استطاعت معركة طرف الغار تحقيق السلام التام، بشق الأنفس، مع فرنسا التي كان يحكمها نابليون آن ذاك، وهو أمر تحقق بعد عقد آخر من المعارك المُروعة، لكنها نجحت في تحديد قدرة فرنسا على غزو الجزر البريطانية وتدمير الخطر البحري على سيادة فرنسا عن طريق الغزو البرمائي.
فكان لبطولة كل من نيلسون وكولينوود، بمساندة البحارة المصاحبين لهم، السبب الرئيسي لتحديد نتائج خطة نابليون بينما شجعوا بريطانيا العظمى على المثابرة والاستمرار في نضالها ضد نابليون، فبالتالي استطاعت معركة طرف الغار، بطريقة مباشرة، عن منع جحافل فرنسا من غزو بريطانيا والتسبب في تحقيق الآثار السلبية التي كان من الممكن أن تنتج عنها، يجب أن يتأهل مثل هذا النصر كمعركة حاسمة وفقًا لمسيارة الأحداث.
وبالحديث عن المواجهات بين السفن، لم يذكر كلاوتزفيتز أي شيء عن المواجهات الملاحية، فقلما يذكر المياه في كتاباته، وبنهاية القرن، شكك المؤرخ سير جوليان كوربيت، أحد أعظم الخبراء في مجال نظريات القوة البحرية، في حسم المعارك البحرية من الأصل لمجريات الأمور، ما عدا فيما قد يخص الإرهاق التدريجي للعدو، فسير جوليان كوربيت يوضح أن الحصار البحري، سواء عن قريب أو بعيد لا يؤذي العدو فقط، لكنه يؤذي الحلفاء وأعمال الشعب التجارية المعتمدة على تجارة السلع المنقولة بحريًا مسببًا خسائر فادحة لجميع الأطراف.
وبالتالي يبدوا كوربيت، مثله مثل كلاوسفيتز، مشككًا في في حسم الاشتباكات الفردية، بالطبع يجب وأن تستغل الدول المطلة على البحر لحالتها بالهيمنة البحرية كعائق يمنع غزوها وأي اعتدائات مباشرة أخرى على أرضهم، فهذا هو ما تمثله معركة طرف الغار، لكن على الرغم من ذلك يكمن سر الاستراتيجية البحرية في فن تحديد الصلة المناسبة بين الجيش البري والأسطول البحري، ثم مزجهم معًا لتكوين خطة حرب متجانسة، ففي نهاية المطاف، هدف الحرب هو حماية مصالح البلد على البر، فهو المكان الذي يعيش عليه الناس، ولكن يكمن السؤال هنا في كيفية تقييم اشتباك بين طرفين؛ يقتصر قوة الطرف الأول على العناصر البحرية مقابل جيش كامل يتكون من مزيجٌ بريٌ وبحري؟.
يا له من سؤال صعب!، لذلك هناك الكثير من الجوانب الداعية للتأمل في إجابة السؤال البسيط؛ كيف تحدد المعركة الحاسمة في هذا الموقف؟، لكي نستطيع التقييم بين مواجهتين بحريتين، يجب أن نحدد نظام تسلسلي معين لتحديد مستويات عديدة من الحسم. مع العلم أن معايير نظريتنا لا تشمل، أساليب تحفيذ الجنود، فن التكتيك، التكنولوجيات الحديثة غير المعروفة ولا النتائج المترتبة على الأساليب غير المتوازنة، كل هذه العوامل التي أرفض وضعها في معايير نظرية الحسم هي الأسباب الرئيسية لرفضي اعتبار معركة مضيق تسوشيما، التي خلّفت حطام أسطول البلطيق الروسي المتناثر في البحر الأصفر في عام 1905، جزء من قائمة المعارك الحاسمة الخاصة بي.
وتتربع على قمة القائمة الخاصة بي، الاشتباكات البحرية التي ساهمت في تحديد مصير العديد من الحضارات والإمبراطوريات والدول الكبرى، فمن وجهة نظري هذا هو المقياس الأول للحسم، ثم يتبعه المواجهات التي استطاعت تغيير مجريات الأحداث ذات أهمية تاريخية للعالم كله، فهي تحدد نهاية اللعبة حتى، وإن مرّ وقت طويل بين المعركة ومفاوضات السلام التي ساعدت على التغيير، فلا يعني “المباشر” بالضرورة السرعة في الأداء.
وبذلك، أصبح لدينا تسلسل هرمي تقريبي للمعارك البحرية، فكلما أصبحت تداعيات المعركة أكثر مصيرية وصمود، كلما ارتقى مقامها في قائمة أشرس المعارك البحرية. فما هي إلا طريقة غير مباشرة للوصول إلى أعظم 5 معارك بحرية في تاريخ العالم، ستجدها بالترتيب التالي بدأ بأقلها أهمية حتى الأكثر أهمية:
1- معركة ليبانت (عام 1571)
نشبت معركة ليبانتو من انتشار السلطة العثمانية على غرب البحر المتوسط، بعد فرض العديد من العقوبات الباباوية، وحشدت الرابطة المقدسة، وهي مجموعة من الدول الملاحية البحرية الكاثوليكية، أسطولٌ بحري لمواجهة الأسطول العثماني الرئيسي في خليج كورينيث قبالة السواحل الغربية اليونانية. فكانت معركة ليبانت آخر أكبر الاشتباكات المتوحدة في البحر الأبيض المتوسط، حيث قامت الرابطة باستثمار كل مميزاتها في المدفعيات وأنواع السفن العديدة، وخاصة السفن الحربية والمخازن الضخمة المحملة بالأسلحة الثقيلة، ضد الأسطول التركي. خسر العثمانيين الكثير من سفنهم في هذه المعركة بسبب هجمات العدو بالإضافة إلى خسارتهم للعديد من طاقم السفينة ذي الخبرة العالية. واستطاع بعد ذلك نجاري السفن بناء هياكل جديدة سمحت للأتراك بفرض سيطرتها وقوتها على شرق البحر الأبيض المتوسط لفترة من الزمن ولكن تركيا انهزمت في 1580 على الرغم من ذلك تاركًا سفنها الجديدة لتتعفن في المراسي. فبذلك أكدت الحروب الأوروبية المؤمنة بالمخازن الضخمة العامرة بالأسلحة دائمًا سيطرتها على البحر المتوسط منتصرة على العثمانيين. لذلك اعتبر هذه نتيجة حاسمة بشتى الطرق.
2- معركة يامن (1279)
تلقب في بعض الأحيان بمعركة “طرف الغار الصينية”. وتدور أحداث هذه المعركة بين أسرة يوان المنغولية وبين سونج الجنوبية المُحاصرة لتحديد أحقية أحدهم في حكم الصين، حيث استمرت هذه المعركة لقرابة قرن من الزمان. وكانت هذه المعركة حاسمة أكثر من المعركة التي شارك فيها هوراشيو نيلسون، معركة طرف الغار. وشاركت ألف سفينة حربية محملة بعشرات الآلاف من الرجال الذين شاركوا في الاشتباكات. طبق قادة ياون العسكريين خطط مخادعة وجريئة في محاولة للتغلب على عُشر أعداد العدو غير المتطابقة في الأرقام معهم. والأهم من كل ذلك، ساهم قتل يامن للإمبراطور سونغ تمهيد الطريق لاستيلاء أسرة قبلاي خان على مقاليد حكم المملكة الأسيوية الوسطى. فتسببت هذه المعركة في حدوث تغيرات قوية في آسيا للعديد من العقود التالية للمعركة.
3- معركة الكرادلة (1759)
سمي هذا العام بعام المعجزات لبريطانيا العظمى. حيث استطاعت كل من العمليات البحرية والبرية في تحديد الأنسب من بريطانيا أم فرنسا للانتصار والسيطرة على قارة أمريكا الشمالية. حيث استطاعت القوات البريطانية تحت قيادة وولف في كبح دفاعات مونتكالم في مدينتي كيوبيك ومنتريال، خاتمًا بذلك مصير الانتشار الفرنسي الجديد. وبذلك استطاعت القوات البريطانية السيطرة على قارة أمريكا الشمالية لتصبح الجسر الذي عبر عليه الأمريكيين مؤسسي الولايات المتحدة الأمريكية، مُغيرةً بذلك قدَر قارة كاملة بتحديد نمط سياسي لأمريكا الشمالية استمر حتى وقتنا الحالي.
