مبادىء العمل الاستخباري

night fury

عضو
إنضم
23 مارس 2008
المشاركات
4,508
التفاعل
1,267 1 0
الدولة
Jordan


يشتمل العمل الاستخباري على المبادىء التالية:

المعرفة على قدر الحاجة:
وهو مبدأ هام يقصد به الا تُمنح المعلومات السرية الا لمن تُحتم طبيعة واجبه المكلف به استخدام هذه المعلومات السرية، وتحجب عمّن سواه، مهما كانت درجة حرصه على الدّولة، ومهما تعاظم مقدار الثقة فيه. فكثيراً ما يُفضى الخلل الى الاجهزة الامنية بانتشار المعلومة بين العديد ممن يوصفون بأنهم مطلعين على بواطن الامور - بمقتضى الانتماء الى السّلطة فكراً وعقيدة - وقد يكون سعى أمثال هؤلاء نابعاً من حرصهم على أمن الدولة وصحة مسيرتها، أو لغير ذلك من الاسباب الخيرة، وهنا يكمن الخطر الوبيل. ولقد وجهنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لكي نتجنب عواقب ذلك الى ترك ما لا يعنينا: «حسبُ امرىء تركُ ما لا يعنيه الى ما يعنيه». وفي حديث آخر: «من حُسن اسلامِ المرء تركهُ ما لا يعنيه». وحجب المعلومات السريةً، وقصر افشائها على ذوي الاختصاص، أدعى الى حفظها، وأحجى بتحقيق الحذر المطلوب الذي أمر الله تعالى به: (يا أيهَا الذينَ آمنوا خذُوا حذركُم...)(115).
السرية:
ونعني بها: «كتمان المعلومات التي اذا نالها العدو أضرت بالصالح العام».
وجلى من هذا التعريف أن سرية المعلومات تتحقق بكتمانها، ولا يكون ذلك الا باتخاذ الاجراءات الصارمة في نسخها، والاعتماد على أهل الثقة في ما يُستنسخ منها، واتلاف - أو التحفظ على - المسودات ومواد الطباعة التي كتبت عليها المعلومات السرية، والحد من تداولها وحفظها في حرز حريز، ففي الحديث الشريف: «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان». وسوف نفصل في باب الحديث عن أمن المعلومات نماذح عن السرية وأمن المعلومات، وردت فيى الكتاب المجيد، والسيرة المطهرة، وفي التراث الاسلامي عامة، ونكتفيى هنا بالقول: ان مبدأ السرية مبدأ هام طبقه النبي عليه السلام خير تطبيق في بداية الدعوة، وعند هجرته من مكة الى المدينة، وفي غزواته، وفي حله وترحاله.
ولنأخذ مثالاً على كيفية تطبيق مبدأ السرية في الاسلام، من غار حراء الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعبد فيه سراً، ثم ما تبع ذلك من مرحلة كانت أشبه بمرحلة «المعرفة على قدر الحاجة»، حين طلب الى النبي أن يخاطب بالدعوة عدداً محدوداً من الناس: (وأنذِر عشيرتكَ الاقربينَ)(116)، فقد انحصرت المعلومة «الخطيرة» في نحو ستين شخصاً آنذاك، ربعهم، تقريباً، كان من النساء.
وقد أولى الرآسول صلى الله عليه وسلم أهمية كبيرة في أول أيام دعوته لمفهوم السرية، اذ كان يجتمع بأصحابه في دار «الارقم بن أبي الارقم»، التي كان من أسباب اختيارها:
* أن الارقم لم يكن معروفاً باسلامه، فما كان يخطر ببال قريش أن يتم لقاء محمد وأصحابه بداره.
* أن الارقم من قبيلة بني مخزوم التي تنافس، وتحارب، بني هاشم، وهذا يعني أن الاجتماع السري كان ينعقد في قلب صفوف العدو.
* أن الارقم كان فتى فيى السادسة عشرة من عمره، وحين تُفكر قريش في البحث عن مركز التجمع الاسلامي لن يخطر ببالها أن تبحث فيى بيوت الناشئة من الفتيان.
ولقد كانت دار الارقم مثالاً ممتازاً «للبيت الامن» في عرف الامن، ذلك الامتياز الذي شمل بالسرية كل الافعال قبل الهجرة، فحتى الصّلاة كانت تُصلى ركعتين ركعتين، وكان الرّسول صلى الله عليه وسلم اذا صلى يحرسه علي بن أبي طالب، أو زيد بن حارثة، وقد تأخر اعلان العبادة حتى أسلم عمر رضي الله عنه.






