محمد شعبان أيوب
محرر تاريخ
ينقل المؤرخ عز الدين بن الأثير مشهدا مؤثرا من معركة ملاذكرد قائلا: "لما كان تلك الساعة صلّى بهم وبكى السلطان (ألب أرسلان) فبكى الناس لبكائه، ودعا ودعوا معه، وقال لهم: مَن أراد الانصراف فلينصرف فما ههنا سلطان يأمر وينهى، وألقى القوس والنشّاب (السهام)، وأخذ السيف والدبوس (آلة حربية)، وعقد ذنب فرسه بيده، وفعل عسكره مثله ولبس البياض، وقال: إن قُتلت فهذا كفني، وزحف إلى الروم وزحفوا إليه، فلما قاربهم ترجَّل وعفّر وجهه على التراب وبكى وأكثر الدعاء، ثم ركب وحمل وحملت إليه العساكر معه، فحصل المسلمون في وسطهم، وحجز الغبار بينهم، فقتل المسلمون فيهم كيف شاءوا، وأنزل الله نصره عليهم، فانهزم الروم، وقُتل منهم ما لا يحصى حتى امتلأت الأرض بجثث القتلى وأُسِر ملك الروم"([1]).
رأينا في تقريرنا السابق دور السلاجقة المهم في إعادة بث الروح في الدولة العباسية التي كانت ترزح تحت الضغوط والهيمنة البويهية التي خالفتها سياسيا ومذهبيا، وكيف تم توحيد أقاليم العراق وإيران ووسط آسيا وشمال الشام تحت راية السلاجقة، هذا الاتحاد الذي أعاد الأهمية الجغرافية والعسكرية لهذه الدولة الوليدة، التي كان لها مشروع واضح في زمن السلطان ألب أرسلان، تمثل هذا المشروع في توسيع رقعة الدولة، والعمل على الوحدة السياسية والثقافية بين أقطارها، والمواجهة الصريحة والمباشرة للروم البيزنطيين بدلا من أسلوب الغارات القديمة للسلاجقة وبعض القبائل التركمانية الأخرى التي كانت نتائجها غير مؤثرة.
وكان مما شجع السلطان ألب أرسلان على التفكير في غزو بلاد الروم أنه وثّق صلاته بالدولتين الغزنوية والخانية في آسيا حتى يؤمن ظهره، فلا يطعن من الخلف، وهو مشغول بغزو الروم، فربط دولة السلاجقة برباط المصاهرة مع هاتين الدولتين بأن تزوج أحد أبنائه ابنة السلطان إبراهيم الغزنوي وتزوج ابنه الأكبر ملكشاه ابنة طمغاج ملك الخانيين، وهيأت هذه المصاهرات السياسية أن يتفرغ ألب أرسلان لغزو بلاد الروم البيزنطيين في مناطق أذربيجان وأرمينية وجورجيا[2].
ملاذكرد في الرواية الإسلامية
انزعج أرسلان عندما رأى ضخامة جيش العدو البيزنطي وأرسل إلى الإمبراطور رومانوس يطلب المهادنة والصلح، لكسب الوقت ريثما تصله الإمدادات العسكرية والعدد الكافي من المقاتلين
كان الإمبراطور البيزنطي رومانوس ديوجينيس (رومانوس الرابع) على اطلاع من خلال مخابراته بتحركات السلاجقة وتوسعاتهم وأهدافهم في مناطق التخوم والتماس شرق وجنوب الإمبراطورية الرومانية، في كل من شمال الشام والعراق وأرمينية وأذربيجان وجورجيا، وحين تمكن السلطان ألب أرسلان من تأكيد السيادة السلجوقية على حلب، والعودة إلى إيران وتفرق الجيش السلجوقي للراحة، قرر ديوجينيس استغلال الفرصة والقضاء على هذا العدو الجديد الذي يهدد الدولة الرومانية بقوة هذه المرة.