4- الأرمادا الأسبانية (1588)
تمت هذه المعركة بمشاركة أسطول الدوق مادينا سيدونيا الذي لا يُقهر بعذ أن أمره فيليب الثاني، ملك إسبانيا آن ذاك، بعبور القناة ودخول إنجلترا للإطاحة بملكة إنجلترا، إليزابيث الأولى. وبتطبيق نظام جديد، نجحت القوات الاستكشافية في إنهاء المساعدات الإنجليزية للثورة الهولندية التي طالما أرقت هولندا الأسبانية وللقضاء أيضًا على قرصنة الإنجليز على السفن الأسبانية. استطاع ميدينا سيديونا دخول الجزر البريطانية عن طريق شروط كريهة ليصل إلى موانئها. ولو أن نجاح معركة أرمادا استبدل البروتستانتينية في إنجلترا بملك كاثوليكي، لربما لم تؤسس إمبراطورية بريطانيا العظمى أو لم تكن لتوجد في شكلها الحالي، وبالتلي هل كان سيتشكل تاريخ المحيط الأطلنطي والمحيط الهادئ والهندي كما هو قائم الآن؟، لذلك تعتبر معركة أرمادا معركة حاسمة بشتى الطرق.
5- معركة سالاميس (480 قبل الميلاد)
كانت معركة سالاميس جزء من حملة مشتركة شملت معركة أرتيميسيام البحرية ومعركة تروموبيل البرّية. حيث استطاع ثيمستوكليس، مؤسس الأسطول البحري الأثيني، قيادة أسطول ضخم مع حلفائة ضد ملك أرمادا الفارسية هادفً إلى السيطرة على قارة أوروبا كلها بمنع قوات الفارسية الحربية من التواصل مع قواتها البرية في اليونان. حيث أدت فن الخطط التكتيكية هنا في هذه المعركة إلى انتصار جميع الحلفاء على الأعدا الفارسية المهولة. فلولا جرأة سبارتا وأثينا البحرية والبرية لربما أدى ذلك إلى قتل الملك زركسيس لمهد الحضارة الأوروبية الغربية، وبذلك أرى أن هذه المعركة هي أعظم المعارك البحرية الحاسمة في تاريخ العالم.
وبالطبع لا أحتاج ذكر مدى صعوبة كتابة مثل هذه القائمة، كان هناك العديد من المرشحين الذين لم يصلوا الى هذه القائمة في نهاية الأمر مثل: معركة بحيرة بويانغ (1363)، معركة فرجينيا (1781) بجيش اللورد كورنوارس، المحكوم عليه بالفشل في يورك تاون والذي أدى إلى استقلال أمريكا عن الحكم البريطاني. بالإضافة إلى المعارك البحرية في حملة جوادالكنال (1942-1943) التي غيرت تيار الحرب في المحيط الهادئ، بينما كانت معركة بحر الفلبين (1944) للأسطول الياباني ممهدة بذلك الطريق لآخر أكبر الاشتباكات البحرية في التاريخ.
ولكن لا يُقارن أي من هؤلاء بعظمة الخمسة الأوائل المُختارين لما يحملونه من أهمية تاريخية عالمية، واستطاعوا تغيير مجريات الأحداث في العالم فلولاهم ما وصلنا إلا ما نحن عليه الآن.
|
الصراع من أجل المياه أو لمجرد السيطرة على موارد الطاقة وتحقيق المجد، مفهوم قديم عاش عليه البشر منذ قديم الأزل كعامل رئيسي نشب بسببه العديد من الحروب الإنسانية. فاستخدمت العديد من أنواع السفن الحربية كوسيلة لمحاربة العدو، من سفن قديمة مصنوعة من الخشب إلى السفن الحربية الضخمة المصنوعة من الحديد في العصور التي سبقت حاملات الطائرات، حتى وصلت في يومنا هذا إلى أحجام أقل بكثير ولكن تعد إخطار مما قبلها مثل الطوافات والمدمرات.
لكن ماذا لو أردنا حصر تاريخ الحروب البحرية، لمعرفة أكبر وأهم المعارك البحرية على مر التاريخ؟، و ما أهم المعارك الحربية أيضًا، إن أردنا أن نكون أكثر تحديدًا؟، فلقد عدنا بعد مطالب عديدة، لنقدم لكم مقالتين من أشهر مقالاتنا التي جمعناهما في مقال واحد، بكتابة كل من جيمس هولمز وروبيرت فارلي، لتستمتعوا بقرائتها.
ما السفن التي حققت النصر في النهاية؟، والمراكب التي غرقت في أعماق المحيط؟، وما المعارك البحرية التي استحوذت على اسم أشهر معركة بحرية تاريخية؟ لتبدأ المناقشة!
***
كانت ومازالت أوجه تصنيف المعارك وفقًا لأهميتها محل جدل عنيف بين المؤرخين منذ أن وُجِدَ المؤرخين العسكريين، حيث استطاع كريسي في كتابة 15 معركة عالمية كلاسيكية حاسمة 1851، وضع أساسيات معايير هذه النوعية. ولكن ما يحدد شدة حسم المعركة عن غيره؟، وماذا يحدد أهمية مناورة عسكرية عن الأخرى؟.
وتَرك مثل هذه المصطلحات بتعريف غير دقيق، يفتح المجال أمام العديد مثل آخر كتالوج أخبار الولايات المتحدة عن المعارك الحاسمة فى أثناء الحرب الأهلية الأمريكية، حيث ذُكِرَ 45 اشتباكا حاسما خلال 4 أعوام من الصراعات وفقًا لكمية الأخبار الأمريكية المهولة.
لذلك، يجب أن يُعرف المصطلح ليكون أقل عجرفة عما هو عليه الآن ليعطي معنىً أقوى، فلو أننا وصفنا كل معركة بكونها حاسمة، فلن يكون هناك أي معركة محيرة أو فاشلة، وبسبب هذه المعضلة وحدها، دائمًا ما أسأل طلابي إذا كانت بعض المعارك الأسطورية، معركة طرف الغار أو معركة مضيق تسوشيما، حاسمة أم مجرد معارك ذات أحداث درامية فقط، أم كونهم معارك لمع بسببهم نجم نيلسون وتوجو.
وعلى ما يبدو، حتى رائدي الاستراتيجيات مُترددين حول ما سيتحق توصيفه بالانتصار الحاسم، عمل كارل فون كلاوزفيتز على توفير تعريف محدد واصفًا الاشتباك الحاسم بالمعركة التي تؤدي إلى تحقيق السلام المباشرةً، وهو ما يشير إلى حدث لا يحمل في طياته مغزى تكتيكي فقط، لكن يحمل أيضًا مغزى استراتيجي وسياسي، ومثل هذه المواجهات تُجبر الطرف المهزوم على قبول شروط الطرف المنتصر الموضوعة على طاولة التفاوض، سواء كان الهدف من المفاوضات هو أنه أصبح غير قادر على استمرارية المعركة، أو يرى أن لديه فرصة ضئيلة للغاية لقلب الطاولة والانتصار على عدوه، أو قدّرَ أنه لن يستطيع الانتصار على عدوه بتاتًا، فوفقًا لهذا التعريف المُوسّع تعتبر المعركة الحاسمة هي العامل المحدد من قبل نتائج الحرب نفسها.
حتى الآن كل ما ذكرناه واضح وجيد، لكن ما المقياس المحدد “للسلام المباشر” لكي توصَف المعركة بالحاسمة؟، هل يجب أن تتم مفاوضات السلام بعد تصادم الأسلحة فورًا فتُعَجّل منها؟، وهل من الممكن أن يتم التوصل إلى اتفاق ما بعد أسابيع أو شهور إن وضحت أسباب ونتائج هذه العلاقات؟، فهل هناك أفق زمني محدد؟.