الولاء، والالخلاص، والطّاعة:
ان من أخطر العناصر على الامن أولئك الذيى يدينون بالولاء لجهة خارجية، وهو ولاء اما أن يكون مدفوعاً بجافز العمالة لتلك الجهة، أو بواعز الاعجاب بأسلوب أهلها ومنهجهم والولع بتقليده، أو التذلل لنفوذ الوسائل التي تستخدمها أجهزة المخابرات للسيطرة على عملائها. قال تعالى: ( يَا أيهَا الذينَ آمنُو ا لا تتخذُوا عدوّي وعدوكُم أولياءَ تلقونَ اليهِم بالمودةِ وقَد كفرُوا بمَا جاءكُم من الحقِ يخرجونَ الرسولَ واياكم أن تؤمنُوا باللّه ربكم ان كنتُم خرجتُم جهاداً في سبيلي وابتغاءَ مرضاتي تسرونَ اليهم بالمودة وأنَا أعلمُ بمَا أخفيتم ومَا أعلنتُم ومَن يفعلهُ منكُم فقد ضطل سواءَ السبيلِ. ان يثفقوكُم يكونُوا لكُم أعداءً ويبسطوا اليكم أيديهُم وألسنتهُم بالسوءِ وودّوا لو تكفرُونَ)(117).
ولذا كانت وحدة الولاء وانحيازه الكامل لوحدة المؤمنين وديارهمن شرطاً حاسماً للسلامة من الكيد الخارجي: (يا أيهَا الذينَ آمنُوا ان تطيعُوا الذينَ كفرُوا يردوكُم على أعقابكُم فتنقلُبوا خاسرينَ)(118). ويجىء التحذير مبياً: (ولَن ترضَى عنكَ اليهودُ ولا النصارَى حتّى تتبعَ ملتهُم قُل انّ هدَى اللّه هوَ الهدَى ولئنِ اتّبعتَ أهواكهُم بعدَ الذي جاءكَ مِن العلمِ ما لكَ مُن اللّهِ مِن ولِي ولا نصِير)(119).


الانضباط، والبعد عن مواقع الشُّبهة والفتنة:
يبحث العدو دائماً عن العناصر التي يعتورها الضّعف والميل الى الفساد، فيستغلّها ويجندها لتعمل لصالحه.
وخير ضمانة من الوقوع في حبائل العدو، اختيار العناصر المنضبطة، ذات التّدين الذي يحملها على مراقبة الله، أو ذات الوازع الوطني الذي يحفطها على التمسك بمبادىء الفداء والتضحية.
وتظل تلك العناصر في حاجة مستديمة الى التدرب لترقية الحسن الامني والتزكية بالورع والتقوى، ثم تكثيف الضوابط لرماقبة أي انحراف، والمحاسبة والتأديب ازاء أي تجاوز.
وتجىء تلك الاجراءات ضماناً للسرية، وتحقيقاً للعدالة، وبسطاً لحرية الناس، تلك التي تفرضها الامكانات الوافرة التي يتمتع بها رجل الامن دون سائر المواطنين، واطلاعه على كثير من الاسرار والمعلومات بحكم ذلك، وفي هذا فتنة تزين له ارتكاب الفواحش والمحرمات أو ايذاء الناس وابتزازهم والاستهتار بحرماتهم، لذا كان لزاماً أن يحاط النظام الامني وأفراده - بعد الكفاءة المهنية والضوابط الاخلاقية - برقابة شعبية، وأن يُعبأ الشعب كله بوعي أمني، ليبسط رقابته على أعمال الاعداء، وعلى انحراف المنحرفين من رجال الامن الذين تسول لهم أنفسهم استغلال سلطاتهم وامكاناتهم.