جمع رومانوس جيشا جرارا يمكن وصفه بالجيش الصليبي الذي قدّرته بعض المصادر(3) بمائتي ألف مقاتل من أعراق الروم والروس والفرنج والأرمن وغيرهم، تروي بعض المصادر التاريخية أنهم "جاءوا في تجمّل كثير، وزيّ عظيم، وقصد بلاد الإسلام فوصل إلى ملاذكرد من أعمال خِلاط (أقصى شرق تركيا الآن) فبلغ السلطان ألب أرسلان الخبر وهو بمدينة خوى من أذربيجان عائدا من حلب وسمع ما فيه ملك الروم من كثرة الجموع، فلم يتمكن من جمع العساكر لبعدها وقرب العدو»([3]).
أسرع ألب أرسلان لمواجهة الإمبراطور البيزنطي عند منطقة ملاذكرد التي استولى عليها الإمبراطور البيزنطي، وهذه المدينة (malazgirt تقع شمال بحيرة فان/وان بالقرب من أرمينيا. في محافظة موش التركية شرق الأناضول الآن)، بيد أن رومانوس كان يريد اختراق ثغور المسلمين من ناحية الجزيرة الفراتية شمال العراق والتوغل في الأراضي الإيرانية لضرب السلاجقة في عمق دولتهم بل واحتلالها، وقد فطن ألب أرسلان لخطة العدو، وكان في ذلك الوقت بلغ أذربيجان في خمسة عشر ألف مقاتل فقط[4].
حيث تشير بعض المصادر إلى أن أرسلان انزعج عندما رأى ضخامة جيش العدو البيزنطي وما كان منه إلا أن أرسل إلى الإمبراطور رومانوس يطلب المهادنة والصلح، وكان هدفه من ذلك كسب الوقت ريثما تصله الإمدادات العسكرية والعدد الكافي من المقاتلين، غير أن الإمبراطور أصر على الحرب ومواصلة الزحف رغبة منه في عدم ضياع الوقت والفرصة، وقال: "إني قد أنفقت الأموال الكثيرة، وجمعتُ العساكر الكثيرة، للوصول إلى مثل هذه الحالة، فإذا ظفرت بها، فكيف أتركها؟! هيهات لا هدنة إلا بالرّي (عاصمة السلاجقة) ولا رجوع إلا بعد أن أفعل ببلاد الإسلام مثل ما فَعل (ألب أرسلان) ببلاد الروم"([5]).
فهذه الرواية التي يذكرها المؤرخ ابن الجوزي في تاريخه «المنتظم» توضّح الدافع الذي أخرج رومانوس بهذه الجيوش الجرارة؛ فقد كانت في نظره ردة فعل طبيعية لجهاد السلاجقة في منطقة القوقاز الجنوبي وشرق الأناضول، واستيلائهم على أجزاء وحصون كثيرة منها، مما هدد البيزنطيين بصورة لم تحدث منذ عصر العباسيين الأقوياء هارون والمأمون والمعتصم.
أيقن السلطان ألب أرسلان أن انتظاره لقوات معاونة تأتي من العراق أو الري في إيران سيستغرق وقتا طويلا وسيتسبب حتما في احتلال البلاد الإسلامية إن تقاعس عن الدفاع، ومن ثم نراه يتخذ قرارا شجاعا لأقصى درجة؛ بمواجهة القوة البيزنطية التي تقدر بمائتي ألف بجيشه الصغير الذي لا يتعدى الخمسة عشر ألف مقاتل. وهذا ما ينقله الأصفهاني مؤرخ السلاجقة بقوله: "رأى السلطان أنه إن تمهّل لحشد الجموع ذهب الوقت، وعظُم البلاء، وثقلت أعباء العباد، فركب في نخبته، وتوجّه في عُصبته وقال: أنا أحتسب عند الله وإن سعدتُ بالشهادة ففي حواصل الطيور الخضر من حواصل النسور الغبر رمسي (قبري)، وإن نُصرتُ فما أسعدني، وأنا أمسى ويومي خير من أمسي"([6]).