ويبقى كارل العظيم صامتًا عند مثل هذه التساؤلات، ومن الممكن أن يكون متساهلا جدًا في تحديدهم، ولكن أعتقد أن المعارك قد تكون حاسمة بينما تحقق أهدافًا أكثر اعتدالًا من الانتصار الصريح والمباشر في الحرب، ولكي تحدد ذلك، فسّر الكلمة حرفيًا: هي أمر ما حاسم يحسم شيء آخر. “ولأكون صريحًا، ربما كانت هذه هي الطريقة التي أدت الى إضطراب وسائل الإعلام الأمريكية، فيقرر كل فعل شيء ما وفقًا لمعايير تكتيكية، مهما كان أمرًا دنيوي أو لا يحمل أي صلة واضحة به، فما هو إلا تحديد لمن يتحكم في أرض المعركة في نهاية اليوم أو يكشف عن وصول القتال إلى طريق مسدود. مع العلم أن كل ذلك يصف جزءا بسيطًا من المعنى الأعظم للحسم إن وجد),
وتتسبب بعد التصادمات المسلحة في نتائج حاسمة بمعدلات مختلفة للحروب، فهل من الممكن أن يحدد لقاء تكتيكي ما تؤول إليه الحملة أو مصير ساحة القتال من دون أن يؤدي إلى السلام؟. بإختصار، من الحكمة أن نعرّف النصر الحاسم بمنظور أكثر شمولا (ثلاثي الأبعاد) من وجهة نظر كلاوسفيتز، فهي بمثابة مناورة ما بالأسلحة التي تسمح لأحد الأطراف المتناحرين ليحقق هدف ما، سواء كان إيجابيا أو سلبيا، بعيدًا عن النتائج التكتيكية، وبالطبع الانتصار في الحرب دائمًا ما يؤهل تسمية الطرف المنتصر بالحاسم، ولكن نظرة المؤرخين الواسعة لمجريات الأمور ستمكنهم دائمًا من تقييم معركة طرف الغار بالمعركة الحاسمة.
ففي عام 1805، استطاعت معركة طرف الغار تحقيق السلام التام، بشق الأنفس، مع فرنسا التي كان يحكمها نابليون آن ذاك، وهو أمر تحقق بعد عقد آخر من المعارك المُروعة، لكنها نجحت في تحديد قدرة فرنسا على غزو الجزر البريطانية وتدمير الخطر البحري على سيادة فرنسا عن طريق الغزو البرمائي.
فكان لبطولة كل من نيلسون وكولينوود، بمساندة البحارة المصاحبين لهم، السبب الرئيسي لتحديد نتائج خطة نابليون بينما شجعوا بريطانيا العظمى على المثابرة والاستمرار في نضالها ضد نابليون، فبالتالي استطاعت معركة طرف الغار، بطريقة مباشرة، عن منع جحافل فرنسا من غزو بريطانيا والتسبب في تحقيق الآثار السلبية التي كان من الممكن أن تنتج عنها، يجب أن يتأهل مثل هذا النصر كمعركة حاسمة وفقًا لمسيارة الأحداث.
وبالحديث عن المواجهات بين السفن، لم يذكر كلاوتزفيتز أي شيء عن المواجهات الملاحية، فقلما يذكر المياه في كتاباته، وبنهاية القرن، شكك المؤرخ سير جوليان كوربيت، أحد أعظم الخبراء في مجال نظريات القوة البحرية، في حسم المعارك البحرية من الأصل لمجريات الأمور، ما عدا فيما قد يخص الإرهاق التدريجي للعدو، فسير جوليان كوربيت يوضح أن الحصار البحري، سواء عن قريب أو بعيد لا يؤذي العدو فقط، لكنه يؤذي الحلفاء وأعمال الشعب التجارية المعتمدة على تجارة السلع المنقولة بحريًا مسببًا خسائر فادحة لجميع الأطراف.
وبالتالي يبدوا كوربيت، مثله مثل كلاوسفيتز، مشككًا في في حسم الاشتباكات الفردية، بالطبع يجب وأن تستغل الدول المطلة على البحر لحالتها بالهيمنة البحرية كعائق يمنع غزوها وأي اعتدائات مباشرة أخرى على أرضهم، فهذا هو ما تمثله معركة طرف الغار، لكن على الرغم من ذلك يكمن سر الاستراتيجية البحرية في فن تحديد الصلة المناسبة بين الجيش البري والأسطول البحري، ثم مزجهم معًا لتكوين خطة حرب متجانسة، ففي نهاية المطاف، هدف الحرب هو حماية مصالح البلد على البر، فهو المكان الذي يعيش عليه الناس، ولكن يكمن السؤال هنا في كيفية تقييم اشتباك بين طرفين؛ يقتصر قوة الطرف الأول على العناصر البحرية مقابل جيش كامل يتكون من مزيجٌ بريٌ وبحري؟.
يا له من سؤال صعب!، لذلك هناك الكثير من الجوانب الداعية للتأمل في إجابة السؤال البسيط؛ كيف تحدد المعركة الحاسمة في هذا الموقف؟، لكي نستطيع التقييم بين مواجهتين بحريتين، يجب أن نحدد نظام تسلسلي معين لتحديد مستويات عديدة من الحسم. مع العلم أن معايير نظريتنا لا تشمل، أساليب تحفيذ الجنود، فن التكتيك، التكنولوجيات الحديثة غير المعروفة ولا النتائج المترتبة على الأساليب غير المتوازنة، كل هذه العوامل التي أرفض وضعها في معايير نظرية الحسم هي الأسباب الرئيسية لرفضي اعتبار معركة مضيق تسوشيما، التي خلّفت حطام أسطول البلطيق الروسي المتناثر في البحر الأصفر في عام 1905، جزء من قائمة المعارك الحاسمة الخاصة بي.
وتتربع على قمة القائمة الخاصة بي، الاشتباكات البحرية التي ساهمت في تحديد مصير العديد من الحضارات والإمبراطوريات والدول الكبرى، فمن وجهة نظري هذا هو المقياس الأول للحسم، ثم يتبعه المواجهات التي استطاعت تغيير مجريات الأحداث ذات أهمية تاريخية للعالم كله، فهي تحدد نهاية اللعبة حتى، وإن مرّ وقت طويل بين المعركة ومفاوضات السلام التي ساعدت على التغيير، فلا يعني “المباشر” بالضرورة السرعة في الأداء.
وبذلك، أصبح لدينا تسلسل هرمي تقريبي للمعارك البحرية، فكلما أصبحت تداعيات المعركة أكثر مصيرية وصمود، كلما ارتقى مقامها في قائمة أشرس المعارك البحرية. فما هي إلا طريقة غير مباشرة للوصول إلى أعظم 5 معارك بحرية في تاريخ العالم، ستجدها بالترتيب التالي بدأ بأقلها أهمية حتى الأكثر أهمية:
5- معركة ليبانت (عام 1571)
نشبت معركة ليبانتو من انتشار السلطة العثمانية على غرب البحر المتوسط، بعد فرض العديد من العقوبات الباباوية، وحشدت الرابطة المقدسة، وهي مجموعة من الدول الملاحية البحرية الكاثوليكية، أسطولٌ بحري لمواجهة الأسطول العثماني الرئيسي في خليج كورينيث قبالة السواحل الغربية اليونانية. فكانت معركة ليبانت آخر أكبر الاشتباكات المتوحدة في البحر الأبيض المتوسط، حيث قامت الرابطة باستثمار كل مميزاتها في المدفعيات وأنواع السفن العديدة، وخاصة السفن الحربية والمخازن الضخمة المحملة بالأسلحة الثقيلة، ضد الأسطول التركي. خسر العثمانيين الكثير من سفنهم في هذه المعركة بسبب هجمات العدو بالإضافة إلى خسارتهم للعديد من طاقم السفينة ذي الخبرة العالية. واستطاع بعد ذلك نجاري السفن بناء هياكل جديدة سمحت للأتراك بفرض سيطرتها وقوتها على شرق البحر الأبيض المتوسط لفترة من الزمن ولكن تركيا انهزمت في 1580 على الرغم من ذلك تاركًا سفنها الجديدة لتتعفن في المراسي. فبذلك أكدت الحروب الأوروبية المؤمنة بالمخازن الضخمة العامرة بالأسلحة دائمًا سيطرتها على البحر المتوسط منتصرة على العثمانيين. لذلك اعتبر هذه نتيجة حاسمة بشتى الطرق.