_______
صعوبات انتاج المخابرات:

الوقت:
ان أهمية الوقت ذات قيمة عظمى فيى انتاج المخابرات: سواء في مرحلة الجمع، أو التحليل، أو التوزيع، فكثيراً ما يكون العمل فيى هذه الحالة شبيهاً بالبحث العلمي، خاصةً في القضايا التي تبحث في أحداث المستقبل واحتمالاته، اذ يمكن تلافي أي نقصان في المعلومات، بتكليف مصادر مطلعة للبحث وتكملة تلك المعلومات. ولكن في كثير من تقديرات المخابرات يطلب متخذوا القرار تقريراً استخبارياً عاجلاً - أو ربما تطلبت الظروف اجراء ذلك التقدير - نسبة الى دواعي الاهمية والاستعجال. وقد درجت العادة، في هذه الحالات أن يتغاضى محللو المخابرات عن الدقة المتناهية في جمع المعلومات، وفي التنبؤ، ليبني التقدير على أساس المعلومات المتوافرة، وهذا أجدى من معلومات وتقديرات مفصلة تأتي بعد فوات الاوان، اذ يتقدم هنا مبدأ المواءمة الزمنية على الدقة.




الدقة:
ان العمل الاستخباري يعتمد على تقدير نوايا العدو ليتنبأ بما سوف يفعله، وتعتمد التنبؤات على المعلومات الاستخبارية، وهي معلومات تنهض على دقة المصادر، وعى مدى نفاذ العدو عبر الخداع وتسريب المعلومات المضللة. ولتخفيف هذا الاثر وضع نظام تصنيفي فعال للمصادر - حسب دقتها - فترفق ورقة المصدر مع المعلومات، حاوية درجة مصداقيته، التي يعبر عنها بضيغة مثل: (موثوق به جداً، أو موثوق به عادةً، أو موثوق به.. الخ). ويتفادى خداع العدو بمطابقة الاحداث مع مجريات الامور، وبتعدد المصادر، والحذر في تصديق المعلومات، واختبارها بمحاولة دخصها، وانتظار معلومات أخرى تؤكدها.
الموضوعية:

كثيراً ما تدخل في معلومات الاستخبارات المصلحة الشخصية - أحياناً - والتحيز المهني من قبل محلل المعلومات، بدافع انتمائه وولائه للدولة، أو بسبب أن معظم المعلومات تعتمد على الوصف والتقدير لا على الحقائق العلمية المجردة. ويمكن التقليل من عدم الموضوعية بالعمل المؤسسي، وبتدريب العاملين وتنبيههم الى خطر غياب الموضوعية، وهي أشدّ فتكاً من تقبل تحليل منطقي يفضي الى حقائق مُرة ومحبطة.

السرية غير المبررة:

برغم أهمية السرية في عمل الامن، فانّ لها آثاراً ضارةً وسلبيةً أحيانَ، فالسرية غير المبررة في العمل الاستخباري، قد تؤدي الى حجب المعلومات عمن يمكنهم اثراء التحليل والتقييم، اضافة الى أنها قد تضيع امكانية الاستفادة من مظان ومؤسسات علمية تفيد في مجال البحث والتحليل باضافة حقائق جديدة. وللتغلب على هذه العقبة يلزم انتقاء مجالس متخصصة، تتكون من أشخاص موثوق بهم، واتاحة الفرصة لعرض المعلومات على جهات أوسع، للافادة من الاراء المختلفة، مع موازنة قيمة السرية والمعرفة على قدر الحاجة، بالفائدة التي تعود من هذا الاجراء، لذان السرية وسيلة لا غاية، وهي أسلوب يُلجأ اليه عند الضرورة، والضرورة هنا مسألة تقديرية بحسب ظروف البيئة والسرعة، أمّا الغاية من السرية فهي الوقاية والامن.
فداحة الاخطاء:
قياساً الى حساسية عمل المخابرات وخطورة نتائجه، فان الاخطاء الكبرة تغدو قاتلةً، على عكس ما هو متعارف عليه من البحث العلمي، الذي يعد الخطأ فيه احدى تجارب التعلم، بينما ينجم عن أخطاء المحللين والباحثين الاستخباريين كوارث ربما تودي بحياة الناس وتطيح بأنظمة وتمحو لوداً بأكلمها ومجتمعات. ولتفاديى فداحة الاخطاء يجب الاستناد الى الحقائق، والدقة فيى فحص المعلومة، والسرعة في اتخاذ القرار.
الوضوح:
ان الخوف من الاخطاء، وتهيب المواقف، وضيق الوقت، كلها مواقف قد تلجىء بعض محللي المخابرات الى حذر مقيت، مما يضطرهم أحياناً الى تقديم تقديرات تشرع الابواب أمام كل الاحتمالات، خشية من طرح آراء وتقديرات جريئة وقاطعة.
وتلافياً لقرارات مبهمة ومرتبكة، يحسن أن يلتزم المحللون داخل المؤسسة الاستخبارية بمصطلحات فنية واضحة للتعبير عن كل حالة على حدة، سواءٌ في مرحلة تجميع المعلومات، أو في فرز الحقائق في الاستنتاجات والاراء، كما يحسن أن تقيم المصادر بمصطلحات معروفة.
ومن بعد ذلك، لا مناص من الالتزام بالوضوح والموضوعية والاخحتصار والدقة، ثم عرض كل احتمالات ما قد يحدث من وقائع - دون أدنى تردد - عند رفع التقاديرات الى متخذي القرارات.
انواع المخابرات:
تنقسم المخارات الى قسمين ريئسيين، هما:
* المخابرات الايجابية الهجومية.
* المخابرات السلبية الوقائية.
فالمخابرات الايجابية الهجومية تشمل:
* نشاط المخابرات الايجابي، للحصول على المعلومات عن طريق التجسس، والمراقبة، والمتابعة.
* القبض على الجواسيس، وتحويلهم الى عملاء مزدوجين، أو تقديمهم للمحاكمة.
* القيام بأعمال التخريب وتدمير منشآت العدو.
* انتهاج الحرب النفسية بما تشمله من أعمال الدعاية والشائعات.
أما المخابرات السلبية الوقائية فتشمل:
* اجراءات الامن والسلامة التي تقوم بها الدولة لتحقيق الامن، مثل: الاسلاك الشائكة، ووسائل الانذار، واجراءات حفظ المعلومات السرية، ومشروعات الامن الداخلي، واجراءات أمن المنشآت وأمن الافراد.
* مقاومة التآمر والتمرد والنشاطات الهدامة.
والمخابرات الايجابية والسلبية - كلتاهما - تغطي كل أنشطة الدولة، اذ نجد المخابرات الاق العلمية، والمخابرات الحربية، والمخابرات السياسية، والمخابرات الاستراتيجية. ولكل من هذه المخابرات موضوعات متخصصة تبحث فيها، وتعمل في مجالها.
الفصل الثالث
عناصر الدولة والامن القومي
ان من بدهيات علم العلاقات الدولية، الاحتكام الى عدد من المؤتمرات، بوصفها المحددات الرئيسة لمدى قوة الدولة او ضعفها. فكل دولة تسعى الى معرفة عناصر قوتها لتعزيزها، ونقاط ضعفها لتتلافى القصور، ليس هذا فحسب بل ان الدول لتسعى الى معرفة نقاط القوة ونقاط الضعف لدى الاخرين، لرسم وتخطيط سياسة أمنها القومي في السلم والحرب. وقد أجمع المختصون بشئون الامن والاستراتيجية على ضرورة دراسة أهم هذه المؤثرات وتحليلها، ونعرضها هنا على النحو الاتي:
المؤثرات الجغرافية:
ان للمساحة، والموقع، تأثيراً هائلاً على الدولة من حيث قدرتها على الدفاع عن نفسها والتوزيع الاستراتيجي لقواتها. ويبدو ذلك جلياً في حالات العدوان الخارجي، والاضطرابات الداخلية، ومكافحة التهريب وغير ذلك من الواجبات الامنية. كما يؤثر الموقع في التماسك السياسي، وفي اقتصاد الدولة: من حيث الانتاج والتصدير والاستيراد.
ولحجم الدولة وموقعها تأثيرهما في البنيات الاساسية، كالطرق والمطارات ووسائل الاتصال، وشكل الادارة، وطريقة التعاون بين المدن والاقاليم المختلفة. ويؤثر الموقع كذلك في علاقة الدولة بالدول المجاورة، سواءٌ في مجالات التعاون او مجالات التنافس والصراع، خاصة وان استراتيجيات الدول الكبرى تنطلق من ادراك كبير لقيمة المواقع الاستراتيجية في العالم والمعابر المهمة المؤدية اليها كالبحر الاحمر، والبحر المتوسط، والخليج العربي، وكلها ممرات مائية يلي العالم الاسلامي منها نصيب لا يداني في امكانية جعلها ممرات آمنة تفيض فوائدها وثمراتها عن حدود المسلمين، الى رحابة العالم كله.
وللتضاريس الطبيعية أهمية بالغة في الامن القومي، فالجبال والصحارى والوديان والغابات والانهار، كلها يمكن الاستفادة منها كمناطق استراتيجية لاقامة المنشآت الحيوية، حتى يسهل الدفاع عنها. والتمتع بالموانع الطبيعية يقلل من الاعتماد على نشر القوات المسلحة، ويجعل من نقاط المراقبة بديلاً ناجعاً للتغطية والانذار المبكر، وتحديد أضعف النقاط للانطلاق بالهجوم منها.
وللمناخ والتربة - وهما من المعطيات الجغرافية الاساسية - اثرهما الجلي في الانتاج الغذائي، والنشاط البشري.
ولقد كان العلامة العربي عبد الرحمن بن خلدون من اوائل الذين تنبهوا لتأثير المناخ في العمران والحضارة، من منطلق مشاهداته الاقاليم الباردة والحارة، وملاحظته نمط الانتاج فيها.
ولفصول السنة، كذلك، اهميتها الامنية، اذ يحتمل ان يمارس فيها العدو - الخارجي او الداخلي - ضغوطاً عسكرية او اقتصادية، مستغلاً مواسم الجفاف او مواسم هطول الامطار في القيام بعدوانه.
واضافة الى تلك المؤثرات، تبرز قيمة الموارد الطبيعية بما تشمله من انواع المعادن، ومصادر الطاقة، وليس بخاف ان الضغوط على الدولة - أية دولة - تقل باطراد مع تعاظم مواردها الطبيعية، فيما لو احسنت الدولة استغلال تلك الموارد.
المؤثرات السكانية:
يعد عنصر السكان من اكثر العناصر تأثيراً في الامن القومي للدولة خاصة وانه العنصر المباشر في افرازه النوازع البشرية التي تشكل تاريخ المجتمعات.
ويعتبر سكان أية دولة عاملاً فعالاً في حفظ الامن القومي، من منطلق تجانسهم وتماسك اعراقهم وثقافاتهم، وعلى العكس من ذلك الدول التي تعاني من تمزق التركيبة السكانية، وتنافر هويات المواطنين ومنازعهم، يشاهد ذلك بوضوح في الدول التي تعصف بها الحروب الاهلية والاحن والثأرات.
ويتداخل عنصر السكان مع غيره من عناصر الدولة، فيتبدى جليا في الدول ذات التعداد السكاني الكبير والاوعية الاقتصادية الضيقة، حيث يسود الفقر والمجاعات وتكثر الهجرات الداخلية والخارجية - تبعاً لذلك - فتضعف القيم الامنية. بينما يعتبر عدد السكان الكبير عاملاً مميزاً في الدول المتقدمة، لانه يسند تلك البلاد بالموارد البشرية المتقدمة فيسود الانتاج والعمران، وتقوى الروابط الامنية بين افراد المجتمع. كما يتداخل عنصر السكان مع العنصر السياسي، فيهب الدول شكلها القيادي وحدودها السياسية، ونمط الحكم فيها.​