على أن المؤرخ عز الدين بن الأثير ينقل لنا رواية تُظهر مشهدا آخرا يتجلى فيه دور العلماء والفقهاء في تحفيز القادة والجند، فإن ألب أرسلان لما قوبل طلبه للهدنة بالرفض انزعح انزعاجا شديدا حتى بدا عليه ذلك، فما كان من إمامه وفقيهه أبي نصر محمد بن عبد الملك البخاري الحنفي إلا أن قال له محفزا: "إنك تقاتل عن دين وعدَ الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله تعالى قد كتبَ باسمك هذا الفتح، فالقهم يوم الجمعة بعد الزوال بالساعة التي تكون الخطباء على المنابر فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر، والدعاء مقرون بالإجابة"([7]).
قبِل ألب أرسلان هذا القول من شيخه، وهو موقف يشبه إلى حد كبير ما كان من آق شمس الدين مؤدب وشيخ السلطان العثماني محمد الفاتح فاتح القسطنطينية بعد ذلك بأربعة قرون كاملة، وفي (19 آب/أغسطس 1071م/463هـ) و"لما كان تلك الساعة صلّى بهم (ألب أرسلان) وبكى السلطانُ فبكى الناس لبكائه، ودعا ودعَوا معه، وقال لهم: مَن أراد الانصراف فلينصرف فما ههنا سلطان يأمر وينهى وألقى القوس والنشّاب، وأخذ السيف والدبوس (آلة حربية)، وعقد ذَنب فرسه بيده، وفعل عسكره مثله ولبس البياض، وقال: إن قُتلت فهذا كفني، وزحف إلى الروم وزحفوا إليه، فلما قاربهم ترجَّل وعفّر وجهه على التراب وبكى وأكثر الدعاء، ثم ركب وحمل وحملت إليه العساكر معه، فحصل المسلمون في وسطهم، وحجز الغبار بينهم، فقتل المسلمون فيهم كيف شاءوا، وأنزل الله نصره عليهم، فانهزم الروم، وقُتل منهم ما لا يحصى حتى امتلأت الأرض بجثث القتلى وأُسِر ملك الروم"([8]).
ورواية المؤرخ كمال الدين بن العديم في تاريخه "زُبدة الحلْب في تاريخ حلَب" تكشف لنا تكتيك الخداع الذي استخدمه المسلمون في هزيمة الروم؛ حيث تسلل أهل ملاذكرد إلى المعسكر الرومي وفتكوا بهم من داخلهم، يقول ابن العديم: "وشرع أهل منازكرد يتسللون من بينهم فقتل الروم بعضهم، ونجا الباقون، وترك الروم طريقهم الذي كانوا سالكيه، وعاد ملكهم فنزل في مضاربه (معسكره) بين خلاط ومنازكرد، وباتوا ليلتهم على أعظم قلق وأشده"[9]، وذلك قبل المعركة الفاصلة بين الفريقين بليلة واحدة.
ينقل بعض المؤرخين الحوار الذي دار بين الإمبراطور البيزنطي الأسير وبين السلطان السلجوقي، "فلما أُحضر (رومانوس) ضربه السلطان ألب أرسلان ثلاثة مقارع بيده، وقال له: ألم أرسل إليك في الهدنة فأبيت. فقال: دعني من التوبيخ وافعل ما تريد. فقال السلطان: ما عزمتَ ما تفعلُ بي إن أسرتني؟ فقال: أفعل القبيح. قال له: فما تظن أنني أفعل بك. قال: إما أن تقتلني وإما أن تشهرني في بلاد الإسلام، والأخرى بعيدة وهي العفو وقبول الأموال واصطناعي نائبا عنك. قال: ما عزمتُ على غير هذا. ففداه بألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار، وأن يرسل إليه عساكر الروم أي وقت طلبها، وأن يطلق كل أسير في بلاد الروم، واستقر الأمر على ذلك، وأنزله في خيمة وأرسل إليه عشرة آلاف دينار يتجهز"([10]).