4- معركة يامن (1279)
تلقب في بعض الأحيان بمعركة “طرف الغار الصينية”. وتدور أحداث هذه المعركة بين أسرة يوان المنغولية وبين سونج الجنوبية المُحاصرة لتحديد أحقية أحدهم في حكم الصين، حيث استمرت هذه المعركة لقرابة قرن من الزمان. وكانت هذه المعركة حاسمة أكثر من المعركة التي شارك فيها هوراشيو نيلسون، معركة طرف الغار. وشاركت ألف سفينة حربية محملة بعشرات الآلاف من الرجال الذين شاركوا في الاشتباكات. طبق قادة ياون العسكريين خطط مخادعة وجريئة في محاولة للتغلب على عُشر أعداد العدو غير المتطابقة في الأرقام معهم. والأهم من كل ذلك، ساهم قتل يامن للإمبراطور سونغ تمهيد الطريق لاستيلاء أسرة قبلاي خان على مقاليد حكم المملكة الأسيوية الوسطى. فتسببت هذه المعركة في حدوث تغيرات قوية في آسيا للعديد من العقود التالية للمعركة.
3- معركة الكرادلة (1759)
سمي هذا العام بعام المعجزات لبريطانيا العظمى. حيث استطاعت كل من العمليات البحرية والبرية في تحديد الأنسب من بريطانيا أم فرنسا للانتصار والسيطرة على قارة أمريكا الشمالية. حيث استطاعت القوات البريطانية تحت قيادة وولف في كبح دفاعات مونتكالم في مدينتي كيوبيك ومنتريال، خاتمًا بذلك مصير الانتشار الفرنسي الجديد. وبذلك استطاعت القوات البريطانية السيطرة على قارة أمريكا الشمالية لتصبح الجسر الذي عبر عليه الأمريكيين مؤسسي الولايات المتحدة الأمريكية، مُغيرةً بذلك قدَر قارة كاملة بتحديد نمط سياسي لأمريكا الشمالية استمر حتى وقتنا الحالي.
2- الأرمادا الأسبانية (1588)
تمت هذه المعركة بمشاركة أسطول الدوق مادينا سيدونيا الذي لا يُقهر بعذ أن أمره فيليب الثاني، ملك إسبانيا آن ذاك، بعبور القناة ودخول إنجلترا للإطاحة بملكة إنجلترا، إليزابيث الأولى. وبتطبيق نظام جديد، نجحت القوات الاستكشافية في إنهاء المساعدات الإنجليزية للثورة الهولندية التي طالما أرقت هولندا الأسبانية وللقضاء أيضًا على قرصنة الإنجليز على السفن الأسبانية. استطاع ميدينا سيديونا دخول الجزر البريطانية عن طريق شروط كريهة ليصل إلى موانئها. ولو أن نجاح معركة أرمادا استبدل البروتستانتينية في إنجلترا بملك كاثوليكي، لربما لم تؤسس إمبراطورية بريطانيا العظمى أو لم تكن لتوجد في شكلها الحالي، وبالتلي هل كان سيتشكل تاريخ المحيط الأطلنطي والمحيط الهادئ والهندي كما هو قائم الآن؟، لذلك تعتبر معركة أرمادا معركة حاسمة بشتى الطرق.
1- معركة سالاميس (480 قبل الميلاد)
كانت معركة سالاميس جزء من حملة مشتركة شملت معركة أرتيميسيام البحرية ومعركة تروموبيل البرّية. حيث استطاع ثيمستوكليس، مؤسس الأسطول البحري الأثيني، قيادة أسطول ضخم مع حلفائة ضد ملك أرمادا الفارسية هادفً إلى السيطرة على قارة أوروبا كلها بمنع قوات الفارسية الحربية من التواصل مع قواتها البرية في اليونان. حيث أدت فن الخطط التكتيكية هنا في هذه المعركة إلى انتصار جميع الحلفاء على الأعدا الفارسية المهولة. فلولا جرأة سبارتا وأثينا البحرية والبرية لربما أدى ذلك إلى قتل الملك زركسيس لمهد الحضارة الأوروبية الغربية، وبذلك أرى أن هذه المعركة هي أعظم المعارك البحرية الحاسمة في تاريخ العالم.
وبالطبع لا أحتاج ذكر مدى صعوبة كتابة مثل هذه القائمة، كان هناك العديد من المرشحين الذين لم يصلوا الى هذه القائمة في نهاية الأمر مثل: معركة نافارين (1827) والتي ادت الى تضرر الاسطول العثماني و المصري وتحطم اغلب الاسطول الجزائري ودخول العثمانيين في مرحلة الانهيار معركة بحيرة بويانغ (1363)، معركة فرجينيا (1781) بجيش اللورد كورنوارس، المحكوم عليه بالفشل في يورك تاون والذي أدى إلى استقلال أمريكا عن الحكم البريطاني. بالإضافة إلى المعارك البحرية في حملة جوادالكنال (1942-1943) التي غيرت تيار الحرب في المحيط الهادئ، بينما كانت معركة بحر الفلبين (1944) للأسطول الياباني ممهدة بذلك الطريق لآخر أكبر الاشتباكات البحرية في التاريخ.
ولكن لا يُقارن أي من هؤلاء بعظمة الخمسة الأوائل المُختارين لما يحملونه من أهمية تاريخية عالمية، واستطاعوا تغيير مجريات الأحداث في العالم فلولاهم ما وصلنا إلا ما نحن عليه الآن.
|
الصراع من أجل المياه أو لمجرد السيطرة على موارد الطاقة وتحقيق المجد، مفهوم قديم عاش عليه البشر منذ قديم الأزل كعامل رئيسي نشب بسببه العديد من الحروب الإنسانية. فاستخدمت العديد من أنواع السفن الحربية كوسيلة لمحاربة العدو، من سفن قديمة مصنوعة من الخشب إلى السفن الحربية الضخمة المصنوعة من الحديد في العصور التي سبقت حاملات الطائرات، حتى وصلت في يومنا هذا إلى أحجام أقل بكثير ولكن تعد إخطار مما قبلها مثل الطوافات والمدمرات.
لكن ماذا لو أردنا حصر تاريخ الحروب البحرية، لمعرفة أكبر وأهم المعارك البحرية على مر التاريخ؟، و ما أهم المعارك الحربية أيضًا، إن أردنا أن نكون أكثر تحديدًا؟، فلقد عدنا بعد مطالب عديدة، لنقدم لكم مقالتين من أشهر مقالاتنا التي جمعناهما في مقال واحد، بكتابة كل من جيمس هولمز وروبيرت فارلي، لتستمتعوا بقرائتها.
ما السفن التي حققت النصر في النهاية؟، والمراكب التي غرقت في أعماق المحيط؟، وما المعارك البحرية التي استحوذت على اسم أشهر معركة بحرية تاريخية؟ لتبدأ المناقشة!
***
كانت ومازالت أوجه تصنيف المعارك وفقًا لأهميتها محل جدل عنيف بين المؤرخين منذ أن وُجِدَ المؤرخين العسكريين، حيث استطاع كريسي في كتابة 15 معركة عالمية كلاسيكية حاسمة 1851، وضع أساسيات معايير هذه النوعية. ولكن ما يحدد شدة حسم المعركة عن غيره؟، وماذا يحدد أهمية مناورة عسكرية عن الأخرى؟.
وتَرك مثل هذه المصطلحات بتعريف غير دقيق، يفتح المجال أمام العديد مثل آخر كتالوج أخبار الولايات المتحدة عن المعارك الحاسمة فى أثناء الحرب الأهلية الأمريكية، حيث ذُكِرَ 45 اشتباكا حاسما خلال 4 أعوام من الصراعات وفقًا لكمية الأخبار الأمريكية المهولة.
لذلك، يجب أن يُعرف المصطلح ليكون أقل عجرفة عما هو عليه الآن ليعطي معنىً أقوى، فلو أننا وصفنا كل معركة بكونها حاسمة، فلن يكون هناك أي معركة محيرة أو فاشلة، وبسبب هذه المعضلة وحدها، دائمًا ما أسأل طلابي إذا كانت بعض المعارك الأسطورية، معركة طرف الغار أو معركة مضيق تسوشيما، حاسمة أم مجرد معارك ذات أحداث درامية فقط، أم كونهم معارك لمع بسببهم نجم نيلسون وتوجو.