___________
 
المؤثرات السياسية:
تجىء «الافكار» في مقدمة المعطيات السياسية المؤثرة في الامن القومي - ببعديه الداخلي والخارجي - وهو أمر منطقي، لان الافكار السياسية عُرفت - منذ القدم - بأنها المنبع الاول للتوجهات والافعال السياسية.
وتنتج الافكار السياسية آثارها في مجال الامن القومي من منطلق اعتناق افراد الامة مقولاتها، ونهوضهم بتبعات تطبيقها في مقام الاداء السياسي. وفي الدول المتميزة باعتناق أبنائها افكاراً سياسية متجانسة، يُعهد قدرٌ وافر من التجانس الفاعل في الرؤى والمؤسسات الامنية، غير ان هذا البعد يتجسد - فقط - اذا كانت الافكار السياسية افكاراً مبدعة، متوائمة والبناء الاجتماعي للدولة، مواكبة التطورات فيه، وفي هيكل المجتمع الدولي، فاذا انتقى ذلك كله، تمسى الافكار السياسية داءً ينخر في جسد المجتمع حتى يهترىء فتسقط الدولة، ما شاهدنا في كثير من انحاء العالم، وعلى وجه الخصوص في اوروبا الاشتراكية، التي انهار الامن فيها وخنقتها الحروب الاهلية مباشرة بعد انهيار الافكار الشيوعية.
ثم يجيء - بعد الافكار - دور «المؤسسات السياسية»، التي يرتبط الامن، وشيجاً، بنجاحها في تأطير الافكار السياسية تنظيمياً، وبمقدرتها في تمثيل الحراك الاجتماعي، بمفاعلاته الروحية، والقبلية، والطائفية، وبنجاحها في تكوين اجيال جديدة، من الزعامات، وباستفادتها من المنظومات الجماهيرية، كجماعات الضغط، والرأي العام، والاتحادات، والنقابات، وبتماسكها في شئون ادارة البلاد - مركزياً او لا مركزياً - وفي اتخاذ القرارات الداخلية والخارجية.
وبرغم تقديمنا الحديث عن البعد الخارجي للامن القومي، فان من الاهمية الحديث، هنا، عن السياسة الخارجية للدولة، بوصفها مناط تحديد الاهداف والتوجهات والادوار، التي تشكل في مجملها رؤى الدولة وانشطتها ازاء المجتمع الدولي، بوعي أمني يشمل مجمل القضايا التي تتعلق بالعنف الخارجي، والاحلاف، والاسلحة، وقضايا البيئة الدولية، سواء منها الاجتماعية: كالسكان والجرائم، او الاقتصادية: كاتفاقيات التجارة الدولية، والمعونات، والديون والمصارف العالمية، او المفاهيم السياسية: كمفهوم الارهاب - مثلاً - وتباين النظرات اليه - او القضايا البيئية: كسياسات حماية البيئة، وغير ذلك من القضايا التي يُرتجى، عادةً، من السياسة الخارجية للدولة ان تدركها، وتساهم بنشاط وحكمة في تشكيلها، وتفادي ما يُحاك فيها من مؤامرات ودسائس ربما أفضت الى انهيار أمني في مجتمع الدولة.
المؤثرات الاقتصادية:
ان من أهم عناصر قوة الدولة، تمتعها بثروات اقتصادية وفيرة، وأداء اقتصادي فعال. ويبدو واضحاً ان ثمة فرقاً بين ان تحظى الدولة بثروات اقتصادية وان تكون ذات ناتج اقتصادي ممتاز. وهذه التفرقة يقتضيها منظور الامن للمتغيرات الاقتصادية المؤثرة فيه، اذ كلما جمعت الدولة بين الثروات الاقتصادية والاداء الفعال تقلصت عنها - الى حد الانعدام - الضغوط الخارجية التي كان يمكن ان تهددها فيما لو حفلت بثروات اقتصادية دون اداء ناجز، كما هو مشاهد في كثير من دول العالم المتخلفة. وتقلُّ الضغوط الخارجية - ولكنها لا تنتفي - في حالة الدول الشحيحة الموارد، الناجحة اداءً، مثل اليابان التي تُذهل العالم بانتاجها المعجز، ولكن سياساتها الداخلية والخارجية تتأثر كثيراً بافتقارها الى مدخلات الانتاج من الموارد الطبيعية - كالمعادن والنفط - الامر الذي اجبرها على المحاذرة في سياستها الخارجية استجابة لضغوط معروفة تتبعها ازاءها دولة كالولايات المتحدة الامريكية منذ الحرب العالمية الثانية.