بيد أن قرار السلطان السلجوقي بإطلاق سراح عدوه يعد لافتا وغريبا، خاصة أن رومانوس أراد القضاء على الدولة السلجوقية ذاتها ولم تكن حملته مجرد حملة عابرة، لكن يبدو أن بعض القلاقل في وسط آسيا داخل الأسرة السلجوقية ذاتها هي التي اضطرت السلطان السلجوقي ألب أرسلان إلى قبول الصلح مع العدو الروماني، فضلا عن الفدية الكبيرة التي أثقلت كاهل الدولة البيزنطية، يضاف إلى ذلك إعلان التبعية السياسية البيزنطية للسلاجقة لأول مرة في تاريخ العلاقات بين المسلمين والروم، وهو ما اعتبره البيزنطيون في القسطنطينية خيانة أوجبت قتل رومانوس بُعيد ذلك[11].
الهزيمة بعيون البيزنطيين
لحسن الحظ، فإن حفيد القائد العسكري للجناح الأيسر للبيزنطيين في معركة ملاذكرد قد خلّد ذكر هذه الهزيمة برواية جده للأحداث التي رآها وشاهدها بنفسه، هذا الحفيد هو المؤرخ البيزنطي نقفور برينيوس، وزوج آن كومنين ابنة الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين (1081- 1118/474 - 512هـ)، لذا يعتبر تأريخه لهذه المعركة التي غيرت مجرى تاريخ العصر الوسيط بالسيطرة الإسلامية على كامل الأناضول مهما لمعرفة وجهة النظر البيزنطية المقابلة في تلك الأحداث.
يرى نقفور أن الإمبراطور البيزنطي قد أخذه العُجب والكبر بعد سيطرته على منبج وبعض القلاع والحصون في شمال بلاد الشام، حيث لم يجد مقاومة تذكر في سنة (462هـ/1070م)، وأنه اجتمع بكبار مستشاريه وقادته العسكريين لوضع خطة قتال شاملة لاستئصال قوة السلاجقة المتنامية في الجنوب والشرق، ذلك الاجتماع استشار فيه الإمبراطور قادته حول أمرين: مواصلة الزحف على بلاد فارس لقتال السلاجقة في عقر دارهم أم البقاء في أراضي الإمبراطورية البيزنطية انتظارا لوصولهم[12]؟
انقسم المستشارون إلى قسمين؛ الأول فريق "المنافقين" -بحسب رأي نقفور برينيوس وجده القائد البيزنطي في تلك المعركة- الذي رأى عدم الانتظار إطلاقا والزحف لقتال السلطان ألب أرسلان. وعارض هذا الرأي الفريق الثاني وعلى رأسه جد المؤرخ نقفور؛ وأوضح أن هذه الخطة تتطلب تحصين المدن المجاورة لمعسكر الجيش البيزنطي، وإحراق القرى حتى يحرم السلاجقة من التزود بالمؤمن وهو أمر شديد الصعوبة، لكن الإمبراطور لم يسمع للفريق الثاني[13].
والخطأ الثاني الذي وقع فيه الإمبراطور البيزنطي أنه قسّم جيشه إلى قسمين؛ الأول بقيادته شخصيا واتجه به إلى ملاذكرد التي استولى عليها، والثاني بقيادة قائده الخبير والمتزعم لفريق المعارضين جوزيف ترخانيوتس، حيث أمره الإمبراطور بالذهاب إلى مدينة خِلاط أو أخلاط جنوب ملاذكرد لتأمينها والاستيلاء عليها من السلاجقة، لكن جوزيف كان يائسا -بحسب شهادة نقفور- لأنه أوصى الإمبراطور بأن يحتفظ بكل قواته في معسكره وألا يُقسّم جيشه لأن الأتراك كانوا يتمركزون على مقربة من المعسكر البيزنطي، لكنه فشل في إقناع رومانوس برأيه ونصائحه، واضطر في نهاية الأمر إلى التوجه إلى خلاط التي وقعت في شراك السلاجقة[14].