وعلى ما يبدو، حتى رائدي الاستراتيجيات مُترددين حول ما سيتحق توصيفه بالانتصار الحاسم، عمل كارل فون كلاوزفيتز على توفير تعريف محدد واصفًا الاشتباك الحاسم بالمعركة التي تؤدي إلى تحقيق السلام المباشرةً، وهو ما يشير إلى حدث لا يحمل في طياته مغزى تكتيكي فقط، لكن يحمل أيضًا مغزى استراتيجي وسياسي، ومثل هذه المواجهات تُجبر الطرف المهزوم على قبول شروط الطرف المنتصر الموضوعة على طاولة التفاوض، سواء كان الهدف من المفاوضات هو أنه أصبح غير قادر على استمرارية المعركة، أو يرى أن لديه فرصة ضئيلة للغاية لقلب الطاولة والانتصار على عدوه، أو قدّرَ أنه لن يستطيع الانتصار على عدوه بتاتًا، فوفقًا لهذا التعريف المُوسّع تعتبر المعركة الحاسمة هي العامل المحدد من قبل نتائج الحرب نفسها.
حتى الآن كل ما ذكرناه واضح وجيد، لكن ما المقياس المحدد “للسلام المباشر” لكي توصَف المعركة بالحاسمة؟، هل يجب أن تتم مفاوضات السلام بعد تصادم الأسلحة فورًا فتُعَجّل منها؟، وهل من الممكن أن يتم التوصل إلى اتفاق ما بعد أسابيع أو شهور إن وضحت أسباب ونتائج هذه العلاقات؟، فهل هناك أفق زمني محدد؟.
ويبقى كارل العظيم صامتًا عند مثل هذه التساؤلات، ومن الممكن أن يكون متساهلا جدًا في تحديدهم، ولكن أعتقد أن المعارك قد تكون حاسمة بينما تحقق أهدافًا أكثر اعتدالًا من الانتصار الصريح والمباشر في الحرب، ولكي تحدد ذلك، فسّر الكلمة حرفيًا: هي أمر ما حاسم يحسم شيء آخر. “ولأكون صريحًا، ربما كانت هذه هي الطريقة التي أدت الى إضطراب وسائل الإعلام الأمريكية، فيقرر كل فعل شيء ما وفقًا لمعايير تكتيكية، مهما كان أمرًا دنيوي أو لا يحمل أي صلة واضحة به، فما هو إلا تحديد لمن يتحكم في أرض المعركة في نهاية اليوم أو يكشف عن وصول القتال إلى طريق مسدود. مع العلم أن كل ذلك يصف جزءا بسيطًا من المعنى الأعظم للحسم إن وجد),
وتتسبب بعد التصادمات المسلحة في نتائج حاسمة بمعدلات مختلفة للحروب، فهل من الممكن أن يحدد لقاء تكتيكي ما تؤول إليه الحملة أو مصير ساحة القتال من دون أن يؤدي إلى السلام؟. بإختصار، من الحكمة أن نعرّف النصر الحاسم بمنظور أكثر شمولا (ثلاثي الأبعاد) من وجهة نظر كلاوسفيتز، فهي بمثابة مناورة ما بالأسلحة التي تسمح لأحد الأطراف المتناحرين ليحقق هدف ما، سواء كان إيجابيا أو سلبيا، بعيدًا عن النتائج التكتيكية، وبالطبع الانتصار في الحرب دائمًا ما يؤهل تسمية الطرف المنتصر بالحاسم، ولكن نظرة المؤرخين الواسعة لمجريات الأمور ستمكنهم دائمًا من تقييم معركة طرف الغار بالمعركة الحاسمة.
ففي عام 1805، استطاعت معركة طرف الغار تحقيق السلام التام، بشق الأنفس، مع فرنسا التي كان يحكمها نابليون آن ذاك، وهو أمر تحقق بعد عقد آخر من المعارك المُروعة، لكنها نجحت في تحديد قدرة فرنسا على غزو الجزر البريطانية وتدمير الخطر البحري على سيادة فرنسا عن طريق الغزو البرمائي.
فكان لبطولة كل من نيلسون وكولينوود، بمساندة البحارة المصاحبين لهم، السبب الرئيسي لتحديد نتائج خطة نابليون بينما شجعوا بريطانيا العظمى على المثابرة والاستمرار في نضالها ضد نابليون، فبالتالي استطاعت معركة طرف الغار، بطريقة مباشرة، عن منع جحافل فرنسا من غزو بريطانيا والتسبب في تحقيق الآثار السلبية التي كان من الممكن أن تنتج عنها، يجب أن يتأهل مثل هذا النصر كمعركة حاسمة وفقًا لمسيارة الأحداث.
وبالحديث عن المواجهات بين السفن، لم يذكر كلاوتزفيتز أي شيء عن المواجهات الملاحية، فقلما يذكر المياه في كتاباته، وبنهاية القرن، شكك المؤرخ سير جوليان كوربيت، أحد أعظم الخبراء في مجال نظريات القوة البحرية، في حسم المعارك البحرية من الأصل لمجريات الأمور، ما عدا فيما قد يخص الإرهاق التدريجي للعدو، فسير جوليان كوربيت يوضح أن الحصار البحري، سواء عن قريب أو بعيد لا يؤذي العدو فقط، لكنه يؤذي الحلفاء وأعمال الشعب التجارية المعتمدة على تجارة السلع المنقولة بحريًا مسببًا خسائر فادحة لجميع الأطراف.
وبالتالي يبدوا كوربيت، مثله مثل كلاوسفيتز، مشككًا في في حسم الاشتباكات الفردية، بالطبع يجب وأن تستغل الدول المطلة على البحر لحالتها بالهيمنة البحرية كعائق يمنع غزوها وأي اعتدائات مباشرة أخرى على أرضهم، فهذا هو ما تمثله معركة طرف الغار، لكن على الرغم من ذلك يكمن سر الاستراتيجية البحرية في فن تحديد الصلة المناسبة بين الجيش البري والأسطول البحري، ثم مزجهم معًا لتكوين خطة حرب متجانسة، ففي نهاية المطاف، هدف الحرب هو حماية مصالح البلد على البر، فهو المكان الذي يعيش عليه الناس، ولكن يكمن السؤال هنا في كيفية تقييم اشتباك بين طرفين؛ يقتصر قوة الطرف الأول على العناصر البحرية مقابل جيش كامل يتكون من مزيجٌ بريٌ وبحري؟.
يا له من سؤال صعب!، لذلك هناك الكثير من الجوانب الداعية للتأمل في إجابة السؤال البسيط؛ كيف تحدد المعركة الحاسمة في هذا الموقف؟، لكي نستطيع التقييم بين مواجهتين بحريتين، يجب أن نحدد نظام تسلسلي معين لتحديد مستويات عديدة من الحسم. مع العلم أن معايير نظريتنا لا تشمل، أساليب تحفيذ الجنود، فن التكتيك، التكنولوجيات الحديثة غير المعروفة ولا النتائج المترتبة على الأساليب غير المتوازنة، كل هذه العوامل التي أرفض وضعها في معايير نظرية الحسم هي الأسباب الرئيسية لرفضي اعتبار معركة مضيق تسوشيما، التي خلّفت حطام أسطول البلطيق الروسي المتناثر في البحر الأصفر في عام 1905، جزء من قائمة المعارك الحاسمة الخاصة بي.
وتتربع على قمة القائمة الخاصة بي، الاشتباكات البحرية التي ساهمت في تحديد مصير العديد من الحضارات والإمبراطوريات والدول الكبرى، فمن وجهة نظري هذا هو المقياس الأول للحسم، ثم يتبعه المواجهات التي استطاعت تغيير مجريات الأحداث ذات أهمية تاريخية للعالم كله، فهي تحدد نهاية اللعبة حتى، وإن مرّ وقت طويل بين المعركة ومفاوضات السلام التي ساعدت على التغيير، فلا يعني “المباشر” بالضرورة السرعة في الأداء.