ويردُ بعد ذا دور المؤسسات الاقتصادية التي يرتبط امن الدولة بأدائها، كما يرتبط بمدى قدرة الدولة على تخطى معضلات الفقر، وضغوط الديون الخارجية، وتجميد الارصدة، والمنح والمعونات، التي تصفد اليوم خطى دول عديدة لم تستطع الفكال من شباكها التي نسجتها القوى الاقتصادية الكبرى، سواء منها الوحدات الدولية الاقتصادية او منظمات المجتمع الدولي السياسة، او الشركات العظمى - كالشركات المتعددة الجنسية - التي صار بعضها بمثابة حكومات عالمية تملى شروطها وتفرض رؤاها وسياساتها على كثير من الدول الصغيرة في عالم اليوم.
المؤثرات العسكرية والامنية:
يمكننا القول ان عناصر الدولة مع ما تحمله - قوة أو ضعفاً - من تداخل وارتباط وثيق بينها، فانه يظل لبعضها ثقله المقدر - أكثر من سواه - في منح الدولة مكانها من المجتمع الدولي.
ومن العناصر الاشد تأثيراً في ذلك: العنصر العسكري والامني، باعتباره معطىً مباشراً في ترسيخ الاستقرار وصونه، لتستطيع المعطيات الاخرى أداء سياساتها بفاعلية وكفاءة، ولهذا فان السياسات العسكرية والامنية ينبغي لها دائماً ان تشمل ما يلي:
* دراسة حجم وتكوين قوى الامن المختلفة، ومعرفة حجم القوات المسلحة، ونسبة توزيعها على الاسلحة المختلفة: مشاةً وبحرية وطيراناً، والابعاد التنفيذية، والقدرات القتالية والادارية والروح المعنوي، والمهارة العسكرية.
* التأكد من ملاءمة التنظيم والتسليح للاهداف القومية، ولامكانات الدولة الاقتصادية، ولطبوغرافية الارض، وسعة الجسور وقدرتها على التحمل.
* الاطمئنان الى المخزون الاستراتيجي من الاسلحة والذخائر، وفق التهديدات المتوقعة واحتمالات استمرار الاضطرابات والحروب، والاطمئنان ايضاً الى سبل الامداد والتخزين.
* زيادة الخبرة القتالية لدى الجنود: بدراسة المعارك السابقة، وتحليل الدروس المستفادة منها، والاستفادة من خبرة المتقاعدين في المعاهد والمدارس العسكرية.
* تنظيم التعبئة: بالتعرف على حجم القوات الاحتياطية، ومستوى كفاءتها، وحدود الوقت الكافي لاستدعائها الى الخدمة، والاصدقاء الذين يمكن الاستعانة بهم مع الاستيثاق من قدرة الدولة على التعبئة المستمرة.
* حفز الانتاج الحربي، وتوفير المواد الاساسية والوسيطة اللازمة للانتاج، وتحقيق امكانية التحول من انتاج مدني الى انتاج حربي، ومن حربي الى مدني، حسب مقتضى الاحوال.
* المشاركة في الاحلاف العسكرية - بعد التعرف على انماط الاحلاف - والاتفاقات السياسية والعسكرية، واثر الاتفاقات في القدرة القتالية للدولة، وما اذا كانت تلك الاتفاقات تتضمن قيوداً خفيةً ربما تصفد خطى الدولة في مقبل

 
بارك الله فيك على المعلومات القيمة
 
عودة
أعلى