كذلك، يروي نقفور أن خطة السلاجقة قُبيل المعركة وأثناءها اتسمت بالذكاء والحنكة الشديدة، حيث اعتمدوا أسلوب الكر والفر لاستدراج البيزنطيين في المواقع التي أرادوها، وبالفعل نجحوا عدة مرات في الإيقاع بخصومهم البيزنطيين، أما ذكاء السلطان السلجوقي ألب أرسلان -من وجهة نظر المؤرخ البيزنطي- فتمثل في تقسيم جيشه إلى وحدات صغيره عديدة، ورتّب في المقدمة وحدات استخباراتية لجمع المعلومات والتجسس على العدو، كذلك أحاط المعسكر البيزنطي بوحدات صغيرة أخرى كانت مهمتها الأساسية إعداد الفخاخ والكمائن للجيش البيزنطي واستنزاف قوته قُبيل وأثناء المعركة، ثم أصدر أوامره بإمطار خيالة الروم بوابل من السهام[15].
وحين ألقى السلاجقة بوابل من السهام تقدم الجيش البيزنطي لمساندة خيالته المهزومة، فتظاهر السلاجقة بالتقهقر والانسحاب، فطاردهم الجيش البيزنطي، وبذلك وقع فريسة كمائن السلاجقة الذين قاموا بدورهم بتعقب مؤخرة الجيش البيزنطي، وتكبيده خسائر فادحة، وأمام هذه الهزائم المتلاحقة قرر الإمبراطور رومانوس النزول بثقله في معركة فاصلة، فتقدم بصحبة المشاة آملا الانقضاض على السلاجقة دفعة واحدة، بيد أنهم تفرقوا وعادوا فجأة لينقضّوا بقوة قاصمة على الجناح الأيمن للجيش البيزنطي، وهكذا أحاطوا بالإمبراطور البيزنطي "إحاطة الدائرة بمعصم اليد" -على حد توصيف نقفور- وعزلوا جناحه الأيسر، وأصبح قلب الجيش البيزنطي بقيادة رومانوس معزولا ومحروما من أي دعم عسكري خارجي، وبدأ السلاجقة في إبادة البيزنطيين، وانتهى المطاف بأسر الإمبراطور رومانوس الرابع ومعه العديد من قادة الجيش البيزنطي الكبار[16].
نتائج ملاذكرد!
تشبه معركة ملاذكرد إلى حد كبير في النتائج معركة اليرموك التي استولى بعدها المسلمون على كامل بلاد الشام، وانتزاعها من يد الرومان البيزنطيين في عصر الخلافة الراشدة على يد الصحابي الجليل، والقائد العسكري الفذ خالد بن الوليد؛ فقد مهدت "ملاذكرد" الطريق أمام جيوش السلاجقة للتوغل في بلاد آسيا الصغرى، واقتطاع هذه الأقاليم الأناضولية المهمة من ممتلكات الإمبراطورية البيزنطية لأول مرة منذ قيامها.
ترتب على ذلك أن زادت هجرة التركمان إلى عمق الأناضول واستقرارهم في تلك البقاع، وساعدهم على ذلك الانشقاق الذي حصل في صفوف البيزنطيين في أعقاب المعركة، حيث بدأ الرومان "اليونانيون" بترك أراضيهم، والتوجه نحو الغرب، فأصبحت مناطق عديدة خالية من السكان، ونظرا لكون التركمان شعبا بدائيا رعويا لم يهتموا بالزراعة، فتحولت مناطق زراعية عديدة داخل آسيا الصغرى إلى مناطق جرداء، وأدى ذلك إلى حرمان البيزنطيين من مصدر مهم للحبوب، ولم يعد بإمكانهم تجنيد سكان آسيا الصغرى في جيشهم، فزاد ذلك من ضعف البيزنطيين[17].