وبذلك، أصبح لدينا تسلسل هرمي تقريبي للمعارك البحرية، فكلما أصبحت تداعيات المعركة أكثر مصيرية وصمود، كلما ارتقى مقامها في قائمة أشرس المعارك البحرية. فما هي إلا طريقة غير مباشرة للوصول إلى أعظم 5 معارك بحرية في تاريخ العالم، ستجدها بالترتيب التالي بدأ بأقلها أهمية حتى الأكثر أهمية:
1- معركة ليبانت (عام 1571)
نشبت معركة ليبانتو من انتشار السلطة العثمانية على غرب البحر المتوسط، بعد فرض العديد من العقوبات الباباوية، وحشدت الرابطة المقدسة، وهي مجموعة من الدول الملاحية البحرية الكاثوليكية، أسطولٌ بحري لمواجهة الأسطول العثماني الرئيسي في خليج كورينيث قبالة السواحل الغربية اليونانية. فكانت معركة ليبانت آخر أكبر الاشتباكات المتوحدة في البحر الأبيض المتوسط، حيث قامت الرابطة باستثمار كل مميزاتها في المدفعيات وأنواع السفن العديدة، وخاصة السفن الحربية والمخازن الضخمة المحملة بالأسلحة الثقيلة، ضد الأسطول التركي. خسر العثمانيين الكثير من سفنهم في هذه المعركة بسبب هجمات العدو بالإضافة إلى خسارتهم للعديد من طاقم السفينة ذي الخبرة العالية. واستطاع بعد ذلك نجاري السفن بناء هياكل جديدة سمحت للأتراك بفرض سيطرتها وقوتها على شرق البحر الأبيض المتوسط لفترة من الزمن ولكن تركيا انهزمت في 1580 على الرغم من ذلك تاركًا سفنها الجديدة لتتعفن في المراسي. فبذلك أكدت الحروب الأوروبية المؤمنة بالمخازن الضخمة العامرة بالأسلحة دائمًا سيطرتها على البحر المتوسط منتصرة على العثمانيين. لذلك اعتبر هذه نتيجة حاسمة بشتى الطرق.
2- معركة يامن (1279)
تلقب في بعض الأحيان بمعركة “طرف الغار الصينية”. وتدور أحداث هذه المعركة بين أسرة يوان المنغولية وبين سونج الجنوبية المُحاصرة لتحديد أحقية أحدهم في حكم الصين، حيث استمرت هذه المعركة لقرابة قرن من الزمان. وكانت هذه المعركة حاسمة أكثر من المعركة التي شارك فيها هوراشيو نيلسون، معركة طرف الغار. وشاركت ألف سفينة حربية محملة بعشرات الآلاف من الرجال الذين شاركوا في الاشتباكات. طبق قادة ياون العسكريين خطط مخادعة وجريئة في محاولة للتغلب على عُشر أعداد العدو غير المتطابقة في الأرقام معهم. والأهم من كل ذلك، ساهم قتل يامن للإمبراطور سونغ تمهيد الطريق لاستيلاء أسرة قبلاي خان على مقاليد حكم المملكة الأسيوية الوسطى. فتسببت هذه المعركة في حدوث تغيرات قوية في آسيا للعديد من العقود التالية للمعركة.
3- معركة الكرادلة (1759)
سمي هذا العام بعام المعجزات لبريطانيا العظمى. حيث استطاعت كل من العمليات البحرية والبرية في تحديد الأنسب من بريطانيا أم فرنسا للانتصار والسيطرة على قارة أمريكا الشمالية. حيث استطاعت القوات البريطانية تحت قيادة وولف في كبح دفاعات مونتكالم في مدينتي كيوبيك ومنتريال، خاتمًا بذلك مصير الانتشار الفرنسي الجديد. وبذلك استطاعت القوات البريطانية السيطرة على قارة أمريكا الشمالية لتصبح الجسر الذي عبر عليه الأمريكيين مؤسسي الولايات المتحدة الأمريكية، مُغيرةً بذلك قدَر قارة كاملة بتحديد نمط سياسي لأمريكا الشمالية استمر حتى وقتنا الحالي.
4- الأرمادا الأسبانية (1588)
تمت هذه المعركة بمشاركة أسطول الدوق مادينا سيدونيا الذي لا يُقهر بعذ أن أمره فيليب الثاني، ملك إسبانيا آن ذاك، بعبور القناة ودخول إنجلترا للإطاحة بملكة إنجلترا، إليزابيث الأولى. وبتطبيق نظام جديد، نجحت القوات الاستكشافية في إنهاء المساعدات الإنجليزية للثورة الهولندية التي طالما أرقت هولندا الأسبانية وللقضاء أيضًا على قرصنة الإنجليز على السفن الأسبانية. استطاع ميدينا سيديونا دخول الجزر البريطانية عن طريق شروط كريهة ليصل إلى موانئها. ولو أن نجاح معركة أرمادا استبدل البروتستانتينية في إنجلترا بملك كاثوليكي، لربما لم تؤسس إمبراطورية بريطانيا العظمى أو لم تكن لتوجد في شكلها الحالي، وبالتلي هل كان سيتشكل تاريخ المحيط الأطلنطي والمحيط الهادئ والهندي كما هو قائم الآن؟، لذلك تعتبر معركة أرمادا معركة حاسمة بشتى الطرق.
5- معركة سالاميس (480 قبل الميلاد)
كانت معركة سالاميس جزء من حملة مشتركة شملت معركة أرتيميسيام البحرية ومعركة تروموبيل البرّية. حيث استطاع ثيمستوكليس، مؤسس الأسطول البحري الأثيني، قيادة أسطول ضخم مع حلفائة ضد ملك أرمادا الفارسية هادفً إلى السيطرة على قارة أوروبا كلها بمنع قوات الفارسية الحربية من التواصل مع قواتها البرية في اليونان. حيث أدت فن الخطط التكتيكية هنا في هذه المعركة إلى انتصار جميع الحلفاء على الأعدا الفارسية المهولة. فلولا جرأة سبارتا وأثينا البحرية والبرية لربما أدى ذلك إلى قتل الملك زركسيس لمهد الحضارة الأوروبية الغربية، وبذلك أرى أن هذه المعركة هي أعظم المعارك البحرية الحاسمة في تاريخ العالم.
وبالطبع لا أحتاج ذكر مدى صعوبة كتابة مثل هذه القائمة، كان هناك العديد من المرشحين الذين لم يصلوا الى هذه القائمة في نهاية الأمر مثل: معركة بحيرة بويانغ (1363)، معركة فرجينيا (1781) بجيش اللورد كورنوارس، المحكوم عليه بالفشل في يورك تاون والذي أدى إلى استقلال أمريكا عن الحكم البريطاني. بالإضافة إلى المعارك البحرية في حملة جوادالكنال (1942-1943) التي غيرت تيار الحرب في المحيط الهادئ، بينما كانت معركة بحر الفلبين (1944) للأسطول الياباني ممهدة بذلك الطريق لآخر أكبر الاشتباكات البحرية في التاريخ.
ولكن لا يُقارن أي من هؤلاء بعظمة الخمسة الأوائل المُختارين لما يحملونه من أهمية تاريخية عالمية، واستطاعوا تغيير مجريات الأحداث في العالم فلولاهم ما وصلنا إلا ما نحن عليه الآن.
|
الصراع من أجل المياه أو لمجرد السيطرة على موارد الطاقة وتحقيق المجد، مفهوم قديم عاش عليه البشر منذ قديم الأزل كعامل رئيسي نشب بسببه العديد من الحروب الإنسانية. فاستخدمت العديد من أنواع السفن الحربية كوسيلة لمحاربة العدو، من سفن قديمة مصنوعة من الخشب إلى السفن الحربية الضخمة المصنوعة من الحديد في العصور التي سبقت حاملات الطائرات، حتى وصلت في يومنا هذا إلى أحجام أقل بكثير ولكن تعد إخطار مما قبلها مثل الطوافات والمدمرات.
لكن ماذا لو أردنا حصر تاريخ الحروب البحرية، لمعرفة أكبر وأهم المعارك البحرية على مر التاريخ؟، و ما أهم المعارك الحربية أيضًا، إن أردنا أن نكون أكثر تحديدًا؟، فلقد عدنا بعد مطالب عديدة، لنقدم لكم مقالتين من أشهر مقالاتنا التي جمعناهما في مقال واحد، بكتابة كل من جيمس هولمز وروبيرت فارلي، لتستمتعوا بقرائتها.
ما السفن التي حققت النصر في النهاية؟، والمراكب التي غرقت في أعماق المحيط؟، وما المعارك البحرية التي استحوذت على اسم أشهر معركة بحرية تاريخية؟ لتبدأ المناقشة!
***
كانت ومازالت أوجه تصنيف المعارك وفقًا لأهميتها محل جدل عنيف بين المؤرخين منذ أن وُجِدَ المؤرخين العسكريين، حيث استطاع كريسي في كتابة 15 معركة عالمية كلاسيكية حاسمة 1851، وضع أساسيات معايير هذه النوعية. ولكن ما يحدد شدة حسم المعركة عن غيره؟، وماذا يحدد أهمية مناورة عسكرية عن الأخرى؟.
وتَرك مثل هذه المصطلحات بتعريف غير دقيق، يفتح المجال أمام العديد مثل آخر كتالوج أخبار الولايات المتحدة عن المعارك الحاسمة فى أثناء الحرب الأهلية الأمريكية، حيث ذُكِرَ 45 اشتباكا حاسما خلال 4 أعوام من الصراعات وفقًا لكمية الأخبار الأمريكية المهولة.
لذلك، يجب أن يُعرف المصطلح ليكون أقل عجرفة عما هو عليه الآن ليعطي معنىً أقوى، فلو أننا وصفنا كل معركة بكونها حاسمة، فلن يكون هناك أي معركة محيرة أو فاشلة، وبسبب هذه المعضلة وحدها، دائمًا ما أسأل طلابي إذا كانت بعض المعارك الأسطورية، معركة طرف الغار أو معركة مضيق تسوشيما، حاسمة أم مجرد معارك ذات أحداث درامية فقط، أم كونهم معارك لمع بسببهم نجم نيلسون وتوجو.
وعلى ما يبدو، حتى رائدي الاستراتيجيات مُترددين حول ما سيتحق توصيفه بالانتصار الحاسم، عمل كارل فون كلاوزفيتز على توفير تعريف محدد واصفًا الاشتباك الحاسم بالمعركة التي تؤدي إلى تحقيق السلام المباشرةً، وهو ما يشير إلى حدث لا يحمل في طياته مغزى تكتيكي فقط، لكن يحمل أيضًا مغزى استراتيجي وسياسي، ومثل هذه المواجهات تُجبر الطرف المهزوم على قبول شروط الطرف المنتصر الموضوعة على طاولة التفاوض، سواء كان الهدف من المفاوضات هو أنه أصبح غير قادر على استمرارية المعركة، أو يرى أن لديه فرصة ضئيلة للغاية لقلب الطاولة والانتصار على عدوه، أو قدّرَ أنه لن يستطيع الانتصار على عدوه بتاتًا، فوفقًا لهذا التعريف المُوسّع تعتبر المعركة الحاسمة هي العامل المحدد من قبل نتائج الحرب نفسها.
حتى الآن كل ما ذكرناه واضح وجيد، لكن ما المقياس المحدد “للسلام المباشر” لكي توصَف المعركة بالحاسمة؟، هل يجب أن تتم مفاوضات السلام بعد تصادم الأسلحة فورًا فتُعَجّل منها؟، وهل من الممكن أن يتم التوصل إلى اتفاق ما بعد أسابيع أو شهور إن وضحت أسباب ونتائج هذه العلاقات؟، فهل هناك أفق زمني محدد؟.
ويبقى كارل العظيم صامتًا عند مثل هذه التساؤلات، ومن الممكن أن يكون متساهلا جدًا في تحديدهم، ولكن أعتقد أن المعارك قد تكون حاسمة بينما تحقق أهدافًا أكثر اعتدالًا من الانتصار الصريح والمباشر في الحرب، ولكي تحدد ذلك، فسّر الكلمة حرفيًا: هي أمر ما حاسم يحسم شيء آخر. “ولأكون صريحًا، ربما كانت هذه هي الطريقة التي أدت الى إضطراب وسائل الإعلام الأمريكية، فيقرر كل فعل شيء ما وفقًا لمعايير تكتيكية، مهما كان أمرًا دنيوي أو لا يحمل أي صلة واضحة به، فما هو إلا تحديد لمن يتحكم في أرض المعركة في نهاية اليوم أو يكشف عن وصول القتال إلى طريق مسدود. مع العلم أن كل ذلك يصف جزءا بسيطًا من المعنى الأعظم للحسم إن وجد),
وتتسبب بعد التصادمات المسلحة في نتائج حاسمة بمعدلات مختلفة للحروب، فهل من الممكن أن يحدد لقاء تكتيكي ما تؤول إليه الحملة أو مصير ساحة القتال من دون أن يؤدي إلى السلام؟. بإختصار، من الحكمة أن نعرّف النصر الحاسم بمنظور أكثر شمولا (ثلاثي الأبعاد) من وجهة نظر كلاوسفيتز، فهي بمثابة مناورة ما بالأسلحة التي تسمح لأحد الأطراف المتناحرين ليحقق هدف ما، سواء كان إيجابيا أو سلبيا، بعيدًا عن النتائج التكتيكية، وبالطبع الانتصار في الحرب دائمًا ما يؤهل تسمية الطرف المنتصر بالحاسم، ولكن نظرة المؤرخين الواسعة لمجريات الأمور ستمكنهم دائمًا من تقييم معركة طرف الغار بالمعركة الحاسمة.
ففي عام 1805، استطاعت معركة طرف الغار تحقيق السلام التام، بشق الأنفس، مع فرنسا التي كان يحكمها نابليون آن ذاك، وهو أمر تحقق بعد عقد آخر من المعارك المُروعة، لكنها نجحت في تحديد قدرة فرنسا على غزو الجزر البريطانية وتدمير الخطر البحري على سيادة فرنسا عن طريق الغزو البرمائي.
فكان لبطولة كل من نيلسون وكولينوود، بمساندة البحارة المصاحبين لهم، السبب الرئيسي لتحديد نتائج خطة نابليون بينما شجعوا بريطانيا العظمى على المثابرة والاستمرار في نضالها ضد نابليون، فبالتالي استطاعت معركة طرف الغار، بطريقة مباشرة، عن منع جحافل فرنسا من غزو بريطانيا والتسبب في تحقيق الآثار السلبية التي كان من الممكن أن تنتج عنها، يجب أن يتأهل مثل هذا النصر كمعركة حاسمة وفقًا لمسيارة الأحداث.
وبالحديث عن المواجهات بين السفن، لم يذكر كلاوتزفيتز أي شيء عن المواجهات الملاحية، فقلما يذكر المياه في كتاباته، وبنهاية القرن، شكك المؤرخ سير جوليان كوربيت، أحد أعظم الخبراء في مجال نظريات القوة البحرية، في حسم المعارك البحرية من الأصل لمجريات الأمور، ما عدا فيما قد يخص الإرهاق التدريجي للعدو، فسير جوليان كوربيت يوضح أن الحصار البحري، سواء عن قريب أو بعيد لا يؤذي العدو فقط، لكنه يؤذي الحلفاء وأعمال الشعب التجارية المعتمدة على تجارة السلع المنقولة بحريًا مسببًا خسائر فادحة لجميع الأطراف.
وبالتالي يبدوا كوربيت، مثله مثل كلاوسفيتز، مشككًا في في حسم الاشتباكات الفردية، بالطبع يجب وأن تستغل الدول المطلة على البحر لحالتها بالهيمنة البحرية كعائق يمنع غزوها وأي اعتدائات مباشرة أخرى على أرضهم، فهذا هو ما تمثله معركة طرف الغار، لكن على الرغم من ذلك يكمن سر الاستراتيجية البحرية في فن تحديد الصلة المناسبة بين الجيش البري والأسطول البحري، ثم مزجهم معًا لتكوين خطة حرب متجانسة، ففي نهاية المطاف، هدف الحرب هو حماية مصالح البلد على البر، فهو المكان الذي يعيش عليه الناس، ولكن يكمن السؤال هنا في كيفية تقييم اشتباك بين طرفين؛ يقتصر قوة الطرف الأول على العناصر البحرية مقابل جيش كامل يتكون من مزيجٌ بريٌ وبحري؟.
يا له من سؤال صعب!، لذلك هناك الكثير من الجوانب الداعية للتأمل في إجابة السؤال البسيط؛ كيف تحدد المعركة الحاسمة في هذا الموقف؟، لكي نستطيع التقييم بين مواجهتين بحريتين، يجب أن نحدد نظام تسلسلي معين لتحديد مستويات عديدة من الحسم. مع العلم أن معايير نظريتنا لا تشمل، أساليب تحفيذ الجنود، فن التكتيك، التكنولوجيات الحديثة غير المعروفة ولا النتائج المترتبة على الأساليب غير المتوازنة، كل هذه العوامل التي أرفض وضعها في معايير نظرية الحسم هي الأسباب الرئيسية لرفضي اعتبار معركة مضيق تسوشيما، التي خلّفت حطام أسطول البلطيق الروسي المتناثر في البحر الأصفر في عام 1905، جزء من قائمة المعارك الحاسمة الخاصة بي.