هكذ، كوّن التركمان بعض الإمارات المستقلة في الفترة ما بين عامي (463هـ -470هـ/1071-1077م) في كل من ماردين وقيصارية وسيواس وتوقات ومرعش وأرزنجان في شرق ووسط الأناضول، لكن في العام 470هـ، وبتفويض من السلطان السلجوقي الأشهر ملكشاه بن ألب أرسلان، يتجه ابن عمه سليمان بن قتلمش السلجوقي إلى بلاد الأناضول انطلاقا من حلب لينشئ دولة جديدة وحّد فيها جهود التركمان وإماراتهم تحت راية جديدة عُرفت في التاريخ باسم دولة "سلاجقة الروم"[18].
بدأت الأتراك يتوافدون عشائر وجماعات إلى بلاد الأناضول، ورويدا رويدا "تترّكت" هذه البلدان، وزادت نسبتهم، وتوسعوا في شن الغارات على المناطق البيزنطية ونشر الإسلام فيها، ووصل الترك بقيادة سليمان إلى جزر بحر إيجه وسواحل البحر الأسود، وأرسى قواعد دولة دام حكمها أكثر من قرنين (470-708هـ/1077-1308م)، وأجمعت المصادر على نجاح سليمان السلجوقي في تحقيق المهام السياسية والعسكرية التي أرست قواعد دولة إسلامية في آسيا الصغرى، خرجت من رحمها فيما بعد الدولة العثمانية[19].
كانت ملاذكرد نقطة فاصلة في تاريخ العصور الوسيطة، حيث ترتب عليها بداية الحملات الصليبية التي استمرت لمدة قرنين أو يزيد على العالم الإسلامي شرقا في بلاد الشام، وغربا في الأندلس
والنتيجة الأخرى المهمة التي ترتبت على هذه المعركة الحاسمة قيام الحروب الصليبية؛ "ذلك لأن أخبار هزيمة الروم وعدم تمكنهم من حشد جيش آخر لرد الخطر التركي أثار مخاوف الدول الأوروبية، صحيح أن العلاقات بين روما والقسطنطينية كانت عدائية بسبب ما قامت بين الكنيسة الرومانية من خلاف مذهبي انتهى بانفصال الكنيسة الشرقية في القسطنطينية عن الكنيسة الغربية في روما سنة 1054م، أي قبل موقعة ملاذكرد بنحو ثمانية عشر عاما، إلا أنه على الرغم من ذلك كان الغرب اللاتيني ينظر إلى الدولة البيزنطية على أنها الحصن الأمامي الذي يحمي المسيحية ضد الإسلام في الشرق، ومن ثم يجب على الغرب المسيحي أن يمد لها يد المساعدة، وقد اهتم البابوات في روما بأمر هذه المساعدة، نذكر منهم البابا جريجوري السابع (1073-1085م)، والبابا أوربان الثاني (1088-1099م) فأخذوا يحرضون ملوك أوروبا على مساعدة بيزنطة واتخذوا من هذه المسألة عاملا مهما لتحقيق أهدافهم الصليبية»([20]).
وهكذا كانت ملاذكرد نقطة فاصلة في تاريخ العصور الوسيطة، لا سيما جغرافيا وسياسيا وعسكريا، حيث ترتب على هذه المعركة بداية الحملات الصليبية التي استمرت لمدة قرنين أو يزيد على العالم الإسلامي شرقا في بلاد الشام، وغربا في الأندلس، لكن في المقابل كانت هذه المعركة وما ترتب عليها من إنشاء دولة جديدة في الأناضول هي دولة "سلاجقة الروم" والتي استمرت أيضا قرابة القرنين عاملا مؤثرا في الانتقال من التاريخ الوسيط إلى التاريخ الحديث في منطقة الشرق الأوسط وأوروبا، ففي أحشاء هذه الدولة ظهر العثمانيون بنفس النشاط والحماس السلجوقي القديم، وسرعان ما اتجهوا غربا إلى أوروبا الشرقية التي ستصبح في غضون قرنين بعد سقوط السلاجقة ضمن أملاك العثمانيين، وهكذا كان دور "ملاذكرد" في تاريخ العصور الوسيطة والحديثة على السواء، مؤثرا وكبيرا وثوريا في آن!