وتتربع على قمة القائمة الخاصة بي، الاشتباكات البحرية التي ساهمت في تحديد مصير العديد من الحضارات والإمبراطوريات والدول الكبرى، فمن وجهة نظري هذا هو المقياس الأول للحسم، ثم يتبعه المواجهات التي استطاعت تغيير مجريات الأحداث ذات أهمية تاريخية للعالم كله، فهي تحدد نهاية اللعبة حتى، وإن مرّ وقت طويل بين المعركة ومفاوضات السلام التي ساعدت على التغيير، فلا يعني “المباشر” بالضرورة السرعة في الأداء.
وبذلك، أصبح لدينا تسلسل هرمي تقريبي للمعارك البحرية، فكلما أصبحت تداعيات المعركة أكثر مصيرية وصمود، كلما ارتقى مقامها في قائمة أشرس المعارك البحرية. فما هي إلا طريقة غير مباشرة للوصول إلى أعظم 5 معارك بحرية في تاريخ العالم، ستجدها بالترتيب التالي بدأ بأقلها أهمية حتى الأكثر أهمية:
5- معركة ليبانت (عام 1571)
نشبت معركة ليبانتو من انتشار السلطة العثمانية على غرب البحر المتوسط، بعد فرض العديد من العقوبات الباباوية، وحشدت الرابطة المقدسة، وهي مجموعة من الدول الملاحية البحرية الكاثوليكية، أسطولٌ بحري لمواجهة الأسطول العثماني الرئيسي في خليج كورينيث قبالة السواحل الغربية اليونانية. فكانت معركة ليبانت آخر أكبر الاشتباكات المتوحدة في البحر الأبيض المتوسط، حيث قامت الرابطة باستثمار كل مميزاتها في المدفعيات وأنواع السفن العديدة، وخاصة السفن الحربية والمخازن الضخمة المحملة بالأسلحة الثقيلة، ضد الأسطول التركي. خسر العثمانيين الكثير من سفنهم في هذه المعركة بسبب هجمات العدو بالإضافة إلى خسارتهم للعديد من طاقم السفينة ذي الخبرة العالية. واستطاع بعد ذلك نجاري السفن بناء هياكل جديدة سمحت للأتراك بفرض سيطرتها وقوتها على شرق البحر الأبيض المتوسط لفترة من الزمن ولكن تركيا انهزمت في 1580 على الرغم من ذلك تاركًا سفنها الجديدة لتتعفن في المراسي. فبذلك أكدت الحروب الأوروبية المؤمنة بالمخازن الضخمة العامرة بالأسلحة دائمًا سيطرتها على البحر المتوسط منتصرة على العثمانيين. لذلك اعتبر هذه نتيجة حاسمة بشتى الطرق.
4- معركة يامن (1279)
تلقب في بعض الأحيان بمعركة “طرف الغار الصينية”. وتدور أحداث هذه المعركة بين أسرة يوان المنغولية وبين سونج الجنوبية المُحاصرة لتحديد أحقية أحدهم في حكم الصين، حيث استمرت هذه المعركة لقرابة قرن من الزمان. وكانت هذه المعركة حاسمة أكثر من المعركة التي شارك فيها هوراشيو نيلسون، معركة طرف الغار. وشاركت ألف سفينة حربية محملة بعشرات الآلاف من الرجال الذين شاركوا في الاشتباكات. طبق قادة ياون العسكريين خطط مخادعة وجريئة في محاولة للتغلب على عُشر أعداد العدو غير المتطابقة في الأرقام معهم. والأهم من كل ذلك، ساهم قتل يامن للإمبراطور سونغ تمهيد الطريق لاستيلاء أسرة قبلاي خان على مقاليد حكم المملكة الأسيوية الوسطى. فتسببت هذه المعركة في حدوث تغيرات قوية في آسيا للعديد من العقود التالية للمعركة.
3- معركة الكرادلة (1759)
سمي هذا العام بعام المعجزات لبريطانيا العظمى. حيث استطاعت كل من العمليات البحرية والبرية في تحديد الأنسب من بريطانيا أم فرنسا للانتصار والسيطرة على قارة أمريكا الشمالية. حيث استطاعت القوات البريطانية تحت قيادة وولف في كبح دفاعات مونتكالم في مدينتي كيوبيك ومنتريال، خاتمًا بذلك مصير الانتشار الفرنسي الجديد. وبذلك استطاعت القوات البريطانية السيطرة على قارة أمريكا الشمالية لتصبح الجسر الذي عبر عليه الأمريكيين مؤسسي الولايات المتحدة الأمريكية، مُغيرةً بذلك قدَر قارة كاملة بتحديد نمط سياسي لأمريكا الشمالية استمر حتى وقتنا الحالي.
2- الأرمادا الأسبانية (1588)
تمت هذه المعركة بمشاركة أسطول الدوق مادينا سيدونيا الذي لا يُقهر بعذ أن أمره فيليب الثاني، ملك إسبانيا آن ذاك، بعبور القناة ودخول إنجلترا للإطاحة بملكة إنجلترا، إليزابيث الأولى. وبتطبيق نظام جديد، نجحت القوات الاستكشافية في إنهاء المساعدات الإنجليزية للثورة الهولندية التي طالما أرقت هولندا الأسبانية وللقضاء أيضًا على قرصنة الإنجليز على السفن الأسبانية. استطاع ميدينا سيديونا دخول الجزر البريطانية عن طريق شروط كريهة ليصل إلى موانئها. ولو أن نجاح معركة أرمادا استبدل البروتستانتينية في إنجلترا بملك كاثوليكي، لربما لم تؤسس إمبراطورية بريطانيا العظمى أو لم تكن لتوجد في شكلها الحالي، وبالتلي هل كان سيتشكل تاريخ المحيط الأطلنطي والمحيط الهادئ والهندي كما هو قائم الآن؟، لذلك تعتبر معركة أرمادا معركة حاسمة بشتى الطرق.
1- معركة سالاميس (480 قبل الميلاد)
كانت معركة سالاميس جزء من حملة مشتركة شملت معركة أرتيميسيام البحرية ومعركة تروموبيل البرّية. حيث استطاع ثيمستوكليس، مؤسس الأسطول البحري الأثيني، قيادة أسطول ضخم مع حلفائة ضد ملك أرمادا الفارسية هادفً إلى السيطرة على قارة أوروبا كلها بمنع قوات الفارسية الحربية من التواصل مع قواتها البرية في اليونان. حيث أدت فن الخطط التكتيكية هنا في هذه المعركة إلى انتصار جميع الحلفاء على الأعدا الفارسية المهولة. فلولا جرأة سبارتا وأثينا البحرية والبرية لربما أدى ذلك إلى قتل الملك زركسيس لمهد الحضارة الأوروبية الغربية، وبذلك أرى أن هذه المعركة هي أعظم المعارك البحرية الحاسمة في تاريخ العالم.
وبالطبع لا أحتاج ذكر مدى صعوبة كتابة مثل هذه القائمة، كان هناك العديد من المرشحين الذين لم يصلوا الى هذه القائمة في نهاية الأمر مثل: معركة نافارين (1827) والتي ادت الى تضرر الاسطول العثماني و المصري وتحطم اغلب الاسطول الجزائري ودخول العثمانيين في مرحلة الانهيار معركة بحيرة بويانغ (1363)، معركة فرجينيا (1781) بجيش اللورد كورنوارس، المحكوم عليه بالفشل في يورك تاون والذي أدى إلى استقلال أمريكا عن الحكم البريطاني. بالإضافة إلى المعارك البحرية في حملة جوادالكنال (1942-1943) التي غيرت تيار الحرب في المحيط الهادئ، بينما كانت معركة بحر الفلبين (1944) للأسطول الياباني ممهدة بذلك الطريق لآخر أكبر الاشتباكات البحرية في التاريخ.
ولكن لا يُقارن أي من هؤلاء بعظمة الخمسة الأوائل المُختارين لما يحملونه من أهمية تاريخية عالمية، واستطاعوا تغيير مجريات الأحداث في العالم فلولاهم ما وصلنا إلا ما نحن عليه الآن.